Lessons by Sheikh Muhammad Hassan Al-Dedew Al-Shanqeeti
دروس للشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي
ژانرونه
علم مفردات اللغة
ثم بعد النحو علم مفردات اللغة: وهو العلم الثاني في الأهمية، فهذه اللغة العربية ليست مثل غيرها من اللغات، بل لها كثير من المفردات المتداخلة، بعضها يجمعها جذر واحد، وبعضها تختلف في الجذر، وبعضها يعرف في بعض المناطق دون بعض، والقرآن الكريم قد اختير من خير هذه الكلمات والمفردات، واختار الله له أفضل التعبيرات، ولذلك يأتي التعبير تارة بلغة حمير لغة أهل اليمن، وتارة بلغة أهل نجد، وتارة بلغة أهل الحجاز، فيختار من كل لغة أفصحها وأدقها معنىً وأحسنها ذوقًا، حتى يتكامل ذلك ويكون جميعًا من اللغة العربية المختارة.
والذين يزعمون أن القرآن جاء بلغة قبيلة واحدة من العرب يغلطون في هذا، ويرد عليهم الاعتراض، وقد جاء أحد النحويين من أهل اليمن فكان في مجلس الخليفة هارون الرشيد، فأخبره أن القرآن نزل بلغتهم، وبدأ يسرد بعض الكلمات التي لا تعرفها قريش وهي في القرآن من لغة أهل اليمن، ويذكر شواهدها، فلما أطال كان بحضرته أحد القرشيين، فقال: أسمعت ما يقول هذا اليماني؟! قال: لا أدري ما يقول، غير أن الله تعالى يقول في كتابه: ﴿جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ﴾ [نوح:٧]، ولم يقل: جعلوا شناترهم في صناراتهم! وهذه لغة أهل اليمن، الشناتر: الأصابع، والصنارات: الآذان.
فالله تعالى يختار من الكلمات ألطفها وأقربها للذوق الصحيح السليم، سواء كانت من لغة أهل اليمن، أو من لغة أهل الحجاز، أو من لغة أهل نجدٍ أو غيرهم.
ومن لم يعرف مفردات اللغة لم يحل له الكلام في التفسير ولا التفهم فيه ولا التدبر في كثير من الكلمات، بل إن كثيرًا من الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يتورعون من الكلام في بعض الكلمات التي جاءت في القرآن إذا لم تكن من لغتهم ولم يعرفوا دلالاتها ومدلولاتها، حتى إن أبا بكر ﵁ قال: (أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني، إذا قلت في القرآن ما لا أعلم!).
وعمر بن الخطاب ﵁ كان في مجلسه فأتته امرأة من أهل اليمن تستعديه على زوجها، فقالت: يا أمير المؤمنين! إن بعلي عبد حقي، وترك الوصيد رهوًا، ولي عليه مهيمنٌ، فهل لي عليه من مسيطر؟ فقال: لم أفهم ما تقولين.
فقال ابن عباس: كلمات كلهن في كتاب الله، إن بعلي، أي: زوجي قال تعالى: ﴿وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا﴾ [هود:٧٢]، عبد حقي، أي: تركه وضيعه، قال تعالى: ﴿إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ﴾ [الزخرف:٨١] أي: التاركين لعبادة ذلك الولد، وترك الوصيد رهوًا، الوصيد: الباب، ﴿وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ﴾ [الكهف:١٨]، رهوًا، أي: مفتوحًا، قال تعالى: ﴿وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُندٌ مُغْرَقُونَ﴾ [الدخان:٢٤]، ولي عليه مهيمنٌ، أي: شاهدٌ قال تعالى: ﴿وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ﴾ [المائدة:٤٨]، فهل لي عليه من مسيطر؟ أي: حاكم، قال تعالى: ﴿لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ﴾ [الغاشية:٢٢].
فاستشهد ابن عباس على أن الكلمات التي أطلقتها هذه المرأة كلها في القرآن، ففهم عمر دلالاتها وأعداها على زوجها.
ونظيرُ هذا ما حصل لـ ابن عباس ﵄ مع نافع بن الأزرق أمير الأزارقة من الخوارج، فإنه أتاه من العراق يسأله عن تفسير كلمات من مفردات اللغة العربية في القرآن، فأطال عليه وأكثر، واشتهرت هذه المسائل فيما بعد بمسائل ابن الأزرق، وهي تزيد على مائتي مسألة من المفردات القرآنية، منها مثلًا قوله: (عطاء غير ممنون) قال: ما معنى غير ممنون؟ قال: غير مقطوع، أما سمعت قول الحارث بن حلزة اليشكري: فترى خلفها من الرجع والـ ـوقع منينًا كأنه إهباءُ وسأله عن عدة كلمات من هذا القبيل، وهو يذكر له شواهدها في اللغة، فبينما هو كذلك إذ ضجر به، فجاء عمر بن أبي ربيعة المخزومي، فسأله ابن عباس عن آخر ما قال من الشعر فأنشده قصيدته التي مطلعها: أمن آل نعم أنت غادٍ فمُبكرُ غداة غدٍ أم رائحٌ فمهجّرُ بحاجة نفسٍ لم تقل في جوابها فتبلغ عذرًا والمقالة تُعذرُ حتى أتى على آخر القصيدة وهي ثمانون بيتًا، فحفظها ابن عباس بهذه المرة الواحدة، فقال نافع: لله أنت يا ابن عباس! نضرب إليك أكباد الإبل في طلب العلم فتعرض عنا! ويأتيك شابٌ حدثٌ من قريش ينشدك سفهًا فتسمعه! فقال: ما سمعت سفهًا، فقال: بلى، أما سمعت قوله: رأت رجلًا أما إذا الشمس عارضت فيضحى وأما بالعشي فيخسرُ فقال: ما هكذا قال، وإنما قال: رأت رجلًا أما إذا الشمس عارضت فيضحى وأما بالعشي فيخصَرُ ثم سأله عن قول الله تعالى: ﴿إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى﴾ [طه:١١٨ - ١١٩] فقال: ما معنى قوله: ﴿وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى﴾ [طه:١١٩] قال: تضحى: تبرز للشمس.
قال: هل تعرف العرب ذلك في أشعارها؟ قال: أما سمعت قول المخزومي بالأمس: رأت رجلًا أما إذا الشمس عارضت فيضحى وأما بالعشي فيخصَرُ ولذلك فإن عمر بن الخطاب ﵁ أوصى بديوان العرب وحفظه، وكان يتعهد أشعار العرب، ويستمع إليها، ولهذا فإن حسان بن ثابت كان ينشد بعض أشعاره في المسجد، فكان عمر إذا أنشد حسان شيئًا من شعره في هجاء المشركين أو في مدح الرسول ﷺ وأصحابه أذن له، فإذا ذكر شيئًا من أشعاره في الخمر وأمور الجاهلية خرج عمر، فمر به مرة وهو ينشد شعرًا من أشعاره في أولاد جفنة من قصيدته اللامية التي يقول فيها: أبناء جفنة حول قبر أبيهمُ قبر ابن مارية الكريم المفضل يغشون حتى ما تهر كلابهم لا يسألون عن السواد المقبلِ يسقون من ورد البريص عليهمُ بردى يصفق بالرحيق السلسلِ بيض الوجوه كريمةٌ أحسابهم شم الأنوف من الطراز الأولِ حتى أتى على آخر القصيدة، فغضب عمر من إنشادها، وكان جبلة بن الأيهم إذ ذاك قد تنصر وهرب إلى الروم، وأرسل بهديةٍ إلى حسان، فامتدحه حسان بأبياتٍ يقول فيها: إن ابن جفنة من بقية معشرٍ لم يغذهم آباؤهم باللومِ لم ينسني بالشام إذ هو ربها كلا ولا متنصرًا بالرومِ يعطي الجزيل ولا يجده عنده إلا كبعض عطية المذمومِ وأتيته يومًا فقرب مجلسي وسقى فروّاني من الخرطومِ فغضب عمر حين امتدح هذا الكافر، فقال له حسان: مه يا ابن الخطاب! فقد كنت أنشده وفيه من هو أفضل منك، فما تعداها عمر.
وكذلك فإن عمر كان يسأل الشعراء ويقيم بينهم المفاضلة، فأتاه رجل من ذرية هرم بن سنان، فسأله وقال: ما نحل جدك هرم زهير بن أبي سلمى؟ فقال: أعطاه أثوابًا خلقت وأموالًا نفدت، قال: لكن ما كسا زهير أباك لا ينفد، فأنشده بعض مدحه فيه بقوله: يطلب شأو امرأين قدما حسنًا نالا الملوك وبذا هذه السوقا هو الجواد فإن يلحق بشأوهما على تكاليفه فمثله لحقا أو يسبقاه على ما كان من مهلٍ فمثل ما قدما من صالح سبقا إلى أن يقول فيها: بل اذكرن خير قيسٍ كلها حسبًا وخيرها نائلًا وخيرها خلقا القائد الخيل منكوبًا دوابرها قد أحكمت حكمات القد والأبقا غزت سمانًا فآبت ضُمّرًا خُدُجًا من بعد ما جنبوها بُدَّنًا عُققا فطرب عمر لهذه الأبيات، وأخبر أن ما كساه زهير ٌ هذا الرجل لا يخلق ولا يبلى.
وكذلك سأل عمر أحد الشعراء عن أشعر الناس، فجرى على عادة العرب أن يفضلوا من كان بينه وبينهم قرابةٌ ليفخروا بشعره، فقال: لا، بل أشعر العرب صاحب من ومن، يقصد به زهير بن أبي سلمى في حكمه التي قالها في آخر معلقته الميمية.
ومن لم يعرف مفردات هذه اللغة فكثيرًا ما يلتبس عليه الكلام ولا يفهمه، وبالأخص في زماننا هذا الذي تداخلت فيه اللغات والحضارات.
ولا أزال أعجب من بعض المثقفين الذين يحاولون ترجمة القرآن إلى لغات أخرى، وهم لا يتقنون مفردات اللغة العربية فيقعون في أخطاء عجيبة! ترجم أحدهم القرآن بالفرنسية، وهو من المتبجحين بالمهارة في اللغات، لكنه في قول الله تعالى: ﴿وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ﴾ [الزمر:٧٥]، فسر (حافَّين) بحافِينَ! وأن معناها: بلا نعال! وكذلك حاول آخر ترجمة القرآن إلى الإنجليزية، فترجم قول الله تعالى: ﴿وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ﴾ [الإسراء:٢٩] قال ما معناه: لا تجعل يدك مربوطةً إلى عنقك، ولا تبسطها بسطًا شديدًا حتى تنخلع! فلم يفهم هذه المفردات، ومن هنا وقع في هذا الغلط البالغ، ونظيرُ هذا كثير جدًا.
فكثيرًا ما يقع الإنسان في إشكال وهو يتدبرُ آيةً من القرآن، أو يتفهم حديثًا، فيخطئ في فهمه خطأً بالغًا، ولهذا فإن الأولين لم يكن لديهم النقاط التي تميز الحروف، وإنما كانوا يميزونها بفطرتهم وذوقهم، فإذا قرأ الإنسان قرأ على السليقة فلم يخطئ، ولذلك يقال: إن الشافعي ﵀ عندما أراد أن يحفظ القرآن وقد سمعه مرة واحدة، فأراد أن يراجعه فأخطأ في كلماتٍ في نقاط الحروف فقط، فقرأ قول الله تعالى: ﴿لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾ [عبس:٣٧] قرأها: يعنيه.
وهذا مناسب للذوق، وهو نفس المعنى، لكنه غير موافق للرواية، فكان ذلك خطأً.
ونحن اليوم قد فسدت أذواقنا اللغوية، فلم يعد أحد منا يستطيع أن يتكل على أشكال الحر
6 / 11