سطيح
سطيح
ليالي سطيح
ليالي سطيح
تأليف
محمد حافظ إبراهيم
سطيح
حدث أحد أبناء النيل قال:
ضاقت عن النفس مساحتها لهم نزل بي، وأمر بلغ مني، فخرجت أروح عنها وأهون عليها، فما زلت أسير والنيل حتى سال ذهب الأصيل، فإذا أنا من الأهرام أدنى ظلام،
1
ناپیژندل شوی مخ
وقد فتر مني العزم، وسئمت الحركة، فجلست أنفس عني كرب المسير، واضطجعت وما تنبعث في جارحة من التعب، وكنت من نفسي في وحدة الضيغم،
عوى الذئب فاستأنست للذئب إذ عوى
وصوت إنسان فكدت أطير
فرددته ما شئت، وتغنيت به ما استطعت، وقلت: أي والله، لقد صدق القائل: ما خلق الله خلقا أقل شكرا من الإنسان، ولا أطبع منه على افتراء الكذب والبهتان.
ثم مر بالخاطر بيت آخر:
تباركت أنهار البلاد سوائح
بعذب وخصت بالملوحة زمزم
فنقلت إليه متاعي، وحولت حاشيتي، وما متاعي غير الأماني السانحة، ولا حاشيتي سوى الهموم الفادحة، ولبثت أتفيأ من ظلاله، وأتأمل في حسن أشكاله.
وإني لكذلك إذ سطعت ريح كريهة انهزم أمامها النسيم، وانقبض لها صدر الجو، وتعبس بها وجه النهر، فعلقت أنفاسي، ولكن بعد أن نالني منها ما صدع الرأس، وغشي البصر.
ولما أفقت من هذه الغشية، وانجلت تلك الغاشية، نظرت فإذا أصل البلاء جيفة فوق وجه الماء، فغاظني ما أرى، وهاجني ما أشم، وقلت أخاطب النيل: «ويحك إلى متى يسع حلمك جهل هذه الأمة المكسال، وإلى كم تحسن إليها وتسيء إليك. علمت أن سيكون منك الوفاء، فلم تحرص على ودك، واتكلت على حلمك، وبالغت بعد ذلك في عقوقك. ولقد كانت ترجو في سالف الدهر خيرك، وتتقي شرك، فتحتفل في مهاداتك، وتتحامى طريق معاداتك.
ناپیژندل شوی مخ
أذاقتك وصال الحسان، وخالفت فيك شريعة الديان، وأرشفتك رضابا أعذب من مائك، وأحلى من وفائك، ثم غيرها عليك الزمان، فجادتك بعرائس الطين بعد عرائس الحور العين، وأمعنت في العقوق، فجعلتك مصرفا لفضلات البطون، ثم أمعنت في العقوق فصيرتك مقبرة للجيف ؛ لتصبح بذلك مجرى للبلاء، ومستودعا للوباء.
سبحانك اللهم! هذه زمزم على ملوحتها قد عزت بجوار بيتك القديم، فتهادى بمائها القصاد، وحملوه إلى أقصى البلاد، وحرص أهلها على عينها حرص المرء على عينه. وهذا النيل على عذوبته قد ذل بجوار قوم أهانوه، ولو كان عند غيرهم لعبدوه، وتالله، لو جرى في غير مصر لبنوا عليه أسوارا من النفوس، وأقاموا عليها حرسا من الضمائر.
أف لتلك الأمة جهلت قدر محبيها! ولم تعلم أن من مجراه تجري عليها هذه الأرزاق، ومن حمرة مائه تخضر تلك الأوراق. أف لها ما أقل شكرانها، وأكثر كفرانها! ينبغ فيها النابغة فينبعث أشقاها للطعن عليه، فلا يزال يكيد له حتى يبلغ منه، ويكتب فيها الكاتب فينبري له سفيهها، فلا يفتأ ينبح عليه حتى ينشب فيه نابه، ويفسد عليه كتابه، ويشعر فيها الشاعر فيحمل عليه جاهل، فلا ينفك عنه حتى يغلبه على أمره، ويقهره على شعره.
يا رب أخرجني إلى دار الرضا
عجلا فهذا عالم منحوس
ظلوا كدائرة تحول بعضها
عن بعضها فجميعها معكوس»
ثم إني أمسكت عن الكلام، وعزمت على التحول من هذا المكان. وإني لأهم بالنهوض إذا وقع في سمعي صوت إنسان يسبح الرحمن، يقول في تسبيحه: سبحان من حكم على الخلق بالفناء! سبحان من تفرد بالبقاء! فخشع قلبي عند ذكر الله وقلت: أنطلق إلى صاحب ذلك الصوت؛ فلعلي أظفر بأحد عباد الله الصالحين، فأستدعيه لي دعوة يمحو الله بها أثر استجابته في لدعوة ذلك «الإمام». فثرت من مكاني، وأخذت كل سمتي إلى جهة الصوت، وكنت إذ ذاك في أوليات الليل، وتالله إني لأقترب منه وإذا به يقول: «أديب بائس، وشاعر يائس، دهمته الكوارث، ودهمته الحوادث، فلم تجد له عزما، ولم تصب منه حزما. خرج يروح عن نفسه، ويخفف من نكسه، فكشف له عن مكاني، وقد آن أواني. أي فلان، لقد أخرجت للناس كتابا، ففتحوا عليك من الحروب أبوابا، وخلا غابك من الأسد فتذاءب عليك أهل الحسد. أي فلان، إذا ألقى عصاه ذلك المسافر، وغادر بحر العلم أرض الجزائر؛ فقد بطل السحر والساحر. فانكفئ إلى كسر دارك، وبالغ في كتم أسرارك، وأقبل غدا مع الليل، وترقب طلوع سهيل، ومتى سمعت من قبلنا التسبيح، فقل لصاحبك الذي يليك: هلم إلى سطيح.»
ثم انقطع صوته، فلبثت في مكاني حتى استوحشت لوحدتي وانفرادي في جوف ذلك الليل، فرجعت أدراجي. وكنت منذ لقيته وأنا في ذهول من عقلي، ودهشة من أمري. ولما ثاب إلي السكون، جعلت أتأمل في عباراته، وأتروى في مغزى سجعاته، وقلت في نفسي: لقد كنت أعلم أن سطيحا قد قضى نحبه ولقي ربه، فهل صدق القائلون بالرجعة، أم جعل الله لكل زمن سطيحا؟ على أني في غد سألقاه، وأطلب إليه أن أراه، وأسأله عن أشياء كتمتها في صدري، وكادت تدخل معي قبري.
فانطلقت حتى إذا بلغت داري وقد شابت ذوائب الليل أخذت مضجعي، وجعلت أعالج النوم، ولكن طافت بالرأس طائفة من الأفكار، فباعدت ما بين الجفنين، وأزعجت ما بين الجنبين، فأقض
ناپیژندل شوی مخ
2
علي المضجع، وحار بي الفراش، فقمت إلى الشمعة فأشعلتها، وإلى لزوميات أبي العلاء ففتحتها، فوقع نظري فيها على قوله:
أيا دار الخسار ألا خلاص
فأذهب للجنوب أو الشمال
وظلم أن أحاول فيك ربحا
ولم أخرج إليك برأس مال
فاستشعرت نفسي الراحة، وسرى عني ما كنت أجده من الغم، ونشطت إلى القراءة، فما زلت أنهل من معان لم تخضها أعين القارئين، ولم يخلقها تداول الألسن، وأتروى من حكم فجر الله ينبوعها في جوف ذلك الحكيم حتى فصحني
3
النهار، فنمت ما شاءت العين، وانتبهت وقد بلغ ظل كل شيء مثليه، فأصلحت في شأني، وخرجت أطلب الموعد ونفسي إلى رؤية سطيح في شوق الأسير إلى الفكاك، وقد حضرني قوله: «فقل لصاحبك الذي يليك: هلم إلى سطيح.» فجعلت أقول: يا ترى، أي صاحب عنى، ولكن لعل الأسباب التي ساقتني إلى الاهتداء إليه تجمع بيني وبين ذلك الصاحب، فما زلت أواصل السير وأنا بمنزلة بين الريث والعجل، حتى بلغت مكان الأمس فإذا فيه إنسان أعرفه قد أطرق إطراق المتأمل، وسكن سكون الوقور ، فكرهت أن أقطع عليه تأملاته وقلت: لم يجلس هذا الرجل العظيم تلك الجلسة إلا وهو يريد الانفراد بنفسه، فلعله يفكر في خير لوطنه وسعادة لأبنائه، فجلست على كثب منه، وألقي في روعي أنه طلبة سطيح، ولبثت أنظر إليه ولبث ينظر في أمره حتى مرت بالنهر جارية عليها من الجواري الحسان ما يفتن اللب، ويملك القلب، وهن مبتذلات يخضن في اللهو، ويمرحن في اللعب، وبينهن رجال تستروح منهم روايح السلطة والجاه يتهادون رياحين المجون، ويتعاطون كئوس الراح ممزوجة برضاب أولئك الملاح، فرأيت صاحبي وقد رفع رأسه ومد عينيه، ثم تأوه آهة الرجل الحزين وقال يحدث نفسه بصوت تسمع فيه رنة الأسف: ألا يأتي أولئك الموكلون بالرد على أهل الصواب فينظروا ما صنع أهل النعيم في يوم شم النسيم، ويروا كيف ابتذلت فيه الخدور، ونفقت سوق الفحش والفجور! فلقد فعلوا تحت الحجاب ما ينكس له الأدب رأسه، ودعوناهم إلى غير ذلك فأبوا علينا الطلب، وأنكروا الدعوة، وقالوا: إن تربية النساء ما لا تحمد معه المغبة، وإن في اختلاطهن بالرجال ما يسوء معه المصير، وصاح يومئذ صائحهم أن في ذلك عقوقا لأوامر الدين، وانحرافا عن صراط السلف الصالح، ودعانا شاعرهم إلى اليأس من جدالهم في طلب إصلاح حالهم بقوله:
فلو خطرت في مصر حواء أمنا
ناپیژندل شوی مخ
يلوح محياها لنا ونراقبه
وفي يدها العذراء يسفر وجهها
تصافح منا من ترى وتخاطبه
وخلفهما موسى وعيسى وأحمد
وجيش من الأملاك ماجت مواكبه
وقالوا لنا رفع النقاب محلل
لقلنا: نعم حق، ولكن نجانبه
ولقد صدق الشاعر، واستهتر المكابر، وغفل الحق عن الباطل، فصمتنا حتى ينتبه الحق من غفلته، ولا زلنا إلى اليوم صامتين.
ولما نفث ما بصدره وعاد إلى سكونه، تراءيت له ثم حييته، وجلست إليه أحدثه ويحدثني، وقد أقبل بوجهه علي، وتبسط معي على الأنس، فذكرت له حديث سطيح وما كان من أمره، فهزه الشوق إلى رؤيته. وقد كنت أخبرته أن سطيحا جعل لي آية إلى لقائه، فلبث يرتقب معي طلوع سهيل، ويتسمع التسبيح في جوف ذلك الليل، حتى إذا لاح النجم في السماء، وعرفناه بما وصفه به أبو العلاء:
وسهيل كوجنة الحب في اللو
ناپیژندل شوی مخ
ن وقلب المحب في الخفقان
مستبدا كأنه الفارس المع
لم يبدو معارض الفرسان
ضرجته دما سيوف الأعادي
فبكت رحمة له الشعريان
ألقينا بالسمع وأمسكنا عن الكلام، فلما علا التسبيح هرولنا إلى سطيح، وإذا بالصوت الذي سمعته بالأمس ينادي صاحبي بقوله: «صاحب مذهب جديد، ورأي سديد، دعا القوم إلى رفع الحجاب، وطالبهم بالبحث في الأسباب، فألقوا معه نقاب الحياء، وتنقبوا من دونه بالبذاء. أي فلان، إذا مضت على كتابك خمسون حجة، وظهر لذي العينين أدلاؤك بالحجة، تكفل مستقبل الزمان بإقامة الدليل والبرهان، فلعل الذي سخر لجماعة الرقيق والخصيان من أنقذهم من يد الذل والهوان، يسخر لتلك السجين الشرقية، والأسيرة المصرية، من يصدع قيد أسرها، ويعمل على إصلاح أمرها.
أوصى نبينا بالضعيفين «الرقيق والمرأة»، فخالفنا وصيته، ولم نتبع سنته. قمنا إلى الأول فجببنا منه المذاكير، وعمدنا إلى الثانية فزججنا بها في سجن المقاصير، فقيض الله للأول من أعدائنا من دعا إلى عتقه، وسعى سعيه في تحريره من أسره ورقه، وتالله ليأتين يوم تقوم فيه النساء الغربيات تطالب برفع الحجاب عن أخواتهن الشرقيات، وهنالك يعرفون قدر كتابتك، ويقدرون مقدار خطئهم من مقدار صوابك، فانتظر - وإن طال الأمد - ذلك اليوم، ولا تبخع نفسك أسفا على أثر القوم؛ فهم أقل العالمين شكرانا، وأكثر خلق الله كفرانا.
وهل أتاك حديث تلك المصرية الصالحة؛ إذ رأت قومها يعانون أصناف الشقاء في دفن موتاهم؛ لوعورة طريق المقبرة، وقيام التلال في سبيلها، فأنفقت من مالها على تمهيد تلك السبيل؛ احتسابا للخالق ورأفة للمخلوق، فكان منهم أن كافئوها على ذلك العمل المبرور بأن سموا طريق المقبرة: «بقطع المره». فانظر إلى أي حد بلغ العقوق من نفوس قومها، واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا.»
ثم انقطع صوته، فأشفقت أن يكون نصيبي من رؤيته كنصيب الأمس، فقلت له: يا ولي الله، قد سمعنا صوتك ولم ننظر إلى شخصك، فهل لك أن تمن علينا برؤية شخصك الكريم، كما مننت علينا بسماع قولك الحكيم؟ فقال: لقد قدر أن تراني بعد أن كشف لك عن مكاني، فلا تقطع غدك الزيارة، واذكر ما بيننا من الإشارة. ثم أخذ في تسبيحه، وأخذنا في طريقنا إلى المنازل، وما زلنا نخوض في أحشاء الليل وفي صنوف الأحاديث حتى بلغنا منتزه الجزيرة، فإذا نحن بشابين يمشيان على الأقدام، فدانيناهما لنسمع ما يدور بينهما، فإذا الأصغر يقول للأكبر: هل لك أن تذكر لي أقصى أمانيك في هذه الحياة الدنيا؟ قال الأكبر: أقصى أماني أن أصبح «الرئيس الشرف» للمحكمة المختلطة، فأجلس في كل عام ساعة واحدة أنقد عليها ما يقوم بنفقة العام كله، فإن أسعد المصريين حالا، وأرخاهم بالا، من سهلت له الأقدار الجلوس على ذلك الكرسي الذي لا يسأل صاحبه عن الخطل، ولا يخشى عليه من الوقوع في الزلل. قال الأصغر: أف لك أن تتمنى الرزق في ظلال الكسل، والبعد عن الكد والعمل. أما أنا فأقصى أماني أن أكون مثل ذلك التلميذ الذي دخل منذ عامين في مدرسة المهندسين، فإنه قد بلغ من الإكرام والتعزيز منزلة لم تبلغها أولاد القياصرة، فإذا حق لمتعلم أن يفتخر، فهو الحقيق بالفخر؛ فإنه يتلقى دروسه على انفراد في «فصل السنة الأولى» من طائفة من المعلمين الإنكليز، ينقد أقلهم مرتبا خمسا وثلاثين قطعة من الذهب، ولو شاء القيصر تعليم نجله الوحيد لما فعل أكثر من ذلك. وهذا كله بفضل عناية ديوان المعارف، وحرص القائمين فيه بالأمر على التعليم.
قال الأديب: فامتلأنا عجبا من ذلك الحديث، وانطلقنا حتى إذا جاوزنا مربض الليثين، أخذ كل منا طريقه إلى داره. ولما بلغت منزلي أخذت مضجعي، فعاودني أرق الليلة الغابرة، فقلت: ما لهذا الأرق من دواء إلا لزوميات أبي العلاء. فقمت إليها وفتحتها، فأخذ نظري فيها قوله:
ناپیژندل شوی مخ
الروح والجسم من قبل اجتماعهما
كانا وديعين لا هما ولا سقما
تفرد المرء خير من تآلفه
بغيره وتجر الألفة النقما
ثم قرأت قوله:
اسمع نصيحة ذي لب وتجربة
يفدك في اليوم ما في دهره علما
إذا أصاب الفتى خطب يضر به
فلا يظن جهول أنه ظلما
قد طال عمري طول الظفر فاتصل
ناپیژندل شوی مخ
ت به الأذاة وكان الحظ لو قلما
فقلت: إي والله، لقد صدق الفيلسوف، تعاف النفوس لقاء شعوب، وتطلب السلامة من عاديات الخطوب، والأعمار كالأطفال كلما طالت تخللتها الأقذار، واستبشعت رؤيتها الأبصار.
وهكذا أفنيت فحمة الظلام وأنا أنزه النفس بين تلك السطور والكلمات حتى صاح ديك الصباح، فأخذني النوم ولم أنتبه حتى شمر النهار أو كاد، فشمرت إلى الموعد. ولما بلغت المكان المعهود، ألفيت فيه سوريا من صفوة الأدباء كانت لي به صحبة قديمة، فقلت: لأمر ما جلس الأديب تلك الجلسة، واختلس من رقدة الزمان تلك الخلسة، فقال بعد أن هش لرؤيتي وبش للقائي: جلست أبث إلى النيل شكاتي من أبنائه، وأنت تعلم أنهم صارمونا على غير ريبة، وقاطعونا عن غير ذنب، وأصبحوا يرموننا بثقل الظل وجمود النسيم، ولم يرعوا حق الجوار، فسموا إقدامنا قحة، ونشاطنا جشعا، وكدحنا وراء الرزق فضولا، ونزوحنا عن الوطن عارا، وضربنا في الأرض شرودا، وما ذنب من ضاقت عليه بلاده فخرج يلتمس وجوه الرزق في بلاد الله؟ اللهم إنها محاسن عدوها عيوبا، وحسنات سموها ذنوبا:
إذا محاسني اللاتي عرفت بها
كانت ذنوبي فقل لي: كيف أعتذر؟!
وما ذاك إلا لأنا لا نحسن التنكيت، ولا نتقن التبكيت، قلت له وقد وقع في نفسي كلامه، وبلغ مني مقاله: خفض عنك، أيها الأديب، فسأرفع أمرك إلى سطيح، قال: ومن سطيح؟ قلت: إنك لا تلبث أن تسمع كلاما أحلى من الأوبة، وأروح للنفس من مغبة التوبة. ثم أخبرته الخبر، فلبث ينتظر الآية معي حتى لاحت، فأخذنا طريقنا إلى سطيح، وإذا به يقول لصاحبي: «أختان أمهما اللغة العربية، تشرف عليهما الدولة العلية: مصر دار الأمان، وسوريا روضة الجنان. أي فلان، ضع خريطة الأرض بين يديك، ثم أغمض بعد ذلك عينيك، واهو بإصبعك عليها، وانظر نظرة الحكيم إليها، تجد في موقع ذلك الإصبع سوريا يعمل ويبدع. فأنتم أهل العمل والنجدة، وإن كان بأخلاقكم بعض العهدة.
4
يهبط السوري مصر لطلب القوت، فإذا أثرى بكده وعمله، وأراد القفول إلى وطنه، حمل تلك الثروة إلى بلاد الدولة العلية، ويهبطها الرومي فيثرى ما شاء ثم يحاربها بتلك الثروة. ومن العجب أن يكثر القال والقيل، ويدعى الأول بالدخيل، ولم يجر للثاني ذكر على اللسان، وهو الحقيق بالجفاء والعدوان.
أنسي أبناء اللسان العربي أن جماعة السوريين قد بلغوا في نشر اللغة العربية منزلة لم تبلغها جماعة المبشرين في نشر الملة المسيحية؟!
ذكر ابن عقيل ذلك التاجر السائح أنه اتفق له في إحدى سياحاته ببلاد الصين، أن حاول الدخول في مسجد من مساجد المسلمين فيها، فوقف في وجهه خادم المسجد وقال له: إن بيوت الله لا تطأ أرضها الطاهرة قدم غير المسلم، فاخرج منها؛ فإني لك من الناصحين. قال ابن عقيل وقد ساءته قولة الخادم: ومن أين لك الحكم بعدم إسلامي ولم ترني قبل اليوم؟ قال: سمعتك تتكلم بالعربية، ولا نعهد في بلادنا من يتكلم بتلك اللغة إلا جالية السوريين من المسيحيين. ولولا أن شهد بعض من كان حاضرا ممن يعرفون الرجل بصدق إسلامه لحيل بينه وبين الصلاة.
ناپیژندل شوی مخ
ولو كان نصيب المسلم السوري من التعليم نصيب المسيحي من أبناء بلده؛ لرأيت
هذا صاحب «طبائع الاستبداد» و«أم القرى»؛ بلبل أفلت من يد «الصياد» فغنى،
ثم أمسك سطيح عن الكلام، فقال له صاحبي السوري: لقد ذكرت، يا ولي الله، في عرض حديثك، أننا وإن كنا من أهل العمل والنجدة إلا أن بأخلاقنا بعض العهدة، فما عسى يكون ذلك النقص الذي يراه فينا إخواننا المصريون؟
قال سطيح: إنني لا أكذب الله. لقد أكثرتم من التداخل في شئونهم، فعز ذلك عليهم من أقرب الناس إليهم. نزلتم بلادهم فنزلتم رحبا، وتفيأتم ظلالهم فأصبتم خطبا، ثم فتحتم لهم أبواب الصحافة فقالوا أهلا، وحللتم معهم في دور التجارة فقالوا سهلا. ولو أنكم وقفتم عند هذا الحد؛ لرأيتم منهم ودا صحيحا، وإخلاصا صريحا، ولكنكم تخطيتم ذلك إلى المناصب، فسددتم طريق الناشئين، وضيقتم نطاق الاستخدام على الطالبين، وأنتم تعلمون أن المصري يعبد خدمة الحكومة؛ فهو يصرف إليها همه، ويقف عليها علمه؛ فهي إن فاتته فاته الأمل، وفتر نشاطه عن السعي والعمل. وهو لا يفتأ ينتظر الدخول فيها بقية عمره انتظار القوم عودة الحاكم بأمره، فما ضركم لو جاملتموهم فرغبتم عن الانكباب في دخول ذلك الباب. أليس لكم عنه مندوحة، وأمامكم وجوه الرزق كثيرة، ومادتكم في الكسب غزيرة؟
حببت إليكم الحركة وحبب إليهم السكون، وجبلتم على الجد وجبلوا على المجون، فاصرفوا نفوسكم عن مزاحمتهم في أعز الأشياء عليهم، حتى تخلق الحاجة في نفوسهم شعورا جديدا، فيحس ناشئهم أنه إنما يتعلم لنفسه ولأمته، لا لخدمة حكومته.
قال صاحبي: وهل في ذلك ما يأخذه علينا الآخذون، وأنت تعلم أن الحياة مزدحم الأقدام، وملتحم الأقوام؟ فإن كنا قد أخطأنا في فعلنا، فهل أخطأت الحكومة في قبولنا؟ وهل أصاب المصري في بغضنا؟
قال سطيح: لقد أصبتم في عملكم، وأصابت الحكومة في قبولكم، وما أخطأ المصري في بغضكم. أما أنتم فطلاب للقوت، وطالب القوت ما تعدى، وأما الحكومة، فضالتها عامل ينصح في عمله،
قال الراوي: ثم سكت سطيح وسكت صاحبي، فقلت: يا ولي الله، إن عندي سؤالا طالما بحثت في جوابه فلم أقع فيه على الصواب، قال: قل وأوجز.
قلت: كلما نظرت في جالية السوريين المسيحيين رأيت بينهم رجالا إذا هزوا أقلامهم أمطرت ذهبا، وإذا خطبوا بها سطرت عجبا، ولو شئت أن أعد منهم عددت كثيرا؛ هؤلاء أصحاب المقتطف، ودائرة المعارف، والضياء، والهلال، والجامعة، وهؤلاء أصحاب الصحف اليومية وغيرها، ولكنني كلما نظرت في جالية السوريين من المسلمين لم أر بينهم غير البائع والسمسار، ورائض الخيل والجزار؛ فما علة ذلك التفاوت العظيم والقوم يسكنون في فرد إقليم؟
قال: علة ذلك وهم رسخ في نفوس المسلمين ألا يدخلوا أولادهم في مدارس المسيحيين، ففاتهم بذلك تحصيل العلم، وماتت أكثر نفوسهم بحياة ذلك الوهم.
ناپیژندل شوی مخ
قلت: لقد أمنت، بحمد الله، نفوسنا من دخول ذلك الوهم، فأرسلنا من مصر في هذا العام إلى كلية واحدة من كليات المسيحيين ببيروت مائة وخمسين تلميذا.
قال: لقد سلمت نفوسكم من الأوهام، وأصيبت عزائمكم بأنواع السقام. أليس من العار أن تكونوا أكثر مالا وأعز نفرا ولا تجدوا في مصر لتعليم أولادكم مستقرا، وليست بيروت بأخصب من عروس النيل أرضا، ولا بأوسع من ملك مصر طولا وعرضا؟! أيعجز في مصر عشرة ملايين من النفوس عن بناء كلية، ويظفر عشر معشارهم في بيروت بنيل تلك الأمنية؟!
ثم أمسك عن الكلام وأخذ في تسبيحه، فأخذت بيد صاحبي وانطلقنا في سبيلنا راجعين. ولما بلغنا قصر النيل، تياسر صاحبي وتيامنت حتى إذا بلغت الدار، وعاودتني تلك الأفكار، قضيت الليلة على نحو ما قضيت به أختها السابقة، ولبثت بالمنزل إلى وقت التطفيل، ثم دعاني الموعد إلى المسير، فركبت نعلي، وأعملت قدمي، ولكن كان النهار أسرع مني مطية، وأحث سيرا، فأدركني الظلام قبل أن أدرك المقصد، فنبهت العزيمة، واحتثثت الأقدام حتى بلغت المكان المعهود، وقد أجهدني السير، وكدني النصب، فإذا فيه إنسان ينوح من فؤاد مقروح، فقلت: ما خطبك أيها النائح؟ فقال وهو يشرق بعبراته، وأنفاسه تتوقد بزفراته: ومن - يا ترى - أولى مني بالبكاء وقد أقصدني بسهامه القضاء؛ كان لي أخ أسكن إليه، وأعتمد بعد الله عليه. إذا أملقت واساني، وإذا تربت أعطاني. أنام للمرض ويسهر علي، وأمشي للغرض ويجري بين يدي، فما زلت مكفي المئونة بكدحه، غنيا عن المعونة بنصحه، حتى انتويت به منذ عام؛ غاله رومي بمديته، وحرمني من حسن طلعته. بقر بطنه، وحضر دفنه، وحالت بيني وبينه حماية قومه.
قال الراوي: ثم أمسك الحزن لسانه، وأسالت الذكرى نفسه، فما زال بين الزفرة والشهيق، حتى أشفقت عليه أن يذوب كمدا، فأقبلت أنفس عنه بسرد العظات، وأدعوه إلى الأخذ بالتأسي حتى رقأ دمعه، وهمدت نار أحشائه. ولما تماسك بعض الشيء أنشأت أقص عليه خبر سطيح، فارتاح إلى لقائه. وقد حان الوقت فقمنا إليه، وإذا به يقول: «واجد موتور، وساهد مقهور. قد واصل النواح في الغدو والرواح، على دم هدر، وأخ قبر (أي فلان)، ما دام امتياز الجانب الرومي يطعن بمديته، ويستظل بعلم دولته، والمصري يحمل القتيل، ويخضع خضوع الذليل؛ كأنما دية القتيل المصري كرامة للقاتل الرومي، كما قال شاعركم:
وهل في مصر مفخرة
سوى الألقاب والرتب
وذي إرث يكاثرنا
بمال غير مكتسب
وفي الرومي موعظة
لشعب جد في اللعب
ناپیژندل شوی مخ
يقتلنا بلا قود
ولا دية ولا رهب
ويمشي نحو رايته
فتحميه من العطب
فقل للفاخرين أما
لهذا الفخر من سبب؟
أروني بينكم رجلا
ركينا واضع الحسب
أروني نصف مخترع
أروني ربع محتسب
ناپیژندل شوی مخ
أروني ناديا حفلا
بأهل الفضل والأدب
وماذا في مدارسكم
من التعليم والكتب؟
وماذا في مساجدكم
من التبيان والخطب؟
وماذا في صحائفكم
سوى التمويه والكذب؟
حصائد ألسن جرت
إلى الويلات والحرب
ناپیژندل شوی مخ
فهبوا من مراقدكم
فإن الوقت من ذهب
فهذي أمة اليابان
جازت دارة الشهب
فهامت بالعلا شغفا
وهمنا بابنة العنب!»
ولو شاء لابس الرداء الأحمر؛ لدفع عنكم هذا الهواء الأصفر، وأمتعكم بالحياة في أعطاف العيش الأخضر، ولكنه ترككم نهبا للامتيازات، وغادر صدوركم ميدانا للحزازات حتى تسأموا حياة الإذلال، وتسكنوا إلى رجال الاحتلال، ولا تجدوا لكم من وقاية في غير طلب الحماية، وهنالك تتساوى الأقدام، وينشر فوقكم علم السلام. وهذا من دهاء القوم وسياستهم، وحذقهم في الأمور وكياستهم، وكما أن لكل أمة قسمتها من الفضيلة، فلهذه الأمة قسمتها من الحزم وحصافة الرأي، وبعد النظر في العاقبة، وما اجتمعت هذه الخلال في أمة إلا وكانت خليقة أن يتناول حكمها سكان الكواكب، لا هنود آسيا وزنوج أفريقيا.
وهم أهل سياسة وختل، وقد بلغوا من كليهما كوكبيهما. أما سياستهم فهي أشبه شيء بالكهرباء، تدرك العين فعلها، ولا يدرك العقل كنهها. يعنعنونها ويحكمونها ويطلونها بعقاقير يعرفونها، ثم تزف إلى الناس، فلا والله ما ينفذ فيها زكن
5
الفطن، ولا يحيط بها دهاء الحول،
ناپیژندل شوی مخ
6
فلولا التقى لنحلناهم
7
علم الغيب، وأما ختلهم، فبينا هم ضعاف يغضون للخطب، إذ هم أشداء ركابون للهول، فهم أشبه شيء بالخمر؛ ضعيفة في الكأس، شديدة في الرأس، ولهم نظر يشف له كل شيء، كأنما قد جمعت أشعة رانتجن من أشعته، وإرادة سخر لها البخار في البحار كما سخر الريح لسليمان، وهم إذا دخلوا قرية جعلوا أعزة أهلها أذلة، وكان لهم في اجتذاب ثروتها كياسة الإسفنج في اجتذاب الماء مع ذلك الرفق والسهولة.
ولما دخلوا مصر دخول الشتاء على الشجر (ويا ليت طريقهم كان على وادي التيه يوم دخلوها)، إذا أهلها فريقان: فريق نظر إلى مساويهم بعين الأرمد، فملأ ماضغيه بمحاسنهم، فكان مثله وإياهم كالظلام والنار؛ يخفي دخانها، ويبدي سناها، وفريق ركب متن الغلواء في ذم أفعالهم، حسنة كانت أو سيئة، فكان مثله وإياهم كالإنسان والزمان؛ لا يشكر إذا أقبل، ولا يصبر إذا أدبر.
ومن تأمل في رقعة شطرنج الشرق، ورأى اليدين اللتين تجولان فيه، وعلم أن الأولى تديرها الأناة السكسونية، وأن الثانية تحركها الخفة الفرنسية، حكم بالفوز للتي يجب أن يحكم لها به كل من فرق بين عاقبة البدار تخالطه الخفة، وعاقبة الريث تخطئه الغفلة.
ثم أمسك عن الكلام وأخذ فيما كان فيه، فانصرفت بصاحبي، وجعلت أتحرى مسرته، وأتوخى تسليته، حتى بلغنا حيث نفترق، فعطفت يمنة وعطف يسرة، وما أنا إلا أن خطوت في طريقي بعض الخطوات حتى لمحت شيخين يمشيان على مهل، فقلت: أدانيهما فعلي أسمع منهما ما يذهب بذلك الهم الذي حملته من حديث صاحبي الموتور، فأسرعت الخطى حتى صرت على مسمع منهما ، فإذا أحدهما يقول للآخر: لقد أفاض الفلاسفة في تعريف السعادة، وتفننوا في تصوير اللذة، ولكني لم أجد فيهم من نفذ فهمه إلى حقيقة ذلك التعريف. جهلوا أن السعادة كل السعادة في شياخة السجادة، وأن أسعد الناس حالا، وأرخاهم بالا، جالس فوقها؛ يجري رزقه من تحتها، فهي الجنة التي تجري من تحتها أنهار النذور، والكنز الذي لا تفنى ذخائره أمد الدهور.
وأسعد من هذا الحي ميت يسخر له الله من يبني على قبره قبة عالية، ثم يدعو الناس إلى التبرك بتلك العظام البالية، فتجيء سعادته في مماته على قدر شقائه في حياته، وتطير بذكر كراماته الأنباء، وتحسده على تلك النعمة الأحياء، حتى يقول في ذلك قائلهم:
أحياؤنا لا يرزقون بدرهم
وبألف ألف ترزق الأموات
ناپیژندل شوی مخ
من لي بحظ النائمين بحفرة
قامت على أحجارها الصلوات
يسعى الأنام لها ويجري حولها
بحر النذور وتقرأ الآيات
ويقال هذا القطب باب المصطفى
ووسيلة تقضى بها الحاجات
قال الثاني: لقد صدقت في تعريفك، وأنصفت في وصفك، ولكني أعرف للسعادة منهجا آخر قد سلك فيه بعض الأقوام، فأصبحوا أسعد الأنام. ألم تعلم - وفقك الله - أن السعادة كل السعادة في الوصاية على اليتيم، وفي النظارة على وقف حبس على العظم الرميم؛ يأكل الأول ما شاء ولا محاسبة، ويلتهم الثاني ما أراد ولا مراقبة.
وإني أعرف في مصر قوما قد احترفوا الوصاية على الأيتام، فهم كلما حدث يتم بالبلد رشحوا أنفسهم لتلك الوصاية، وعملوا جهدهم للوصول إلى هذه الغاية.
قال صاحبه: صدقت يا أخي، ولكن أتعرف السعيدة من النساء كما عرفت السعيد من الرجال؟
قال: السعيدة من النساء من سهلت لها الأقدار، فأصبحت تدعى شيخة الزار؛ فهي تملأ يديها ذهبا، وبيتها نشبا، وترفل في الحرائر من هبات الحرائر، ورأس مالها في تلك التجارة رقية بأسماء بعض العفاريت الطيارة. تدخل على المقصورات في القصور، والمخدورات في الخدور، فتفتق بطبلها طبل آذانهن، وتهز بأسماء الجن نواعم أبدانهن، وتعمي بدخان البخور نجل أعينهن، حتى إذا امتلكت منهن الوجدان، وصار لها عليهن أي سلطان ، حكمت فيهن حكم المنوم البارع على النائم الخاضع.
ناپیژندل شوی مخ
ولما انتهيا من تعريف السعادة، وانتهيت إلى داري، غادرتهما يضعان من تعاريف الأشياء ما يرسمه لهما الخيال، وتملي عليهما الآمال، فدخلت الدار وروحي مجروحة بشكوى ذلك الموتور، فما زلت أفكر في آلام الشرقي وشقاء المصري حتى ضاق الصدر، وعزب الصبر، فقمت إلى ربيع الأرواح ومسرح النفوس، وأعني به اللزوميات، فطويت بفتحه كتب الأوهام، ومحوت بسطوره سطور الآلام، وجعلت أطالع حتى تبينت الخيطين، وميزت ما بين الفجرين، فحن الجنب إلى المضجع، ومالت العين إلى الهجوع، فنمت ما شئت، وانتبهت وقد اكتهل النهار، فأصلحت من شأني، وخرجت وأنا على غير عجلة من أمري لفسحة الوقت، وبعد ساعة اللقاء، فمشيت مشية المتفرج حتى بلغت المكان المعهود، فإذا فيه إنسان تنطق معارف وجهه
8
عما انحنت عليه ضلوعه من سأم العيش وضجر الحياة، فدانيته وحييته، فرد التحية بأحسن منها، فقلت له: ما لي أراك هكذا كاسف البال، سيئ الحال، وما لي أرى في عينك أثر البكاء، وألمح على وجهك غبار الشقاء؟
فقال وهو يخفي من شجونه ويغيض من شئونه: «إني امرؤ خفيف الحال، ثقيل الأعباء، رزئت بفقد أبي قبل أن أبلغ الغاية التي إليها مدى أملي وأمل الأهل والأقارب، فانقطعت عن الدرس في مدارس الحكومة لقصر يدي عن بلوغ نفقة التدريس التي اشتطت فيها، فأصبحت عيالا على أهلي، ولبثنا نعيش جميعا من فضلة كانت لنا حتى أمسينا ذات ليلة ولم نجد ما نستصبح به في الظلام، فكرهت أن أجمع عليهم بين خفة الحال وثقل وجودي بينهم، فخرجت أقصد وجوه الرزق؛ لعلي أصل إلى عمل أكسب منه ما أدفع به عني شرة العوز وذل السؤال، فأخطأني التوفيق؛ لأنني لم أكتب من أهل الشهادة، فما زلت أنظر في وجوه الأعمال، وأتبصر في أيها أقل مئونة وأكثر ربحا، حتى فتق لي الذهن أن ألقي بنفسي في غمار المحررين، وأن أنشئ صحيفة أسبوعية، فصحت عزيمتي على الدخول في زمرة الكتاب، وإن لم أكن منهم، وأقدمني على ذلك ما أراه كل يوم من ترامي الناس على احتراف تلك الحرفة، وغفلة أهلها عن الذود عنها، حتى عبث بها الدعي، وغض منها اللصيق. ولما طوعت لي النفس ذلك، أصدرت الصحيفة، وجعلت أكتب في الفضيلة، وأدعو الناس إلى الأخذ بها، وأستعين بما سطره الأول وجرى عليه الأخير، وأستمد من بطون الكتب أحكم الأمثال وأمثل العظات، وأكد ذهني في الاستنباط، وأنصب بدني في السعي، وأغشى الأدباء في دورهم، فأطلب إلى هذا مقالة في الأدب، وإلى ذاك كلمة في الفضيلة، حتى فاضت أنهار الصحيفة بالنصائح، وجرى تيارها بالملح والطرائف، ولكن فاتني أن أنظر نظرة في أخلاق الأمة التي أكتب لها، وأن أجول بالفكر جولة في وجوه عاداتها، فلم تنفق لذلك سلعتي، ولم تنتشر صحيفتي، فجعلت أبحث عن علة ذلك الكساد، وعدم تنفيق تلك السلعة، حتى اهتديت بعد كد القريحة إلى أن ذلك راجع إلى فساد الأخلاق، وأن العامة قد نامت عنها وعاظها، فيبس ما بينها وبين الفضيلة، وأخصب ما بينها وبين الرذيلة، وذكرت قول ذلك الشيخ الحكيم: «هلاك العامة فيما ألفت.» فوددت لو أنني كنت من رجال العلم وفرسان البيان، فأشن الغارة على تلك العادات والأخلاق، وأشك باليراع أضلاعها، حتى أراها تأنق لغير المجون، وتأبه لغير السباب، ولكن حال بيني وبين ذلك قصر في الباع، وجفاف في اليراع، وخلة
9
أشكوها، وحياة أستمرها
10
فقلت لنفسي: أيتها النفس، لقد أعذر
11
صاحبك وما قصر، فأنت اليوم بين أمرين: إما الفضيلة والنعش، وإما الرذيلة والعيش. وكانت من غير تلك النفوس المطمئنة، التي بشرها الله بالجنة، فشمست
ناپیژندل شوی مخ
12
عن الأولى، وسكنت إلى الثانية، فما زالت تأمرني بالسوء حتى أصبحت صحيفتي مجموعة للنقائص، ومستناما للعيوب، وأصبح يراعي وقد استمد من لعاب الأفاعي لعابه، واستعار من كتاب المسامير سبابه، فما زلت أطعن على زيد لاجتعل
13
من عمر، وأغض من خالد لأشد من بكر، حتى زل الرأي، وعثر القلم، فأصبحت غريم الحكومة، وخوصمت إلى المحاكم فأمسيت مخصوما،
14
وبت وقد اصطلحت علي الخطوب، وطولبت بالتكفير عن الذنوب؛ بأن أدفع عشرة ذهبا، وأتخذ لي غير الصحافة سببا. ومن أين لي - أسعدك الله - أن أقوم بدفع هذا القدر من المال؟ ولقد كنت كلما هممت بطبع الصحيفة أجمع من كل جيب من جيوب المشتركين قرشا، كما يجمع العامل في المطبعة من كل بيت
15
حرفا.
لذا تراني ضيق الصدر؛ لضيق ذات اليد. ولقد أعطيت الله عهدا إن أنا خرجت من هذا المحذور كفافا، لأحطمن هذا اليراع العاثر، ولأنبذن تلك الحرفة التي اضطرتني إلى التحام الأعراض، والميل مع الأغراض، ثم رفع يديه ضارعا إلى الحق وقال: اللهم إن كنت تعلم أنني دخلت في هذه الحرفة كارها، وسرت في تلك الطريق مغلوبا على أمري، فنفس كربتي، وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين.»
فقلت له وقد أدركتني رحمة عليه: أراك قد خاصمت نفسك إلى نفسك، فحمدت مغبة الخصومة، ورضيت حكومتك عليك، فلا تجزع بعد ذلك؛ فإنه لا شيء أمحى للخطيئة من التوبة يظهر أثرها في نفس الخاطئ، وإني أرى في نفسك وأتبين في وجهك أثر ماضيك، ولا أعلم فيما أرى شيئا هو أبلغ في النفوس من يقظة الوجدان وحياة الشعور، فإن كنت قد صدقتني فيما قلت، وكان لسانك شاهدا عدلا على قلبك، فأنت حقيق ألا تعود إلى ما أوضعت فيه من الجهالة، وخليق ألا يفت في ساعدك ما وصل إليه أمرك من الفشل، فلا يكبرن عليك أمر الغرامة؛ فما هو ببالغ من نفسك ما بلغته أنت منها، وهلم بنا إلى سطيح يحدثك بمأتي حالك، ثم حدثته حديثه، فلبث ينتظر معي الآية، فلما لاحت أخذنا طريقنا إلى سطيح، وإذا به يقول: «ظالم مظلوم، ولائم ملوم، تزيا بغير زيه، وأقام في غير حيه، فأصابه ما أصاب الشرقي وقد نزع إلى تقاليد الغربي، فأصبح معنيا بهذا البيت. وأحسبه من شعر الكميت:
ناپیژندل شوی مخ
فيا موقدا نارا لغيرك ضوءها
ويا حاطبا في غير حبلك تحطب
أي فلان، إن للصحافة رجالا، وللسياسة أبطالا طرقوا
16
لها إلى الضمائر، وتناولوا بها ما وراء السرائر، فسددوا الكلام كما تسدد السهام، وبلغوا بالمقال ما لا تبلغه النصال، يعجبونك
17
فتعجب، ويستغضبونك فتغضب، فهم ملوك الأفكار ينقشون في النفوس ما نقشوا في الطروس، ويودعون في الصدور ما أودعوا في السطور، وهم كما قال صاحب كليلة: «يحقون الباطل ويبطلون الحق، كالمصور الذي يصور في الحائط صورا كأنها خارجة وليست بخارجة، وأخرى كأنها داخلة وليست بداخلة.» فأين أنت من رجال إذا استلوا أقلامهم ثلوا العروش الراسية، وإذا أرسلوا بيانهم عطفوا القلوب القاسية، تجري على أسنة أقلامهم أرزاق البائسين، وتسبح في قطرات مدادهم آمال الراجين، تبتدر الأسماع ما يقولون، وتنهب الأبصار ما يكتبون، فما أنت يا ولدي في الرأس منهم ولا الذنب، ولا علمك من ذلك العلم، ولا أدبك من ذلك الأدب، ولكن تأنق الشيطان لك في تزيين الضلال، وألقى في أمنيتك أن تصبح من رجال هذا المجال، فساقك إلى نحسك ونكسك، ووجد له منك معينا على نفسك، فأخرجت للناس تلك الصحيفة، ثم جعلته لك فيها خليفة، فما فتئ يملي عليك وهو جاث بين كتفيك، حتى أصبحت أشد سوادا من صحيفة أبي لهب، وأظلم ممن افترى على الله الكذب، فأتعبت الكرام الكاتبين، وأحرجت الكتبة الراشدين، وشد منك إقبال العامة وسكوت الخاصة، وشاركك القارئ في آثامك، وافتتن المصري بكلامك. والمصري مفتون بحب الهزل والمجون، فهو أين حل، له ولي من الذل، وأين كان، له قسط من الهوان. قد سكنت في نفسه الهيبة، واقترنت بأعماله الخيبة. تلك التي استعاذ منها السليك العداء، حين دعا ربه بذلك
إني لو كنت ضعيفا لكنت عبدا، ولو كنت امرأة لكنت أمة. اللهم إني أعوذ بك من الخيبة. أما الهيبة فلا هيبة، وكذلك أنت قد خاب أملك، وخانك عملك، وتعذر عليك التماس الخلاص، وحق عليك بما قدمت يداك القصاص.»
ثم أمسك عن الكلام، فقال صاحبي: إني أتيت تائبا، وفي الحق راغبا، وما كنت لولا الحاجة بخابط في تلك الضلالة، لولا أنني رأيت القوم يركبون تلك الطريق، فركبت مركبهم، واقتفيت أثرهم، ولا علم لي بخشونته، فما زال يستتيهني فيه الشيطان حتى ضللت مع الذين ضلوا من قبل، وما أنا في ذلك بأول الخاطئين.
قال سطيح: أما اقتفاؤك آثار القوم، فأنت فيه الحقيق باللوم، فما الذي غبطت من حالهم حتى اقتديت بأعمالهم على الكدية والسؤال، وفيهما ذل الرجال، أم على السجن وفيه يقرع السن، أم هاجت حرصك تلك الإتاوة التي ضربوها على أهل الغباوة، فأصبحت حمدة
ناپیژندل شوی مخ
18
لمن أعطى وإن كان لئيما، لمزة
19
لمن منع وإن كان كريما. وأما اعتذارك بالحاجة والإملاق في الهبوط إلى تلك الأخلاق، فعذر يدفعه الواقع، ولا يستأذن له على المسامع. فكم في هذه العشرة الملايين من صاحب حاجة أو مسكين! فما لهم لم يشاركوك في أمرك، ولم يعتذروا للناس بعذرك. فإن قلت إنهم لا يحسنون التحبير، ولا يتقنون التحرير، فكلكم سواسية في البحر والقافية. ليس منكم رجل رشيد، ولا فيكم كاتب مجيد، ولكنهم علموا أقدارهم، فلم يتعدوا أطوارهم، وجهلت قدرك فتعديت طورك. وأما التوبة التي تزعم أنك تبتها، وبالندامة على ما فرط منك أتبعتها، فهي إن كانت نصوحا فقد بلغت بها ثمنا ربيحا، ولا تلبث أن تقفك على سبيل الكسب من الحلال، وتنحرف بك عن طريق الغي والضلال.
ثم انقطع الصوت فقلت: ألا يحدثنا ولي الله عن تلك الكلمة التي أخذها الناس على غير وجهها، فذهبت فيها الظنون مذاهبها، وركبت الأوهام مراكبها، ثم أسكنوها في غير معناها، وأرادوا منها غير ما أرادت منهم، فذلت بهم وذلوا بها، وكان ذلك علة هذه الفوضى التي تراها في الصحف، وذلك الفساد الذي سرى في الأخلاق، ولولاها لما هبط ذلك الواقف بجانبي إلى حاله تلك من سوء المنقلب وشر المصير.
قال: عن الحرية سألت، وعلى الخبير سقطت. اعلم يا ولدي أنها معنى الوجود، وملاك الحياة؛ ففي فقدها سجن النفوس، وعقال العقول، وقيد الأفكار، وما امتحنت أمة بمحنة هي أقتل لها من فقد الحرية وخمود الشعور، وإني أراكم على ما أنتم فيه من الضعف والتقاطع قد أمتعكم الله بحرية الحياة، فأمسيتم تتقلبون في نعمة لم تعرفوا لله حق الشكر عليها.
إذا ألف الشيء استهان به الفتى
ولم يره بؤسى تعد ولا نعمى
كإنفاقه من عمره ومساغه
من الريق عذبا لا يحس له طعما
ناپیژندل شوی مخ
ألا تنتشرون في الأرض فتنظروا حال غيركم من الأمم الإسلامية التي سلط الله عليها ما سلط عليكم. تالله إنكم لتجدونهم بحسرة النظر إلى ابتسامة من ثغر تلك العروس التي جلاها لكم الاحتلال فجهلتم قدرها، ولم تدفعوا مهرها، فلما علم منكم ذلك أقام لكم مكانها عروسا من الشمع يحاول إيهامكم بوجودها؛ كي تخدعوا بالنظر إليها كما خدعتم نيلكم من قبل بعرائس الطين بعد عرائس الحور العين.
فكان مثلكم في ذلك مثل السجين في مكان غاب سجانه وفتح بابه، فهو كلما هم بالانفلات من ذلك السجن نظر في رجله قيدا من الخوف، ولمح على الباب حارسا من الوهم. أف لكم! لقد من الله عليكم بقسم من الحرية لو قسم على المسلمين في الأرض لوسعهم، فخرجتم به عن أفق الحرية الشرعية، ولم تقفوا به عند حد الحرية الفلسفية، بل رسمتم للحرية تعريفا أنكره الشرع، وتسخطت له الفلسفة.
عرفها الأول فقال: إنها تكون في حفظ الدين والعرض والشرف والمال، وأوسعت الثانية دائرة ذلك التعريف فقالت: هي أن يكون المرء حرا في عمله ورأيه، على شريطة ألا يدعو ذلك إلى أذى غيره. فما أعجبكم الأول، ولا راقكم الثاني على ما فيه من التسامح، بل زعمتم أن تعريفها الشافي هو أن يعمل المرء ما شاء أن يعمل، ويرى من رأي ما شاء أن يرى، وأن سبيله في ذلك أن يطرد به جواد الإرادة المطلقة في ميدان الشهوات، لا يبالي داس به آداب ذلك المجتمع الإنساني أم تخطى أعناق الفضائل.
قلت: قد علمت أن الذي نحن فيه لم يكن من الحرية في شيء، فما رأي ولي الله في تلك الصحف التي باتت تنبح بغير فرقان على صاحب الدار والغريب، وتقرض بلا مبالاة عرض البعيد والقريب؟ أيرى في وجودها ضررا محضا أو منفعة خالصة؟ أم هي كالخمر في حاليها قد جمعت بين الإثم والمنافع؛ فوجودها بيننا ضار نافع؟
قال سطيح: لقد نظرت قبل اليوم في هذا السؤال ، وتبينت فيه الهدى من الضلال، فألفيت فيها شرا قائما، وخيرا جاثما، فرأيت أن أزن الاثنين، فلما حملتهما إلى الميزان ونظرت فيه بعين العرفان، شالت كفة النفع والخير، ورجحت كفة الشر والضير.
فقلت: زدني - بارك الله فيك - وأسمعني تأويل ذلك من فيك.
قال: اعلم أنه ما من شيء إلا وفيه منفعة ترجى، ومضرة تخشى. أما وجوه النفع في بقاء تلك الصحف فهي عديدة، إلا أنها لا تكاد تتجلى لغير علماء العمران، والباحثين في ترقية شئون بني الإنسان.
فمنها أن بقاء تلك الصحف على الحال التي هي عليها عنوان على وجود الحرية في البلاد التي تنشر فيها، فإذا قدم عليكم قادم وقرأ ما يكتب في تلك الصحف - كائنا ما كان - علم أنكم تتقلبون في نعيم الحرية، وإن جهلتم أنتم قدر هذه المزية.
ومنها أن فيما تكنيه مزدجرا للناس؛ فإنك لتجد من الموضوعات في تلك الصحف الصغيرة ما لا تجد بعضه في أمهات الصحف الكبيرة. هذه بما في نفسها تصرح، وتلك لا تكاد به تلمح. تكتب الأولى ما يقع للغني والفقير، وتسطر ما يحدث للكبير والصغير، وتأبى الثانية إلا أن تراعي المقام، وتحجم فيما يقع من الحوادث عن الكلام؛ إما لصلة تمنعها، أو لرهبة تقطعها.
ومنها انتشار اللغة في الجملة بانتشار تلك الصحف، فإنك لا تعدم أن تجد في صحائف الأسبوع أسلوبا رقيقا، ومعنى دقيقا يعز وجودهما في صحائف اليوم؛ لاشتغال أهلها بتسقط الأخبار، وضيق وقتهم عن التأنق في الأساليب، والتماس الشائق من التراكيب. أما أصحابنا فلهم من فسحة الوقت ما يكفي لانتقاء اللفظ، واختيار الموضوع، فإذا شاءوا المدح عرضوا ألفاظ اللغة، ونبشوا بطون الكتب، وقلبوا أحشاء القواميس، ثم استخرجوا من الألفاظ أحلاها وأطلاها، ومن المعاني أسماها وأغلاها، وصاغوا من كليهما مدحة تهز الممدوح هزا، وتبز المال منه بزا، وهم إذا خلوا إلى شياطينهم، وأرادوا القدح، فقل أعوذ برب الإنس والجان من شر ذلك اللسان.
ناپیژندل شوی مخ