قالوا: وكان المعمور بعد الطوفان كطائر: رأسه الشرق، والشمال رجلاه، وما بينهما بطنه، والمغرب ذنبه، فكان يزدرى بنسبته إلى الذنب، وكانت اليونان لا ترى الحرب لضرره، وشغله عن العلوم، فلما نزلوا الأندلس وعمروها حسنت غاية ما يكون، حتى قال قائلهم: إن الطائر هو الطاووس أحسن جماله في ذنبه، وجعلوا دار الملك والحكمة (طليطلة) لتوسطها فنظروا فإذا ليس من يحسدهم على رغد العيش إلا أهل الشقاء، وهم حينئذ العرب والبربر، فرصدوا ارصادا، ولما كان البربر بالقرب منهم، وليس بينهم إلا تعدية البحر، ويرد عليهم منهم طوائف منحرفة الطباع، نفروا منهم، وعلم البربر عداوة الأندلس لهم، فنفروا منهم أيضا إلا أن البربر أحوج إلى أهل الأندلس من أولئك إليهم لوجود الأشياء بالأندلس، وكان بنواحي أرض الأندلس ملك يوناني، وله ابنة جميلة، فتسامع بها ملوك الأندلس، فخطبها كل منهم، فخشي [أبوها] أن يزوجها أحدهم، فيسخط الثاني فاستشارها، والحكمة مركبة في طباعهم، ولذلك قيل: نزلت الحكمة من السماء على أدمغة اليونان، وأيدي الصين، وألسنة العرب، فقالت: اجعل الأمر إلي، فإني أقترح أمرا، فمن فعله تزوجته، وهو أن يكون ملكا حكيما، فقال: نعم ما اخترت، فأجاب الخطاب بذلك، فسكت من ليس حكيما، وكان فيهم حكيمان، فكتبا يطلبانها، فقالت: أطلب أمرا من كل واحد، فأيهما فرغ [أولا] مما أطلب تزوجته، فكتبت إليهما: أريد من أحدكما إدارة رحى بالماء الجاري من ذلك البر، ومن الثاني طلسما نحصن به أرضنا من البربر، فعمد صاحب الرحى إلى خرز عظام من الحجارة، ونضد بعضها إلى بعض في البحر المالح الذي بين الجزيرة، والبر الكبير، وجلب الماء العذب من موضع [عال] بالبر الكبير في ساقية وبنى بالجزيرة رحى على الساقية.
وأما صاحب الطلسم فأبطأ عمله؛ لأنه ينتظر الرصد الموافق لعمله غير أنه أحكم أمره فابتنى بناءا مربعا من حجر أبيض بالساحل، فلما انتهى البناء إلى حيث اختار صور نحاسا أحمر وحديدا مصفى مخلوطين بإحكام صورة رجل بربري بلحية، وفي رأسه ذؤابة شعر جعد قائم في رأسه بجعودته، متأبط لكساء قد جمع طرفيه على يده اليسرى بأحكم تصوير، وفي رجليه نعل وهو قائم من رأس البناء على مستدق مقدار رجليه فقط، وهو شاهق طوله نيف على ستة أذرع، وهو محدد الأعلى فينتهي إلى ما سعته قدر ذراع، مادا ليده اليمنى بمفتاح قفل، قابضا عليه،كأنه يقول: لا عبور، فكان من تأثير هذا الطلسم في هذا البحر الذي تجاهه أنه لم ير قط ساكنا، ولا كانت تجري فيه سفينة بربرية حتى سقط المفتاح.
مخ ۱۴۰