96

كما أنه كان من صميم أبناء القرية ومن أسرة من أكرم أسراتها. واشتغل بالتجارة بعد أن هدأت الأمور واستقر الحكم للخديو توفيق بمساعدة جيوش الاحتلال، ولقي في تجارته نجاحا عظيما حتى أصبح من أثرياء القرية. ولم يكن له أبناء من زوجته الأولى فتزوج بشابة فلاحة حتى تكون طوع أمره؛ لأنه كان رجلا صارما منذ أيام شبابه، لا يحب أن تسيطر عليه زوجة شابة معتزة بكرامة أسرتها. وبعد عدة سنوات رزقه الله ولدا أدخل على قلبه السرور وسماه إبراهيم باسم أبيه، فأنساه سروره بذلك الابن مرارة الحوادث الماضية. وكان يحاول نسيان ذلك الماضي المؤلم حتى إنه صار يغضب كلما أراد أحد أن يذكره به في أية مناسبة. وكان يواصل عمله بالليل والنهار ليجمع ثروة كافية لذلك الولد الوحيد حتى يكون غنيا عن الناس جميعا، واستطاع في أقل من خمسة عشر عاما من العمل المستمر أن يجمع من الأموال ما يكفل لولده حياة رغدا. واشترى فوق الأموال التي ادخرها في خزانة خفية عزبة لا تقل عن خمسين فدانا من أجود الأطيان في القرية، وكانت صفقة عظيمة اشتراها من رجل أجنبي عن القرية زهد فيها لأنها كانت لا تدر عليه ربحا. فلما اشتراها رضوان أفندي استطاع أن يؤجرها لأهل القرية بإيجار حسن وأن يحصل على ريعها كاملا من الفلاحين الذين كانوا يرهبون جانبه لصرامته.

ولما كبر ابنه عني بتعليمه، فأدخله المدرسة الأميرية الوحيدة في عاصمة المديرية، واشترى له بغلة هادئة سريعة وأعد له سرجا فخما من نسيج الصوف الأحمر، فكانت تحمله كل صباح إلى المدرسة ثم تنتظر في وكالة البهائم حتى ساعة العصر فتحمله إلى القرية سالما في رعاية خادم خاص كان يقطع المسافة كل يوم بين القرية والعاصمة ذهابا وإيابا إلى جانب البغلة.

ومن شدة حبه لولده كان يرحب بأصدقائه من زملاء الدراسة إذا أتوا لزيارته في أيام الجمع، وكثيرا ما كان يعد لهم الولائم الزاخرة بألوان الطعام الريفي الذي كانت الأم تتفنن فيه. ولما كبر ولده وانتقل إلى الإسكندرية ليكون بالمدرسة الثانوية أعد الأب له بيتا خاصا به ليستطيع أن يستقبل فيه أصدقاءه إذا أتوا لزيارته في أيام الصيف ليقضوا عنده بضعة أيام بين حين وآخر. ولشدة محبة الأب لولده واغتباطه بأنه قد صار شابا كان يتخفف من أعماله الكثيرة حتى يقوم بواجب الترحيب بهؤلاء الأصدقاء. وكان من الطبيعي أن يعرف هؤلاء الشبان من أحاديثه معهم ومن أحاديث صديقهم إبراهيم ابنه أنه كان «ضابطا» في جيش الثورة العرابية التي قرءوا حوادثها في دروس التاريخ، فجعلهم ذلك ينظرون إليه كأنه قطعة من الآثار التاريخية الجديرة بالاهتمام. فكانت أحاديثهم تتجه دائما إلى ذكر حوادث تلك الثورة رغبة منهم في سماع بعض الطرف التي يحكيها الجنود القدماء دائما عن مغامراتهم في المعارك. ولكن رضوان أفندي كان يحس كراهة شديدة لتلك الأسئلة ويحاول بقدر طاقته أن يتجنب الإطالة في الإجابة عنها، حتى لا تعود إليه ذكرى الحوادث المؤلمة التي تثير في نفسه مشاعر مرة حانقة. ولكن الشباب في شغفه بالمجهول لا يهتم بأن يفكر في آلام غيره، فلم يفطن أصدقاء إبراهيم إلى مظاهر الألم والحزن التي كانت تظهر على وجه الرجل عندما كانوا يوجهون إليه تلك الأسئلة، وكانوا يلحون عليه في السؤال ويأخذون في سرد الحوادث التي تعلموها ويمزجون أحاديثهم بكثير من عبارات الوطنية الحماسية، فكان رضوان أفندي ينتحل لنفسه عذرا آخر ليخرج من مجلسهم حتى لا يستمر في الاستماع إلى أحاديثهم.

وفي يوم من الأيام في إحدى تلك الزيارات ضاق صدر رضوان أفندي بتحمس ابنه لآراء أصدقائه عندما كانوا يتحدثون عن الحركة الوطنية التي أثارها الشاب مصطفى كامل في جريدة اللواء، وبلغ منه الحنق مبلغا عظيما حتى إنه وجه إلى ولده العزيز عبارات شديدة من التأنيب على الحماقة التي ظهرت منه. ولم يتعود إبراهيم أن يسمع من أبيه منذ الطفولة سوى عبارات التكريم والإعزاز، فوقعت عليه تلك الكلمات الشديدة كأنها صفعات مهينة، وقام من مجلسه غاضبا وترك أصدقاءه في أشد حالات الارتباك والخجل. ولاحظ الوالد بعد قليل أنه أساء إلى ضيوفه وضيوف ولده وأنه قد تجاوز الحدود التي تقتضيها واجبات صاحب البيت، فبدأ يعتذر عما فرط منه واستأذن الشبان ليخرج ويعود بولده الغاضب. وبعد دقائق قليلة عاد الأب مع ابنه، وكان منظر إبراهيم يدل على أنه غسل وجهه من آثار الدموع قبل عودته.

وبدأ الوالد يتكلم، وكان صوته متهدجا من التأثر، فقال: «أحب أيها الأبناء أن أقص عليكم قصة حياتي أمام ولدي هذا الذي ليس لي أمل في الحياة إلا أن يكون رجلا سعيدا؛ لأنه وحيدي الذي أحب له من السعادة أكثر مما أحب لنفسي. وقد عشت حياة طويلة ومرت علي حوادث كثيرة ووقفت في مآزق شديدة علمتني كثيرا من الحكم التي لا يعرفها هؤلاء الذين لم يعرفوا الشقاء. لقد بلغت اليوم من السن أكثر من الستين عاما، قطعتها سنة بعد سنة في جهاد وعرق وآلام.

تركني والدي وأنا صبي، وكان لي شقيقان أصغر مني، وأنتم لا تعرفون معنى مسئولية صبي صغير عن أخوين أصغر منه. كان علي أن أبحث عن عمل يمكنني من القيام بأحمال أسرتي، وأنا لا أعرف بعد ما هي الأعمال التي يمكنني أن أبحث عنها. ولكن إذا كان أبي قد تركني للحياة وحيدا فإنه خلف لي اسمه المحبوب بين أصدقائه الكثيرين؛ لأن إبراهيم أفندي كان عند الجميع رجلا كريما محترما، ولهذا بادر أهل القرية جميعا ليمدوا إلي يد المساعدة، وذهب بي العمدة عليه رحمة الله إلى مأمور الناحية ليساعدني على أن أجد وظيفة في الحكومة؛ لأني كنت أجيد القراءة والكتابة. وكان المأمور رجلا كريما، فرق قلبه لي عندما عرف أني أعول شقيقي الصغيرين، فتوسط لي لأكون كاتبا في الدائرة السنية، وذلك - كما هو معلوم - في مدة الخديو إسماعيل. وفرحت فرحا شديدا بهذا الحظ السعيد الذي هيأ لي مرتبا لا يقل عن ثلاثة جنيهات في الشهر. أراكم تبتسمون أيها الأبناء لأني أقول عن هذا المرتب أنه حظ سعيد، ولكن الجنيه في تلك الأيام كان يساوي خمسة جنيهات على الأقل من قيمة نقودنا اليوم.

وماتت أمي بعد بضع سنوات، وكبر إخوتي واستقلا عني واشتغل أحدهما بالتجارة وذهب الآخر ليكون جنديا في السودان مع حملة الحبشة. وتنقلت في وظائف الدائرة السنية وزاد مرتبي حتى استطعت أن أتزوج، واتخذت لنفسي منزلا صغيرا على النيل في إحدى القرى التابعة للدائرة السنية. كنت إلى ذلك الوقت لا أعرف من الحياة إلا أعمال وظيفتي وبيتي، ولم تكن عندنا صحف تحمل إلينا الأخبار كما هو الحال الآن؛ ولهذا لم أكن أعرف شيئا من أمور السياسة سوى أن مولانا الخديو هو ولي النعم.

وقمت في الصباح الباكر في يوم من الأيام ذاهبا إلى مزرعة الدائرة كعادتي، فإذا سفينة كبيرة راسية على الشاطئ. فاقتربت محترسا نحو النهر وتداريت في ظل ساقية قريبة لأنظر ما هناك، فإذا جماعة من البحارة تهبط من السفينة وهي تحمل شيئا يشبه جثة ملفوفة في ملاءة بيضاء، وساروا بعيدا عن شاطئ النهر يحملون حملهم وهم يتعثرون، حتى صاروا على نحو مائة متر من النهر، فوضعوا الحمل وبدءوا يحفرون في الأرض. وكان قلبي قد امتلأ رعبا من المنظر، فبقيت ساكنا في مكاني أنتظر في لهفة أن يفرغ البحارة من عملهم وينصرفوا. ومرت الدقائق علي بطيئة كأنها ساعات طويلة، حتى فرغت الجماعة من إعداد الحفرة ووضعوا فيها ما معهم، ثم أعادوا فوقها الكوم الكبير الذي استخرجوه وداسوا التراب بأرجلهم حتى سووه بما حوله، ثم انصرفوا إلى السفينة. وبعد بضع دقائق أخرى تحركوا نحو الصعيد. وكان العلم الأحمر يرفرف فوق السارية مع النسيم الذي ملأ قلوع السفينة ودفعها نحو الجنوب. وكتمت السر الذي عثرت عليه في ذلك الصباح طي أعماق صدري فلم أطلع عليه أحدا، مع أن الفلاحين في القرى المجاورة كانوا يتحدثون في ذلك اليوم عن السفينة الذاهبة إلى الصعيد تحمل إسماعيل باشا المفتش لتغيير الهواء في أسوان. لم أقل لأحد أني رأيت السفينة راسية على بعد كيلومتر واحد من القرية، ولا أني رأيت بحارتها ينزلون منها يحملون جثة دفنوها على مقربة من الشاطئ؛ لأني لو قلت كلمة من ذلك لذهب الجميع إلى الحفرة وأخرجوا الجثة وأحدثوا فضيحة كبيرة. وماذا كان يحدث لي لو حدثت تلك الفضيحة؟ فكرت في ذلك طويلا وعزمت على أن ألتزم الصمت فلا أنطق بكلمة واحدة عما رأيت.

ولكني منذ ذلك اليوم أخذت أتتبع أخبار تلك السفينة، فكنت أذهب كل يوم إلى بيت المأمور لأقرأ «الجرنال» الرسمي الذي كان يرسل إليه، وصرت إليه أتتبع السفينة في سيرها نحو الجنوب بلهفة شديدة كأني أقرأ قصة مثيرة. وقرأت آخر الأمر أن السفينة وصلت إلى أسوان وأن المفتش أصيب بمرض، وأنه كان يكثر من شرب الخمر فساءت حالته وزادت عليه العلة. ثم قرأت أن طبيبين أجنبيين زاراه في أسوان وصرحا بأن حالته خطيرة، ثم أعلنت وفاته ونشر تقرير الطبيبين أنه مات من تأثير الخمر الذي أضعف صحته. أأقول لكم ماذا شعرت به عند ذلك؟ شعرت بأني أعيش في مسرح تمثل فيه مهزلة. رأيت بعيني جثة الرجل تحمل من السفينة وتدفن، ثم رأيت الحكومة السنية تمثل رواية هزلية أمام الشعب. وترددت الإشاعات بعد ذلك تقول إن الخديو قتل إسماعيل المفتش شريكه في الحكم ونديمه في مجالس اللهو وساعده الأيمن في اقتراض الأموال من المرابين؛ لأنه تخلى عنه وخانه مع مندوبي المرابين الفرنج. ولكني التزمت الصمت ولم أقل شيئا . كان كل شخص يتحدث بالإشاعات التي سمعها من غيره؛ لأنه لم ير شيئا بعينه، وأما أنا فلو قلت شيئا فإني أقول إني رأيت بعيني، وهنا تقع الكارثة.

ومن ذلك الوقت دب في أعماق صدري شعور عميق بالكراهة والحقد والمقت للخديو إسماعيل، لا لأنه قتل شريكه، بل لأنه سخر منا، سخر من الناس جميعا. كان في إمكانه لو أنه شجاع شريف أن يحاكم المفتش ويوقع عليه العقوبة التي يستحقها. ولكن ارتكاب الجريمة في الظلام، وتمثيل المهزلة أمام الأنظار، كان كافيا لملء قلبي حنقا، سواء كان المفتش مجرما أم بريئا.

ناپیژندل شوی مخ