أستاذ التاريخ القديم
أخذت معالم الإسكندرية تتضح مع ارتفاع شمس الصباح واقتراب الباخرة «لوتس» من الميناء، ووقف الركاب يتطلعون إلى المدينة، ومن بينهم «الدكتور» طه حسين عائدا من البعثة في فرنسا، وقد وقف بجوار زوجته التي كانت تحيطه بذراعها اليسرى وتحمل ابنتها الطفلة باليمنى، تمد بصرها إلى الأرض التي ستصبح وطنها منذ اليوم؛ إلى أرض مصر التي لا تعرف عنها إلا ما قرأت في كتب الجغرافيا والتاريخ من جهة، وما جعل زوجها يحدثها به من جهة أخرى، منذ عامين وشهرين، منذ زواجهما في أغسطس عام 1917.
وتلتفت السيدة سوزان إلى الرجل الذي من أجله جاءت إلى هذه البلاد، فتراه غارقا في أفكاره كما اعتادت أن تراه في كثير من الأحيان، إنها تدرك أنه يفكر في مصر التي يعود إليها بعد غياب أربع سنوات، ويفكر في شعبها الذي ثار هذا العام يطالب بحريته واستقلاله، ولا شك أنه يفكر أيضا في الجامعة التي يعود الآن ليقف من طلابه فيها موقف أساتذتها منه، عندما كان يسعى إليها كل مساء من بيته المتواضع في «حوش عطا» في حي الأزهر عطشان إلى العلم لا يرتوي، وهو أخيرا يفكر في تلك المدينة من مدن الصعيد التي يعمل فيها أبوه، يتخيل لقاء أبويه له فيها بعد قليل، كما يتخيل لقاءهما لزوجته ولابنته لأول مرة.
كان طه حسين يفكر في ذلك كله فعلا، ويفكر أيضا في حياتهم التي ستبدأ حين يتركون الباخرة إلى الشاطئ؛ في الطريق الذي سوف يسلكه هو ليحقق ما يملأ صدره من الآمال، وفي زوجته التي سوف تبدأ في مصر حياة جديدة في بلد غريب عليها، وفي ابنته «أمينة» التي ستنطق في بلدها العزيز بأول كلماتها، فقد أتمت الآن شهرها السادس عشر.
وتخرجه زوجته من أفكاره في رفق، لتصف له ما تراه، كما تفعل دائما، تصف له السماء والماء وعمارة الأرض في الإسكندرية، وتذكر له أن الباخرة قد هدأت، وأخذ ركابها يستعدون لمغادرتها.
وأخيرا تسأله في قلق لا تستطيع إخفاءه إن كان متأكدا من أنهم سيجدون من يستقبلهم في الميناء، وهو يؤكد لها أنه قد كتب إلى محافظ المدينة بموعد وصولهم، ويكرر أن المحافظ، حسن باشا عبد الرازق، هو من مواطنيه في مديرية المنيا، يعرفه ويعرف أهله، ولا شك أنه سيرسل إلى الميناء من يستقبلهم.
وقد صعد حسن باشا عبد الرازق بنفسه إلى الباخرة ليلقاهم عليها، وأصر على أن يستضيف الأستاذ العائد من فرنسا وأسرته الصغيرة في منزله الجميل في حي الرمل بالإسكندرية، وطه حسين سعيد بهذه الحفاوة التي اطمأنت بها زوجته، غير أنه متلهف إلى معرفة أحوال البلاد، يقول إنه قد تلقى هو وزملاؤه المصريون في باريس النبأ العظيم، نبأ ثورة مصر، «فإذا الوجود كله إشراق، وإذا السكون حركة، وإذا الجمود نشاط، وإذا نحن سرور كلنا وابتهاج كلنا، يسعى بعضنا إلى بعض، ماذا أقول؟ يسرع بعضنا إلى بعض ... وتجري على هذه الوجوه المشرقة دموع حارة، ولكن في حرارتها برد الأمل والرجاء ... مصر ثائرة، مصر تقاوم الإنجليز، مصر تنهض في وجه المستعمر ... رحم الله شهداء 1919! لقد صغرت حياتهم في نفوسهم لنكبر نحن في نفوسنا، لقد ماتوا فأحيانا موتهم»، وهو الآن يصل الإسكندرية فخورا ببلاده، معتزا بشعبه الذي وقف صامدا، مستندا إلى مساجده وكنائسه، من خلف زعيمه سعد زغلول، ولكنه قلق في نفس الوقت على مواطنيه؛ لأنه يدرك أن سلاح الاحتلال الغاشم مسلط على شعب أعزل.
يسأل المحافظ في قلق عن الأحوال ... ويقول المحافظ إن أهم أخبار الإسكندرية الأخيرة هي أن شابا قد ألقى في محطة الرمل قنبلة على سعيد باشا رئيس الوزراء في الشهر الماضي، وقد انفجرت القنبلة ولكن رئيس الوزراء لم يصب بسوء، وطلب سعيد باشا إلى السلطات أن تعامل الجاني بالرأفة لأنه يقدر كيف تغلي نفوس الشباب في هذه الأوقات.
أما أهم أخبار مصر فهي أن بريطانيا ما زالت مصممة على إرسال بعثة برئاسة وزير المستعمرات «لورد ملنر» إلى مصر رغم اعتراض رئيس الوزراء سعيد باشا واستقالته. وبريطانيا تعلن أن مهمة البعثة هي «بحث أسباب الاضطراب وعدم الاستقرار في مصر، واقتراح الأنظمة التي من شأنها أن تهدئ الحالة فيها»، وذلك كله في ظل الحماية البريطانية التي فرضت على البلاد منذ نوفمبر 1914.
وطه حسين يقول إن بريطانيا تتجاهل أسباب السخط والثورة، وتدعي أنها تبحث عنها لتهدئ الأحوال في ظل نظام الحماية، ونظام الحماية هو نفسه سبب السخط، ووجود بريطانيا في مصر هو نفسه سبب الثورة واضطراب الأحوال. على أنه متأكد من أنه لن يحال بين مصر وبين أهدافها الوطنية ما دام الشعب قد نهض كريما عنيدا يطالب بحريته وبحقوقه. •••
ناپیژندل شوی مخ