عن غير قصد فلا تحمد ولا تلم
ثم التفت إلى صاحبي وقلت له: هذا أحد من طوحت بهم يد السياسة الإنجليزية إلى مهاوي البؤس والشقاء، فإن شئت أن يحدثنا فإن له حديثا يأكل الأحاديث، قال: ما أشوقني إلى سماعه. ثم انتحينا ناحية وجلسنا، وبدأ ذلك البائس يحدثنا:
اللهم إني أعوذ بك من ثلاث: الموت الأحمر، والرداء الأحمر، والكتاب الأحمر.
قال صاحبي: على رسلك، أما الموت الأحمر والرداء الأحمر فقد عرفناهما، وفهمنا مغزاهما، فما عسى أن يكون ذلك الكتاب الأحمر؟
قال: وضعه قائد الجيشين، ورافع العلمين، الحاكم بالإرادتين، ووكيل الدولتين، فاتح أم درمان، وحاكم السودان، وصاحب جزيرة أسوان، رافع إرم ذات العماد، وقرين فرعون ذي الأوتاد، واصل أعصاب الفيافي والقفار بأعصاب المدائن والأمصار، ساكن القصر ونابش القبر، ناسف القبة وسالب الجبة - وهو المهدي - رفات المهدي، والجاعل قبته مربطا للجياد، ومسجده ملعبا لحمر الأجناد، الناقل تلك الكنوز والدفائن إلى تلك المصارف والخزائن، المغربي الذي يستشف أحشاء الخبايا بسحر السياسة، وطلسم الفراسة، ويفك ما عليها من الأرصاد، بدماء أبناء البلاد، بعد تبخيرها ببخور التمويه، تحت ملاءة الترفع والتنزيه؛ ذلكم اللورد الكريم، مخض قانون دولته، ثم استخلص من زبدته ذلك الكتاب الأحمر، وأضاف عليه - حاسبه الله - ما أضاف، وهو اليوم تجري عليه الأحكام في الجيش، وإن لم يوقع عليه أمير، ويشعر به وزير. وللجيش قانون آخر قد اشتملت عليه صدور القوم لا تدركه أبصارنا، ولا تحيط به أوهامنا؛ نقشته يد السياسة على صفحات تلك الصدور، فلا يمسه إلا من مس تراب تلك الجزيرة جثمانه، ولا يراه إلا من رفعت يد الزلفى عنه الغطاء؛ ذلك قانون الإرادة.
فالويل لمن وقف وقفة المجرم أمام القانون الأحمر، والويل ثم الويل لمن وقفها أمام قانون الإرادة؛ ذلك الذي نفذت إرادته في أصحاب الثورة السودانية، وكاد يلحقهم - لولا دفاع الله - بإحدى الجزيرتين.
وعلى ذكر الثورة، سأتلو عليكما من حديث أصحابها؛ إنهم فتية ربهم أعلم بهم، غلبوا على أمرهم، وأخذوا بجريرة غيرهم، وإني أقص عليكما من أنباء الثورة، فقد حضرت أولها وعلمت بآخرها:
صدرت مشيئة القائم بالأمر في السودان بجمع ذخيرة البنادق من أيدي الجنود، فتساءل الناس عن هذا النبأ، ومشى بعضهم إلى بعض وقد أرجفوا يومئذ بسقوط الوزارة، وانحراف الأمير عن القوم، فكثر التأويل كما كثر القيل، فتنبأت طائفة أن سبب هذه المشيئة هو التحرز والتوقي من انتقاض الجيش، وقد نما خبر خذلانهم في أوليات الحرب الترنسفالية، وظنت طائفة أخرى أن سببها هو ذلك الفتور الذي زعموا أنه واقع بين الأمير والقوم، وقال ذوو الأسنان منهم: إنها محنة من محن السياسة يبلون بها طاعة الجيش.
وقال صاحب الأمر وقد أنهى إليه عيونه أمر تماوج الجيش: إنما نفعل ذلك صونا للذخيرة من الرطوبة، وحرصا عليها من الضياع. والمصري من الجنود كخرقاء أصابت صوفا لا يحسن القيام بحفظ ذخيرته. وقد علمتم حال الزنجي إذا ملكته سورة الغضب، فإنه حاضر الانتقام يغضبه أخوه لبادرة تبدو منه، فلا يرى أهون عليه من الفتك به، وما أردنا بهم إلا رشدا.
ولما كان الليل واجتمع أحداث الضباط في ناديهم، وأخذوا يتحدثون في أمر يومهم، قال قائل منهم: أليس من الخطل أن تبقى هكذا الجنود ونحن في بلد غير أمين، وهذه دماء أعدائنا لا تزال غريضة، وتلك أجسادهم تغدو عليها وتروح عنها جيوش العقبان والرخم، وقد أكل الحقد صدور أهل البقعة، وتغلغل الضغن في نفوسهم، وباتوا يرتقبون نهزة ينتهزونها، وما أحسبهم وقد علموا اليوم بحالنا إلا غادين على مبادئنا لعلهم يثأرون. وكان بقرب ذلك النادي رهط يسترقون السمع، ويتسقطون الخبر، وكانوا ممن بايعوا وشايعوا مع القوم، فهم يعبدون الرداء الأحمر، والفارس الأصفر، فلم يجدوا شيئا يلقون به صاحبهم هو أقرب زلفى من نقل ما سمعوه، فاستبقوا بابه، ورفعوا إليه الأمر على غير وجهه، فوقع كلامهم في نفسه، ووعدهم خيرا.
ناپیژندل شوی مخ