Lessons by Sheikh Muhammad Hassan Al-Dedew Al-Shanqeeti
دروس للشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي
ژانرونه
الاختلاف والتفرق
لقد حذر الله ﷾ ورسوله ﷺ من الفرقة والتحزب والتشيع، ودعا المؤمنين إلى الاعتصام بحبل الله جميعًا، وبين أسباب الفرقة والاختلاف والتناحر، وأنه يجب على المسلم نبذها واجتنابها.
وهناك أمور وقع الاختلاف فيها بين الصحابة فمن بعدهم، وهي اجتهادات ينبغي ألا تكون سببًا للفرقة، وأن يعذر المجتهد فيها باجتهاده كما عذره رسول الله ﷺ.
1 / 1
تحذير الله سبحانه ورسوله من الفرقة والاختلاف
الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين، أما بعد: فإن الله ﷾ حذر من الشقاق والفرقة في كتابه في عدد من الآيات، فجعله منافيًا للرحمة في قوله تعالى: ﴿وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ﴾ [هود:١١٨ - ١١٩].
وجعله ضربًا من ضروب العذاب، فقال تعالى: ﴿قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ﴾ [الأنعام:٦٥].
وجعله مظهرًا من مظاهر الشرك فقال تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾ [الروم:٣١ - ٣٢]؛ وبين براءة الرسول ﷺ من المختلفين في الدين فقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾ [الأنعام:١٥٩].
وبين أن الخلاف سبب لزوال الريح وللفشل فقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ [الأنفال:٤٥ - ٤٦].
وبين مقابله وهو الاعتصام بحبل الله وأمر به فقال تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [آل عمران:١٠٣ - ١٠٥].
وقد صح عن النبي ﷺ تحذيره من الفرقة والخلاف في عدد كثير من الأحاديث الصحيحة، فمنها ما قاله في خطبته في حجة الوداع، تلك الخطبة التي لم يعش بعدها رسول الله ﷺ فوق هذه الأرض إلا اثنين وثمانين يومًا، فكان ذلك وصيته إلى أمته فقال: (لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض)، وحذر من آثار الخلاف فقال: (سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر).
1 / 2
أسباب الفرقة والاختلاف وبيان ضررها
وقد بين الله ﷾ أسباب الفرقة المذمومة فذكر منها ثلاثة عشر سببًا متواليًا في سورة الحجرات وحرمها جميعًا: السبب الأول: هو تجاوز الصلاحيات وتعدي الإنسان على حقوق غيره، وقد قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [الحجرات:١].
السبب الثاني: هو سوء الأدب مع من يستحق الأدب، فهو سبب للفرقة والخلاف، ولذلك قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ * إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ * ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [الحجرات:٢ - ٥].
السبب الثالث: هو عدم التثبت في نقل الأخبار، بأن يتكلم الإنسان بكل قول سمعه يتلقاه لسانه قبل أن تتلقاه أذنه وقبل أن يعرضه على قلبه، حتى يعلم هل هو صحيح أم باطل؛ فقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾ [الحجرات:٦] وفي القراءة السبعية الأخرى: (فتثبتوا أن تصيبوا قومًا بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين)، فلابد من التثبت والتبين في نقل الأخبار، وإلا حصل الشقاق والفرقة والخلاف.
السبب الرابع: هو عدم الرد إلى الله ﷾ ورسوله ﷺ، والسعي وراء الأهواء والآراء، فقال تعالى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ﴾ [الحجرات:٧]، ومن هنا ينبغي أن يعلم المسلمون أن الحكم لله ﷾ في الأمور كلها ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ﴾ [يوسف:٤٠]، ولذلك فلابد أن يعلموا أن آراء الرجال غير المعصومين هي عرضة للرد والأخذ، كما قال مالك ﵀: ما منا أحد إلا راد ومردود عليه إلا صاحب هذا القبر ﷺ.
وإذا كان للناس مرجع غير معصوم يتحاكمون إليه في أمرهم فذلك عرضة للفرقة والخلاف؛ لأن كل مصدر غير معصوم فلن تجتمع عليه القلوب، فلابد أن يكون سببًا للخلاف، فإذا تعصب له بعض ناس دون بعض أدى ذلك إلى الفرقة والشحناء.
ثم بعد هذا قال: ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً﴾ [الحجرات:٧ - ٨].
السبب الخامس: هو الاعتداء والظلم، فكل ظلم للآخرين وأي اعتداء على حقوقهم هو سبب للفرقة والخلاف؛ لأن المظلوم لابد أن ينتصر يومًا ما، فإما أن ينتصر عاجلًا أو ينتصر آجلًا: (فدعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب) كما قال رسول الله ﷺ، ولذلك قال تعالى: ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [الحجرات:٩ - ١٠].
السبب السادس: هو السخرية من المسلمين؛ فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ﴾ [الحجرات:١١].
وهذا السبب بين ﷾ ما ينفر منه، في أن الساخر يمكن أن يكون أدنى عند الله منزلة من المسخور منه، فكم من ساخر هو رذيل عند الله ﷾! وكم من مسخور منه هو كريم عند الله! فهذا نوح سخر منه قومه فكان جوابه لهم: ﴿إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ * فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ﴾ [هود:٣٨ - ٣٩].
ومن هنا عطف الله ذكر النساء على ذكر الرجال لبيان أن السخرية كثيرة في النساء، فكثير ما يسخر بعضهن من بعض، ولذلك قال: ﴿وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ﴾ [الحجرات:١١] مع أنها لو لم تعطف لدخل النساء في (قوم)؛ لأن القوم لفظ يشمل الرجال والنساء في الإطلاق الشائع، ومن ذلك قول الله تعالى: ﴿وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ﴾ [الأنعام:٦٦]، وفي ذكر الأنبياء جميعًا يذكر القوم ويقصد بهم الرجال والنساء، وقد يطلق القوم على الرجال فقط كما في هذه الآية وكما في قول زهير بن أبي سلمى: وما أدري وسوف أخال أدري.
أقوم آل حصن أم نساء السبب السابع: هو اللمز والغمز بالطعن في الناس قال: ﴿وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ﴾ [الحجرات:١١] فهذا هو اعتراض على الله في خلقه، فالله ﷾ هو الذي يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة، ﴿فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ﴾ [الانفطار:٨]، فيجعل الإنسان طويلًا ويجعله قصيرًا ويجعله جميلًا ويجعله قبيحًا، ويجعله أبيض إذا شاء، ويجعله أسود إذا شاء، ويجعله ملونًا إذا شاء، ويجعله ذا شعر إذا شاء، ويجعله بخلاف ذلك إذا شاء.
ومن هنا فالغمز إنما هو طعن في خلقة الله ﷾ الذي خلق هذا الخلق على هذه الصورة، وذلك اعتراض على الله في خلقه، وهو كثيرًا ما يؤدي إلى الفرقة والخلاف، فينتصر بعض الناس للمطعون فيه والمغموز فيه ويكون ذلك سببًا للشحناء.
ومن العجائب في إعجاز القرآن أن الله قال: ﴿وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ﴾ [الحجرات:١١] ولم يقل: (ولا تلمزوا إخوانكم)؛ لبيان أن الإنسان إذا لمز أخاه فقد لمز نفسه، لأن الصفة التي يلمز بها يمكن أن تكون فيه صفة مثلها أو أشد، فعندك عورات وللناس ألسن.
ومن هنا كان لابد أن يعرف الإنسان أن طعنه في أخيه هو طعن في نفسه، فلابد أن يحافظ على عرض أخيه كما يحافظ على عرض نفسه.
السبب الثامن: هو التنابز بالألقاب في التصنيفات، وأن يقال فلان من الفرقة الفلانية، أو من الطائفة الفلانية، ويكون هو غير معلن بذلك، فهذا من النبز والتصنيف الذي حذر منه، أي: فهو من التنابز بالألقاب، وهذه الألقاب سواء كانت شخصية كما يكره الناس أن يدعوا به من أسماء، أو كانت غير شخصية كأسماء الفرق والقبائل والمجموعات التي تكرهها، فلا يحل إطلاق اسم على شخص أو مجموعة أو قبيلة وهي تكرهه؛ لأن ذلك من التنابز بالألقاب المحرم.
وإذا كان الإنسان لا يعرف إلا بذلك الذي يكرهه، فهذه مشكلة تكلم عنها المحدثون قديمًا، فقد ذكروا بعضَ المحدثين الذين كانت لهم ألقاب يكرهونها كـ ابن علية ومسلم البطين، ولبعضهم ألقاب سيئة أيضًا وإن كانوا لا يكرهونها كـ عارم وهو محمد بن الفضل شيخ البخاري ﵀ كان يلقب بـ عارم، وعارم معناه: المفسد، وهذا اللقب مسلوب الدلالة لا يقصد معناه، فهو من الصالحين المصلحين، لكن اشتهر بهذا اللقب بين الناس، ومثل ذلك إطلاق جزرة على الرجل بسبب أنه كان يقرأ فأخطأ في القراءة فسمي بالكلمة التي أخطأ فيها.
فهذا النوع استشكله الأوائل وجعلوه من دغل أهل الحديث، وذكره الذهبي في دغل أهل الحديث لما ذكر أن كل طائفة من الطوائف الإسلامية لديها دغل وأخطاء، فذكر أن القراء دغلهم في المبالغات في القلقلة وفي إخراج الحروف من مخارجها حتى تتجاوز محلها وفي تتبع الأوجه والروايات، وأن الفقهاء دغلهم في ترك النصوص والعدول عنها إلى آراء الرجال، وعدم التثبت في نقل تلك الآراء بنسبة الروايات المخرجة إلى المجتهدين الذين لم يقولوا بها وإنما خرجت على أقوالهم وفتاويهم، وأن أهل الحديث دغلهم في ذكر الألقاب التي يكرهها أصحابها كما ذكرنا من الألقاب.
وقد ذكر ابن الجوزي ﵀ أن هذا النوع اشتهر في علماء المسلمين، فعلماء المغاربة دخل عليهم الشيطان بسوء الأسماء وعلماء المشارقة بحسن الأسماء، فعلماء المغاربة يتلقبون بالألقاب القبيحة كالدباغ والفخار ونحو ذلك، وعلماء المشارقة يتلقبون بالألقاب الشريفة كشمس الدين وتقي الدين وسراج الدين إلى آخره، فقال: دخل الشيطان على علماء المشارقة بحسن الألقاب، ودخل الشيطان على علماء المغاربة بسوء الألقاب.
﴿وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ﴾ [الحجرات:١١] وقد حذر الله من هذا تحذيرًا بليغًا إذ قال: ﴿بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ﴾ [الحجرات:١١] فجعل هذا فسوقًا وجعله خروجًا للإنسان عن طريق الإيمان، فبعد أن قطع الإنسان أشواطًا من الإيمان وصار في هذا الطريق كأنه التفت ذات اليمين أو ذات الشمال فسلك هذا الطريق، إذ تبع الشيطان في التصنيف والترقيم، ولذلك قال: ﴿بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [الحجرات:١١]، وهذه فسحة كريمة أتاحها الرب الكري
1 / 3
الحث على اجتماع الكلمة ووحدة الصف
ثم إن علينا عباد الله أن نعلم أن اجتماع الكلمة ووحدة الصف مما أمر الله به، كما ذكرنا في الآيات، وأمر به رسوله ﷺ في عدد من الأحاديث الصحيحة عنه، وهو كذلك قوة للمسلمين.
فهذه الأمة تحف بها الأمم المعادية وتكيد لها بأنواع الكيد، ولا ترضى لها رفع راية ولا الوصول إلى غاية، فلذلك إذا بقيت هذه الأمة في تناحر وخلاف فيما بينها فمتى تنتصر على أعدائها؟ وإذا شغلنا كل وسائلنا في طعن بعضنا في بعض، وكان كل إنسان منا يعمل طاقته وقوته في تحطيم أخيه، فمتى نفرغ لقتال أعدائنا؟ ومتى يكون الانتصار عليهم؟! إن علينا أن نعلم أن أعداءنا يتربصون بنا الدوائر، وأنه إذا أحس الإنسان بتهديد كيانه فذلك سبب لنصرته لأخيه ولو كان مخالفًا له، كما قال الشاعر: لما أتاني عن عيينة أنه عان عليه تظاهر الأقياد بذلت له نفسي النصيحة إنه عند الشدائد تذهب الأحقاد أنتم اليوم في شدة عظيمة، فأمر الدين في تولٍ، وأمم الشر كلها تداعت كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها، فلذلك لابد أن توحدوا صفوفكم وأن تجتمعوا على كلمة سواء، وأن تعلموا أن ذلك لا يتم إلا بالبدء أولًا بنقاط الاتفاق والتنقيب عنها، فلابد أن نبحث عن النقاط التي تجمعنا قبل أن نبحث عن النقاط التي تفرقنا.
فالإنسان يعلم أن له أعداء خارجيين، وهم الكفرة من اليهود والنصارى والمجوس وغيرهم من أنواع الكفر، والكفر ملة واحدة، ويعلم أن له أعداء داخليين من المنافقين المتربصين، ومن أصحاب النزعات الضالة! فلا يخلو مجتمع من هذه النزعات التي تغلغلت في المجتمعات، حتى بلغ سيلها الزبى، وانتشرت في مجتمعاتنا الإسلامية، فإذا أحس الإنسان بالتهديد من خارج الكيان ومن داخله، فلابد أن يبحث عن الأنصار إذا كان عاقلًا، ولا ينبغي أن يبحث عن التخذيل في مثل هذا الوقت، ألا ترون أن الإنسان الذي هو عرضة للابتزاز، وأعداؤه يتربصون به الدوائر، ينبغي هنا في مثل هذا الوقت أن يرتب الأولويات، وأن يبدأ بالأولى والأكثر عداوة والأقوى حتى يصل إلى غيره.
فإذا فتح عليه كل الجبهات في وقت واحد فإنه حينئذ غير عاقل وغير مدبر، فلذلك لابد أن يبدأ الإنسان بالجبهة العظمى، ولهذا فإن الرسول الكريم ﷺ وهو الأسوة الحسنة لما أراد بناء دولة الإسلام في المدينة بدأ أولًا فعقد هدنة مع اليهود الذين هم داخل المدينة؛ لأنهم أقرب الأعداء إليه، ثم لم يتعرض للمنافقين بسوء؛ خشية أن يقال: إن محمدًا يقتل أصحابه، فلم يقتل أحدًا منهم ولم يشهر به أمام الناس، وكان يعود مرضاهم، بل قد صلى على جنازة رأس من رءوسهم، حتى نهي عن ذلك، ثم بعد هذا ذهب إلى القبائل المجاورة للمدينة من الأعراب كبني ضمرة وبني مدلج، فعقد معهم الهدنة على أن لا يكثروا عليه سوادًا، وأن لا يعينوا عليه مغيرًا، ثم بعد هذا حارب العدو الألد وهم قريش، الذين إذا انتصر عليهم فذلك انتصار على العرب كلها كما حصل.
إن هذا من سياسة رسول الله ﷺ، التي هي تابعة للوحي المنزل عليه من عند الله ﷾، ولابد من الاقتداء به في ذلك، فإن مهادنته لليهود إذ ذاك ليست على أساس أنهم أقل كفرًا من قريش أو أقل ضررًا منهم، ولكن إنما هي على أساس أنهم أضعف منهم، فاليهود إذ ذاك أقل شوكة وأضعف من مشركي قريش، فلذلك بدأ بالأقوى، ثم فاضل بين اليهود أنفسهم، فأكثرهم ضررًا وعداوة هم بنو قينقاع، فهم أول من أخرجهم الرسول ﷺ من المدينة، ثم بعدهم بنو النضير أخرجهم إلى خيبر، ثم بنو قريظة حيث قضى عليهم في المدينة.
1 / 4
سياسة فرق تسد ودور الأعداء في تطبيقها
فهذا التدريج في الإعداد من المهمات جدًا، والأعداء يعرفون هذا، ومن أجل هذا فهم يسلطون بعضنا على بعض، وينطلقون من سياسة واضحة لديهم وهي: سياسة (فرق تسد)، فيريدون أن يفرقوا جمعنا، فإذا فرقوه حينئذ استطاعوا التغلب على كل مجموعة يسيرة، ومن أجل هذا عقد مؤتمر (سايكس بيكو) لتوزيع العالم الإسلامي -الذي يسمونه تركة الرجل المريض- إلى دويلات.
وعندما قسموا بلاد الإسلام جعلوا الحدود بين كل دويلتين متجاورتين على منطقة حيادية؛ لتكون بؤرة للخلاف وسببًا للحرب في كل وقت، فما من بلدين إسلاميين إلا وبينهما منطقة محايدة يمكن أن يثار فيها الخلاف وتقوم فيها الحرب، وتعرفون أن منطقة الصحراء الغربية تركت بين موريتانيا والمغرب والجزائر من أجل إقامة حرب فيها متى تيسر ذلك ومتى أراد المستعمر ذلك، وكذلك منطقة صغيرة بين تونس والجزائر، ومنطقة أخرى بين ليبيا والجزائر، ومنطقة بين موريتانيا ومالي، ومنطقة على شاطئ النهر كذلك بين موريتانيا والسنغال، ومثل هذا منطقة بين تشاد وليبيا وقامت فيها حرب ضروس، وكذلك منطقة بين مصر وليبيا، وكذلك الحال في الحدود بين السعودية واليمن، وبين السعودية وقطر والإمارات والكويت، والعراق أيضًا، ومثل هذا منطقة الرميلة بين الكويت والعراق التي قامت على أساسها الحرب.
وهكذا الحدود بين كل بلدين إسلاميين، تجدون أنها قابلة للانفجار في كل وقت، فمنطقة أنطاكية بين تركيا وسوريا ومنابع الأنهار، ومنطقة حلايب بين مصر والسودان، ومنطقة جنوب السودان وغير ذلك من المناطق، ما من منطقة بين دولتين إسلاميتين متجاورتين إلا وقد جعل فيها المستعمر منطقة لم يحسمها بالحدود؛ لتكون قابلة للانفجار في أي وقت أراد أن يحركها.
وكذلك قضية الأقليات التي يلعب على أوتارها المستعمر في كل مكان، فإنهم عندما أرادوا توزيع البلدان حرصوا على أن لا يكون بلد بعرق واحد خاص، بل كل بلد تجمع فيه أعراق وتدمج فيه أعراق ويكون بعضها غالبًا وبعضها مغلوبًا، حتى تكون فيه أكثرية وأقلية، هذه الأعراق إن استطاعوا أن تكون طوائف دينية فعلوا، وإلا جعلوها طوائف عرقية، وتعرفون التقسيم الحاصل للأكراد حين قسموهم بين أربع دول، الأكراد مجموعة صغيرة في شمال العراق قسمها المستعمر بين سوريا وتركيا والعراق وإيران، كل دولة فيها أقلية كردية، وهذه الأقلية تطالب بحقوق، وهكذا في البلدان التي يجتمع فيها العرب والبربر، أو العرب والأفارقة يجعلون فيها أقلية من أحد الجانبين وأكثرية من الجانب الآخر؛ حتى تكون بؤرة للخلاف في أي وقت يمكن أن يثار الخلاف بينها.
وما تسمعونه في الجزائر من تحريك القبائل البربرية، وما يحصل بين الفينة والأخرى هنا وفي المناطق الأخرى كله من هذا القبيل، ومن المؤامرات الدولية التي يقصد بها تفريق جمع المسلمين وشتات أمرهم، وأن يكون بأسهم فيما بينهم حتى يمنع ذلك وصول البأس إلى الأعداء، وما دام أهل الإسلام لا ينتبهون لمثل هذا الخطر فالأعداء في أمان؛ لأنهم إذا أحسوا بقوة لدى دولة من الدول صرفوها إلى جيرانها، لما أحسوا بقوة ضاربة لدى العراق وجهوها إلى الكويت البلد الصغير الضعيف المجاور، وهكذا فالقوة المصرية التي ضربت ليبيا، والقوة الليبية التي توغلت في تشاد ثم قضي عليها بالكلية، قتل منها ألف وخمسمائة مقاتل في عشية واحدة، وهكذا كل هذا قوة للإسلام، ومع ذلك يراد أن تكون مشغلة وسببًا لزوال هذه القوة.
ومنطقة كشمير بين الهند وباكستان الآن من المناطق الساخنة في العالم، وتعرفون الآن الحاصل فيها، وكذلك الأقلية الطاجيكية في أفغانستان، والأقلية الأوزبكية فيها أيضًا، فهما أقليتان في مقابل البشتون الذين عندهم الكثرة هنالك.
فالمستعمر أراد هذا التقسيم مع أن طاجكستان يمكن أن تضاف إليها القبائل الطاجيكية وأوزباكستان يمكن أن تضاف إليها القبائل الأوزبكية، لكن المستعمر أراد أن يأخذ جزءًا من هذه حتى تكون أقلية قابلة للقتال في أي وقت، وبذلك تشهدون مثل هذا في عصرنا هذا.
إن المسلمين عليهم أن ينتبهوا لكل سبب من أسباب الفرقة والخلاف وأن يحذروا منه قبل أن يثور، وإذا حصل فعليهم أن يكونوا معالجين له على الوجه الصحيح، كما بين الله ﷾ في كتابه: ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ [الحجرات:٩].
ومن العجائب في التفرقة ما حصل في لبنان، فإن النصارى فيه أقلية في الواقع، لكن المستعمر قسم المسلمين فيه إلى طوائف، فجعل منهم سنة وشيعة ودروزًا، وقسم أهل السنة إلى أقسام، وقسم كذلك الشيعة إلى أقسام، حتى أصبحت كل فرقة وحدها أقلية في مقابل المارونيين النصارى فأصبحت الرئاسة دائمًا للمارونيين النصارى، وهذا النوع من المؤامرات لا يزال مستمرًا، وعلينا أن ننتبه له في كل الأحيان، وأن نستشعر خطره وضرره.
ففي هذه الأيام تدور حرب ضروس في بعض الجمهوريات الإسلامية بين بعض الطوائف الصوفية فيما بينها، وما ذلك إلا بأيدي المستعمرين، فليس لهؤلاء المساكين مصلحة في التناحر والتقاتل فيما بينهم، ولكن المستعمر أراد أن يتقدم بعضهم على بعض حتى تذهب القوة فيما بينهم، وحتى يبيع هو سلاحه للطائفتين، ويكون بذلك قد حقق مصلحتين: فتح سوقًا للسلاح، فالمصانع تصنع السلاح يوميًا تحتاج إلى سوق تفرغ فيه سلاحها، ورد كيد المسلمين في نحورهم، ورد قواهم إلى أنفسهم، ومن هنا يأمن هو الخطر.
وتعلمون أن أمريكا سعت لإقامة حرب في الجمهوريات الإسلامية عند تشتت الاتحاد السوفيتي؛ لأن هذه الجمهوريات تمتلك وسائل القوة، فلديها المفاعلات النووية، ولديها الخبرات العالمية الكبرى، فهذا لا يسر أمريكا أن يكون بأيدي المسلمين بحال من الأحوال، فلذلك كانت من وراء الحرب في الشيشان التي مازالت قائمة إلى الآن، ومن وراء الحرب بين جورجيا وأذربيجان، فهذا النوع من الحروب مقصود، وهو استراتيجي لابد من تحقيقه لئلا يكون للمسلمين قوة ضاربة، وفي هذه الأيام يريد الأمريكان كذلك ضرب بقية القوة في العراق لتحطيمها؛ لأنهم أحسوا أن العراقيين مازالت لديهم قوة ومال وخبرة، فيريدون تحطيم ذلك، ولا يمكن أن يغزوهم بالجيش الأمريكي، بل لابد أن تتحرك الجيوش الإسلامية أولًا، حتى تتحمل البأس العراقي عن الجيش الأمريكي، ومثل هذا ما يريدونه الآن وما يخططون له للحرب بين الهند وباكستان؛ ليكون ذلك قضاء على القوة النووية الباكستانية، التي هي ملك للمسلمين.
1 / 5
حقيقة الخلاف بين المسلمين وحجمه
إن أسباب الفرقة والخلاف في مجتمعاتنا كثيرة جدًا، وأغلبها وأكثرها إنما هو في الأمور الدنيوية، فكثيرًا ما يختلف الناس ويتفرقون على أساس مصالح مظنونة غير حقيقية، فالخلافات التي تدور دائمًا في إبان تحرك السياسات وإن كانت خلافات مؤقتة إلا أنها ليس لها مبرر لا من الناحية الشرعية ولا من الناحية العقلية، فمن المعقول أن يختلف اثنان في السياسة فأحدهما يرى التوجه إلى كذا والآخر يرى التوجه إلى كذا، لكن أن يكون ذلك ذريعة للبغضاء والشحناء وإنفاق الأموال من أجل الضرر بإخوانك؛ فهذا لا يمكن أن يقبل بأي وجه من الوجوه.
1 / 6
ماهية الخلاف المقبول شرعًا
إن علينا أن نتفهم أن الخلاف المقبول شرعًا أحد أمرين: إما خلاف في أمور الدنيا وقد مر معنا، أو في أمور الدين وهذا لا يكون إلا في غير المحسوم بالدليل، أما ما حسمه الوحي القطعي الدلالة والورود فلا يمكن الخلاف فيه.
والأمور الظنية الاجتهادية تقبل الخلاف، ويمكن أن تتباين فيها المذاهب وأن تتعادل فيها الآراء، وحينئذ لا يحل التعصب لرأي من الآراء، بل ينظر إليها جميعًا على أنها من تراث هذه الأمة، ومن إنتاج عقولها، وأن هذه مأخوذة من الوحي معتمدة عليه، فما كان منها صوابًا فمن توفيق الله، وما كان منها خطأً فخطؤه على صاحبه، وليس عليه إثم إذا كان أهلًا للاجتهاد، بل هو مثاب بأجر واحد، والمصيب مثاب بأجرين، ومن هنا فالمذاهب الفقهية المعتمدة على فهم المجتهدين في الأدلة الشرعية يقبل الخلاف بينها، وينبغي أن يأخذ طالب العلم بالراجح منها، وأن لا يحتقر المرجوح، بل يعلم أنه قول مقبول وأن له دليلًا، وأنه إن ترجح لديه هو خلافه فلم يحسم الخلاف، بل ازداد أحد القولين بصوت واحد، ومن هنا فلا يحسم هذا الخلاف، وستبقى المذاهب موجودة وتبقى المدارس موجودة.
ومثل هذا في المدارس الدعوية والجماعات الإسلامية، فالخلاف بينها مثل الخلاف بين الفقهاء المجتهدين، يختلفون في آراء غير محسومة من ناحية الدليل، ولكل منهم أن يجتهد فيها، فمن أصاب فله أجران ومن أخطأ فله أجر، ولكن لا يحل التعصب والمصادرة بوجه من الوجوه، ولابد إذا حصل ذلك الخلاف أن يكون حله بالرجوع إلى أهل العلم الراسخين فيه، وأن ينظر في الأدلة الشرعية، فمن كان أسعد بالدليل وأقوى حجة تنازل له الآخر عن رأيه، فهذا هو الوجه الصحيح المقبول! وإذا وجد أن لكل حجة ولكل دليلًا ولم يمكن الجزم بمصداقية أحد القولين، حينئذ لابد أن يعذر كل واحد منهما الآخر، وأن يتعاونوا فيما اتفقوا عليه، ولذلك قال عثمان بن عفان ﵁ حين أطل على الناس وهو محصور في الدار فقال له رجل: (يا أمير المؤمنين! أنت إمام سنة، وهؤلاء إمامهم إمام البدعة وهم يصلون، أفنصلي معهم؟ قال: إن الصلاة من أحسن ما يصنع الناس، فإذا أحسنوا فأحسن معهم، وإذا أساءوا فتجنب إساءتهم).
ومن هنا فعلينا أن نستحضر نقاط الاتفاق بيننا أولًا، وأن نعلم أن أهل السنة من المسلمين نقاط الاتفاق بينهم أعظم وأكبر من نقاط الاختلاف، فنقاط الاختلاف في المجال العقدي محصورة يسيرة جدًا، والذين يروجون لكثرتها ويريدون أن تكون شرخًا عظيمًا لم يستوعبوها ولم يفهموا معاقل العلماء فيها.
1 / 7
عقيدة أهل السنة في أركان الإيمان الستة إجمالًا
أنتم تعلمون أن أركان الإيمان ستة بينها النبي ﷺ لجبريل في قوله: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره)، هذه ست ثلاث منها ليس بين أهل السنة خلاف فيها أصلًا، لا في جزئياتها ولا في كلياتها، وهي: الإيمان بالملائكة فهو محل اتفاق بين أهل السنة جميعًا، والإيمان باليوم الآخر فهو محل اتفاق بين أهل السنة جميعًا، والإيمان برسل الله ﵈ فهو محل اتفاق بين أهل السنة جميعًا، هذه الثلاثة لا خلاف في جزئياتها ولا في تفصيلاتها بل كلها محل اتفاق.
1 / 8
الاختلاف في الإيمان بالقدر عند أهل السنة
الإيمان بقدر الله خيره وشره محل اتفاق في الجملة بين المسلمين، وبين أهل السنة والجماعة، فكلهم يؤمنون بالقدر خيره وشره حلوه ومره، وإنما حصل الخلاف في أمر واحد وهو: أفعال العباد واستطاعتهم وقدرتهم عند صدور الفعل منهم؛ هل أفعال العبد هي من فعل العبد أم من فعل الله ﷾ خلقها الله وقربها إلى العبد فجعلها من كسبه فتحصل عند إرادة العبد لا بها؟ هذا محل خلاف، ومذهب جمهور أهل السنة وهو مذهب الحق: أن تلك الأفعال هي من أفعال المخلوقين لهم قدرة وإرادة، قدرة يفعلون بها أفعالهم وإرادة يريدون بها، ولكنها من خلق الله، فالله خالق كل شيء وأفعال العباد من خلق الله، قال سبحانه: ﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ﴾ [الصافات:٩٦] ومشيئته أي العبد موجودة لكنها معلقة بمشيئة الله، قال سبحانه: ﴿لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ [التكوير:٢٨ - ٢٩].
ومع ذلك فمن قال من أهل السنة بنظرية الكسب وهو أبو الحسن الأشعري فإنه يعذر في اجتهاده؛ لأنه اجتهد فأخطأ، ومن هنا فهو مأجور على اجتهاده معذور في خطئه.
1 / 9
الإيمان بالكتب المنزلة عند أهل السنة
المسألة الثالثة: هي الإيمان بالكتب المنزلة، فقد أجمع أهل السنة جميعًا على أن الكتب المنزلة من عند الله هي من كلام الله، وأنها ليست من كلام المخلوقين، وأنها غير مخلوقة ولا صفة لمخلوق، وإنما اختلفوا فقط في الكلام اللفظي هل هو صفة الله أو الكلام النفسي هو صفته فقط؟ فالخلاف هنا نقطة يسيرة محصورة، وهي من الأمور الاجتهادية التي ما حسمها النص ولا تكلم بها النبي ﷺ ولا الصحابة ولا التابعون، فيمكن أن يعذر المخطئ فيها، فإذا عرفنا هذا عذر بعضنا بعضًا، وعرفنا أن الخلاف بين أهل السنة في العقائد في نقاط يسيرة محصورة وهي التي بيناها، وأن ما سواها من الأمور الخلاف فيه إنما هو بين أهل السنة وبين الفرق الضالة المبتدعة كالجبرية والقدرية وغيرهم.
1 / 10
عقيدة أهل السنة في الإيمان بالله وأسمائه وصفاته
أما الثلاثة الأخرى فأولًا: الإيمان بالله محل اتفاق في عمومه بين أهل السنة، بل بين المسلمين جميعًا، وإنما الخلاف في جزئيات يسيرة.
فالإيمان بالله ينقسم إلى ثلاثة أقسام: الأول: الإيمان بألوهيته، أي أنه خالق هذا الكون الذي يستحق العبادة والدعاء ويستحق أن يصمد إليه في الحوائج كلها.
الثاني: الإيمان بربوبيته: أي الإيمان بأنه لا خالق للكون سواه وأنه وحده المدبر لشئون هذا الكون كله، ولا يمكن أن يعطي أحد ما منعه، ولا يمنع أحد ما أعطى، ولا يشفع أحد عنده إلا بإذنه، فهذان محل اتفاق بين أهل السنة كلهم.
الثالث: الإيمان بأسمائه وصفاته: وهذا ينقسم إلى قسمين: الأول: الإيمان بأسمائه وهو محل اتفاق بين أهل السنة جميعًا.
الثاني: الإيمان بصفاته وهذا ينقسم إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: ما يدرك العقل كونه صفات لله، وهذا محل اتفاق بين أهل السنة جميعًا، فإنهم يؤمنون بكل ما يدرك العقل كونه صفة لله، والصفة إنما ينعت بها الموصوف.
ومن ذلك العلم، فالله عليم، والله عليم بذات الصدور، والإرادة كذلك، فيدرك العقل كونها صفة، فلذلك تقول: الله مريد، وكذلك القدرة يدرك العقل كونها صفة، وكذلك الحياة يدرك العقل كونها صفة، وكذلك القدم والبقاء يدرك العقل كونهما صفة، ولذلك يمكن أن يقال: الله باق، الله قديم إلى آخره، وكذلك الوحدانية يدرك العقل كونها صفة، وكذلك السمع والبصر والكلام يدرك العقل كونها صفات، ولذلك يوصف الله ﷾ بها.
القسم الثاني: ما يدرك العقل كونه أفعالًا لله وهو أيضًا محل اتفاق بين أهل السنة جميعًا، إلا في جزئيات يسيرة من الأفعال سنذكر الخلاف فيها، فمثلًا: خلق السماوات والأرض وخلق الكون كله من أفعال الله ﷾، وإنزال المطر وإنبات النبات والهداية والإغواء والإماتة والإحياء، كل ذلك من أفعال الله ﷾ التي لا يخالف فيها أحد من أهل السنة، فهم يعلمون جميعًا أن هذه الأفعال من أفعال الله ويتفقون عليها لا ينكرها أحد منهم.
من الأفعال ما يتوهم منه بعض الناس تشبيهًا لله بخلقه، كتلك التي حصل الخلاف فيها بين أهل السنة وهو خلاف ضيق محصور.
فجمهور أهل السنة يعلمون أن كل ما أخبر الله به عن نفسه فهو حق وليس فيه نقص، فإن النقص محال عليه، ومن هنا أنه ﷾ ينزل كل آخر ليلة، وأنه ﷾ مستو على عرشه بائن من خلقه، والله ﷾ يمد يده بالنهار ليتوب مسيء الليل وبالليل ليتوب مسيء النهار، ويداه سحاءان بالعطاء لا تغيضان، والله ﷾ يقبل الصدقات من عباده، والله ﷾ يجيء يوم القيامة لفصل الخصام، ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ﴾ [الفجر:٢٢ - ٢٣] والله تعالى يغضب ويرضى، والله ﷾ يضحك ضحكًا يليق به.
فكل هذه أفعال تليق به تخالف أفعال المخلوقين، ولا يشابهها فعل المخلوق وإن اشترك معها في الاسم، فلا أحد من أهل السنة يشبه هذه الأفعال من أفعال الله بأفعال المخلوقين أبدًا، بل يؤمنون بأن الله يفعل فعلًا يليق بجلاله وهو كمال في حقه، وأن المخلوق يفعل فعلًا يليق بقدره أيضًا، وأن أفعال المخلوقين التي تنسب إليهم هي من أمرهم، وأن أفعال الله التي تنسب إليه هي من أمره ﷾، وأمر الله مباين لأمر المخلوقين.
ولا يشبه أحد من أهل السنة نزول الله أو استواءه أو تكلمه أو غضبه أو رضاه أو ضحكه بشيء من أفعال المخلوقين أبدًا! بل يؤمنون جميعًا بأن ذلك لا يشبه شيئًا من أفعال المخلوقين، وأن الله ﷾ متصف بذلك وأنها صفات كمال في حقه.
إذًا الخلاف في صفات الأفعال خلاف يسير محصور، فلابد أن نعلم أن الذين يروجون هذه الأفهام ما أرادوا بذلك تكذيب الله ولا الرد عليه ولا الرد على رسوله، بل أرادوا بذلك تنزيهه عن خلقه حينما فهموا أن ذلك نقص، والغلط من قبل الفهم فقط وليس الخطأ في النص!، لكننا نعذرهم في خطئهم؛ لأنهم أعملوا عقولهم في تنزيه الله عما لا يليق به وآمنوا به وأحبوه وعبدوه، فلذلك أخطئوا في الاجتهاد في أمر يسير جدًا، ليس من الأمور التي فصلها الشرع تفصيلًا وتكلم بها النبي ﷺ والصحابة والتابعون، فإنما هو أمر محصور يسير.
القسم الثالث: ما لا يدرك العقل كونه صفة ولا فعلًا، فهذا قد اختلف فيه أهل السنة وهو فقط في أمور محصورة لا تتعدى تسعة: وهي الوجه والعين واليدان والأصابع والقدم والساق؛ فهذه أثبتها الله ﷾ لنفسه وأثبتها رسوله ﷺ في الأحاديث الصحيحة عنه، وقد أجمع المسلمون جميعًا على أن ما قاله الله حق وأن ما قاله رسوله حق، وإنما اختلفوا فقط هل هي صفات لله تليق به لا تشبه صفات المخلوقين تقر كما جاءت ونؤمن بها كما هي، أم نؤولها بصفات أخرى من صفات الخالق، أو نحيل علمها إلى الله.
فهم إذًا جميعًا متفقون على أنها حق وأنها صدق وأنها من كلام الله ومن كلام رسوله ﷺ، لكن من أصاب منهم علم أنها لله ﷾ كما يليق به وأنها لا تشبه صفات المخلوقين وأنها وصف كمال في حق الله، فوجه الله كمال له، ويداه مبسوطتان كمال له، وعينه ﷾ لا يغيب عنها شيء من خلقه، وكذلك قدمه وساقه وأصابعه كل ذلك ثابت له ﷾، فكل هذا من صفات الكمال في حقه ﷾، والذين يؤولون أو يحيلون العلم في ذلك إلى الله ويفوضونه إليه اجتهدوا فأخطئوا، لكن اجتهادهم مقبول؛ لأنهم في مثل هذا الموقف إنما طلبوا الإيمان بالله وتنزيهه عن النقص، وأرادوا تحقيق الإيمان به وتحقيق محبته، فنحن نعذرهم في خطئهم.
ومن هنا فلا يحل التعصب في مثل هذا النوع، وبالأخص في الأمور التي تؤدي إلى تكفير المسلمين بغير حق، أو تفسيقهم وتبديعهم بغير حق، فكل ذلك من الممقوت شرعًا المذموم، ولهذا فإن الشافعي ﵀ قال في الأم: كل الفرق تقبل شهادتهم وروايتهم إلا الخطابية فإنهم يستحلون الكذب لنصرة من وافقهم في المذهب، فجميع الفرق حتى وإن كانوا من القدرية أو من الشيعة أو من الخوارج من لم يصل منهم إلى درجة التكفير في بدعته تقبل شهادته وروايته، ولذلك فإن البخاري ﵀ أخرج في الصحيح عن عبيد الله بن موسى وهو من الشيعة، وعن هشام الدستوائي وقد قال بالقدر، وعن عمران بن حطان وهو من الخوارج.
فأصحاب الفرق إذا لم يصلوا إلى حد التكفير في بدعتهم، ولم يكن مطعونًا عليهم في دينهم بالصدق، فإنه تقبل روايتهم وشهادتهم، ولذلك فإن في المذهب المالكي أن الاقتداء بهم في الصلاة يجوز، وأن الحرورية وهم من أوائل الخوارج الذين خرجوا على علي ﵁ تصح الصلاة خلفهم، وذلك أن عليًا ﵁ قال: حين سئل عنهم: (أكفار هم؟ قال: من الكفر فروا، قيل: فما هم؟ قال: إخواننا بغوا علينا)، وقال لهم: (إن لكم علينا ثلاثًا: ألا نبدأكم بقتال ما لم تقاتلونا، وألا نمنعكم مساجد الله ما صليتم إلى قبلتنا، وألا نمنعكم نصيبكم من الفيء ما دامت أيديكم مع أيدينا).
والتعصبات في مثل هذا النوع غير مقبولة.
1 / 11
الخلاف بين أهل السنة في المسائل الفقهية الاجتهادية
1 / 12
موقف الأئمة الأربعة من النصوص
إن هذا هو من التعصب البين المقيت، وعلينا أن نعلم أن المذاهب ليست ديانات منزلة، وإنما هي اجتهادات أئمة في الدين، سخرهم الله تعالى لحفظ الشريعة، فاجتهدوا في تغطية النوافذ والوقائع التي لم يجدوا فيها نصوصًا، فبينوا فيها ما أداهم إليه اجتهادهم، وهم جميعًا يقولون: إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ، كما كان مالك ﵀ يقول: ما منا من أحد إلا راد ومردود عليه إلا صاحب هذا القبر ﷺ.
وكان أبو حنيفة ﵀ يقول: إذا وجدت قول النبي ﷺ لم أعده، فإن لم أجده فوجدت قول أحد من أصحابه لم أعده، فإن لم أجده ووجدت قول عبيدة السلماني وزر بن حبيش وقيس بن أبي حازم وأضرابهم لم أعده، فإن تجاوزت أولئك فهم رجال ونحن رجال.
وكذلك قال الشافعي ﵀: إذا صح الحديث فهو مذهبي، وإذا وجدتم قولي يعارض قول رسول الله ﷺ فاضربوا بقولي عرض الحائط.
وكذلك قال أحمد بن حنبل ﵀: لا ينبغي لأحد أن يعارض السنن بقياس ولا رأي.
وهذا الذي نص عليه خليل ﵀ في الجامع إذ قال: ولا يحل أن تعارض السنن بقياس ولا رأي، ولا يعرف عن أحد من أهل المدينة رواية خبرين اختلفا، فإنما يحدث بالذي عليه العمل، فلذلك لا يمكن أن تعارض أقوال النبي ﷺ بأقوال أحد من الناس، إذا وجد القول عن النبي ﷺ وفهمناه واتفقنا على فهمه فهو حاسم للخلاف بيننا جميعًا، وإذا لم نجده ووجدنا خلافًا بين المجتهدين وكل منهم له وجه ومأخذ شرعي، فلا يمكن أن نتعصب لأحد، ومن ترجح لدينا قوله أخذنا به مع احترامنا للآخر المقابل له غاية الاحترام، ونعلم أن من أخطأ منهم فهو معذور في خطئه مأجور على اجتهاده، وأن من أصاب له أجران.
1 / 13
موقف المعاصرين من المسائل الاجتهادية
ومثل هذا في اجتهادات المعاصرين والمتأخرين الذين يخالفهم كثير من الناس، فيشنون عليهم حربًا ضروسًا، فتسمعون الآن كثيرًا من علماء الإسلام الذين اشتهروا في العالم ونفع الله بهم كثيرًا وانتشرت أقوالهم، يجتهدون في بعض المسائل فيخالفهم من سواهم، كالشيخ يوسف بن عبد الله القرضاوي حفظه الله، فله اجتهادات كثيرة جدًا، وهو من عمالقة هذا العصر في المجال الفقهي، ومع ذلك فيخالفه كثير من الناس في اجتهاداته، ونحن نخالفه في كثير من اجتهاداته، لكن ليس معنى ذلك أننا نطعن فيه إذا خالفناه في الاجتهاد، بل نرى أننا إذا خالفنا مالكًا وهو أكبر فكيف لا نخالف القرضاوي! فمن هنا نعلم أن الجميع يخطئون ويصيبون، وأن ما أصابوا فيه لهم فيه أجران، وما أخطئوا فيه لهم فيه أجر، وهم معذورون في الخطأ الذي حصل منهم فيه، ولا نطعن في أحد منهم.
وقد قال ابن القيم ﵀: زلات العلماء أقذار وهم بحار، وإذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث.
ومن هنا فكثير من فقهائنا في هذه البلاد يفتون بعض الفتاوى التي لا نوافقهم عليها، لكنها لا تنقص احترامنا لهم بوجه من الوجوه، فنحن نقدرهم تقديرًا عظيمًا ونعلم أنهم أهل للتقدير؛ لأن الله ائتمنهم على وحيه وجعلهم يفتون الناس في دينهم، فكيف يأتمنهم الله على الوحي وهو لا يأتمن المفلسين على دينه أبدًا، ونطعن نحن فيهم؟! فنحن نحترمهم ونقدرهم ونقدر العلم الذي يحملونه ونخدمهم بما نستطيع، لكن نعلم أنهم غير معصومين ولا نوافقهم في أخطائهم، ونعلم أننا نحن أيضًا نخطئ وأنهم يخالفوننا في أخطائنا ولا نلومهم إذا خالفونا.
ولذلك قال البويطي ﵀: لما ألف الشافعي كتابه سلمه إلي فقال: خذ هذا الكتاب على خطأ كثير فيه، قال: قلت: يا أبا عبد الله أصلحه لنا، قال: كيف وقد قال الله تعالى: ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا﴾ [النساء:٨٢] أبى الله العصمة إلا لكتابه.
ومن هنا فكل الكتب المؤلفة فيها أخطاء، والكتاب الوحيد الذي ليس فيه خطأ هو القرآن الكريم المنزل من عند الله، أما ما عداه من الكتب حتى لو كان صحيح البخاري الذي تجاوز القنطرة، فلابد أن تلقى مسائل فيه هي محل إشكال، يختلف فيها الناس في فهمها وفي معناها، مثلًا في قوله: (وأجاز عمر بن الخطاب الشهادة على الشهادة في الحدود أو في الجارودي)، روايتان في صحيح البخاري، وكلتاهما روايتان صحيحتان عن البخاري ﵀ أدرجهما في صحيحه؟! ومثل ذلك: (أن عمر بن عبد العزيز أجاز الكتاب في السن)، وكذلك: أن عمر قال: (إن من الربا أبوابًا لا تخفى ومنها السلم في السن).
ما معنى السن في الموضعين؟ محل خلاف، كل شراح صحيح البخاري اختلفوا فيها وما عرفوا وجه الصواب فيها؛ فإذا كنت لا تأخذ كتابًا إلا إذا كان صوابًا مائة في المائة فلن تأخذ إلا القرآن وستنبذ كل ما سواه.
ومن هنا فإن من يقرأ هذه الكتب لابد أن يكون غير متعصب، فإذا رأى فيها صوابًا أخذ به، وإذا رأى فيها خطأً نقله من غير أن يأخذ به وبين خطأه، ومن هنا فالذين يسألون كثيرًا اليوم عن دراسة الفروع الفقهية غير مقرونة بالأدلة وعن الحكم بذلك، إنما حصل الخطأ في فهمهم من هذا الوجه، حيث ظنوا أن هذه الفروع عزلت عن الكتاب والسنة وجعلت ندًا لهما، والواقع أن هذا حاصل لدى بعض الناس، فبعض البلهاء قرءوا تلك الفروع مجردة؛ فتوهموا أنها هي زبدة الكتاب والسنة، وأن الكتاب والسنة قد مخضا فلم تبق فيهما فائدة نسأل الله السلامة والعافية.
وهذا خطأ في الفهم وابتعاد عن الشرع، وإذا راجع الإنسان نفسه عرف أنه خطأ كبير، وأنه لا يمكن أن يقول به أحد من المسلمين، ولذلك تجدون كثيرًا من الناس يقولون: إنه لا يجوز العمل اليوم بالكتاب والسنة، من قال هذا؟ هل أرسل أحد بعد النبي ﷺ من عند الله؟! هل نزل كتاب بعد القرآن؟! كيف يقال: لا يجوز العمل بالقرآن؟! القرآن يأمرنا بالعمل به، الله يأمرنا بالعمل به، والسنة هي آخر ما جاء من عند الله من الوحي منزلًا على محمد ﷺ، ولذلك حصلت لي قضية مع إمام من الأئمة، كانت لدي محاضرة في مسجده، وسئلت فيها عن حكم الاحتفال بالمولد النبوي الشريف؟ فذكرت أن هذا الأمر لم يقع في عصر الصحابة ولا في عصر التابعين ولا في عصر أتباع التابعين، وأن قاعدة أهل السنة: لو كان خيرًا لسبقونا إليه، وهي مخالفة لقاعدة المشركين الذين يقولون: لو كان خيرًا ما سبقونا إليه، ونحن نقول: لو كان خيرًا لسبقونا إليه، وأنها إنما عرفت في القرن الرابع الهجري في بدايته في أيام العبيديين، فالشيخ هذا تقدم للتعقيب فقال: فعلًا هي سنة، ولكنها تأخرت مشروعيتها فشرعت في القرن الرابع من الهجرة، فقلت: الإمام يحدث عن جبريل لأنه نزل في القرن الرابع الهجري، وتعرفون أن الحكم في الشرع خطاب ربنا، وكل طلاب العلم درسوا في منظومة ابن عاشر الحكم الشرعي خطاب ربنا، فإذًا كيف تكون المشروعية في القرن الرابع الهجري؟! إن هذا من الأمور المضحكة التي يعجب لها الإنسان.
ومثل ذلك ما يحصل في المقابل أيضًا من أن بعض الناس يتعصب ضد هذه الفروع الفقهية التي جمعت ويسرت وسهلت وهي خدمة للكتاب والسنة، وفي المقابل لا يستطيع هو أن يوجد بديلًا عنها، إذا سألته عن تصحيح صلاة أو عقد نكاح أو عقد بيع أو أي عقد من العقود ليس لديه حل؛ لأنه لم يقرأ من الشرع إلا أحاديث محصورة فقط، ليكن في أحسن الأحوال قرأ العمدة وهي أربعمائة حديث في الأحكام، لكن يا أخي! بقي الكثير، فأحاديث النبي ﷺ التي وصلت إلينا أكثر من ثلاثمائة ألف حديث تقريبًا، وأحاديث الأحكام منها أحد عشر ألف حديث تقريبًا، وأنت ما درستها كلها ولا أحطت بها، فلذلك لو لم تطلع على دليل فرع من الفروع فليس معنى ذلك أنه لا وجود له، ومن القواعد المسلمة في الفقه: أن عدم العلم بالشيء ليس علمًا بعدمه، أي: إذا لم تعلم أنت بهذا الشيء فليس معنى ذلك أنك تعلم عكسه، ومن هنا فيمكن أن تقول: لم أطلع على دليل الفرع الفلاني، لكن لا يمكن أن تقول: الفرع الفلاني ليس عليه دليل، وهذا ما يتجاسر عليه كثير من صغار الطلبة يقولون: المسألة الفلانية قالها خليل في المختصر، أو ابن أبي زيد في الرسالة وليس عليها دليل، أقول: يا أخي! من أين لك أنها ليس عليها دليل؟! حسنًا نحن عرفنا أنك لا تعرف دليلها، ولكن ما يدريك أنها ليس عليها دليل؟! هل أحطت بكل الأدلة؟! إن مثل هذا النوع هو من الجسارة والشناعة في الدين التي تؤدي إلى التطرف والتعصب، وهذا النوع هو الذي ينبغي أن يسمى بالتزمت في زماننا هذا، إذا كان التزمت موجودًا فالتزمت مقصود به نبذ الاجتهاد في محل الاجتهاد، أو محاربة الدليل في محل الدليل، والطعن في الدليل عند وجوده هو من التزمت والبقاء مع تقليد آخرين، وأنا أضرب مثلًا للتقريب هو: أن الصبي الصغير إذا مر من حوله إنسان تعلق بثيابه يريد أن يحمله؛ لأنه ضعيف عن المشي عاجز عنه فيريد من يحمله للمسافة، كذلك الجاهل يقلد غيره ويتعلق به؛ لأنه عاجز عن أن يأخذ الحكم من الدليل فيتعلق بغيره فيمسك ثيابه يريد أن يحمله، فهي عادة صبيانية مازالت موجودة ينشأ عليها بعض الصبيان وتستمر معهم طيلة حياتهم، ولا ننكر أن بعض الناس عليهم أن يسألوا أهل الذكر إن كانوا لا يعلمون، لكن مع هذا ينبغي لمن سأل أهل الذكر في مسألة أن يسأل عن دليلها حتى يأخذ على بينة ويترك على بينة.
1 / 14
الاختلاف الفقهي رحمة
ثم بعد هذا لابد أن نعلم أن الخلاف الفقهي الاجتهادي هو من توسعة الله على عباده ومن نعمه عليهم، وينبغي أن يحمدوا الله عليه، فلو كان في الدنيا مذهب واحد لما استطاع الإنسان أن يعمل به في كل الجزئيات.
ومن العجائب أني لقيت رجلًا إنجليزيًا من الإنجليز المسلمين في أدنبرة شمال بريطانيا عنده دعوة يدعو إليها، وقد استجاب له كثير من المسلمين البريطانيين والإسبانيين، فسألته عن أساس دعوته فقال: إنه يريد أن يوحد العالم على أساس المذهب المالكي، فقلت له: يا أخي! أولًا وحد لنا المذهب المالكي فقط، المذهب المالكي عندنا فيه كثير من الأقوال، فـ مالك نفسه رجع عن مائة وخمسة وتسعين مسألة ما بين المدونة والموطأ، وله أقوال متنوعة ما بين المدونة والموطأ، وما روى عنه أصحابه فيه عدد من المسائل الكثيرة التي فيها خلافات في الرواية عن مالك نفسه، يروي عنه ابن القاسم شيئًا، ويروي عنه أشهب خلاف ذلك الاجتهاد؛ لأن اجتهاده متنوع، ومالك غير متعصب، ولم يكن أبدًا يتعصب لرأيه، بل كان صاحب حق وصاحب دليل، فما وجد الدليل عليه أخذ به، ويعلم أنه غير محيط بكل الأدلة، فإذا جاءه دليل صحيح عنده تراجع عن قوله الأول وأمر بمحوه، والممحوات مشهورات عند المالكية، وهي ثمان مسائل أمر مالك بمحوها، وكانت من رأيه هو اجتهد فيها ورآها ثم رجع عنها، وقال: هذه عليها ظلمة فاطمسوها، رأى أنها لا دليل عليها وأن فيها ظلمة في الاجتهاد فأمر بمحوها واشتهرت بالممحوات، وهي دليل على ورع مالك ورسوخه في العلم وجلالة قدره ﵁ وأرضاه.
كذلك فإن أصحاب مالك خالفوه في مسائل كثيرة، فهذا ابن القاسم في المدونة كثيرًا ما يقول: وكان مالك يومًا يقول فيها كذا وأنا أرى خلاف ذلك، وكثيرًا ما يقول أيضًا بعد أن يروي عن مالك: سمعته يقول فيها كذا والذي عندي فيها غير ذلك، وقد ذكر خليل في المختصر مسائل اختلف فيها قول مالك وقول ابن القاسم منها مثلًا: إذا وصل الإنسان إلى سجود التلاوة في القراءة وهو قائم يقرأ فسها فركع بدل السجود هل يعتد بتلك الركعة أو لا؟ فاختلف قول مالك وابن القاسم، فـ مالك رأى أنه يعتد بهذا الركوع وأنه قد تجاوز السجدة فسقطت عنه، وابن القاسم رأى أن هذا الركوع سهو وأنه لا يعتد به وأنه يتجاوزه إلى السجود، ويلزمه سجود بعده.
وقد أشار إلى هذا خليل في المختصر قال: (وسهو اعتد به عند مالك لا ابن القاسم).
ونظير هذا مسائل كثيرة، ثم إن الخلافات في المذهب المالكي دون ذلك كثيرة جدًا، فالخلاف بين ابن وهب وابن نافع، والخلاف بين أشهب وابن القاسم كثير جدًا، حتى بعد هذا فمدارس المالكية أربع: المدرسة المدنية وشيخها عبد الملك بن الماجشون ثم مطرف ثم المغيرة، والمدرسة العراقية وشيخها القاضي إسماعيل، وأبو مصعب الزهري ثم بعدهما عدد من الأتباع، والمدرسة المصرية: وشيخها ابن القاسم ومعه أشهب وابن نافع وابن عبد الحكم وغيرهم، والمدرسة المغربية وهي تبدأ من القيروان وشيخها من أصحاب مالك علي بن زياد والبهلول بن راشد، وغيرهما من أصحاب مالك كـ ابن غانم، وعبد الله بن فروخ، ثم بعد ذلك سحنون وأتباعه.
فهذه أربع مدارس كلها داخل المذهب المالكي وكلها لها أبواب، وأنتم تعرفون أن خليلًا ﵀ كثيرًا ما يقول في المختصر: (قولان)، وذلك إذا لم يترجح أحد القولين وكانت المسألة فيها قولان على حد سواء، فإذا أردت أن توحد الناس مثلًا على مذهب مالك فبأي القولين ستأخذ، وهما قولان متساويان في مذهب مالك، كذلك كثيرًا ما يقول لفظ (خلاف) وهو يشير به إلى أن اثنين على الأقل من المتقدمين اختلفا في مسألة فرجح بعض المتأخرين واحدًا من القولين ورجح بعضهم القول الآخر، فبأي القولين ستلزم الناس حتى تجمعهم على قول واحد.
1 / 15
التقاطع والتدابر بسبب الاختلاف
ثم إن من أسباب الخلاف السائدة المنتشرة بين الناس في هذا الزمان ما يحصل من التقاطع والتدابر؛ بسبب آراء يمكن أن يجلس لها الناس على سواء فيحلون الخلاف فيها، فتشتهر اليوم كتب الردود وأشرطة الردود، والمطابع تشتغل بطبع الردود التي شغلت المكتبات وشغلت الناس وبذل فيها المال والجهد والوقت، وكان بالإمكان ألا يكون لهذه المسألة وجود أصلًا، فالذي تخالفه وتريد أن ترد عليه لماذا لا تذهب إليه وتجلس معه على سواء وتناقشه في المسألة؟ حتى إذا اقتنع برأيك فالحمد لله وإن لم يقتنع به اقتنعت أنت؛ لأنك لا تستطيع إقناعه؛ لأنه هو متمسك بدليل أيضًا، ومن هنا فستعذره.
إذا اتسع علم الإنسان فهو مدعاة لسعة إنصافه للناس، وما من أحد يتسع علمًا إلا اتسع صدره للخلاف، واستطاع أن يدرك أن الآخرين لهم متمسكات.
وقد أخبرني أحد الإخوة الأفاضل وهو الأستاذ محمد أنس اللُبّ حفظه الله وشفاه وعافاه أنه يرى أن قوة العلم تشبه قوة الجهل، يقول: من وصل إلى مستوى رفيع من العلم يصل إلى إنصاف مثل إنصاف الجاهل المطلق؛ لأن الجاهل المطلق الذي لا يعرف شيئًا وليس لديه دليل في أية مسألة، لا يتهجم على القائل بها، والعالم الذي يعرف كثيرًا من المسائل لا يرى أحدًا يأخذ بقول في مسألة إلا عرف مأخذه وعرف دليله فعرفه وسكت عنه أيضًا، فيقول: إن قوة العلم تشبه قوة الجهل وبينهما تناسق.
ولذلك إنما يقع التعصب من نقص العلم، أما إذا كان الإنسان صاحب اطلاع وسعة علم فإنه لابد أن ينصف الآخرين، وأن يعرف مآخذهم، وأن يعلم أنهم جميعًا لهم عقول قسمها الله بينهم، وهذه العقول هم متفاوتون فيها لا من خلقتهم ولا من تدبيرهم، بل بأمر الله ﷾ الحي القيوم الذي لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، وقد أعطى كل إنسان حظًا من الفهم والعقل لم يعطه الآخر، وما من أحد إلا وهو راض عن الله في عقله، وأقلهم عقلًا أرضاهم به، فأقل الناس عقلًا يرى أنه أعقل الناس، ومن هنا فيمكن أن يفهم فهمًا، وهذا الذي يراه وهذا الذي أداه إليه اجتهاده فهو معذور فيه، ولو بعث يوم القيامة على ذلك الفهم وهو يعبد الله به لكان معذورًا، لأنه أقر بالكتاب والسنة في رأيه هو، وسلك طريق النجاة في رأيه فهو معذور، والآخر الذي يخالفه أيضًا أخذ بمقتضى عقله وفهمه ومستواه، ولكل حظه ونصيبه.
ثم إن علينا كذلك أن نعلم أن حصول الخلاف في مثل هذه الأمور الاجتهادية سواء كانت فقهية أو دعوية، ينبغي أن يعلم أن الشيطان يزيده، ويجعل من الحبة قبة، وينفخ فيه نفخًا؛ لأن الشيطان يحب البغضاء ويحب الشحناء بين الناس، فهو يسعى دائمًا إذا حصل أي خلاف في أية مسألة أن ينفخ في ذلك الخلاف حتى تتأجج ناره؛ لأنه لا يرضى أن يكون المسلمون على قلب رجل واحد، وقد شعر بذلك مالك ﵀ حين كانت المكاتبة بينه وبين الليث بن سعد ﵀ في مسائل اختلفوا فيها، فكتب إليه مالك: أنه وجد عمل أهل المدينة على تلك المسائل، وأنه لن يعدل عن قولهم، فكتب إليه الليث: أن علم رسول الله ﷺ تفرق به أصحابه في الآفاق، وأن أصحابه لم يكونوا كلهم في المدينة، فكتب إليه مالك في الأخير: أن الخلاف في هذه الأمور لا يفسد للود قضية، فودنا كما هو موصول ورحم العلم موصول بيننا، وكلنا يقدر الآخر ويحترمه، وخلافنا في هذه المسائل لا يفسد للود قضية! وهذا من العقل والتدبير ولذلك ينبغي أن نلاحظه، وأن يستشعر كل إنسان منا أنه كثيرًا ما يدخل الشيطان في القضية، يريده أن ينتصر لنفسه أو أن يتعصب لرأيه، وقد كان الشافعي ﵀ يقول: ما ناظرت أحدًا إلا سألت الله أن يظهر الحق على لسانه، فإن ظهر على لساني خشيت أن أفتن، وإن ظهر على لسان خصمي عرفت الحق ولم أفتن.
فالمهم أن تعرف الحق وليس المهم أن تكون أنت منتصرًا على الآخر، فهذا من الانتصار للنفس وهو من عمل الشيطان.
1 / 16
طرق حل الخلاف واجتناب الوقوع فيه
إن من الأمور التي تحل الخلاف: أن نعلم أن الناس جعلهم الله ﷿ مراتب ودرجات في العلم، فإذا كنت يا أخي تستشعر أن أخاك لديه من العلم ما ليس لديك، وأنه ائتمنه الله على ما لم يأتمنك عليه، فلابد أن تقدر على الأقل ائتمان الله له، والله اختاره أمينًا على الوحي فجعل ذلك تحت يده، فكيف تغبطه أنت على ذلك؟! ومن هنا فقد جاءني ذات يوم شاب صغير من طلبة العلم في كلية الشريعة، ينتقد أحد العلماء انتقادًا لاذعًا ويسب ويشتم، فقلت له: يا أخي! أيكم أعلم بكتاب الله؟ قال: هو أعلم بكتاب الله! قلت: فأيكم أعلم بسنة رسول الله ﷺ؟ قال: هو أعلم بسنة رسول الله ﷺ! قلت ما ظنك أيكم أخشى لله وأشد خوفًا منه؟ فسكت! فقلت: يا أخي! إذا كان أعلم منك بكتاب الله وأعلم منك بسنة رسول الله ﷺ وأخشى منك لله، فكيف تتجاسر عليه بمثل هذا الكلام؟! إن الإنصاف يقتضي أن يستشعر الإنسان أنه فوق كل ذي علم عليم، وأن كل إنسان لا ينبغي أن يتجاوز حده، وأنه لا يضره لو رجع إلى الحق، فقد كتب عمر ﵁ في كتابه إلى أبي موسى الأشعري في القضاء: (ولا يمنعنك قضاء قضيت فيه بالأمس فراجعت فيه نفسك فهديت فيه إلى رشدك أن ترجع إلى الحق، فإن الحق قديم لا ينقضه شيء، وإن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل).
وقد أخبرني جدي محمد بن علي ﵀ أنه كان يعجبه في العلامة أحمد بن أحمدي ﵀ سرعة رجوعه إلى الحق، فيقول: قد كان يخالفني في مسائل، ففي أول الأمر يمتنع فيها من المناقشة، ثم بعد يسير يقف ويقول: أشهدكم أني قد رجعت، وحينئذ لا يجد أية غضاضة وهو العلامة أحمد بن أحمدي يعلن على الناس أنه رجع، فالأمر ميسور، ولا يدعي العصمة، وإنما اجتهد بعقله الآن في هذه المسألة واجتهد بعدها اجتهادًا آخر فجاء اجتهاده الثاني ناقضًا لاجتهاده الأول فرجع.
إن الإنسان إذا أحس بالأمانة التي يتحملها، وأحس بجسامة التوقيع عن رب العالمين والإخبار عنه، أحس بعظم هذا الأمر، ولم يكن ليلقي الكلام على عواهنه، فإن الله تعالى يقول في كتابه: ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف:٣٣]، فالقول على الله بغير علم من أعظم ما نهى الله عنه في كتابه.
نسأل الله ﷾ بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يوفقنا لما يحب ويرضى، وأن يسددنا لأحسن الأقوال والأعمال، وأن يصرف عنا سيئها، لا يهدي لأحسنها ولا يصرف سيئها إلا هو، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
1 / 17
الأسئلة
1 / 18
حكم تعدد الجماعات الإسلامية
السؤال
هل تعدد الجماعات الإسلامية يعتبر تفرقًا؟
الجواب
إذا كان ذلك على أساس الاجتهاد فلا يعتبر تفرقًا، بل هو اجتهاد في أمر يسوغ فيه الاجتهاد، وهو تنوع لا تضاد، والتنوع كثيرًا ما يؤدي إلى الإخصاب، فالله ﷾ جعل للإنسان عينين وأذنين ويدين ورجلين، فهذا التنوع لا يقتضي تضادًا والجماعات التي تعمل للإسلام أولوياتها تتنوع ولا تتضاد، فما تقوم به كل جماعة تحتاج إليه الأمة.
ولكل جماعة ساحتها والمستمعون لها والصادرون عن أمرها والمقتدون بها، وهم محتاجون إليها، ولو لم توجد تلك الجماعات لما سد ذلك الفراغ، لكن لابد من التعاون فيما بينها والتآخي في ذات الله ونصرة بعضها بعضًا.
1 / 19
حقيقة الاختلاف المحمود والمذموم
السؤال
أريد أن تبين لنا بعض الاختلاف المحمود، وكذلك بعض الاختلاف المذموم، وهل تعتبر المذاهب الأربعة نوعًا من الاختلاف المحمود؟
الجواب
ذكرت أن الاختلاف في الأمور الاجتهادية هو من الاختلاف المحمود ومن التنوع لا من التضاد.
1 / 20