101

والأستاذ عطية يتعمد أن يؤدي دوره في الحياة بإخلاص وصراحة، ولذلك فهو يسير على سجيته بغير تكلف، ولا يحاول أن يغطي أعماله ولا آراءه بالغشاء المموه الذي يغطي به الناس أعمالهم وآراءهم لتبدو مقبولة. وله فلسفة خاصة في كل ما يتصل بالناس، وذلك أنه لا يقيد نفسه بالعرف الذي اصطلحوا عليه، ما دام لا يرى في الحدود والمقاييس التي وضعوها سوى حيل خبيثة وضعها المكرة ليستغلوا البسطاء ويفوزوا بما يشاءون من المنافع والمتع. ولهذا جعل شعاره الأول في معاملته للناس ألا يقف لحظة ليفكر فيما يقوله الغير عنه.

ومن العدل أن ننظر إلى الناحية الأخرى من شخصية الأستاذ عطية، إذا أردنا أن نعرفها على حقيقتها، فهو رجل يجمع في طباعه بين الأضداد، كما أنه يجمع في عقله بين المتناقضات. فبينما هو يعطي ما في يده سخيا فياضا، إذا هو يمد يده إلى أصدقائه في جرأة قد تبلغ حد التبذل أو الاعتداء. وبينما هو يأبى أن يستجيب إلى دعوة أحد العظماء إلى وليمة فاخرة، إذا هو يذهب إلى مجالس السوقة بغير دعوة ويقضي معهم الأماسي الطويلة في منتدياتهم الوضيعة.

وهو من سلالة أسرة قديمة عريقة في المجد، ولكنها من تلك الأسر التي لم يبق منها إلا الاسم، كما لم يبق من مجدها القديم إلا بيت فسيح متهدم في حي المنشية. وإذا كان للأستاذ عطية ميراث آخر من هذه السلالة القديمة، فذلك لا يزيد على بعض مبادئ يتمسك بها ويعتقد أنها هي الأمثلة العليا. وقد يبلغ به التحمس لهذه المبادئ إلى حد أنه يعتقد أن الحياة الحديثة صائرة بغير شك إلى الانحلال والفناء لأنها انحرفت عنها.

ومع أنه متصل بالقرابة والنسب إلى كثير من الأسر الكبيرة، فهو لا يعبأ بتلك الصلات ولا يحرص عليها، بل يتعمد أن يتبرأ منها؛ لأن تلك الأسر قد انحرفت هي الأخرى عن المبادئ التي يعتقد فيها. والأستاذ عطية مع كل بدواته وآرائه الغريبة يتمتع بمكانة عالية بين أهل المنشية، فإن أبناء ذلك الحي ولا سيما العامة والسوقة منهم يحبونه ويعتبرونه الرجل الأصيل المنحدر من بيت الشرف والمجد، فإذا مر في الطريق قام له أصحاب الدكاكين وقوفا وحيوه في بشاشة ورحبوا به في مودة، فإذا عرج على دكان أحدهم ليجلس معه ساعة قصيرة عد ذلك شرفا عظيما وتنازلا مشكورا.

وليس احترام الأستاذ عطية مقصورا على أصحاب الدكاكين وأهل السوق في حي المنشية، فهناك شخصية هامة محبوبة في ذلك الحي تعتبر الأستاذ صديقا عزيزا، وهي شخصية «كوكو» المهرج المرح الذي يعرفه الجميع، ويلتف حوله الأطفال والشبان ليستمعوا إلى فكاهاته الحلوة كلما مر في حواريهم. فكلما لمح كوكو خيال الأستاذ عطية من بعيد أسرع إليه ووضع يده على كتفه وأخذ يرقص ويغني له ويبادله الفكاهات، ثم يأخذ منه ما يعطيه من النقود الصغيرة إذا كان معه نقود.

وللأستاذ عطية أصدقاء كثيرون في القاهرة وغيرها لا يكادون يصبرون عنه إذا غاب عنهم، ويسعون إلى مرافقته والتمتع بمجالسه، وهم جميعا يميلون إلى مداعباته ويتعمدون أن يثيروا مرحه وطربه، وقد يبلغون معه حد العربدة إذا لعبت الخمر برءوسهم.

وأما هو فإنه لا يشرب الخمر ولا يضيق أبدا بهذه المداعبات ولا يغضب، بل يتحملها مسرورا، وكل ما يرد به عليها لا يزيد على بعض فكاهات تطلق الضحكات العالية وتزيد الأصدقاء تعلقا به. فلا يذكر هؤلاء الأصدقاء أنه خرج عن عادته في المؤانسة الظريفة الوديعة إلا مرة واحدة في ليلة واحدة كانت فلتة من الفلتات في كل حياته.

ففي تلك المرة وحدها، شرب الأستاذ عطية بعض كئوس من الخمر على غير عادته وعربد عربدة صارخة كانت موضع الدهشة عندهم جميعا، حتى إنهم ما يزالون يذكرونها ويتفكهون في مجالسهم بذكرها، ويسمونها فيما بينهم «ليلة عيد الميلاد».

وكان هو إذا سمع حديث هذه الليلة قام مسرعا؛ لأنها تثير فيه ألما شديدا، وهذا هو حديثها:

في ذات صباح دق جرس التليفون في بيت الأستاذ عطية، وكانت الساعة ما تزال السادسة، وهي ساعة يندر فيها رنين التليفون. وكانت دهشة الأستاذ عظيمة عندما سمع صوت صديقه جابر بك الذي كان معه في الليلة السابقة إلى قرب منتصف الليل.

ناپیژندل شوی مخ