13- من كتابه في المسائل والجوابات في المعرفة
مخ ۴۵
فصل من صدر كتاب المسائل والجوابات في المعرفة
بالله نستعين، وعليه نتوكل، وما توفيقنا إلا بالله.
اختلف الناس في المعرفة اختلافا شديدا، وتباينوا فيها تباينا مفرطا. فزعم قوم أن المعارف كلها فعل الفاعلين إلا معرفة لم يتقدمها سبب منهم، ولم يوجبها علة من أفعالهم. ولم يرجعوا إلى معرفة الله ورسوله، والعلم بشرائعه، ولا إلى كل ما فيه الاختلاف والمنازعة، وما لا يعرف حقائقه إلا بالتفكر والمناظرة، دون درك الحواس الخمس.
فزعموا أن ذلك أجمع فعلهم، على الأسباب الموجبة، والعلل المتقدمة، وجعلوا مع ذلك سبيل المعرفة بصدق الأخبار، كالعلم بالأمصار القائمة، والأيام الماضية، كبدر وأحد والخندق، وغير ذلك من الوقائع والأيام، وكالعلم بفرغانة والأندلس، والصين والحبشة، وغير ذلك من القرى والأمصار سبيل الاكتساب والاختيار؛ إذ كانوا هم الذين نظروا حتى عرفوا فصل ما بين المجيء الذي لا يكذب مثله، والمجيء الذي يمكن الكذب في مثله.
مخ ۴۷
فزعموا أن جميع المعارف سبيلها سبيل واحد، ووجوه دلائلها وعللها متساوية، إلا ما وجد الحواس بغتة، وورد على النفوس في حال عجز أو غفلة، وكان هو القاهر، للحاسة، والمستولي على القوة، من غير أن يكون من البصر فتح، ومن السمع إصغاء ومن الأنف شم، ومن الفم ذوق ومن البشرة مس، فإن ذلك الوجود فعل الله دون الإنسان، على ما طبع عليه البشر، وركب عليه الخلق.
قالوا: فإذا كان درك الحواس الخمس إذا تقدمته الأسباب، وأوجبته العلل فعل المتقدم فيه والموجب له، ودرك الحواس أصل المعارف، وهو المستشهد على الغائب، والدليل على الخفي، وبقدر صحته تصح المعارف، وبقدر فساده تفسد فالذي تستخرجه الأذهان منه، وتستشهده عليه، كعلم التوحيد، والتعديل والتجوير، وغامض التأويل، وكل ما أظهرته العقول بالبحث، وأدركته النفوس بالفكر من كل علم، وصناعة الحساب والهندسة، والصياغة والفلاحة أجدر أن يكون فعله والمنسوب إلى كسبه.
مخ ۴۸
قالوا: فالدليل على درك الحواس فعل الإنسان على ما وصفنا واشترطنا، من إيجاب الأسباب، وتقدم العلل: أن الفاتح بصره لو لم يفتح لم يدرك. فلما كان البصر قد يوجد مع عدم الإدراك، ولا يعدم الإدراك مع وجود الفتح، كان ذلك دليلا على أن الإدراك إنما كان لعلة الفتح، ولم يكن لعلة البصر؛ لأنه لو كان لعلة صحة البصر كانت الصحة لا توجد أبدا إلا والإدراك موجود. فإذا كانت الصحة قد توجد مع عدم الإدراك، ولا يعدم الإدراك مع وجود الفتح، كان ذلك دليلا على أن الإدراك إنما كان لعلة الفتح، ولم يكن لعلة البصر؛ لأنه لو كان لعلة صحة البصر كانت الصحة لا توجد أبدا إلا والإدراك موجود. فإذا كانت الصحة قد توجد مع عدم الإدراك، ولا يعدم الإدراك مع وجود الفتح، كان ذلك شاهدا على أنه إنما كان لعلة الفتح دون صحة البصر.
وقالوا: ولأن طبيعة البصر قد كانت غير عاملة حتى جعلها الفاتح بالفتح عاملة، ولأن الفتح علة الإدراك ومقدمة بين يديه، وتوطئة له. وليس الإدراك علة للفتح ولا مقدمة بين يديه، ولا توطئة له، فواجب أن يكون فعل الفاتح، لأن السبب إذا كان موجبافالمسبب تبع له.
فصل منه
ثم قالوا بعد الفراغ من درك الحواس في معرفة الله ورسوله وكل ما فيه الاختلاف والتنازع، أن ذلك أجمع لا يخلو من أحد أمرين:
إما أن يكون يحدث من الإنسان لعلة النظر المتقدم، أو يكون يحدث على الابتداء، لا عن علة موجبة وسبب متقدم.
فإن كانوا أحدثوه على الابتداء، فلا فعل أولى بالاختيار، ولا أبعد من الاضطرار منه.
مخ ۴۹
وإن كان إنما كان لعلة النظر المتقدم، كما قد دللنا في صدر الكلام على أن درك الحواس فعل الإنسان إذا تقدم في سببه، فالعلم بالله وكتبه ورسله أجدر أن يكون فعله. إذ كان من أجل نظره علم، ومن جهة بحثه أدرك.
فهذه جمل دلائل هؤلاء القوم. ورئيسهم بشر بن المعتمر.
ثم هم بعد ذلك مختلفون في درك الحواس إلا ما اعتمد إدراكه بعينه وقصد إليه بالفتح والإرادة؛ لأن الفتح نفسه لو لم يكن معه قصد وإرادة ما كان فعل الفاتح. فكيف يجوز أن يكون الإدراك فعله من غير قصد.
ولو جاز أن يكون الفتح فعل الإنسان من غير أن يكون أراده وقصد إليه، ما كان بين فعل الإنسان وبين فعل غيره فرق؛ لأنه كان لا يجوز أن يكون ذهاب الحجر إذا لم يدفعه، ولم يقصد إليه، ولم يخطر له على بال، فعله. فكذلك الإدراك إذا لم يخطر على باله، ولم يقصد إليه، ولم يتعمده، لا يكون فعله.
فصل منه
وليس على المخبر بقصة خصمه والواصف لمذهب غيره، أن يجعل باطلهم حقا، وفاسدهم صحيحا، ولكن عليه أن يقول بقدر ما تحتمله النحلة، وتتسع له المقالة، وعليه أن لا يحكي عن خصمه ويخبر عن مخالفه إلا وأدنى منازله ألا يعجز عما بلغوه، ولا يغبى عما أدركوه.
مخ ۵۰
فصل منه
وقد زعم آخرون أن المعارف ثمانية أجناس: واحد منها اختيار، وسبعة منها اضطرار. فخمسة منها درك الحواس الخمس، ثم المعرفة بصدق الأخبار، كالعلم بالقرى والأمصار، والسير والآثار، ثم معرفة الإنسان إذا خاطب صاحبه أنه موجه بكلامه إليه، وقاصد به نحوه.
وأما الاختيار فكالعلم بالله ورسوله، وتأويل كتبه، والمستنبط من علم الفتيا وأحكامه، وكل ما كان فيه الاختلاف والمنازعة. وكان سبيل علمه النظر والفكرة. ورئيس هؤلاء أبو إسحاق.
مخ ۵۱
وزعم معمر أن العلم عشرة أجناس: خمسة منها درك الحواس، والعلم السادس كالسير الماضية والبلدان القائمة، والسابع: علمك بقصد المخاطب إليك وإرادته إياك، عند المحاورة والمنازعة. وقبل ذلك: وجود الإنسان لنفسه، وكان يجعله أول العلوم، ويقدمه على درك الحواس. وكان يقول: ينبغي أن يقدم وجود الإنسان لنفسه على وجوده لغيره. وكان يجعله علما خارجا من درك الحواس؛ لأن الإنسان لو كان أصم لأحس نفسه ولم يحس صوته، ولو كان أخشم لأحس نفسه ولم يحس رائحته. وكذلك سبيل المذاقات والملامس. فلما كان المعنى كذلك وجب أن يفرد من درك الحواس، ويجعل علما ثامنا على حياله وقائما بنفسه.
ثم جعل العلم التاسع: علم الإنسان بأنه لا يخلو من أن يكون قديما أو حديثا.
وجعل العلم العاشر: علمه بأنه محدث وليس بقديم.
فصل منه
ولست آلو جهدا في الكلام والإيجاز في الإدخال على بشر بن المعتمر في درك الحواس، ثم على أبي إسحاق في ذلك، وفي غيره مما ذكرت من مذاهبه، وتركه قياس ما بنى عليه إن شاء الله، لنصير إلى الكلام في المعرفة، فإني إليه أجريت، وإياه اعتقدت، ولكني أحببت أن أبدي فساد أصولهم قبل فروعهم، فإن ذلك أقتل للداء وأبلغ في الشفاء، وأحسم للعرق، وأقطع للمادة، وأخف في المؤونة على من قرأ الكتاب، وتدبر المسألة والجواب. وبالله ذي المن والطول نستعين.
مخ ۵۲
فصل من رده على أبي إسحاق النظام وأصحابه
يقال لهم: حدثونا عن العلم بالله ورسوله وتأويل كتبه، وعن علم القدر وعلم المشيئة، والأسماء والأحكام. أباكتساب هو أم باضطرار؟
فإن زعموا أنه باكتساب قيل لهم: فخبرونا عن علمكم بأن ذلك أجمع اكتساب، أباكتساب هو أم باضطرار؟ فإن قالوا: باكتساب. قيل لهم: أو ليس اعتقاد خلاف ذلك أجمع باكتساب؟
فإن قالوا: نعم. قيل لهم: فإذا كان اعتقاد الحق واعتقاد الباطل باكتساب أفليس كل واحد من المكتسبين عند نفسه على الصواب؟
فإذا قالوا: نعم. قيل لهم: أو ليس كل واحد منهما ساكن القلب إلى مذهبه واختياره؟
فإذا قالوا نعم قيل لهم: فما يؤمن المحق من الخطأ؟ وليس سكون القلب وثقته علامة للحق، لأن ذلك لو كان علامة لكان المبطل محقا، إذ كان قد يجد من السكون والثقة ما لا يجد المحق.
وقلنا: وما معنى خلافه إلا أن يكون المبطل شاكا، أو يكون عارفا بتقصيره، أو يكون مكترثا لوهن يجده. فإذا لم يكن كذلك فلا فرق بين المعقودين.
مخ ۵۳
فإن قالوا: إن فرق ما بينهما أن سكون قلب المحق حق في عينه، وسكون قلب المبطل باطل في عينه.
قلنا: أو ليس ذلك غير محول لسكون المبطل عن الثقة إلى الاضطراب ولا مغيره إلى الاكتراث؟
فإذا قالوا ذلك، قيل لهم: فما يؤمن المحق أن يكون سكونه أيضا باطلا في عينه إذا كان سكونه لا ينقص عن سكون المبطل. ولئن كان فرق السكون بينهما ظاهر الاجتهاد والعبادة، فمن أظهر اجتهادا من الرهبان في الصوامع، والخوارج في بذل النفوس؟
فإن قالوا: الفرق بينهما أن المحق قد استشهد الضرورات، والمبطل لم يستشهدها.
قلنا: فهل يجوز أن يكون عند نفسه قد استشهد الضرورات. حتى لو سأله سائل فقال: ما يؤمنك من الخطأ؟ لقال: استشهادي للضرورات.
فإن زعموا أن المبطل لا يجوز أن يكون عند نفسه قد استشهد الضرورات، لأن ذلك هو علامة الحق، والفصل بينه وبين الباطل.
مخ ۵۴
قلنا: وهل رأيتم أحدا اكتسب علما قط، أو نظر في شيء إلا وأول نظره إنما هو على أصل الاضطرار؛ لأن المفكر لا يبلغ من جهله أن يستشهد الخفي، بل من شأن الناس أن يستدلوا بالظاهر على الباطن إذا أرادوا النظر والقياس؛ ثم هم بعد ذلك يخطئون أو يصيبون.
وقلنا: فينبغي أن يكون كل مبطل في الأرض قد علم حين يقال له: ما يؤمنك أن تكون مبطلا؟ أنه لم يستشهد الضرورات، وأنكر أصله الذي قاس عليه واستنبط منه ضرورة، وأنه إنما قال بالعسف أو بالتقليد. وإذا كانوا كذلك فهل يخلو أمرهم من أن يكونوا قد علموا أنهم على خطاء أو يكونوا شكاكا، أو يكونوا عند أنفسهم مستشهدين للضرورات، وإن كانوا قد تركوا ذلك عند بعض المقدمات. فإن كانوا قد علموا أنهم لم يستشهدوا الضروريات، وإن كانوا شكاكا فيها؛ فليس على ظهر الأرض مخطىء إلا وهو عالم بموضع خطائه، أو شاك فيه. أو كانوا عند أنفسهم مستشهدين للضرورات، فما يؤمنكم أن تكونوا كذلك؟
فإن قالوا: ليس أحد يعرف أن علامة الحق استشهاد الضرورات غيرنا.
مخ ۵۵
قلنا: أو لستم معشر أبي إسحاق النظام تختلفون في أمور كثيرة، وقد كنتم تخالفون صاحبكم خلافا كثيرا، وكلكم إذا سأله سائل: ما يؤمنك أن تكون على باطل؟ قال: لأني مستشهد للضرورات. فهل يخلو أمركم من أحد وجهين: إما أن تكونوا صادقين على أنفسكم، أو كاذبين عليها؟
فإن كنتم صادقين فقد صار قلب المحق كقلب المبطل؛ إذ كان كل واحد عند نفسه مستشهدا للضرورات.
وإن كنتم كاذبين فهل منكم محق إلا وهو يلقى الخصم بمثل دعواه في استشهاد الضرورات؟ وهل منكم واحد على حياله محقا أو مبطلا إلا وجوابه لنا مثل جواب صاحبه. فإذا كانت القلوب قد تكون عند أنفسها مستشهدة للضرورات، وهي غير مستشهدة لها، وكون القلب كذلك هو علامة الحق، فما الفرق بين قلب المحق والمبطل؟ ومع ذلك إنا وجدنا صاحبكم قبلكم ووجدناكم بعده قد رجعتم عن أقاويل كثيرة، بعد أن كان جوابكم لمن سألكم ما يؤمنكم أن تكونوا على باطل، أن تقولوا: استشهادنا للضرورات. ونحن لو سألناكم عما رجعتم عنه، فقلنا لكم: لعلكم على خطأ، ولعلكم من هذه الأقاويل على غرر، لم يعد جوابكم استشهاد الضرورات.
مخ ۵۶
فصل من هذا الكتاب في الجوابات
ثم إني واصل قولي في المعرفة ومجيب خصمي في معنى الاستطاعة وفي أي أوجهها يحسن التكليف وتثبت الحجة؛ ومع أيها يسمج التكليف وتسقط الحجة.
فأول ما أقول في ذلك: أن الله - جل ذكره - لا يكلف أحدا فعل شيء ولا تركه إلا وهو مقطوع العذر، زائل الحجة.
ولن يكون العبد كذلك إلا وهو صحيح البنية، معتدل المزاج، وافر الأسباب، مخلى السرب، عالم بكيفية الفعل، حاضر النوازع، معدل الخواطر، عارف بما عليه وله.
ولن يكون العبد مستطيعا في الحقيقة دون هذه الخصال المعدودة، والحالات المعروفة، التي عليها مجاري الأفعال، ومن أجلها يكون الاختيار ولها يحسن التكليف، ويجب الفرض، ويجوز العقاب، ويحسن الثواب.
ولو كان الإنسان متى كان صحيحا كان مستطيعا، لكان من لا سلم له للصعود مستطيعا.
مخ ۵۷
ولن يكون أيضا مع ذلك كله للفعل مختارا، وله في الحقيقة دون المجاز مستطيعا، إلا وجميع أوامره في وزن جميع زواجره، حتى إذا ما قابلت بين مرجوهما ومخوفهما، وبين تقديم اللذة وخوف الآخرة، وبين تعجيل المكروه وتأميل العاقبة، وجدتهما في الحدر والرفع، وفي القبض والبسط سواء.
ولا يكون أيضا كذلك إلا وبقاؤه في الحال الثانية معلوم، لأن الفعل حارس والطباع محروسة، والنفس عليها موقفة. فإن كان الحارس أقوى من طباعها كان ميل النفس معه طباعا؛ لأن من شأن النفس الميل إلى أقوى الحارسين، وأمتن السببين .
ومتى كانت القوتان متكافئتين كان الفعل اختياريا، ومن حد الغلبة خارجا، وإن كانت الغلبة تختلف في اللين والشدة، وبعضها أخفى وبعضها أظهر، كفرار الإنسان من وهج السموم إذا لم يحضره دواعي الصبر، وأسباب المكث. وهو من لهب الحريق أشد نفرة، وأبعد وثبة، وأسرع حركة.
مخ ۵۸
ومتى قويت الطبيعة على العقل أوهنته وغيرته، ومتى توهن وتغير تغيرت المعاني في وهمه، وتمثلت له على غير حقيقتها. ومتى كان كذلك كل عن إدراك ما عليه في العاقبة، وزينت له الشهوات ركوب ما في العاجلة.
ومتى - أيضا - فضلت قوى عقله على قوى طبائعه أوهنت طبائعه، ومتى كانت كذلك آثر الحزم والآجلة على اللذة العاجلة، طبعا لا يمتنع منه، وواجبا لا يستطيع غيره.
وإنما تكون النفس مختارة في الحقيقة، ومجانبة لفعل الطبيعة إذا كانت أخلاطها معتدلة، وأسبابها متساوية، وعللها متكافئة، فإذا عدل الله تركيبه وسوى أسبابه، وعرفه ما عليه وله، كان الإنسان للعقل مستطيعا في الحقيقة، وكان التكليف لازما له بالحجة.
ولولا أنك تحتاج إلى التعريف بأن المأمور المنهي لا بد له من التسوية والتعديل لما قال الله تعالى: " والأرض وما طحاها. ونفس وما سواها. فألهمها فجورها وتقواها ".
ولو جاز أن يعلم موضع غيها ورشدها من غير أن يسويها ويهيئها لكان ذكر التسوية فضلا من القول. والله يتعالى عن هذا وشبهه علوا كبيرا.
مخ ۵۹
فصل في جواب من يسأل عن المعرفة باضطرار هي أم باكتساب
قلنا: إن الناس لم يعرفوا الله إلا من قبل الرسل، ولم يعرفون من قبل الحركة والسكون، والاجتماع والافتراق، والزيادة والنقصان.
على أنا لا نشك أن رجالا من الموحدين قد عرفوا وجوها من الدلالة على الله بعد أن عرفوه من قبل الرسل، فتكلفوا من ذلك ما لا يجب عليهم، وأصابوا من غامض العلم ما لا يقدر عليه عوامهم، من غير أن يكونوا تكلفوا ذلك لشك وجدوه، أو حيرة خافوها؛ لأن أعلام الرسل مقنعة، ودلائلها واضحة، وشواهدها متجلية، وسلطانها قاهر، وبرهانها ظاهر.
فإن قال: أباكتساب علموا صدق الرسل أم باضطرار؟
قلنا: باضطرار.
فإن قالوا : فخبرونا عن من عاين النبي صلى الله عليه وسلم وحجته، والمتنبي وحيلته، كيف يعلم صدق النبي من كذب المتنبي، وهو لم ينظر ولم يفكر؟ فإن قلتم: إنه نظر، وفكر، فقد رجعتم إلى الاكتساب.
مخ ۶۰
وإن قلتم: إنه لم ينظر ولم يفكر فلم عرف الفصل بينهم دون أن يجهله؟ وكيف علم ذلك وهو لا يعرف الحجة من الحيلة؟ وما يؤمنه أن يكون مبطلا إذا كان لم ينظر في أمور الدنيا، ولم يختبر معانيها حتى يعرف الممتنع من الممكن، وما لا يزال يكون بالاتفاق مما لا يمكن ذلك فيه؟
وكيف ولم يعرف العادة وجرى الطبيعة وإلى أين تبلغ الحيلة وأين تعجز الحيلة، وعند أي ضرب يسقطان، وعلى أي ضرب يقومان؟ ولم عرف صدق النبي صلى الله عليه وسلم حين عاين شاهده وأبصر أعاجيبه، من غير امتحان لها وتعقب لمعانيها، دون أن يعتقد صدق المتنبي إذا أورد عليه أعاجيبه وخدعه وحيله؟
بل كيف لم يعرف الله حين وقع بصره على الدنيا من غير فكرة فيها وتقليب لأمرها.
والدنيا بأسرها دلالة عما عرف صدق النبي حين أبصر دلالته من غير تفكير فيها أو تقليب لأمرها.
وقد علمنا أن الدنيا دالة على أن شواهد النبي دالة، ومتى كان ظاهر أحدهما يغني عن التفكير كان الآخر مثله، إذ لم يكن في القياس بينهما فرق، ولا في المعقول فضل.
مخ ۶۱
قلنا: إن تجارب البالغ قبل أن يهجم على دلالات الرسل تأتي على جميع ذلك. ولعمري أن لو كان هجومه عليها قبل المعرفة بمجاري وتصريف الدهور وعلاقات الدنيا، والتجربة لتصريف أمورها، لما وصل إلى معرفة صدق النبي إلا بعد مقدمات كثيرة، وترتيبات منزلة؛ لأن مشاهد الشواهد إنما تضطره المشاهدة لها إذا كان قد جرب الدنيا، وعرف تصرفها وعادتها قبل ذلك.
ولو لم يكن جربها قبل ذلك حين عرف منتهى قوة بطش الإنسان وحيلته، وعرف الممكن من الممتنع، وما يمكن قوله بالاتفاق مما لا يمكن، لما عرف ذلك.
فإن قالوا: وكيف جرب ذلك وعقله، وأتقنه وحفظه، وهو طفل غرير وحدث صغير ؛ لأن غير البالغ طفل إلى أن يبلغ، وحين يبلغ فقد هجم على النبي صلى الله عليه وسلم وشواهده، أو هجم عليه النبي بشواهده، إما بخبر مقنع أو بعيان شاف. ففي أية الحالين جرب وعرف، وميز وحفظ، في حال الطفولة والغرارة؟ وهذا غير معروف في التجربة والعادة، والذي عليه ركبت الطبيعة.
أما في حال البلوغ والتمام فحال البلوغ هي الحال التي أبلغه الله الرسالة، وقاده إلى رؤية الحجة، واستماع البرهان ومخرج الرسالة.
فإذا كان الأمر، كما تقولون فقد كان ينبغي أن لا يصل إلى العلم بصدق النبي وقد أراه برهانه، وأسمعه حججه، حتى يمكث بعد ذلك دهرا يمتحن الدنيا ويتعقب أمورها، ويعمل التجربة فيها. فإن كان ذلك كذلك فلم سميتموه بالغا، وليس في طاقته بعد العلم يفصل ما بين النبي والمتنبي؟
مخ ۶۲
قلنا: إن التجربة على ضربين: أحدهما: أن يقصد الرجل إلى امتحان شيء ليعرف مخبره عما عرف منظره.
والآخر: أن يهجم على علم ذلك من غير قصد.
وقد يسمى الإنسان مجربا، قاصدا أو هاجما، فيزعم أن البالغ قد سقط من بطن أمه إلى أن يبلغ، مقلبا في الأمور المختلفة، ومصرفا في خلال الحالات، بالمعرفة التي تلقحه الدنيا، بما تورد عليه من عجائبها، ويزداد في كل ساعة معرفة، وتفيده الأيام في كل يوم تجربة، كما يزداد لسانه قوة، وعظمه صلابة، ولحمه شدة، من أم تناغيه، وظئر تلهيه، وطفل يلاعبه، وطبيب يعالجه، ونفس تدعوه، وطبيعة تعينه، وشهوة تبعثه، ووجع يقلقه، كما يزيده الزمان في قوته، ويشد من عظمه ولحمه، ويزيده الغذاء عظما، وكثرة الغضب والتقليب جلدا. فإذا درج وحبا، وضحك وبكى، وأمكنه أن يكسر إناء أو يكفئه، أو يسود ثوبا، أو يضرب دابرة الخادم، وانتهره القيم. فلا يزال ذلك دأبه ودأبهم حتى يفهم الإغراء والزجر، والتغذية والانتهار، كما يعرف الكلب اسمه إذا ألح الكلاب عليه به. وكما يعرف المجنون لقبه، وكما يحضر الفرس من وقع السوط من كثرة وقعه بعد رفعه عليه.
مخ ۶۳
فصل منه في هذا المعنى
فإذا استحكمت هذه الأمور في قلبه ، وثبتت في خلده وصحت في معرفته، فهو حينئذ بالغ محتمل. وعند ذلك يسخر الله سمعه للخبر المثلج، أو بصره لمعاينة الشاهد المقنع، على يدي الرسول الصادق، ولا يتركه هملا، ولا يدعه غفلا، وقد عدل طبعه وأحكم صنعه، ووفر أسبابه، فلا يحتاج عند معاينته رسولا يحيي الموتى، ويبرىء الأكمه والأبرص، ويفلق البحر، إلى تفكير، ولا تمييل ولا امتحان ولا تجربة، لأنه قد فرغ من ذلك أجمع، واستحكم عنده العلم الذي أدب به، وهيئ له وأورد عليه.
فإن كان لم يكن لذلك عامدا، ولا إليه قاصدا ولا به معنيا، وإنما هو عبد عبأه سيده، ورشحه مولاه، وهيأه خالقه لأمر لا يشعر به من مصلحته، ولا يخطر على باله من الصنع له حين غذاه به، وقاده إليه، وهيأه له.
مخ ۶۴
فإذا أورد عليه دعوى رسول، وأمته تشهد له بإحياء الموتى وفلق البحر، وبكل شيء قد عرف عجز البشر عن فعله والقوة عليه، علم بتجاربه المتقدمة بعادة الدنيا، أن ذلك ليس من صنع البشر، وأن مثله لا يقع اتفاقا، وأن الحيل لا تبلغه، فلا يمتنع مع رؤية البرهان وفهم الدعوى، أن يعلم أن الرسول صادق، وأن الراد عليه كاذب.
فصل منه
ولولا أن هذا كلام لم يكن من ذكره بد، لأنه تأسيس لما بعده، ومقدمة لما بين يديه، وتوطئة له، لاقتضبت الكلام في المعرفة اقتضابا، ولكن يمنعني عجز أكثر الناس عن فهم غايتي فيه إلا بنزيله وترتيبه.
وكل كلام أتيت على فرعه، ولم تخبر عن أصله فهو خداع لا غناء عنده، وواهن لا ثبات له.
مخ ۶۵