مظاهر الانحراف في المحبة
والأمة الإسلامية قد وقعت في كلا طرفي الانحراف، فوجد منها من غلا في رسول الله ﷺ حتى أخرجه عن العبودية فجعله إلهًا معبودًا من دون الله ﵎، وهذا ماحصل من كثير من الطوائف وحصل حتى مع غيره ﷺ من عباد الله من الصحابة، كما فعل مع أمير المؤمنين علي ﵁، أو الحسين أو من التابعين أو من بعدهم من عباد الله الصالحين، أو من يدعي صلاحهم، فحصل الغلو وفتح هذا الباب الذي هو باب هلاك، كما قال ﷺ: ﴿إنما هلك الذين من قبلكم بالغلو﴾ لما غلو في الدين وغلو في أنبيائهم فغلت هذه الأمة تبعًا لهم، كما قال ﷺ: ﴿لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذه بالقذه حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه﴾ فرفع هؤلاء أنبياءهم فوق حقيقتهم، ورفعت طوائف من هذه الأمة رسول الله ﷺ فوق حقيقته التي هي معلومة بصريح القرآن وصريح السنة، وهذا ما وقع وعَمَّ به البلاء، وواجب على كل من يؤمن به ﷺ، ويحبه -جعلنا الله وإياكم منهم- أن يدافع عن التوحيد ويسد الذرائع المفضية إلى الشرك، بأن يبين للناس منزلة النبي ﷺ الحقيقية، ويحذرهم من الوقوع في الشرك ومن الغلو فيه.
والجانب الآخر: وقع فيه أكثر المسلمين من العامة، بل حتى من العلماء وغيرهم، وهو أنهم قصروا في متابعة النبي ﷺ، فقدموا أحوال غيره على أحواله ﷺ، وكانت مصيبة المسلمين في العشرة القرون الماضية أنهم يقدمون أقوال بعض العلماء على قول النبي ﷺ، ويتعصبون لهم، وهذا بخلاف ما أمر به أولئك العلماء الأجلاء أنفسهم، وكان ذلك يُعدُّ -وهو كذلك- تقديمًا بين يدي الله ورسوله، وإساءة للأدب مع رسول الله ﷺ.
ولما ناظر ابن القيم ﵀ أحد هؤلاء ممن يأتيه الحديث الصحيح فيرده لأن فلانًا قال كذا، فقال له: أرأيت لو أن رسول الله ﷺ حيٌّ الآن يخاطبنا بأمرٍ وقال: افعلوا كذا ولا تفعلوا كذا، أكنت تأتمر بأمره ﷺ أو تقول: أعرض هذا الأمر على قول فلان، أو هذا الأمر يخالف ما قاله فلان من الناس؟ قال: بل أمتثل وأبادر توًا وفورًا، قال: فما الفرق؟ فإذا كان ﷺ قد لحق بالرفيق الأعلى فسنته وأمره بعد وفاته كأمره في حياته ﷺ، فلا بد من التأدب مع رسول الله ﷺ بالتأدب مع سنته كما كان التأدب مع شخصه ﷺ في حياته، بألا يقدم أحد بين يدي الله ورسوله، ولا يرفع صوته فوق صوت رسول الله ﷺ، فكذلك يجب أن يتأدب معه بعد وفاته ﷺ بألا يرفع رأيًا فوق سنته ﷺ.
فهذه كانت مصيبة الأمة الإسلامية التي حلت بها إلى أن جاءنا الغزو الفكري الحديث، وجاءنا الضلال الكبير الذي وقعت فيه الأمة في الأزمنة الأخيرة، وهي أنها قدمت القوانين الوضعية والأحكام البشرية على كتاب الله وسنة رسوله ﷺ، وأعرضت عما جاء به من الكتاب والسنة والهدي، فحصل بذلك الضلال العظيم، وحصل الكفر المبين لكثير من الناس الذين شَرَّعوا هذه القوانين وسنوها وألزموا الناس بها -نسأل الله العفو والعافية-.
فلم يعد للمسلمين في كثير من البلاد شيء يتمسكون به إلا أنهم يؤدون بعضًاَ من الشعائر التي تشابه ما يؤديه النصارى من الشعائر، أما حقيقة الإيمان والاتباع الكامل وحقيقة الإذعان الذي هو حقيقة الشهادة بأن محمدًا رسول الله ﷺ، فقد أشرك به غيره، وأصبح الاتباع لغيره ﷺ، فمناهج التعليم، ومناهج الحياة، ومناهج الاقتصاد كل هذه تؤخذ من غير شرعه ﷺ، ثم مع ذلك يقولون: نحن نحب رسول الله ﷺ! ويوجد فيهم من يقول: إنه يحب الله ورسوله، فيأكل الربا أو يستحله ويزعم أنه يحب الرسول ﷺ! ويوالي أعداء رسول الله ﷺ من اليهود والنصارى والمجوس والبوذيين ويزعم أنه يحب الرسول ﷺ! إذا ما نظرنا إلى واقعنا اليوم -مثلًا- التاجر الذي يستقدم العمال الكفرة، هل هذا في الحقيقة محققًا لمحبة النبي ﷺ؟! لِمَ لا يأتي بالمسلمين؟ يأتي بمن لو سأله عن رسول الله ﷺ لقال: دجال كذاب مفتري -والعياذ بالله- فيأتي به ويكرمه ويعطيه المبالغ العظيمة التي ربما كانت أكثر مما يعطي المسلم، ثم يقول: أنا أحب الرسول ﷺ، فهل هذا حق؟! وكيف تقرأ أن النبي ﷺ كان يبغض الزنا، والربا، والنفاق، ثم تأتي ويقع منك الزنا والربا والنفاق والغيبة والنميمة والإساءة إلى الجار والخيانة، كل ذلك مما يتنافى مع دعوى محبة النبي ﷺ، وهذا لا يرضاه الله ﷾، ولو رأى ذلك النبي ﷺ لغضب أشد الغضب، وتألم أشد الألم، ثم يفعله من يفعله ويقول: أنا أحب رسول الله ﷺ!! فهذا هو المعيار، وبهذا نعرف أين نحن من محبة النبي ﷺ، إذا حكمنا غير شرعه وأطعنا غير أمره، وصدقنا غير خبره، وعبدنا الله بغير سنته، فماذا بقي لنا من محبة الرسول ﷺ؟!! والواقع كثير، وظلامه كثيف، والانحرافات كثيرة، ولكن هذا كله لا يعفينا من أن نقول الحقيقة، وأن ندعو إليها، وأن نبدأ بأنفسنا، وأن نعرف أين نحن من الشهادة لمحمد ﷺ بالعبودية والرسالة التي أمرنا الله بها، وهل محبتنا وهوانا وقلوبنا وخيرتنا تبعًا لما يقضيه الله ورسوله ﷺ، أم أنها تتبع الهوى وإن ضربنا بما جاء به النبي ﷺ صفحًا؟ فهذا هو المحك، وهذا هو المعيار.
نسأل الله ﷾ أن يوفقنا وإياكم لما يحب ويرضى، ونكتفي بهذا المقدار، وفي أسئلتكم ما يذكرنا بما أنقصنا ولا بد أننا أنقصنا، فالحديث عن محبته ﷺ طويل وعظيم، ونحن دون أن نوفيه حقه، نسأل الله سبحانه أن يجعلنا وإياكم من المحبين له حق المحبة، المطيعين له حق الطاعة، إنه سميع مجيب.
6 / 10