(1) ماهية الضمير
يلاحظ الإنسان أن في أعماق نفسه قوة تحذره فعل الشر إذا أغرى به، وتحاول أن تمنعه من فعله، فإذا هو أصر على عمله أحس بانقباض نفسه أثناء العمل لعصيانه تلك القوة، حتى إذا أتم العمل أخذت هذه القوة توبخه على الإتيان به، وبدأ يندم على ما فعل، كالطالب يحاول الغش في الإمتحان فيحس صوتا باطنيا يناديه ألا يفعل، فإذا لم يسمع لهذا الصوت وبدأ يغش أحس أن هذه القوة تثبطه، فإذا استمر في عمله أنبته وندم وعزم ألا يعود.
كذلك يحس أن هذه القوة تأمره بفعل الواجب، فإذا بدأ في عمله شجعته على الإستمرار فيه، فإذا انتهى منه شعر بارتياح وسرور، وبرفعة نفسه وعظمتها، كالطالب يرى آخر مشرفا على الغرق فينقذه، فحين إنقاذه يشعر بتشجيع نفسه على المضي في عمله فإذا أتم ذلك شعر بغبطة وسعادة.
هذه القوة الآمرة الناهية تسمى «الضمير»، وهى - كما رأيت - تسبق العمل وتقارنه وتلحقه، فتسبقه بالإرشاد إلى عمل الواجب، والنهي عن الرذيلة، وتقارنه بالتشجيع على الخير، والتثبيط عن الشر، وتلحقه بالإرتياح والسرور عند الطاعة والشعور بالألم والوخز عند العصيان.
هذا الضمير نشعر به كأنه صوت ينبعث من أعماق صدورنا يأمرنا بالخير وينهانا عن الشر ولو لم نرج مكافأة أو نخش عقوبة، نرى البائس الفقير يجد مالا أو متاعا وهو أشد ما يكون حاجة إلى مثله، ولم يكن رآه أحد إلا ربه، ثم هو يتعفف عنه ويؤديه إلى صاحبه، فما الذي حمله على ذلك! لا شىء إلا الضمير يأمر صاحبه بعمل الواجب لا لمثوبة ولا عقوبة إلا مثوبة نفسه بارتياحها، وعقوبة نفسه بالندم والتأنيب.
وهذا الضمير طبيعي حتى في الحيوانات الراقية، فنرى الكلب مثلا عنده نوع إدراك طبيعي للواجب، ويرقى هذا الإدراك بمخالطته للإنسان، حتى نراه أحيانا يفعل في الخفاء جرما كأن يسرق شيئا من سيده، أو يخالفه في أمر أمره به، فيظهر على الكلب حينئذ نوع من الإضطراب والقلق يعد جرثومه للضمير.
ونلاحظ كذلك جرثومة الضمير في الطفل الصغير، يعلوه الخجل أحيانا لخطأ ارتكبه فتتبينه في نظرته، ويدلنا اضطرابه وقلقه على أنه ارتكب خطأ - وينمو هذا الشعور بنمو الإنسان حتى يصل به إلى حد أن يملأه الفرح والغبطة إذا هو أدى الواجب، ويذوب أسفا وندما إذا عصى أمر الضمير، وهذا الشعور تجده يتبع حالة الإنسان، فهو في حالة سذاجه عند المتوحش، كشأنه في حديثه وعرفه وحالته الإجتماعية، فإذا رقى الإنسان رقى ضميره، حتى قد يدفعه إلى بذل نفسه دفاعا عن رأيه أو في سبيل إصلاح قومه. (2) اختلاف الضمير
ليس الضمير هاديا معصوما يأمر بالخير دائما، وينهى عن الشر دائما، ولا هو يأمر الأفراد في الأمم المختلفة أوامر واحدة متساوية في القوة، فإنا نرى أن الأمة التي تقدر النظام في الحياة تقديرا كبيرا يكون أبناؤها أشد إحساسا به، وضمائرهم أقوى في المطالبة باتباعه، وعلى العكس من ذلك الأمة التي لا تؤمن بفضيلة النظام هذا الإيمان.
وأفراد الأمة التي لا تسترذل الكسل لدرجة كبيرة لا يؤنبهم ضميرهم تأنيبا شديدا إذا استسلموا للكسل.
بل الأمة الواحدة يختلف ما يأمر به ضميرها باختلاف العصور، فقد رأينا مثلا منذ سنين قلائل أن كثيرا من المصريين كانوا يوسعون مجال الخلف بين المسلمين والأقباط، وتستحثهم ضمائرهم على الدعوة إلى ذلك، ويرتاح كل فريق بما يلقي من الخطب، ويكتب من المقالات، في تأييد فريقه والطعن على الفريق الآخر، واليوم نرى أن هذه الدعوة من أكبر الجرائم وأعظم الشرور، ولا تطاوعنا ضمائرنا إذا أردنا أن نمس هذه الوحدة بسوء.
ناپیژندل شوی مخ