لحظة طالت وامتدت حتى أصبح تأخرها أمرا واضحا لا شك فيه، أمرا يدفع الموقف بكميات أكبر من القلق، قلقه، وقلقها، على قلقه .. وقلقه حتى من قلقها عليه.
فجأة أفلت الزمام منه، ووجد نفسه يسألها: إيه اللي حصل؟
وكان بوسعها أن تسأله ما يقصد، وعن أي شيء بالضبط يتحدث، ولكنها مثله لا تريد للوقت أن يضيع، ويخاف أن يضبطها في لحظة تغلب. إن السؤال وإن كان يبدو مائعا عائما، إلا أن الصوت الذي نطقه به كان محددا مستغيثا يطلب إجابة حاسمة تشفي الغليل. وبسرعة وبحسم قالت: لا شيء حدث. مالك؟ أنا؟! ما مما ليش .. لا .. لازم فيه حاجة .. حاجة إيه؟ ولا حاجة. إنتي متغيرة. أنا؟! متغيرة إزاي؟ لازم مش إنتي. إزاي مش أنا؟ أنا أنا .. كل مرة أنا أنا .. إنما المرة دي إنتي مش إنتي .. أمال مين؟ أنا مين؟ أنا سهير بتاعتك مش فاكر! صحيح بتاعتي! ودي عايزة سؤال يا إمام؟ بتاعتك بتاعتك بتاعتك .. إنما برضه يا سهير لازم فيه حاجة!
ولاحظ ارتجافة عابرة جدا سرت بشفتيها، لم يكن ليلحظها لولا فسفوسة عسر الهضم. أمام الحاجز الذي أقيم بدت العواطف تتجمع بسرعة وتتزايد وتتراكم وتهدد باكتساح السد الذي أقامه بلا سبب معقول أو غير معقول أو بصناعة مجرى جانبي آخر. وهكذا كان لا بد أن تأتي النظرة الثانية، بحكم قانون القوة جاءت ووجدت وأصبحت أمرا واقعا، ولكنها لم تأت كما تعودت أن تأتي كل مرة، حين تحل محل النظرة الأولى الحيرى المتسائلة المذهولة، جاءت النظرة الثانية هذه المرة دون أن تختفي الأولى أو تزول، تراكمت فوقها، فوق الذهول والحيرة والتشتت، وأيضا لم تكن نظرة استمتاع والتهام متمهل سعيد منتش، جاءت مختلفة، غريبة، مجرد رغبة أعظم في بحث متعجل حاد، لهفة، إحساس دافق قوي بضرورة العثور على نهاية، على قاع، على حقيقة. - فيه إيه يا إمام؟
سؤال منزعج من فم منزعج والملامح التي أطلقها فيها رجفة، لا بد رجفة اضطراب، لم يكن قد حدث ما يستدعي السؤال أو الانزعاج، كما لم يكن قد حدث ما يستدعي سؤاله المفاجئ عما يمكن أن يكون قد حدث. ولكن المشكلة أنه لم يكن مطلوبا أن يحدث شيء واضح ليسأل أحدهما الآخر، أو ينزعج، إن الحياة معا في حب أو زواج، صنعت مثلما تصنع لكل الناس. ذلك الالتحام الشامل الذي يجعلك الآخر وتحسه، ربما قبل أن تفهم نفسك أو تحسها، تفاهم بالإحساس يتم بالتأكيد قبل أن يتم التفاهم بأي لغة أخرى، حتى لو كانت لغة العين والنظر، إنه تشابك الأفرع والأغصان والأوراق وتداخلها في شجرة إحساس واحد مسيطر، حالة لا يزيدها البعد إلا حدة، والحرمان إلا شحذا ومقدرة، وكلما ازداد الطرفان بعدا، اقتربا وأصبحا أكثر تشابكا .. فانفصال أيهما عن الآخر في الزمن أو المسافة لا يبعد ولا يعزل، ولكنه يقرب ويكثف ويربط، فيه إيه؟! أي نعم فيه إيه؟ وإيه بالضبط ري سؤالك حصل .. انطق .. تكلم .. فيه إيه .. أبدا ولا حاجة .. إذن لم يحدث شيء، وليس هناك شيء؟! ما الأمر إذن؟ ماذا هناك؟ ماذا دهاك. ولو كان الوقت يسمح لاستمرت المطاردة الخالدة غير الجديدة على علاقتهما .. إلى ما لا نهاية .. ولكن الوقت، كان مدببا، كالترس المسنونة تروسه، كلما دار وخز وألم ونبه وجأر بأنه يدور ويمضي مهددا بقرب انغلاق دائرة الدقائق العشر المصرح بها.
ولكن ماذا يصنع أو يقول في موقف لم يحدثه هو بإرادته، في موقف تكوم وتكون وتراكم وتشكل حقيقة واقعة دون أي تدخل إرادي أو عقلي أو حتى وجداني منه، إنما حدث هذا وكأنما حدث بواسطة جسده وأعضائه وعضلاته وعظامه والأجهزة اللاإرادية الغريبة المركبة فيه، في موقف عاجز عن فهمه وإدراكه. موقف حدث لا يدري كيف، ومستمر في حدوثه لا يدري كيف أيضا، وسادر في استمراره إلى ما يبدو أنه اللاحل واللانهاية، لا يدري كيف أيضا، سهير يا حبيبتي أنت أنت، لم يتغير فيك شيء، أليس كذلك؟! بل تغيرت يا إمامي وأصبحت أحبك كما لم أحبك من قبل أو من بعد .. ليتك تؤجلين الكلام عن الحب، كل كلام عنه، أحس به غير طبيعي .. ومصطنع من أجل هذا الموقف، إن الحب يأتي بعد الاطمئنان، وأنا لا أزال لم أطمئن، نفسي التي تحركني وتشعر لي لم تطمئن، عقلي لا يزال مذهولا يبحث عن خلجة اطمئنان، ومنك يأتي اطمئناني، وفي يدك الحل إذ التفسير لا بد عندك. أنا أنا لم أتغير يا سهير، أنا كجدران الزنزانة، كساعة «التمام» بعد الظهر، كوقع الأحذية الثقيلة على بلاط العنبر، أنا مثل أي شيء وكل شيء هنا، لا أتغير ولم أتغير. أنا ثابت وأنت المتحركة، أنت الطليقة، أنت المتغيرة.
ولكن يا حبيبي برغم أني طليقة ومتحركة، برغم وجودي في الخارج الحر أنا معك ثابتة لا أتغير. أنا هنا وإن كنت أبدو هناك، أنا سجينة داخل ما هو أفظع من سجنك، داخل الحياة الطليقة، كلام جميل مثل حوار أفلام الحب ولكني لا أريده، وإن كنت في كل مرة أسمعه. أجن إلا إني لا أريده. هناك شيء مؤلم حاد يشتتني ويجعلني لا أريد أن أصغي قبل أن أوقن وأعرف. تعرف ماذا؟ أعرف من أنت؟ إن فيك شيئا لا أعرفه يجعلني أحس أني لا أعرفك كلك، شيء جديد غريب علي، حواسي تحوم حوله وتجفل ولا تستطيع إدراكه. أراه ببصري ولكن لا أعيه. أيكون قد حدث شيء يا سهير؟ أيكون؟ أرجوك .. دعيني أعرفه، كيف؟ اعرفيه أنت واعترفي لنفسك به فأعرفه أنا. حوار غير منطوق أو مسموع أو حتى مار عبر العيون، ولكنه رائح غاد في سرعة وتحفز ككرات البنج بونج، لا يستقر ولا يهدأ، وإنما تزداد به النظرات جهلا واستيحاشا وتوترا، ويزداد به الزمن وخزا وإيلاما، لم يبق على انتهاء الزيارة سوى دقائق ثلاث أو أربع. سهير يا سهير. أنت لي. كلك لي. حتى ما فيك من خطأ لي. بحقك علي وحقي عليك أخبريني ماذا حدث؛ إذ مهما كان ما حدث فهو فسفوسة يا سهير بالقياس إلى حياتنا، فسفوسة لا أعرف لها مكانا ولا سببا ولا اسما، أحس بها تافهة سطحية تكفي ضغطة صغيرة لتنمحي وتتلاشى. كل ما يضخمها، كل ما يعرقلني عنك، أنها غريبة علي؛ لأنها غريبة عليك. - انت شايف إيه؟ - مش عارف. - عايز تقول إيه؟ - مش عارف. - شاكك في إيه؟ - مش عارف. - أمال فيه إيه؟ - مش عارف. أنا خايف. - من إيه؟ علي؟ ما تخافش. - ده كلام يمكن من قدامي بس. - قدامك ومن وراك. - أمال أنا حاسس بيكي متغيرة ليه؟ - يمكن إحساس خاطئ. - وهو عمر إحساس اللي بيحب بيخطئ؟ أبدا أبدا يا سهير .. عمر إحساسي بك ما أخطأ .. عقلي بيغلط إنما إحساسي لا .. وده هو اللي تاعبني! - انت بس اللي عاوز تتعب نفسك. - وحد بيعوز يتعب نفسه؟ - أيوة .. لما يكون مسجون بعيد .. وبيحب .. يخاف على حبيبته أو مراته فيشك ويخاف ويتعب نفسه! - ده كلام معقول. إنما أنا اللي حاسه حاجة فوق العقل. حاجة قبل العقل .. حاجة أصدق وأعمق من العقل. - اسمح لي دي قلة عقل.
ولكنها قالتها بروح لا مرح فيها ولا رغبة في المداعبة، وهذا ما أحزنه، لو قالتها كنكتة لبدت طبيعية وربما حلت الموقف كله، ولكنها أخذتها جدا .. وأردفت: اشمعنى المرة دي يعني؟ - ده بالضبط اللي بقوله لنفسي، كل مرة تيجي تزوريني هنا، اشمعنى المرة دي؟ - أيوة اشمعنى المرة دي؟ - لأن لازم حصل فيه حاجة يا سهير. أنا حاسس.
والكارثة في هذا الإحساس الذي لا يناقش، كالحكم الذي لا نقض له ولا راد، كالأمر الواقع، إحساس غير خاضع لمنطق أو فكر، ولكن له قوة أعتى من قوة المنطق والفكر. للمرة المائة يتأمل وجهها، إنه هو الآخر أمر واقع ربما ينجح في دحض إحساسه ونسفه، ولكن حتى وجهها تكفلت المنطقة الغريبة المجهولة بالزحف عليه والامتزاج بلونه وملامحه وتغير لونه كما يتغير لون الماء إذا سقطت فيه نقطة حبر.
ومالت على أذنه مرة وهمست له بكلمة، أعقبتها بضحكة عالية. جعلت الضابط يرهف أذنه ويكاد يمدها لتتسقط ما بين فمها ومسامعه ويعرف سبب الهمسة والضحكة. أما هو فلم يهضم لا الهمسة ولا الضحكة. في مظهرها بريئة، قريبة منه، تبدو كنفس ضحكتها البريئة، ولكنها البراءة وقد زحف عليها ذلك الشيء الغريب المجهول فأحالها إلى ما يشبه التهتك والرقاعة. إن رأسه يكاد ينفجر. لم يعد باستطاعته أن ينظر إليها أو يشعر بها كما تعود أن ينظر أو يشعر، في غيبة عقله، كما لا بد في غيبته حدث شيء. شيء غامض محير مجهول، لو كان طليقا لظل وراءه يبحث ويستقصي حتى يدركه، ولكنه هنا مقيد محبوس، ووظيفته الأولى أن يبقى جاهلا بمعزل عن كل ما يمكن أو بالاستطاعة معرفته. إنه هنا فقط يسجل، يسجل حتى دون أن يشعر، وقد سجل ما فيها من غربة، ولينفجر عقله محاولة التفسير أو التبرير فإحساسه لن ينفعه، سيغادره تاركا إياه وحده مع التصرف، أو بالضبط مع عدم القدرة تماما على التصرف. إنه الجحيم حتما، بل ربما الجحيم أرحم، إنه السجن.
ناپیژندل شوی مخ