إذن لا سر هناك ولا ستار، إنما هناك مبصر وضرير، أما الحكمة الكبرى فلم تتغير ولن تتغير، وما رآه سقراط وباح به لتلاميذه واستهان الموت لأجله ما أراه الآن أمام عيني وأكاد أمسكه بيدي. يا معابد مصر الجليلة، احتفظي بأسرارك المكنونة، ويا كهنة لاهاسا، لا تبوحوا بالخفايا المكتومة؛ فلست في حاجة إليها. إن قلبي صار معبدا، ونفسي صارت هيكلا، وعيني اخترقت حجب الوجود.
نظرت إلى طبائع الأشياء فدعتني إلى الإمعان والتأمل. ملأت المطامع نفسي فدعتني إلى العمل، أحببت قومي وأرضي فعلمني الحب الإخلاص، عشقت الرجال والنساء فشقيت في العشق تارة وسعدت أخرى، أبغضت أعدائي واحتقرت حسادي وأضدادي فامتلأ صدري بالعواطف المتضاربة، تمنيت ونلت بعض الأماني وخسرت معظمها، فعرفت كيف تكون لذة الفوز وكيف تكون حسرة الفشل، فارقني أعزتي فراقا أبديا فبكيتهم وبكيتهم، ووقفت على قبورهم حاسر الرأس خاشعا، وسجدت حيال أجسادهم البالية كما سجدت في صباي حيال المسجد الحرام. قاسيت مرارا آلام الجوع والتعب، وشعرت تكرارا بوخزات الحاجة، وكذلك أحسنت إلي الطبيعة حينا فلم تحرمني ما كنت أشتهي إلا قليلا، اتخذت من الناس رفاقا، وأخلصت لهم فلم يخلصوا لي، أحببتهم وأبغضوني، كنت أرجو الخير لهم، وهم يحسدونني، رأيت لي في كل مكان عدوا، وأنا أريد أن أكون صديقا للجميع.
كل تلك الحوادث الصغيرة في ذاتها الكبيرة إذا اجتمعت علمتني معنى الحياة، وكشفت لي الستار عن معظم الأسرار، إن ذنوبي هذبتني وذنوب غيري أرشدتني، تاريخ الأمم رسم لي الخطة الكبرى، وتاريخي أضاء لي السبيل، لم أضف إلى قهقهة الضاحكين إلا ابتسامة فاترة، ولكنني أضفت إلى المحيط الفائض بدموع البشر نهرا غزيرا، وكل دمعة لها عندي قصة، كل دمعة من دموعي ليست إلا ذنبا متبلورا أو عاطفة سائلة في ذمة المحيط العظيم الذي تتدفق فيه هموم الإنسانية؛ تلك الدموع الغالية، إن كان هناك عالم للأرواح فذلك المحيط محلق به؛ لأن النفوس لا تطيق الانفصال عن أحزانها. أحزان نفسي ثيابها، وهمومها طعامها وشرابها.
سأترك سطرا لأبناء القرون القادمة كما ترك لنا مفكرو العصور الخالية أسطرا، إن أبناء كل جيل لا يحبون مفكريه ولا يتعظون بقولهم ولا يريدون سماع صوتهم؛ لأنهم منهم ومثلهم، لأن حياتهم أمامهم، لأنهم يعرفون أشخاصهم، لأن بصرهم وقع عليهم؛ والإنسان قليل الثقة فيمن يعاصره. كل ما يدني الفتى من القبر يدنيه من المجد الحقيقي؛ لأن الموت وحده قادر على أن يزيل ما يحيط بنا من التهم، هو ترياق السموم كلها، هو مطهر الإنسان من عيوب الحياة الفانية.
كان لبعض الناس دين ثم ذهب، وكانت لهم عقيدة، ولكنها ولت، فجاءهم دين جديد، وألبستهم عقيدتهم جديدة حلتها، هذا القول كاف ولا أزيد، ليسوا يخشون أن يعذبهم رجال الدين؛ لأن أقل حسنات هذا الزمان حرية الأديان، وليسوا يخشون أن يبتعد عنهم الناس؛ لأن معظم الناس جبناء ويخافون من يقول الحق جهارا، ثم إذا قاطعوهم فمن هم الناس حتى تحزنهم قطيعتهم؟ أليسوا تلك الموجودات الضعيفة التي يشتريها معدن دنيء يسمى جهلا منها نفيسا؟ أليسوا هم آكلو لحم بعضهم بعضا؟ أليسوا هم الجناة على نفوسهم ثم البارئون من ذنوبهم إلى أرباب لا يعلمونها ولا يشعرون بوجودها؟ أليسوا هم ذلك القطيع الأبله الذي يأبى أن يسير بلا من يسوقه بعصاه، ثم إذا داهمهم الذئب سلموا إليه حارسهم ليفترسه؟ بخ بخ أيتها الإنسانية الآكلة المأكولة! بخ بخ أيتها الأنعام الظالمة المظلومة! إنك لا تستحقين عناية عقل كبير، ولست خليقة بإحسان نفس كريمة.
لماذا طرد فرعون بني إسرائيل من مصر ثم تبعهم بجنوده؟ لماذا سخر بنو إسرائيل من عيسى ثم صلبوه؟ لماذا حاربت قريش محمدا ووصمته بالجنون ورشقه فتيانها بالحجارة؟ لماذا انتقم نيرون من أتباع المسيح بتعذيبهم وإحراقهم وإطعام الوحوش أجسادهم؟ لماذا ذبح الكاثوليك إخوانهم المحتجين كما تذبح الشاه؟ لماذا أحرق كالفان الأستاذ سرفيه، وكفرت الكنيسة جاليليه؟ ولماذا أمر أحد خلفاء الأندلس السوقة أن تبصق في وجه ابن رشد، وأمر سواه بإحراق شعر المعري؟ لماذا وقع جمال الدين أسيرا في الأستانة وبقي فيها حتى قتلوه؟ لماذا قضى أعداء إميل زولا عليه في بيته وهو في جنب زوجته؟
لأن موسى وعيسى ومحمدا وبولس ولوثيروس وسيرفيه وجاليليه وابن رشد والمعري وجمال الدين وإميل زولا؛ كلهم فقهوا ما لم يفقه معاصروهم، وفطنوا إلى كلمة لم يفطن إليها سواهم، وقالوا بما لم يقل به أحد قبلهم.
إذن هي غيرة الإنسان من الإنسان، هذه آثار حسد الجاهل لمن عرف، حسد الضعيف القوي.
حقد الضرير على المبصر، لا أكثر ولا أقل! وقديما كان في الناس الحقد والحسد.
مسكينة أيتها الإنسانية!
ناپیژندل شوی مخ