206

ما بعد الايام

ما بعد الأيام

ژانرونه

وتتزاحم على جفني المغلقين في نفس الوقت صورة من حياة الرجل الذي ينتظر جثمانه في أحد مستشفيات القاهرة وصولنا لنشيعه إلى مقره الأخير، والذي حرمتني هذه الرحلة من أن أراه قبل الرحيل.

لقد ذهبت أودعه في غرفة نومه قبل سفره إلى إيطاليا في أول الصيف وأعتذر عن مصاحبته لوداعه بالإسكندرية كعادة كل عام لانشغالي، قال لي: ماذا يشغلك؟ وماذا يفعل وزير الخارجية في القاهرة؟ ماذا يفعل كل المسئولين في القاهرة وفي العالم العربي وقد مضى على احتلال أراضينا سبعة أعوام؟

قلت: إن القاهرة تردد بيت الشعر الذي تعلمته أنا منك وهو: «ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه يهدم» ... فسكت لحظة، وارتفعت هامته، وسأل في جد شديد: وإذن لا نسافر هذا الصيف؟ قلت: بل تسافر في حفظ الله، وتعود مستريح الجسم مطمئن النفس والضمير.

وساد صمت قطعه بالسؤال عن عدد الجامعيين الذين تم تجنيدهم في القوات المصرية المسلحة. •••

وفي الثالث من أكتوبر عام 1973 وصلت الباخرة إسبريا إلى الإسكندرية تحمل طه حسين وزوجته عائدين من رحلة الصيف.

وفي السادس من أكتوبر عام 1973 عرف طه حسين أن جيش مصر قد تحدى ما جمع العدو له من قوة لترهبه وتقهره وتضطره إلى ذل الاستسلام، وأن جيش سوريا يقوم بنفس التحدي.

ولست أشك في أن طه حسين قد تخيل الجيش المناضل وهو يضم الشباب المتعلم الذي سبق أن سأل عن عدده، تخيله يحارب وهو يدرك لماذا يحارب، وبماذا يحارب، ولمن يحارب.

لست أشك في أنه تخيل من بينهم شباب جامعته الأولى جامعة الأزهر، وشباب جامعته الثانية جامعة القاهرة، ثم شباب الجامعات التي أنشأها هو جامعة الإسكندرية وجامعة عين شمس وجامعة أسيوط؛ تخيل شباب هذه الجامعات يحاربون إلى جانب إخوانهم الذين لم يحصلوا على ما حصلوا عليه هم من التعليم، ولكنهم يساوونهم في الإخلاص والعزيمة والتصميم.

فمنذ سمع طه حسين بشاعة مصرع زميله أحمد ضيف في الحرب العالمية الأولى، التي لم يكن لمصر فيها ناقة ولا جمل، ومنذ قتل ابن أخته في الحرب العالمية الثانية ولم تكن مصر عند ذاك طرفا فيها؛ وطه حسين يسأل نفسه: «ألن تحارب مصر دفاعا عن نفسها هي، ولخلاصها هي؟»

ولقد كان يدرك مع ذلك أن للحرب ضحايا من البشر، ويعرف آلام الأمهات الثكالى وجزع الآباء واليتامى، وهو لا شك قد تساءل: «هل يستطيع الإنسان يوما أن يتغلب على نفسه فيردها عن العنف، ويروضها على الإيمان بالقانون، ويعلمها أن تحترم ما تلوكه ألسنتها من عبارات ميثاق الأمم المتحدة؟»

ناپیژندل شوی مخ