فقال السيد عمر: هذا موضوع آخر يا سيدي. وما دام الأمر لا يزيد على مبلغ من المال، فهذا أمر سهل. أتعهد أنا بتدبير هذه المرتبات.
فصمت محمد علي، وقال صالح أغا: هل أبلغه هذا الرد؟
فقال محمد علي في تردد: لا بأس، على شرط أن ينزل من القلعة اليوم. لا شيء سوى المرتبات ونقل متاع الجنود!
فقام صالح أغا قائلا: سأعود إليه إذن.
واستأذن خارجا وبقي السيد عمر مع محمد علي يتحدثان في هذه الأموال المطلوبة وكيف يدبرانها.
وفي عصر ذلك اليوم ضربت المدافع من القلعة، وكانت علامة على دخول الجيش الجديد إلى القلعة، بعد أن نزل منها جيش خورشيد آخر الباشوات الذي اضطرته جموع أهل القاهرة إلى الاستسلام. واصطفت الجموع الزاخرة المنتصرة في ميدان الرميلة ينظم صفوفهم حجاج الخضري وأبو شمعة وفتيان الأحياء المتدفقون على ميدان الرميلة من كل أطراف القاهرة. وكان في وسط الصفوف طريق واسع لا يسمح لأحد من الألوف المتجمهرة أن يدخل فيه. ثم بدأت صفوف الأتراك تنزل من باب العزب خارجة من القلعة في طريقها الطويل نحو بولاق. كانت ملابسهم مختلفة وألوانهم متباينة، حتى أطوالهم وملامح وجوههم كانت تنم على أنهم أخلاط من شعوب شتى.
وساروا في صمت لا تتقدمهم موسيقى ولا يسيرون في خطى متناسقة. كانوا يحملون أحمالهم مربوطة وراء ظهورهم أو تحت أذرعهم، وتبدو على وجوههم آثار الإعياء والكآبة. وخرج في آخر الصف الطويل خورشيد باشا الوالي العنيد، وعلى وجهه ما يعبر عما في صدره من روح التحدي. كان رافعا رأسه في كبرياء، لا ينظر إلى يمين ولا إلى يسار، كأن الميدان الفسيح الذي يسير فيه صحراء خالية. ووقفت الجموع المتراصة تنظر إليه في صمت عميق، تكتم أنفاسها من شدة التأثر وروعة الموقف. وتوالى من وراء الباشا خروج كوكبة من فرسان الحرس الخاص في ملابسها البيض، كأنها رشاش موجة منحسرة بعد أن تحطمت على صخرة. كانت موجة عنيفة هجمت منذ ثلاثة قرون ثم انحسرت كما بدأت عنيفة!
المعركة المستمرة
«المعركة لا تنتهي ولكنها أسجال.»
عندما تقع مأساة لا يستطيع الضحايا أن يجعلوا أحكامهم عادلة إذا تحدثوا عنها؛ لأن كلا منهم يعكس آلامه الشخصية على أحكامه. هذه قاعدة عامة تصدق على كل ضحايا المآسي، سواء كانت من المآسي الخاصة أم العامة. ولا شك في أن موقعة التل الكبير وهزيمة المصريين فيها والاحتلال الأجنبي الذي أعقبها كانت من الكوارث القومية الكبرى التي خلفت وراءها ألوانا كثيرة من المآسي الخاصة والعامة. وقد كان رضوان أفندي أحد الذين أصيبوا في تلك المأساة الكبرى؛ لأنه كان جنديا في معركة كفر الدوار ثم رقي جاويشا قبل أن تنتقل فرقته إلى التل الكبير لما أبداه من الشجاعة والإخلاص في مواقف كثيرة. وكان المنتظر أن يكون بين المرشحين للترقي إلى رتبة ضابط ملازم بعد الانتصار في التل الكبير، ولكن الهزيمة الطاحنة التي أصابت الجيش هناك بددت آماله كما بددت آمال البلاد كلها. ولما عاد رضوان أفندي إلى قريته في الكوم الأحمر، كانت نفسه ممتلئة سخطا ويأسا وثورة على كل شيء. كان إذا اجتمع مع أهل القرية يشتد في العنف على كل من اشترك في المعركة، وكل من لم يشتركوا فيها. وكان في الوقت نفسه ينتهز الفرصة كلما خلا إلى أحد ممن يثق في إخلاصهم له فيأخذ في الطعن المر على الخديو توفيق والذين ناصروه وتآمروا معه على الالتجاء للإنجليز. وكان أهل القرية يحترمونه ويحبونه؛ لأنه كان في معاملاته رجلا عادلا، يحب أن يأخذ حقه كاملا، ويعطي الآخرين حقوقهم كاملة.
ناپیژندل شوی مخ