هذه المرة
كان الضابط كريما، ولم يشأ أن تتم الزيارة في الحجرة المخصصة للزوار المملوءة بضجة عشرين مسجونا يقابلون بلهفة مجنونة مائة أو أكثر من الأهل، والجميع يصرخون في وقت واحد، عبر السلك الأصم المستمتع بصممه. لأمر ما جعلها الضابط زيارة خاصة تتم في حجرته، ربما لأن الزائرة كانت جميلة رقيقة ممشوقة القوام تضع على عينيها نظارة سوداء أنيقة وترتدي جوربا من النايلون الغامق. و«إمام» كان يعرف منذ الصباح الباكر أن له زيارة، ولأربع ساعات طوال كانت ينتظر، والانتظار في السجن ليس مؤلما، إنه عمل، عمل طويل لا ينقطع ولا ينتهي، يتسلمه المسجون لحظة أن يضع أقدامه في العنبر؛ إذ عليه من لحظتها، حتى لو كان الحكم مؤبدا، أن ينتظر لحظة الإفراج، وكل ما يفعله بين ساعة دخوله سجينا وساعة خروجه حرا طليقا، أن ينتظر، ينتظر الليل إذا جاء النهار، وينتظر الغروب حين تشرق الشمس، وينتظر وجبة العشاء المتواضعة أثناء توزيع الإفطار، انتظار يتكفل الزمن بتغيير طعمه ولونه، حتى ليؤديه الإنسان بلا ملل، وإنما باستسلام تام للانتظار وخضوع مطلق له.
منذ الصباح وهو ينتظر أن ينادي عليه الشاويش قائلا: «إمام محمد إبراهيم .. لك زيارة.» أربع ساعات طوال وليس في عقله إلا المفتاح حين يدور في القفل، أو صوت الشاويش الغليظ الهادئ الملول وهو يقول: زيارته.
أجل ستزوره سهير مرة أخرى. وهي دائبة على زيارته منذ أن دخل السجن، لم تنقطع إلا مرة أو مرتين، ولكنها دائبة، ودود، مستمرة، كالإحساس الدافئ بالأمل. وهو في كل شهر ينتظرها، ولا يمضي الشهر إلا إذا جاءت، إذا تأخرت يوما أو أسبوعا؛ توقف الشهر يوما أو أسبوعا، ولا يتحرك ولا يبدأ شهر جديد إلا إذا جاءت .. إن ما بينهما ليس غراما مشبوبا، فلقد كان يحبها ويحن إليها ويعشقها كما تعشق الليلات والجولييتات، وهو حر، ويرغب فيها أحيانا ويشتهيها كما تشتهي راقصة البطن حين تتلوى بإغراء مثير أمامك، وأحيانا يطمئن إلى حنانها الأكبر من عمرها وطاقتها ويهفو، وأحيانا يزود عنها ويضيق، مثلما يضيق معظم الناس بحياة الزواج، يحبها ويحب ابنته منها، وابنتهما جزء من ذلك الحب، كأنها التجسيد المادي لعواطف لا ترى ولا توزن، ابنته كانت صحيحة حلوة ضاحكة متفتحة، بضة وذات دلال، تماما كما تتدلل أمها إلى درجة لا بد أن يتساءل الإنسان معها، ترى أهي صورة من أمها التي تحبه ويحبها، أم هي صورة لما بينهما من حب. والخوف أيضا كان هناك. لقد انقضت ثلاث سنوات منذ أن كان معها في فراش واحد، ولقد رآها تضمحل، ويسألها عن طعامها ، فتخبره أنها لا تجد لديها الرغبة في أن تأكل، أو حتى أن تحيا، وكان في مرات يلحظ لونها أحمر على غير العادة كأنها تعاني من حمى، ولا ينسى أبدا رعشة يدها ذات مرة ثم شفتيها، ثم رعشتها كلها حين ذلك كفها الممدود إليه وهو يودعها ذات زيارة. أحيانا كان يواتيه خاطر مجنون يهب به أن يأخذها، هكذا أمام الملأ وداخل السجن، وليطلقوا عليه النيران. كان هو الآخر يعاني، ليس فقط من جسده، وإنما من كبت وجداني كان الجسد وسيلته إلى تخليصه منه .. يعاني من إحساسه باختناق قدرته على إعطائها، من حرمانه أن يمنح بسرف وبذخ كما تعود أن يكون عطاؤه.
كانا قد تزوجا عن إعجاب شديد، تطور إلى غرام وغيرة ومحبة وتضحية، كقصص الحب العاصفة، وتكفل الزواج بصهرهما معا، لم يعد يحس بها منفصلة عنه .. أو كائنا آخر مستقلا .. لكنها أصبحت جزءا أنثويا منه، أو لكأنما أصبح جزءها المذكر .. إنها معه، فهي داخله، وهو يحس بنفسه هناك، في روحها، في أعماق نظرتها، داخل كل انكماشة وانبساطة في ضلوعها الدقيقة، وهي تأخذ الشهيق أو تصدر الزفير. إنه حتى يحس بنفسه داخل شعوره بها، كل متلاحم كالكائن الحي لا يمكنه فصله، وأي فصل له أو انقسام لا يزيده إلا حياة وقوة واتصالا.
ودار المفتاح في القفل، ولم يسمع - رغم ترقبه له - ما نطق به الشاويش، سار أمامه، حليقا. قضى وقتا طويلا يوصي المسجون الحلاق كي يجتث كل ناشز من شعره وينعم ذقنه، قام بمحاولات الدنيا كي يستحم بماء ساخن ويلقاها نظيف الجسد، لامع الوجه، كان كأنما هو ذاهب لملاقاة الحياة، تلك التي يبقى ميتا طيلة الشهر حتى تشرق عليه في النهاية، وبنظرة واحدة منها تلمسه لمسة ترد إليه الحياة، حقيقة يحس بجسده يضطرب بتيار عارم متلاحق متشابك من الانفعالات والأحاسيس، يحس بنفسه قد اتصل ببحر الحياة، أصبح جزءا واعيا متفائلا من الوجود الميت الأحمق.
ودخل الحجرة، وشكر الضابط بكلمات غير واعية، وعيناه تبحثان عنها، كانت بجواره تماما ولم يرها، لم يرها إلا حين سمعها، تقول، وكأنما تعبر عن الدهشة لنفسها: إمام. التفت. كانت هناك. لم يتبين وجهها أول الأمر، كعادته، كان دائما يخاف، كلما مرت بخياله في وحدته، أن يفقد القدرة على تذكر وجهها بكل دقائقه، وفي كل مرة يراها كان يجدها متغيرة، أبدا لم ير لها نفس الوجه مرتين، كل مرة يراها فيها، سواء في السجن أو خارج السجن، كانت بوجه، دائما جديد ومختلف، وكأنه لم يره، دائما متغير وكأنه لم يثبت على حال، ولكنه ما يكاد يرى وجهها حتى يعرف ويدرك أنه وجهها، وأنه هكذا كان يبدو، وهكذا سيظل يبدو إلى آخر العمر، وجهها .. الذي له، يضحك له، ويعبس بسببه، ويحلم به ويشتاق، ويشع حبا من خلاله. وكما التقيا كانت تحدث هذه الالتماعة، في عينيها وعينيه، حتى لكأن شرارة تحدث، وضوءا مفاجئا ينسكب فيعشيهما معا .. لومضة، ويحس أنها لا تراه بقدر ما تدرك وجوده. وتحس كأنما عثرت على كنزها المنشود، الذي ظلت تبحث عنه ولا تكاد تصدر عثرت عليه، ورغم هذا لا تطمئن أبدا إلى عثورها عليه.
ودون أن يشعرا، اقتربا، وتلاصقا، كما يحدث دائما كل اقتراب لهما وتلاصق، وأمسك بذراعيها في قبضتيه، ومن أول لمسة أحس بذلك الشيء الذي كان عليه أن يدركه حالا. وتأملها عن قرب. كان لا يزال غير قادر على رؤيتها بدقة، وكأن الشرارة المعشية لا تزال هناك. وكانت تبتسم، ولكنه كان يحس أنها تبتسم لأنها تريد بإرادتها أن يراها مبتسمة، وليس لأنها أعماقها تريد الابتسام. ربما لو تركت نفسها لسجيتها لبكت أو لعانقته أو لاندفعت مقدمة على عمل أعمق. كانت ابتسامتها ربما علامة عجز، عجز عن أن تصنع شيئا آخر. وصدرت عنها الكلمات السريعة المتلاحقة التي تصدر عن كل الناس في مواقف كتلك. ازيك. صحتك. وحشتنا. نوسة. كلمات، تحركات أفواه وتقلصات ألسنة وحناجر ليس إلا؛ فالعقل مشغول بعملية تفحص كاملة تامة، كل يتفحص الآخر، بأجهزة لا أسماء لها تقيس كل دقيقة فيه، ليطمئن إلى أنه هو، وأنه لم يتغير، أو إن كان قد تغير فإنما إلى ارتباط أكثر وحب أقوى وتعلق لا حدود له. أجهزة دقيقة شاملة منتشرة في كل اتجاه، تستقبل وترسل، وتمتص وتفرز، كل خلية وكل عضو في الجسد، كأنما يريد الاطمئنان على الجزء المقابل له. كان يشتاق إليها بنفسه كلها، بيديه وأنفه وشعره المجعد .. بشاربه الحليق، بالحسنة السوداء في أذنه، يشتاق إليها كلها، للبحة في آخر صوتها، لرائها الغينية حين تنطقها، لتغابيها عليه. لتدليلها إياه، لهمهمة الغناء غير الجميلة حين تدندن بها في ساعات التجلي، لكل شيء، حتى لإصبع قدمها الصغرى الخالية من أي ظفر.
وأحس بنفسه قلقا على غير العادة، أطالت أجهزته التفحص والقياس والاستقبال، وأكثرت من التجاوب والإعطاء، لم تستقر على رأي بعد، ربما لهذا ظل يردد .. ازيك .. صحتك .. اللذيذة نوسة وضرسها المؤلم الفاسد .. في كل مرة كان عقله يستمر يردد هذه الكلمات إلى أن تكتفي أجهزة جسده وتعطيه إشارة خفيفة أنها انتهت، حينئذ كان العقل يبدأ عمله ويستطيع أن يعود يعقل وينظر، ويتأمل ويدقق، لتبدأ النظرة الثانية. النظرة المتمهلة المتمعنة التي لا قلق فيها، ولو كان موعد الزيارة معروفا؛ فاللقاء دائما مفاجأة يطير لها الصواب، نظرة المتعة بالرؤية والالتهام، التهاما، بالمزاج والراحة وأقصى درجات السعادة. إزاي نوسة؟ رابع مرة في دقيقة واحدة يسألها سؤالا أقرب للاستعجال منه إلى السؤال، وليس استعجالا لها وإنما استعجال لنفسه اللاواعية أن تنتهي من إجراءاتها الكثيرة المعقدة وتئوب إليه، ليئوب إليه اطمئنانه ووعيه. كويسة قوي، مشتاقة لك. هي الأخرى تجيبه ناظرة في عينيه، شاخصة إليه كأنما تنتظر أن ترى في عينيه شيئا، إشارة أمان تعودت رؤيتها، جواز مرور، نظرته هو. الحقيقة التي تعرفها حين ينظر بها إليها هي، وتراه ينظر إليها دونا عن الكون والدنيا، هي فقط التي تكون في عينيه وكأن العينين تصبحان عينيها، عينيها وحدها، عيناه وعيناها، وبدأ القلق يدب ويهدد بأن يصبح توترا، ولم يكن يريد أي توتر. كان يحلم منذ الصباح بأن تتالى، في نعومة ويسر، نظراته، الأولى المذهولة، والثانية المستمتعة، والثالثة حين تبلغ المتعة حد النشوة، والرابعة الحالمة المكتسحة الخارجة به وبها من خلف الأبواب الموصدة إلى الدنيا المتسعة، إلى الغد، الغد الطويل الممتد الذي لا نهاية واضحة له. أي تلكؤ حرمان، وزمن الزيارة قليل، وعقله من خوفه يساهم في الإسراع ويكاد يقسم لأجهزته وحواسه الظاهرة والخفية كل شيء على ما يرام وإنها هي، وجهها القمحي هو هو، عيناها العسليتان الواسعتان ذواتا الحدقتين المكونتين من ألف لون ولون، المشعتان بألف شعاع وشعاع، شعرها الأسود اللامع: أسود ولامع، فورمته مختلفة ولكنه شعرها، روحها هي نفس روحها أو تكاد، لا خلاف يذكر أو يلحظ، ولا يمكن أن يكون هناك خلاف، إن أي خلاف معناه اختلال في نظام الكون لا بد، صحيح أنها معتنية بزينتها أكثر من كل مرة، قلم الحواجب واضح خطه في حواجبها، والريميل يرمل أجفانها أكثر، وإن كانت فسفوسة صغيرة لا بد من أثر الجو أو الهضم قد نبتت من زاوية فمها، إلا أن شفتيها هما شفتاها، بروزهما إلى الأمام لم تتغير درجته، والروج ينطبق تماما على حوافهما كما تحب أن تبدو، لا شيء تغير، بل ربما اللهفة أكثر، وقلقها للعثور عليه في عينيه وعلى نفسها داخله أكثر.
ولكن نفسه استمرت تتفحصها غير مبالية بقلقه أو استعجاله أو ضيقه، مندهشة لا تزال، غير مدركة تمام الإدراك ما ترى، تتفحص، بلا وعي تتفحص، دون أن يشعر بها أو يسمح لها تتفحص، كأنه يراها لأول مرة تتفحص ماذا هناك يا ترى؟ ماذا يوقفها ويبقيها؟ ماذا يدهشها ويذهلها؟ ما المجهول فيها وهو يعرف كل لمحة منها وفيها .. لا أحد، لا عقله، ولا جهاز من أجهزته يرحمه ويجيب، أو حتى يعرف ويدرك ولا يجيب. وكلمات الشوق والترحيب مستمرة، عصبية من وراء القلب، ولمجرد قول شيء، مستمر، والحجرة تبدو أحيانا واسعة كفناء السجن، وأحيانا تضيق لتصبح أضأل من الزنزانة، والضابط جالس إلى مكتبه منجعص إلى الخلف بالجريدة مفتوحة، وبعين نصفها يقرأ ونصفها الآخر مضاف إليه انتباهه كله، يراقب ما يدور بين الرجل والمرأة، لا يراقب محرمات أو مخالفات، وإنما على الرغم منه، ولمجرد حب الاستطلاع يراقب، مراقبة لا يراها أي منهما ولكنهما يدركانها تمام الإدراك، ويستعجلان اللحظة التي يندمجان فيها معا ويغيبان عن الوعي بالزمن والمكان وحتى بهذه الرقابة من الضابط.
ناپیژندل شوی مخ