قال صاحبي وهو ملق بسمعه إلي، ومقبل بوجهه علي: لقد أحسن القوم صنعا فيما يحتفون به من ذلك، ولا أحسبهم إلا مبالغين في الاحتفاء بتعهد الأرواح بعد تعهد الأشباح، فيحسنون جوائز الناجح في العلوم حتى يصح ما يتمثلون به من قولهم: «العقل السليم في الجسم السليم.»
فلقد: لو كان ذلك كذلك، لوجدنا سبيلا إلى مزاحمة الأحياء، وبسط كل رجاء، في اضطراب جده، وإسعاف ذات غيبه، ولكنهم قضوا على أحد هذين السليمين،
بإقامة الخزان، وارتفاع الأطيان، ومحو آثار تلك الاحتفالات، التي كانت تقام بمدارس الحكومة، على نفقة الحكومة، يشهدها عزيز مصر في حملة عرشه ورجال دولته وسروات أمته، ويلطفون فيها الفائز بكل سنية من الجوائز، فكان الطالب في ذلك العهد يرصد هذا اليوم المشهود، ويرتقب حلوله، وهو منكمش في الدرس، مقبل على التحصيل، مكب على التشمير في أحد فروع العلم الذي يميل بطبعه إلى النبوغ فيه، حتى إذا حل يوم فخاره بين أترابه، استقبله على عدة، فيدخل فيه دخول المقدام الجسور، ويخرج منه خروج الفاتح المنصور.
قال صاحبي: إذا صح أنهم يحتفون بالأشباح دون الأرواح، فقد أحسنوا القيام بالواجب، فإنما هم أعداء لكم، وما رأيت قبلكم من طلب من عدوه صلاح حاله، فلا حياة لهذه الأمة إذا هي لم تستمد حياتها من سوادها، فيقوم من أغنيائها من ينعم النظر في صلاح شئونها. بربك، هل رأيت غنيا من هؤلاء الأغنياء أصبح وقد خصص شطرا من دخله لنصرة العلم؟ فما لكم تنحون باللائمة على رجال الاحتلال وأنتم أصل ما أنتم فيه من البلاء؟ أوليس حسبكم منهم أنهم لا يضربون على يدي عامل، فما عساهم أن يصنعوا بكم إذا قام لفيف من أغنيائكم وتساندوا بأموالهم على تأسيس كلية؟ أو ما عساهم أن يصنعوا بكم إذا خصص هؤلاء الأغنياء جوائز للفائزين في العلوم، وأرصدوا جعالات لكل بارع في صنوف التأليف، أو معرب لتلك التصانيف التي ضاقت بها رحاب المغرب، وأقفرت منها مكاتب المشرق
أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون ، قلت: لقد صدق الذي قال: إنما تصلح هذه الحكومة على ظلمها لتلك الأمة على نومها.
ثم أردت الترويح عن نفسي بالخوض في غير تلك الأحاديث فقلت له: ما الذي يراه سيدي بشأن تلك الشركة السودانية التي خفق لها العلمان على أطلال أم درمان؟ فالتفت إلي مبتسما وقال: وقف شريكان شرقي وغربي أمام المرآة، وفي يد الغربي قطعة من الذهب، فقال له شريكه الشرقي وقد تلطف: ألا تعطيني قسمي من تلك التي بيدك؟ قال الغربي: أما وقد أردت القسمة، فاعلم أن التي بيدي هي لي، وتلك التي تراها في المرآة هي قسمك ونصيبك. ذلك مثلكم مع القوم في شركة السودان.
قال الراوي: فندمت على هذا السؤال الذي أضفت به هما إلى همومي، ثم عزمت في نفسي على الخروج من دائرة الكلام على السياسة، والدخول في باب المحاضرات الأدبية، فقلت له: ألا أحدث سيدي بأحسن ما ورد على سمعي من الحديث، قال: ألطفنا بما عندك .
قلت: سكر أحد ملوك الفرس ذات ليلة - وأحسبه قمبيز - فسأل جلساءه
جليسا بينهم يقال له: قارون، وكان أكرمهم عليه، وأكثر توفيقا لديه، فإنه قال له: بل أبوك خير منك. فغضب الملك حتى خافه الجليس على نفسه، فعطف قائلا: فضلت أباك لأنك كنت عنده، وليس عندك اليوم من هو مثلك.
وقد وقع لي ما وقع لهذا الجليس، وركبت ذلك المركب الذي يرمي بصاحبه إلى مواطن الشرور، قال صاحبي: وكيف كان ذلك؟ قلت: جلست مرة على مائدة أحد الكبراء من رجال الإنكليز في الجيش، وأنا إذ ذاك ضابط صغير، وكانت ليلة وداع لعظيم من عظماء القواد في الجيش المصري، انطوت مدة خدمته فيه، وقد شهد المائدة معي لفيف من ضباط الإنجليز والمصريين، وقد أجلسوا بجانب كل مصري منا إنجليزيا منهم يحدثه ويباسطه، وكانوا لا يتنازلون إلى الحديث معنا في غير تلك الاحتفالات، التي تطرح فيها أبهة الرياسة، فأخذت في الحديث مع جبار من جبابرتهم أجلسته المصادفة على يميني، وساقنا الكلام إلى ذكر الأتراك وما كان منهم، فقال لي وهو يتكلف البشاشة: أنحن خير أم هم؟ فأجبته بتفضيل الأتراك، وتالله إني ما كدت أنطق بالكاف حتى رأيته وقد تمعر وجهه واغتاظ حتى كاد ينشق إهابه غيظا، فأحسست بالشر، ولكني عمدت إلى الحيلة، فعطفت قائلا: فضلت الأتراك إذ لولاهم لما رأيناكم، فهم أصل ما نحن فيه اليوم من سعة العيش، وبشاشة الحال، فأشرقت أسارير وجهه، وسري عنه ما كان قد نزل به من الغضب.
ناپیژندل شوی مخ