إن أمما لا تحصى ولا تعد لا تزال بأسرها في أسرها. إن أجيالا من السنين مرت متواترة متعاقبة على العالم وهو يئن من ظلم الظالمين؛ فأهرقت الدماء، وأزهقت النفوس، وانتهكت الأعراض، وأهينت الحقوق، فأين كان العدل الذي تدعون؟
تقولون إن ذنوب القرون الأولى انتقم لها في القرون الوسطى، وذنوب القرون الوسطى انتقم لها في العصر الحاضر. قد يكون هذا، ولكن لقد جاء العدل متأخرا. وماذا يعود على المريض إذا أسعفه الطبيب بالعلاج وهو دفين؟!
بل ماذا عاد على المسيح من العدل بعد أن صلبوه؟ وماذا استفاد جاليليه بعد أن قذفوا به من حالق؟ وميشيل سرفيه بعد أن أحرقوه؟
الناس ألهوا الأول وعبدوه، ومجدوا ذكر الثاني وعظموه، وأقاموا للثالث تمثالا؛ نكاية فيمن ظلموه، ولكن ألم يقل المسيح وهو يحتضر: يا إلهي لماذا تركتني؟ ألم يدق عنق جاليليه وهو مكتشف دورة الأرض؟ ألم يحرق سرفيه حيا، وهو أول قائل بدورة الدم؟ ماذا أفادت الأول عبادة الناس له، والثاني تبجيلهم ذكره، والثالث إقامة التماثيل؟
إن هذه الجرائم تكرر في كل عشية وأصيل، وكل جيل حافل بذكر فظائعه ومظالمه، فلو قلنا إن العدل جاء متأخرا في بعض الحوادث، فلماذا يجيء متأخرا فيما يتلوها؟ لماذا أحرقت جان دارك؟ ولماذا ذبح دافل؟ ولماذا عذب أيوب؟
إن الناس ينقمون من محاكم الأرض البطيئة، أخطئوا، فلينقموا على محكمة أخرى؛ فإنها أبطأ المحاكم!
النشيد السادس: الحقيقة
ليس في الدنيا صديق!
ليس في الدنيا بأسرها صديق واحد يمكنني أن أجلس إليه وأفتح له خزائن قلبي، وأمنح فؤادي الحزين أمامه الحرية المطلقة ثم أبكي وأبكي وأبكي حتى تعود دموعي قطرات من الدم القاني فأسمع منه كلمات الأسى والحزن والإشفاق، وترفع نفسه النقاب عن الإخلاص لي فيهدأ بال نفسي الشقية. لم أكن خيرا في هذه الدنيا كما تطلب منا الأديان والآداب الموضوعة، وكما توحي إلينا روح الخير التي ترفرف على العالم بجانب روح الشر الفظيعة. إن في عيوبا كثيرة، وفي أخلاقي نقائص ومساوئ كغيري من البشر، ولكنني - وا أسفاه! - عاجز عن الخلاص منها دفعة واحدة، وإن قدرت على بعضها فإنني آتي عليه بالصبر والجهاد والثبات، وأفرغ جهدي في الخلاص من البعض الآخر، ولكنني واثق من أنني لا أزال بعيدا عن أول مرتبة من مراتب الكمال، على أنني مع هذا لم أمسس أخا لي في الإنسانية بشر، وليس في قلبي الحزين مكان للحقد والغيظ، وإن كان هذا القلب يعرفهما فهو لا يعرف إلا حقدا وغيظا وهميين لا يسكنانه إلا ليفارقاه في لمحة من الزمان، وإن ملكت الشر لخصم فهيهات أن أنتقم لنفسي منه، ولم ينل عدوا من أعدائي خير إلا سرني، فلماذا يا إلهي؟ إن كنت تسمع صوتي، لماذا ليس لي في الدنيا صديق؟
إنني أتحاشي الذنوب لا احتفاظا بوداد الناس ؛ إنما لأنني لا أريد أن أكون مذنبا أمام نفسي، وإذا اقترفت ذنبا فليس هذا في طاقتي منعه ولا بد أن يكون من الذنوب القهرية التي هي أقوى مني وأشد من طبيعتي، ثم إنني إذا اقترفت ذنبا لا أدخر وسعا في الاستغفار منه والتوبة عنه والحزن الشديد عليه حتى أمحوه بدموع قلبي. ليس يشغلني أيعرف الناس هذا أم لا يعرفونه، فلماذا - يا إلهي - ليس لي في الدنيا صديق؟
ناپیژندل شوی مخ