كلانا بها ذئب يحدث نفسه
بصاحبه والجد يتعسه الجد
فما ضركم لو تساندتم جميعا وأنتم لا تجاوزون منازل القمر عدا، فرفعتم من شأن هذه الدولة، وحركتم من الخامدين، وهززتم من الجامدين؟ فإني أراكم بين متفصح على أخيه، ومتنبل على قرينه، وليس هذا صنع من يريد ما تريدون تحاولون رد هذه الدولة إلى شبابها بعد أن خلا من سنها، ولو لم يتداركها الله بذلك الأفغاني لقضت نحبها، ولقيت ربها قبل أن يمتعها بكم، ويمتعكم بها.
أدركها الأفغاني ولم يبق فيها إلا الذماء، فنفخ فيها نفخة حركت من نفسها، وشدت من عزمها. أدركها وهي شمطاء قد نهض منها بياض المشيب في سواد الشباب، فشاب قرناها قبل أن تشيب ناصية القرن الخامس، فسودت يده البيضاء ما بيضت من شعرها سود الليالي، وتعهدتها همته بصنوف العلاج حتى استقامت قناتها، وبدا صلاحها. وقد كان الناس في هذا العهد يدينون باللفظ ويكفرون بالمعنى، فما زال بهم حتى أبصروا نور الهدى، وخرجوا بفضله من ظلمات القرون الوسطى.
وقام بعده نفر ممن تأدبوا عنه، فكانوا كالسيوف فرجت للرماح ضيق المسالك، فانفسح للمتأدبين المجال، وجال كل جولته، وتنبه الوجدان، وتيقظ الشعور، وتحرك الفكر حتى أفضى إلى حركة النفس، وظهر أثر جمال الدين في النفوس العالية، وأصبحت تبتدر كلامه الأسماع الواعية، فكان من ذلك أن انطوى أجل التقليد، وبعث الله على يديه ميت اللغة، وأحيا رفات الإنشاء. وغادر - رحمة الله عليه - مصر ولم يضع لنا كتابا نأخذ عنه، أو مؤلفا نغترف منه، ولكنه ترك لنا رءوسا تؤلف، وأفكارا تصنف، وكأنه أحس بذلك حين أحس بالموت، فكان يقول وهو يجود بنفسه: خرجنا منها ولم ندع لنا أثرا ظاهرا بين السطور، ولكننا لم نغادرها حتى نقشنا ذلك الأثر على صفحات الصدور، فإن لم ترثوا عنا في بطون الكتب، فقد ورثتم عنا في صدور الرجال، فإذا حثوتم التراب على رجل الأفغان، فعليكم برجل مصر.
خرج من الدنيا كما خرج سقراط؛ لم يغادر كلاهما مؤلفا، ولم يدع مصنفا، فلولا محمد عبده ما عرف رجل الأفغان، ولولا أفلاطون ما ذكر رأس فلاسفة اليونان.
ولما سكنت أنفاس الأفغاني بعد أن تجددت بذكره الأنفاس، خلفه حكيم الشرق في دولته، ووطن نفسه على المضي في طريقته، فأسمع الناس في الحق وأسمعوه، ولم يزل بهم حتى غلب حقه على باطلهم، ثم مضى لسبيله. رحمه الله.
تفتقت الأذهان وتطلعت العقول إلى البحث، وبرزت اللغة من خبائها تجر مطارف آدابها، وأطل علم الأدب من مناره مشرفا على النفوس، فأرسل نوره إلى الضمائر، ونفذت أشعته إلى السرائر، فنمى تحت نظره الشعور كما ينمي النبات جادته الشمس بالنظر، أو كسته أشعة القمر، فلطف من كثافة النفوس، وهذب من مرارة الأرواح، حتى شفت الأولى وعذبت الثانية، وبدأ دور هذه الحياة الجديدة بفضل الأدب وعلمه.
واعلم يا ولدي، أن عز الأمم موقوف على عز اللغات، وأن حياة اللغات مستمدة من حياة آدابها، فإذا ظهر علم الأدب في شعب كان ذلك آية لظهوره، وعلامة على استعداده، فهو الذي يهيئه لقبول أسباب الرقي والعمران، ويعده لمساغ أنواع العلاج، ويروضه على احتمال المصاعب في سبيل المعالي. ألا ترى أنه يخاطب الشعور، ويحادث الوجدان، فإذا خفق الأول خفقة حرك منه، وإذا أغفى الثاني إغفاءة شرد عنه؟ ألا ترى أنه إذا تيقظ الشعور أحس صاحبه بالحاجة إلى معرفة ما يحيط به، فهو يدفعه إلى البحث واكتشاف أسرار الكون، ويدعوه إلى معرفة ماهية العوالم؟ فلو أنك جئت برجل هامد الشعور، جامد الوجدان، وحاولت أن تقنعه أن الناس في حاجة إلى علم الكيمياء مثلا لما وراءه من المنافع، لنأى عنك بجانبه، ورأى أنك تحاول المستحيل، وتدعو إلى الباطل.
كل هذا الرجل برهة إلى علم الأدب حتى يتناول منه ما وراء الوجدان، ثم القه بعد ذلك، فتالله إنك لترى منه ما كنت تراه في نفسك، تراه مدفوعا بقوة الشعور إلى استنباط الوسائل، والاستعانة بالعلوم والفنون على دفع إغارة النقص الذي أصبح يحس به في نفسه وفي أمته.
ناپیژندل شوی مخ