عندئذ سيجيبني قائلا: إذا فخلاصة حكمتك هي أن العاج والذهب يخلعان على الأشياء جمالا على شرط أن يجيئا ملائمين، أما إذا أضفت إلى الشيء عاجا أو ذهبا في غير ملاءمة فسيكون الشيء قبيحا برغم ما أضيف إليه من عاج أو ذهب؟» ... إلخ.
وأحسب القارئ على أتم اتفاق مع هذه النتيجة التي انتهى إليها سقراط في هذا الجزء من محاورته مع زميله هبياس عن معنى الجمال؛ إنه الملاءمة والتناسب، مهما تكن المادة التي بين يديك، فالذهب في الموضع الخطأ قبيح، والحجر في الموضع الصواب جميل.
ليس الجميل جميلا ولا القبيح قبيحا في ذاته بغض النظر عما يحيط به من ظروف وملابسات، فالشيء الواحد يكون جميلا هنا قبيحا هناك؛ لأنه هنا متفق متسق مع محيطه، وهو هناك متنافر نشاز، وكثيرا ما يعاد تنظيم الأجزاء مع بقائها على عددها بغير حذف أو إضافة، فتصبح جميلة بعد قبح، أو قبيحة بعد جمال.
وما جمال الشعر أو النثر الفني؟ إن هذا أو ذاك قوامه ألفاظ من القاموس، لكنه الوضع الصحيح للفظة بالنسبة إلى ما يجاورها هو سر الجمال عبارة وتعبيرا ، والمشاعر نفسها قد تجمل أو تقبح بائتلافها أو اختلافها مع المحيط، فالضاحك في مأتم قبيح كالباكي في عرس سواء بسواء، وهذا هو نفسه معنى النشاز في أنغام الموسيقى، فالنغمة نشاز مرذول بالنسبة لما حولها من نغمات، وربما كانت هي نفسها نغمة جميلة في موضعها المناسب، والقذارة مادة كأية مادة أخرى، لكنها وضعت في غير موضعها الصحيح فأصبحت «قذارة» تشمئز منها النفوس، وهكذا وهكذا من الأمثلة التي لا تنتهي، مما يقطع بصواب هذه النتيجة من معنى الجمال، وهي أن الشيء يستحيل الحكم عليه في ذاته بجمال أو بقبح مجردا عن موضعه بالنسبة إلى سائر الأشياء.
وبديهي أن هذه الحقيقة الواضحة تظل حقيقة في صغار الأمور وكبارها على السواء، فليست الأنظمة السياسية والاجتماعية بالشيء الذي يوصف بالجمال أو بالقبح، أو يوصف بالصواب أو بالخطأ، مجردا عن الظروف التي يراد لتلك الأنظمة أن توضع في وسطها، فإذا كان من الحكمة أن تعامل الطفل على أنه طفل وهو طفل، فمن الحكمة كذلك أن تعامل الجاهل على أنه جاهل وهو جاهل، أما إذا طالبت الطفل أن يسلك سلوك الرجال، أو توقعت من الجاهل أن يتصرف تصرف العلماء، فأنت متطلب من الأشياء ضد طباعها، وموقفك في كلتا الحالين خطأ قبيح.
إنني حتى هذه الساعة من حياتي ما أزال أعاني كلما عاودتني ذكرى طفولتي حين كنت أتصرف كما يتصرف الأطفال بحكم طبائعهم المفطورة فيهم، فإذا بالصفعات تأتيني من حيث أدري ولا أدري، ذلك أن والدي رحمه الله كان يريدني رجلا في سلوكي وأنا بعد في الخامسة من عمري أو نحوها، كان يعطيني المال ويطلب مني أن أشتري له كذا بكذا وأعيد له بقية ماله، وكثيرا ما كنت أخطئ في وصف ما حدث فينزل بي العقاب السريع، على الرغم من أني كنت أعود له ببقية ماله صحيحة كاملة. لا، إنه لم يكفه مني أن أذهب إلى الدكان كالآلة الصماء فأشتري كذا وأعود له بكذا، بل لا بد لي أن أبين له لماذا كان الحساب على نحو ما كان ، ولم يكن ذلك الحساب في مقدوري عندئذ، وإذا فما أقبح - في رأيه - ألا أكون مثله في سرعة الحساب ودقته، وهيهات له أن يقتنع بأقوال الوسطاء، بأن الطفل لا يطلب إليه ما يطلب إلى الرجل.
ولست أدري لماذا أحكم على أبي الآن بالخطأ، ولا أحكم بهذا الخطأ نفسه على دولة تتولى أمور أمة في دور الطفولة، وتصر على أن تضع لها من الأنظمة السياسية والاجتماعية ما لا يتسق إلا في أمة اكتمل نموها ونضجها، فتكون النتيجة المحتومة أن تعجز الأمة الطفلة عن هضم الغذاء لأنه أكثر دسما مما تحتمله معدتها، وينتهي بها الأمر إلى حال من الذبول والموت، وقد أراد لها ولاتها الحياة والنمو، أرادوا لها ذلك بنية حسنة طيبة، لكن الطريق إلى الجحيم قد يكون مرصوفا بأطيب النيات. •••
لكننا أمة دستورها في الجمال هو طلاء الشيء بالذهب، فحسب العين أن تقع من الشيء على ظاهر لامع يخطف البصر ببريقه، وليكن بعد ذلك من حقيقة الباطن ما يكون، فما نزال نهتدي في كل أمورنا بالقول السائر بأن «الجرن الكبير خير من شماتة الأعداء» - وليس يهمنا بعد ذلك في كثير أو قليل أن يكون ذلك الجرن الكبير مليئا بالغلال أو خاويا ينعى من بناه.
الأفراد! الأفراد!
إذا جعلت قصة «الوعاء المرمري» لأستاذنا الأديب الفاضل محمد فريد أبو حديد، موضوع حديثي إلى القراء فلأنها قصة قد أثارت في نفسي كثيرا جدا من مشكلاتنا الاجتماعية والأدبية على السواء.
ناپیژندل شوی مخ