إذا كانت ذنوبي الخصيصة بي هي الوحيدة في صحيفة هذا الوجود، فإن استغفاري وندمي وأسفي جديرة بأن تمحوها، ولكن لكل الناس ذنوبا كذنوبي، ولكل الورى حتى الحكماء منهم عيوب، وكثيرون لا يكلفون أنفسهم مشقة الندم والاستغفار، ويستكبرون أن يخضعوا أمام النظام القاهر، ويسيرون في طريق العصيان، فيهابهم الناس ويحابونهم، بل تحابيهم الطبيعة نفسها، وتمنحهم عطاياها، وتخلص لهم القلوب، فهل هذا هو العدل الطبيعي، أم هذا خداع تراه العين البشرية فتظنه حقا وهو خيال باطل؟ إذا كان هذا خيالا باطلا والطبيعة والإنسانية تحترمان الحب والإخلاص والحق، وإذا كان الله العظيم يعفو ويصفح فلماذا ليس لي في هذه الدنيا صديق؟
إذا كان العالم قائما على الخداع والغش والنفاق والاحتيال والقوة الغشومة، ولا يفوز في ميادينه الصعبة ولا يحمل تيجان الفخار فيه إلا الأنذال والأشرار الذين يتقنون صناعة الختل والظلم ويبقى المخلصون مهانين أذلاء معذبين فيه، فليقنع الأخيار بأنصبتهم! ولكنهم يقولون إن الباطل لا يدوم، وإن الظلم زائل، وإن الحق هو السيد السائد في نهاية الأمور. وأراني رغم ما أراه من حوادث الحياة المحيطة بي في كل صباح ومساء، في الشرق والغرب والشمال والجنوب؛ ميالا لهذا الاعتقاد، محبا لنصرة العدل والحق. فلماذا - يا إلهي - ليس لي في الدنيا صديق؟
أليس في هذه الأرض إنسان مثلي، عواطفه كعواطفي، وخلاله كخلالي، وضعفه كضعفي، ومعتقده كمعتقدي، فنأتلف ونتحد، وأعزيه ويعزيني، وأعيش على الغذاء الذي تقدمه نفسه لنفسي، ويعيش هو أيضا على الغذاء الذي تقدمه نفسي لنفسه؟ إذا كان في العالم هذا المخلوق فأين هو؟ وكيف أن الطبيعة العظيمة التي تزن الحوادث بمقدار معلوم وتدير حركات القضاء والقدر وتدهش العالم بالمخبئات الغريبة والاتفاقات العجيبة التي يسميها البشر بجهلهم وغباوتهم وعماهم عن النظام السائد «مصادفات»؛ كيف أن تلك الطبيعة لم تجمعني بعد بهذا الصديق؟ وإن لم يكن في الأرض مثل هذا المخلوق فلماذا لا تجود به العناية؟ لماذا تركت وحيدا فريدا باكيا منتحبا صارخا من أعماق نفسي: ليس لي في الدنيا صديق؟
إن البعض يرون في ذلك حكمة اخترعوها وتعليلا ابتدعوه، وهو أن النفوس لا تنضج إلا بالآلام والأحزان، وأن الطبيعة إذا اختارت بعض النفوس هيأت لها من أسباب الهموم لتنضجها؛ لذا كان سائر الفلاسفة والأنبياء وقادة الأمم والشعراء على نصيب وافر من العذاب الأليم؛ ولذا كانت تلك الآلام دليل السعادة العقلية. فهل هذا - يا أيتها الطبيعة - حق وصدق؟ وهل تلك النار المشتعلة في القلوب وتلك الآلام التي تلذع كأنياب الأفاعي ويشعر بها في الفؤاد كما يشعر الملسوع بالسموم تسري في بدنه، هل تلك الآلام هي نعمة في شكل نقمة، وسعادة في شكل شقاء؟ هل النفس الحزينة هي من تلك النفوس التي أرادتها الطبيعة لتكون شموعا تضيء للإنسانية وتحرق ذاتها؟ هل النفس المعذبة شعلة وهاجة تفنى لتنير للغير؟ هل هي ضحية من ضحايا الإنسانية التي تقاسي الآلام في الحياة لتمجد وتعبد بعد الموت؟
إذا كان هذا فلترض النفوس المعذبة بقسمتها، ولتقنع بنصيبها، ولا حاجة لها بعد اليوم إلى الشكوى والنجوى، ولن تسائل الآلهة بعد الساعة: لماذا ليس لنا في الدنيا صديق؟
ولكن وا حسرتي! وا ندمي! إذا كان هذا الحلم اللذيذ السعيد وتلك الفكرة التي ينادي بها الناس ليست إلا صورة في الخيال كالصور البديعة التي يمنى بها الأشقياء في هذه الحياة؛ لتخف عنهم آلامهم فيموتوا ويذهبوا صابرين كاظمين، وحقيقة الأمر أن نظام العالم اختار لهم الشقاء الأبدي، وليس لهم جزاء لا هنا ولا هناك!
وا حسرتي! إذا كانت تلك الأمنية العذبة هي كحقنة الأفيون تؤخذ لتسكين الآلام المتحركة، فإذا سكنت الآلام عادت إلينا الحقيقة سافرة هازئة بأمانينا وخيالاتنا.
إذا كانت هي الحقيقة المجردة وقضت علينا العناية التي تدبر الحياة البشرية والتي لا يعرف كنهها أن نبقى كذلك، وأن يتمتع سوانا حالما نقاسي نحن أهوال الآلام النفسية والبدنية؛ فهل لنا من خلاص؟ هل لنا من مبدأ جديد نضع أساسه يهيئ لنا أن نكسر بأيدينا الضعيفة تلك القيود التي قيدتنا بها الطبيعة، وأن نمحو آثار المظالم التي كتبها علينا أقوياء الأرض بلا ذنب ولا جريمة، هل لنا أن ننفخ في صور الحزن العام الذي تشترك فيها الإنسانية بأسرها؟
أم هذه أيضا هي خرافات نفس معذبة إذا عاد إليها هداها وملكت رشدها هدأ روعها وسكن اضطرابها واستسلمت لحكم القضاء الظالم وخضعت أمام تلك المغارم؟ وحينئذ ينبغي للمعذبين أن يقيموا على الضيم حاسري الرءوس خارين إلى الأذقان منتظرين فراغ الكأس التي قسم لنا أن نجرعها، صابرين إلى اللحظة الأخيرة التي نودع فيها هذه الحياة القاسية!
حينئذ ينبغي لنا أن نضع أيدينا وراء ظهورنا ليقيدها القضاء بقيوده، وليسوقنا القدر أمامه مطرقين كما كان الرومان يسوقون أسراهم ويدخلون بهم رومة ظافرين منتصرين.
ناپیژندل شوی مخ