ويسأل طه حسين عن حالة المواصلات وقطارات السكة الحديد، فهو يريد السفر إلى القاهرة، ومن هناك إلى كوم امبو ليرى والديه الذين لم ينقطع عن التفكير فيهما طيلة السنوات الأربع الماضية، والمحافظ يطمئنه، فقد استفسر وتأكد من سلامة المواصلات بين الإسكندرية والقاهرة، وكذلك بين القاهرة وكوم امبو.
وفي محطة القاهرة يستقبل الأسرة الصغيرة العائدة بعض الأقارب والأصدقاء، منهم صديق قديم عزيز هو الأستاذ محمد رمضان المحامي الذي اشترك مع طه حسين في ترجمة كتاب «الواجب» للكاتب الفرنسي جول سيمون قبل سفره إلى البعثة عام 1914، ومنهم زميلا الأزهر القديمان محمود الزناتي وأحمد حسن الزيات، ومنهم صديق آخر هو الأستاذ محمد المرصفي، الذي يسرع ويحمل الطفلة الصغيرة «أمينة» عاليا فوق رءوس المسافرين والمودعين والمستقبلين ليخرج بها من المحطة، وأمها من خلفه وخلفها قلقة، تريد أن تسرع لتلحق بابنتها، لكنها مضطرة إلى الإبطاء لتسير مع زوجها ومع صحبه، وهم يشقون زحمة المسافرين والمستقبلين في محطة القاهرة.
وفي القطار إلى كوم امبو يتحدث طه حسين مع زوجته عن والديه اللذين يعود إليهما الآن وقد بلغ الثلاثين، وله زوجة وبنت، ومعه درجة الدكتوراه وقد عين أستاذا في الجامعة الأهلية، يقول لها إن والده كان يتمنى لو أصبح يوما شيخا في الأزهر الشريف له عمود يتجمع حوله الدارسون، وكان ذلك أقصى ما يتمناه له.
وعندما يصل إلى كوم امبو، وتتلقاه الأسرة بالفرح والترحيب، يتركه أبوه مع أمه، ويترك ابنته لجدتها، ويخرج هو مع زوجة ابنه ليريها معالم المدينة، وفيها آثار الانتعاش الاقتصادي الناشئ عن قيام شركة السكر فيها، يسيران معا، هو بملابسه بالعمامة والجبة والقفطان، وهي بملابسها الأوربية، يسألها - بالإشارة - عن رأيها فيما تراه، وعن طلباتها إن كانت لها طلبات، وتشكره هي بالابتسامة سعيدة كل السعادة باستقبال أسرة زوجها لها. •••
وتمر أيام الزيارة سريعة، سعيدة، على أنه لا بد من العودة إلى القاهرة فإن الجامعة ستفتح أبوابها عن قريب، ولا بد من أن يبدأ طه حسين عمله فيها.
وفي السابع من ديسمبر عام 1919، في تمام الساعة السادسة مساء، يقبل أعضاء مجلس إدارة الجامعة المصرية على قاعة المحاضرات فيها، يتقدمهم عبد الخالق باشا ثروت وكيل الجامعة، وإسماعيل حسين باشا وكيل وزارة المعارف، ومرقص بك حنا المحامي، وعلي بك بهجت مدير الآثار العربية، وشكري باشا وكيل وزارة الحقانية، وحسين سعيد باشا، ويجلسون في القاعة إلى جانب الأستاذ الشاب طه حسين، ثم ينهض الأستاذ إسماعيل رأفت بك فيقدم الأستاذ الشاب إلى ثروت باشا الذي يسير معه إلى منصة التدريس، ويقدمه للطلاب ولغيرهم ممن توافدوا على الجامعة ذلك المساء يلخص لهم حياته العملية وجهاده فيها، ثم يقول: «هذا هو مختصر لحياة الطالب طه حسين،
1
تلك الحياة العملية التي كان فيها خير مثال للشبيبة المصرية، وأصدق دليل على الذكاء المصري والنبوغ المصري، وأقطع برهان على ما يثمر الجد والثبات والعزم.»
ثم يختم حديثه بقوله: «أستاذنا الدكتور طه حسين يبدأ الآن حياة جديدة، يبدأ حياة الإفادة بعد الاستفادة، وإني باسم الله وبالنيابة عن أعضاء مجلس الإدارة أفتتح الدرس الأول للأستاذ الدكتور طه حسين.» •••
ويحضر الطلبة درس التاريخ القديم متثاقلين، على أنهم بعد سماعهم الأستاذ الشاب قد جعلوا يقبلون عليه وعلى مادته شيئا فشيئا، فقد تبين لهم أن دروسه لن تكون سردا لأسماء الأباطرة وللمعارك التي خاضوها، بل ستكون دراسة للحضارة القديمة ونظمها السياسية والاجتماعية وثمارها الثقافية ولتاريخ الفكر الإنساني وتطوره في الزمن القديم.
ناپیژندل شوی مخ