مقدمة
1 - علم الأخلاق
2 - الضمير
3 - الحكم الأخلاقي
4 - مذاهب علم الأخلاق ونظرياته
5 - الخير والشر
6 - علاقة الفرد بالمجتمع
7 - الحقوق والواجبات
8 - معنى الواجب وأهم الواجبات
9 - المثل الأعلى
ناپیژندل شوی مخ
10 - الفضيلة
مقدمة
1 - علم الأخلاق
2 - الضمير
3 - الحكم الأخلاقي
4 - مذاهب علم الأخلاق ونظرياته
5 - الخير والشر
6 - علاقة الفرد بالمجتمع
7 - الحقوق والواجبات
8 - معنى الواجب وأهم الواجبات
ناپیژندل شوی مخ
9 - المثل الأعلى
10 - الفضيلة
كتاب الأخلاق
كتاب الأخلاق
تأليف
أحمد أمين
مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
الغرض من هذا الكتاب أن يكون مرشدا للطلبة في حياتهم الأخلاقية، يلفتهم إلى نفوسهم، ويبين لهم أهم نظريات الأخلاق، ويوسع نظرهم فيما يعرض عليهم من الأعمال اليومية، ويشحذ إرادتهم لتأدية الواجب وإكتساب الفضيلة.
ناپیژندل شوی مخ
راعيت فيه الجهة العملية أكثر مما راعيت الجهة النظرية، لأن التعمق في النظريات حظ الفلاسفة، والعمل وفق ما تتطلبه الأخلاق واجب الناس جميعا؛ والحياة الأخلاقية تعتمد على الروح الذي يبعث على العمل أكثر مما تعتمد على قواعد العلم.
وقد كنت ألفت كتابا في الأخلاق نشر مرات، فلما وضعت الوزارة برنامجها الجديد للأخلاق في المدارس الثانوية عمدت إلى كتابي هذا فصغته صياغة جديدة - بسطت موضوعاته حتى تناسب الطلبة في دورهم هذا، وحذفت منه ما زاد عن حاجتهم، وزدت فيه فصولا لم تكن من قبل.
والله المسئول أن ينفع به كما نفع بأصله،
أحمد أمين
سبتمبر سنة 1929
الفصل الأول
علم الأخلاق
(1) ماهية علم الأخلاق ومسائله
كلنا يحكم على بعض الأعمال بأنها خير، وعلى بعضها بأنها شر، فنقول: العدل خير، والظلم شر، وأداء الدين إلى صاحبه خير، وإنكار المدين ما عليه شر، وهذا الحكم متداول بين الناس رفيعهم ووضيعهم، عالمهم وجاهلهم، على لسان الفيلسوف في بحثه عن أعمال الإنسان، وعلى ألسنة الصناع في صناعتهم، بل والأطفال في ألعابهم، فما معنى الخير والشر؟ وبأي مقياس أقيس العمل فأحكم عليه بأنه خير أو شر؟
كذلك نرى الناس يعملون أعمالا لغاية يطلبون تحقيقها، والناس يختلفون إختلافا كبيرا في هذه الغايات التي ينشدونها، فبعضهم يطلب المال، وآخر يطلب الجاه، وآخر يطلب العلم وفريق يزهد في كل ذلك ويطلب رضا الله بالعمل الصالح، ويأمل النعيم المقيم في الدار الآخرة، ولكن كثير من هذه الغايات التي يطلبونها ليست هي الغاية الأخيرة، فلو سألت إنسانا لم يعمل هذا العمل؟ لقال: إنه يعمله طلبا للمال، ولو سألته لم يطلب المال؟ لقال: إنه يطلبه ليبني قصرا ويكون أسرة، ولو سايرته في آماله وسألته لم يريد القصر والأسرة؟ لقال: إنه يرغب أن يكون في الحياة سعيدا - إذن - المال والقصر والأسرة ليست غايات أخيرة، إنما الغاية الأخيرة له أن يكون سعيدا - فهل للناس جميعا غاية أخيرة واحدة يطلبونها أو بعبارة أخرى ينبغي أن يطلبوها؟ وما هي؟
ناپیژندل شوی مخ
عن كل هذا يبحث علم الأخلاق.
فهو علم يوضح معنى الخير والشر، ويبين ما ينبغي أن تكون عليه معاملة الناس بعضهم بعضا، ويشرح الغاية التي ينبغي أن يقصدها الناس في أعمالهم، وينير السبيل لعمل ما ينبغي. (2) موضوعه ومسائله والأعمال الإرادية وغير الإرادية
يؤخذ مما ذكرنا أن علم الأخلاق يبحث عن أعمال الناس فيحكم عليها بالخير أو الشر، ولكن ليست كل الأعمال صالحة لأن يحكم عليها هذا الحكم، فكثير من الأعمال لا يصح أن يقال: إنها خير ولا شر، ولبيان ذلك نقول: تصدر من الإنسان أعمال غير إرادية كالتنفس ونبض القلب ورمش العين عند الإنتقال فجأة من ظلمة إلى نور، فهذه الأعمال تسمى (أعمالا غير إرادية)، وهي ليست من موضوع علم الأخلاق، فلا نحكم عليها بخير ولا شر، ولا يقال: إن الإنسان خير لأن قلبه ينبض نبضا حسنا، أو معدته تهضم هضما جيدا، كما لا يقال: إنه شرير لأن قلبه لا ينبض كما ينبغي، ومعدته لا تهضم هضما حسنا، لأنه لا دخل لإرادة الإنسان في ذلك، وكل إنسان يريد أن ينبض قلبه وتهضم معدته على أحسن وجه ولكن إرادته لا أثر لها في ذلك.
وتصدر من الإنسان أعمال بعد التفكير في نتائجها وإرادة عملها، كمن يرى أن بناء مستشفى في بلده ينفع قومه ويخفف مصائبهم فيتبرع بالمال لبنائه وإدارته، وكمن يقدم على قتل عدوه فيفكر في وسائل ذلك ثم ينفذ ما عزم عليه، فهذه الأعمال تسمى «أعمالإ إرادية» وهي موضوع علم الأخلاق، فيحكم عليها بأنها خير أو شر، وعلى فاعلها بأنه خير أو شرير.
وهناك نوع من الأعمال بين الاثنين، فله شبه بالأعمال الإرادية وله شبه بالأعمال غير الإرادية، فهل هو من موضوع علم الأخلاق؟ كما في الأمثلة الآتية: (1)
من الناس من يأتي أعمالإ وهو نائم، فلو أن أحدهم أشعل نارا بمنزله وهو في هذه الحالة، أو أطفأ نارا كادت تحرق المنزل، فهل هذا عمل إرادي يحكم عليه بأنه خير في الحالة الأولى وشر في الثانية؟ (2)
قد يصاب إنسان بداء النسيان فيترك عملا كان يجب عليه عمله في وقته، أو يخلف موعدا وعده. (3)
قد يستغرق الفكر عمل، كمن يشتغل بحل مسألة هندسية، أو يقرأ في رواية لذيذة، فيلهيه ذلك عن درس واجب أو عمل مفروض.
هذه الأعمال كلها - بالتأمل فيها - نرى أنها أعمال غير إرادية، فليس النائم في المثال الأول قد تعمد إحراق المنزل وقدر نتائجه، لذلك لا يحكم على عمله هذا بأنه خير أو شر، لأنه لا إرادة له، ولا يسأل عنه، وإنما يسأل عنه ويحاسب عليه إذا كان يعلم أنه مصاب بهذا المرض وأنه يأتي أعمالا خطرة وهو نائم، ثم لم يحتط وقت صحوه وانتباهه لما قد يحصل عند نومه، بأن يحول بين نفسه والنار وأدواتها، فهو مسئول خلقيا عن عدم الإحتياط وقت الإنتباه، لأنه شيء إرادي، كان في مكنته أن يحتاط له ثم لم يفعل، وكذلك الشأن في الأمثلة التي ذكرناها ونحوها، فلو أنك نمت وتركت النار مشتعلة في موقد ثم طارت شرارة أحرقت المنزل لا يسمع لقولك: «إن هذه ليست خطيئتي ولست قادرا أن أمنع النار أن ترمي بالشرر وأنا نائم» إذ يقال لك: «إنك عالم أن ستنام، وقد أردت النوم، وعالم أن النار مشتعلة، وكان في إمكانك أن تحتاط وقت انتباهك باطفائها، وعالم أنك ستكون في حالة عدم شعور، فكان ينبغي أن تستعد وقت شعورك لما قد يطرأ وقت عدم شعورك، وذلك باطفاء النار ، فنحن إنما نحكم عليك بالخطأ والصواب بالنظر إلى عدم الإحتياط، وهو شىء إرادي».
ومثل ذلك الإتيان بعمل مع الإعتذار بجهل النتائج التي تصدر عنه - وكمن كان يعلم من نفسه أنه حاد الطبع غضوب، لا يضبط نفسه عند سماع كلمة تؤلمه، فيسب أو يضرب من غير شعور، فلو أنه غشى الجمعيات التي هي مظنة لإثارة غضبه وأتى بما يستنكر كان مسئولا عن عمله، - لما ذكرناه - وكذلك الأعمال التي أعتيدت حتى صار صاحبها يأتيها من غير إرادة، فإنه يسأل عنها، لأن الإعتياد نتيجة عمل إرادي متكرر، فلا يعذر طالب بأنه إنما يدخن لأن التدخين أصبح عادة متمكنة منه، لأنه - على فرض تمكنه كما يدعي - إنما إنغمس في هذه العادة بعد أن دخن جملة مرات وهو حر مختار مريد حتى صارت عادة، وهكذا.
ناپیژندل شوی مخ
والخلاصة:
أن موضوع علم الأخلاق هي الأعمال التي صدرت من العامل عن عمد وإختيار، يعلم صاحبها وقت عملها ماذا يعمل، وكذلك الأعمال التي صدرت لا عن إرادة ولكن كان يمكن تجنب وقوعها عندما كان مريدا مختارا، فهذان النوعان يحكم عليهما بالخير أو الشر - وأما ما يصدر لا عن إرادة وشعور، ولا يمكن تجنبه في حالة الإختيار، فليس من موضوع علم الأخلاق. (3) التبعة الأخلاقية (المسئولية الأخلاقية)
مما تقدم نفهم أن التبعة لا تكون إلا إذا وجدت الإرادة، فما لا دخل لإرادة الإنسان فيه لا يسأل عنه، ولا يلام عليه، ولا يمدح أو يذم من أجله، فلا يمدح الشخص لطوله، ولا يذم لقصره، من الناحية الأخلاقية، ولا يقال: إنه خير لأنه جميل الوجه ولا شرير لأنه قبيحه، لأن هذه الأشياء وأشباهها لا عمل لإرادة الإنسان فيها. وليس يلام الإنسان على سوء صحته، ولا يمدح على حسنها إلا بمقدار ماله من أعمال إرادية في ذلك، كسيره في حياته في نظام صحي أو إهماله ذلك.
كذلك لا يسأل الإنسان عما لم يمنح من ملكات عقلية أو فنيه، فالناس لم يخلقوا جميعا وعندهم استعداد بقدر واحد للرياضة أو للفنون الجميلة، فمن لم يخلق رياضيا لا يكون مسئولا عن ضعفه الرياضي، إنما يكون مسئولا إذا كان عنده الإستعداد الكافي وكان ينقصه المران والجد ثم لم يمرن ولم يجد وهكذا.
والطفل الرضيع إذا بكى وأسهر أمه طول الليل لا يسأل عن عمله لأنه لا إرادة له، والصيدلي إذا أخطأ فأعطى الممرضة دواء غير المكتوب في تذكرة الطبيب فناولته الممرضة للمريض وهي جاهله به فمات منه كان المسئول هو الصيدلي لا الممرضة، لأنها لا إرادة لها في ذلك، والصيدلي هو المسئول لإهماله في عمله.
فمتى وجدت الإرادة وجدت المسئولية، وما لم توجد الإرادة فلا مسئولية، فالأعمال التي ليس في طاقة الإنسان التحرز عنها والتي غلب فيها على نفسه لا يسأل عنها، كأعمال المجنون والمغمى عليه، وكذلك أعمال المكره، فمن أمسك بيد آخر واضطره لارتكاب جريمة ولم يستطع المكره بحال أن يقاومه لم يكن مسئولا، إنما المسئول من أكرهه على العمل.
وهنا كثيرا ما يعرض هذا السؤال وهو: هل إرادة الإنسان حرة حتى يكون مسئولا عن عمله؟ هذه المسألة من المسائل المشكلة التي طال فيها الجدل قديما وحديثا، فيذهب بعض الباحثين إلى أن الإنسان مجبر ليس حر الإرادة؛ ذلك لأن إرادة الإنسان تتأثر بشيئين: الوراثة والبيئة، فهو يرث من أبويه ميولا خيره وميولا شريرة، وكذلك تؤثر فيه البيئة التي حوله من بيت ومدرسة وأصدقاء وكتب ونحو ذلك، فمن نشأ من أبوين مجرمين، وورث منهما الميل إلى الإجرام، وشب بين مجرمين وسمع أحاديثهم كان مجرما لا محالة، ولم يكن حر الإرادة فيما يفعل، وليس في استطاعته إلا أن يكون مجرما، وإذا أردت إصلاحه فأصلح البيئة التي يعيش فيها، وأنقله من بيئته السيئة إلى بيئة خيرة، ولكن في هذا الرأي غلوا، فإن الإرادة - وإن كانت تتأثر بالوراثة والبيئة إلى درجة كبيرة - فإنها لا تفقد حريتها، وأوضح دليل على ذلك ما نشعر به في أنفسنا من أننا أحرار في الإختيار، وأننا نستطيع أن نعمل الشىء وألا نعمله، فمن كذب شعر من نفسه بأنه كان يستطيع ألا يكذب، ومن أجل هذا يندم على كذبته، ولو كان كذبه محتما عليه ما ندم - ولولا أن إرادة الإنسان حره في اختيار الخير والشر لما كان هناك معنى للتعاليم الأخلاقية - ولكان الأمر بفعل الخير والنهي عن الشر ضربا من العبث، ولما كان هناك معنى للثواب والعقاب والمدح والذم.
وهناك نوعان من المسئولية: مسئولية قانونية، ومسئولية أخلاقية، فالإنسان إذا خالف قانون البلاد كان مسئولا أمام القضاء، وعوقب من أجل مخالفته، وإذا خالف أوامر الأخلاق كان مسئولا أمام الله وأمام ضميره، والمسئولية الأخلاقية أوسع دائرة من المسئولية القانونية: ذلك لأن القانون لا يأمر ولا ينهي إلا إذا استطاع أن يعاقب من يخالف أمره ونهيه بالعقوبات التي نص عليها، أما الأخلاق فسلطانها أوسع، لأن من يتولى لها المثوبة والعقوبة هو الله والضمير، وكلاهما يشرف على الأعمال الظاهرة والباطنة - فالقانون لا يستطيع أن ينهى عن الكذب والحسد لأنه لا يستطيع أن «يسأل» من يرتكبهما، ولو حاول أن يعاقب الكاذب أو الحاسد لارتكب من إضرار الناس بالوشاية والتجسس أكثر مما يصلح، أما الأخلاق فتنهى عن الكذب والحسد وتنهى عن أكثر من ذلك. فتسأل الإنسان عن نياته التي في أعماق نفسه ولو لم يصدر عنها عمل، وتكل مكافأته على نياته الحسنة ومعاقبته على نياته السيئة إلى الله وإلى ضميره.
الفصل الثاني
الضمير
ناپیژندل شوی مخ
(1) ماهية الضمير
يلاحظ الإنسان أن في أعماق نفسه قوة تحذره فعل الشر إذا أغرى به، وتحاول أن تمنعه من فعله، فإذا هو أصر على عمله أحس بانقباض نفسه أثناء العمل لعصيانه تلك القوة، حتى إذا أتم العمل أخذت هذه القوة توبخه على الإتيان به، وبدأ يندم على ما فعل، كالطالب يحاول الغش في الإمتحان فيحس صوتا باطنيا يناديه ألا يفعل، فإذا لم يسمع لهذا الصوت وبدأ يغش أحس أن هذه القوة تثبطه، فإذا استمر في عمله أنبته وندم وعزم ألا يعود.
كذلك يحس أن هذه القوة تأمره بفعل الواجب، فإذا بدأ في عمله شجعته على الإستمرار فيه، فإذا انتهى منه شعر بارتياح وسرور، وبرفعة نفسه وعظمتها، كالطالب يرى آخر مشرفا على الغرق فينقذه، فحين إنقاذه يشعر بتشجيع نفسه على المضي في عمله فإذا أتم ذلك شعر بغبطة وسعادة.
هذه القوة الآمرة الناهية تسمى «الضمير»، وهى - كما رأيت - تسبق العمل وتقارنه وتلحقه، فتسبقه بالإرشاد إلى عمل الواجب، والنهي عن الرذيلة، وتقارنه بالتشجيع على الخير، والتثبيط عن الشر، وتلحقه بالإرتياح والسرور عند الطاعة والشعور بالألم والوخز عند العصيان.
هذا الضمير نشعر به كأنه صوت ينبعث من أعماق صدورنا يأمرنا بالخير وينهانا عن الشر ولو لم نرج مكافأة أو نخش عقوبة، نرى البائس الفقير يجد مالا أو متاعا وهو أشد ما يكون حاجة إلى مثله، ولم يكن رآه أحد إلا ربه، ثم هو يتعفف عنه ويؤديه إلى صاحبه، فما الذي حمله على ذلك! لا شىء إلا الضمير يأمر صاحبه بعمل الواجب لا لمثوبة ولا عقوبة إلا مثوبة نفسه بارتياحها، وعقوبة نفسه بالندم والتأنيب.
وهذا الضمير طبيعي حتى في الحيوانات الراقية، فنرى الكلب مثلا عنده نوع إدراك طبيعي للواجب، ويرقى هذا الإدراك بمخالطته للإنسان، حتى نراه أحيانا يفعل في الخفاء جرما كأن يسرق شيئا من سيده، أو يخالفه في أمر أمره به، فيظهر على الكلب حينئذ نوع من الإضطراب والقلق يعد جرثومه للضمير.
ونلاحظ كذلك جرثومة الضمير في الطفل الصغير، يعلوه الخجل أحيانا لخطأ ارتكبه فتتبينه في نظرته، ويدلنا اضطرابه وقلقه على أنه ارتكب خطأ - وينمو هذا الشعور بنمو الإنسان حتى يصل به إلى حد أن يملأه الفرح والغبطة إذا هو أدى الواجب، ويذوب أسفا وندما إذا عصى أمر الضمير، وهذا الشعور تجده يتبع حالة الإنسان، فهو في حالة سذاجه عند المتوحش، كشأنه في حديثه وعرفه وحالته الإجتماعية، فإذا رقى الإنسان رقى ضميره، حتى قد يدفعه إلى بذل نفسه دفاعا عن رأيه أو في سبيل إصلاح قومه. (2) اختلاف الضمير
ليس الضمير هاديا معصوما يأمر بالخير دائما، وينهى عن الشر دائما، ولا هو يأمر الأفراد في الأمم المختلفة أوامر واحدة متساوية في القوة، فإنا نرى أن الأمة التي تقدر النظام في الحياة تقديرا كبيرا يكون أبناؤها أشد إحساسا به، وضمائرهم أقوى في المطالبة باتباعه، وعلى العكس من ذلك الأمة التي لا تؤمن بفضيلة النظام هذا الإيمان.
وأفراد الأمة التي لا تسترذل الكسل لدرجة كبيرة لا يؤنبهم ضميرهم تأنيبا شديدا إذا استسلموا للكسل.
بل الأمة الواحدة يختلف ما يأمر به ضميرها باختلاف العصور، فقد رأينا مثلا منذ سنين قلائل أن كثيرا من المصريين كانوا يوسعون مجال الخلف بين المسلمين والأقباط، وتستحثهم ضمائرهم على الدعوة إلى ذلك، ويرتاح كل فريق بما يلقي من الخطب، ويكتب من المقالات، في تأييد فريقه والطعن على الفريق الآخر، واليوم نرى أن هذه الدعوة من أكبر الجرائم وأعظم الشرور، ولا تطاوعنا ضمائرنا إذا أردنا أن نمس هذه الوحدة بسوء.
ناپیژندل شوی مخ
بل الفرد الواحد قد يأمره ضميره بشىء في زمن ويأمره بعكس ذلك في زمن آخر، كالطالب يأمره ضميره أن ينهمك في القراءة والدرس من غير أن يراعي جسمه وصحته، فإذا درس قانون الصحة أو شعر بمرض فهم أن لجسمه عليه حقا ولعقله عليه حقا، وطالبه ضميره بأن يرعى صحته وعقله جميعا.
والسبب في اختلاف أوامره أن الضمير يتأثر بعاملين كبيرين:
أولا:
يتأثر بالحالة الإجتماعية للأمة وعرفها ودرجة رقيها، فالإنسان ينشأ في أسرة تستحسن أعمالا وتستقبح أخرى فيتبعها في استحسانها واستقباحها، ثم هو إذا خرج إلى الحياة العامة تبادل مع الناس الأخذ والعطاء فيلتقط آراءهم في الخير والشر، ويقلدهم في ذلك، ويسايرهم فيما يستحسنون وما يستقبحون، ويأمره ضميره أن يفعل كما يفعلون.
ثانيا:
يتأثر ضمير كل إنسان بدرجة عقله وعلمه، فكلما زاد علم الإنسان ونما عقله ارتقى ضميره، ذلك أن الخبرة والتجربة ومعرفته بنتائج الأشياء النافعة والضارة توسع عقله، فيتبع ذلك ارتقاء ضميره، حتى قد يأمره ضميره بعد هذه التجارب بما كان ينهاه عنه من قبل، وينهاه عما كان يأمره به، لأن عقله عرف من الحقائق ما كان يجهله، بل هو إذا وصل إلى درجة كبيرة من رقي العقل كان ضميره تابعا لعقله أكثر من تبعيته لتقاليد قومه، واستطاع - إذا هو رزق وسائل الزعامة - أن يغير ما يستنكره من عادات قومه. •••
ومع أن الضمير يختلف باختلاف الأمم واختلاف العصور وأنه قد يخطئ أحيانا في أمره ونهيه - كما رأيت - فإن كل إنسان ملزم باطاعة ضميره، لأنه مأمور بعمل ما يعتقد أنه الحق لا بعمل ما هو حق في الواقع، فالذي يعتقد شيئا حقا ويأمره ضميره بعمله ملزم أن يطيعه، وليس هناك مسئولية أخلاقية عليه إذا تبين خطأ ما أمره به ضميره، غاية الأمر أنه يجب عليه أن يضيء السبيل أمام ضميره بتوسيع عقله وتقوية فكره وتحريه الصواب، فإن هو فعل ذلك كان الضمير هاديا مرشدا، وكان له العذر إذا تبين خطأ ما أمر به ضميره. (3) الضمير والإرادة
لا قيمة للضمير يأمر وينهى إذا لم يدعم بإرادة تنفذ أمره ونهيه، فقد يشعر الإنسان بالواجب ويتأكد من أنه واجب ويأمره ضميره به ولكن يذهب كل ذلك هباء إذا لم يمنح إرادة قوية تخرج هذا الأمر إلى الوجود، فالإرادة هي القوة الفاعلة في الإنسان وبدونها تكون أوامر الضمير أحلاما وأماني لا قيمة لها، ولذلك يقول بعضهم: «إن جهنم مرصوفة بالأماني الطيبة» يريد بذلك أن الأماني الطيبة إذا لم تبرزها الإرادة إلى الوجود فأولى بها الجحيم لا الجنة، إنما يصلح للجنة الأماني الطيبة التي حولتها الإرادة إلى عمل ويقول الشاعر العربي:
من كان مرعى عزمه وهمومه
روض الأماني لم يزل مهزولا
ناپیژندل شوی مخ
قد تعترض أمام ما يأمر به الضمير عقبات، فالإرادة القوية تذللها وتشعر بارتياح من تذليلها والتغلب عليها.
وكما تحتاج إلى الإرادة في تنفيذ أوامر الضمير نحتاج إليها في تنفيذ نهيه، وذلك بمقاومة الميل إلى الشر وصده والوقوف في سبيله حتى لا يخرج إلى الوجود.
والإرادة القوية سر النجاح في الحياة - وفضائل الإنسان وملكاته تظل في سبات حتى توقظها الإرادة، فمهارة الصانع، وقوة عقل المفكر، والشعور بالواجب ومعرفة ما ينبغي وما لا ينبغي، كل هذا لا أثر له في الحياة ما لم تحوله قوة الإرادة إلى عمل. (4) تربية الضمير
الضمير ككل - ملكات الإنسان وقواه - تنمو بالتربية وتضعف بالإهمال، فبعصيان الضمير يضعف أو يموت، شأنه في ذلك شأن أديب يتذوق الشعر والأدب، فإذا هو أهمل قراءة الأدب واشتغل «بالرياضة» ضعف ذوقه الأدبي حتى قد يصل إلى درجة لا يدرك معها ما في الأدب من جمال، كذلك يعصى الإنسان ضميره مرة فيحس بلذع شديد من جراء عصيانه، فإذا تكرر منه العصيان أحس بلذع دون ما كان يشعر به عند أول مخالفة، ولا يزال الإنسان يتبع السيئة السيئة حتى لا يشعر بأي نوع من اللوم والتأنيب، لأن صوت ضميره قد خفت وسلطانه قد ضعف. وكما يضعف الضمير بالعصيان يضعف بصحبة الأشرار وإطالة القراءة في الكتب الساقطة، فكلا الأمرين يكرر منظر الشر أمام النفس حتى تعتاده، وكلاهما يتحدث عن الشر حديث المستحسن فيتخدر الضمير ويخمد صوته.
ويحيا الضمير بمداومة طاعته، وباستخدام الإرادة في تنفيذ أمره ونهيه وصحبة الأخيار وقراءة الكتب التي تدعو إلى الفضيلة، ومما يساعد على نموه قوانين البلاد، فإنها إن كانت صالحة شاركت الأخلاق في الأمر بالخير، فتساعد على حياة الضمير وتزيد في سلطانه.
خير شيء في الإنسان ضميره، فهو «الدليل» الذي يهدي سبيل السلام.
الفصل الثالث
الحكم الأخلاقي
(1) معنى الحكم الأخلاقي
تصدر من الإنسان أحكام كثيرة متنوعة، فإذا قال: «المبتدأ مرفوع» فهذا حكم نحوي لا أخلاقي، وإذا قال: «الأجسام تتمدد بالحرارة» فهذا حكم طبيعي لا أخلاقي، إنما الحكم الأخلاقي هو أن تحكم على الشيء بأنه خير أو شر، فالصدق خير حكم أخلاقي، والكذب شر كذلك.
ناپیژندل شوی مخ
وقد علمنا مما تقدم أن الحكم الأخلاقي لا يصدر إلا على الأعمال الإرادية، فما لم تكن إرادة لا يصدر حكم أخلاقي، فلو فاض النيل فأغرق كثيرا من البلدان، أو هبت عاصفة فدمرت بلادا، أو هاجت الأمواج فأغرقت سفنا، لا نحكم على هذه الأعمال بأنها شر، إذ لا إرادة، ولو فاض النيل في اعتدال فروى للأرض وأفادها، وهب نسيم عليل فأزهر النبات وأنعش النفوس لم نحكم على ذلك بأنه خير، كذلك إذا جمح حصان فأوقع راكبه، أو سار سيرا حسنا فأوصل صاحبه إلى غايته لا نحكم على عمله بأنه شر في الأولى ولا خير في الثانية ما دمنا لا نعترف للحصان بإرادة - وكذلك أعمال الإنسان غير الإرادية كالتي سبق شرحها. (2) هل يصدر الحكم باعتبار الغرض أو النتيجة
والآن نريد أن نسأل: قد عرفنا ما نحكم عليه من الأعمال بأنه خير أو شر وما لا نحكم، ولكن إذا أردنا أن نحكم فهل نحكم على العمل باعتبار نتائجه أو باعتبار الغرض الذي أراده العامل من عمله؟ ولتوضيح ذلك نقول: إن هناك غرضا للعامل من عمله، وهذا يسبق العمل، وهناك نتائج تحصل من العمل وهذه تلحقه، فمثلا قد يقرر جماعة من الأطباء بعد الفحص اجراء عملية لمريض، ثم يتبين بعد اجرائها أن الفكرة كانت خطأ، وأنه كان الأولى ألا تعمل، ثم يموت المريض منها، فغرض الأطباء أن يشفى المريض، ولأجل هذا أقدموا على ما عملوا، ولكن النتيجة أنه مات، وهذا الغرض كان قبل العمل، وهو غرض حسن، والنتيجة حصلت بعد العمل، وهي سيئة، فهل نحكم على الأطباء باعتبار غرضهم أو باعتبار نتيجة عملهم؟ وهكذا كثير من الأعمال، كرجال حكومة أعلنوا الحرب على أمه أخرى لأنهم رأوا خير أمتهم في ذلك، وقد رأوا قوتهم أكبر من قوة عدوهم، وحسبوا أن ما يغنمون من الفوائد أكبر مما يفقدون من جنودهم وأموالهم، ولكن خاب ما أملوا، فهزموا وسلبوا بعض الولايات، فغرضهم كان الخير لأمتهم، والنتيجة كانت شرا لها، فعلى أي اعتبار نحكم؟ وكذلك العكس، فقد يريد الإنسان شرا ثم تكون النتيجة خيرا، كمن يريد أن يغش آخر فيغريه بشراء شيء يظن فيه الخسارة له، فيغنم الشاري من وراء ذلك ربحا كبيرا، فالغرض شر والنتيجة خير، فهل نحكم على العمل بأنه شر تبعا للغرض أو خير تبعا للنتيجة؟
الحق أن العمل يجب أن يحكم عليه بأنه خير أو شر نظرا لغرض العامل منه لا نظرا لنتيجته، فالعمل الذي قصد به الخير خير مهما استتبع من النتائج، والذي أريد به الشر شر ولو استتبع نتائج حسنة، فقبل الحكم على عمل ينبغي أن نعرف غرض العامل منه، أما العمل في ذاته من غير نظر إلى الغرض منه فليس بخير ولا بشر، فلو سألتني هل إحراق أوراق مالية قيمتها ألف جنيه خير أو شر؟ لأجبتك: لا يمكن ذلك حتى أتبين غرض العامل من عمله، فقد يكون شرا إذا أراد من إحراقها الإنتقام من مالكها، وقد يكون خيرا كما إذا قدمت رشوة لقاض ورأى القاضي أن لا سبيل إلى تأديب الراشي إلا إحراقها.
ولما كان الحكم الأخلاقي يعتمد على معرفة غرض العامل من عمله لم يجز لنا أن نصدر الحكم بالخير أو الشر إلا على أنفسنا أو على من نتحقق غرضهم من أعمالهم، إما بإخبارهم، أو بقيام القرائن على أغراضهم، فإذا رأينا من إنسان عملا فلا نعجل بالحكم عليه، بل يجب أن نتريث حتى نعرف غرضه منه.
نعم هناك أحكام أخرى نصدرها على العمل باعتبار نتائجه لا باعتبار الغرض منه، وذلك كالحكم على العمل بأنه نافع أو ضار، فإنه إنما يصدر باعتبار نتيجته، والحكم على الشيء بأنه نافع أو ضار غير الحكم عليه بأنه خير أو شر، كلاهما ينظر إلى الشيء من جهة غير التي ينظر إليها الآخر، فعمل الأطباء في المثال السابق خير ضار، خير لأنهم قصدوا إلى شفاء المريض، وضار لأن النتيجة كانت وفاته، وهكذا، ولكن يجب أن نعلم أن الحكم على الفعل بأنه نافع أو ضار تبعا لنتائجه ليس حكما أخلاقيا، إنما الحكم الأخلاقي هو الحكم بأنه خير أو شر تبعا للغرض منه.
والإنسان لا يلام على عمل عمله يريد منه الخير مهما ساءت نتائجه، بشرط أن يكون قد بذل جهده في معرفة ما ينتج من عمله، وإنما يلام إذا كان في استطاعته أن يرى النتائج إذا دقق في البحث وأنعم النظر ثم لم يفعل، فموضع اللوم هو التقصير عند اختيار العمل، وعدم الدقة في حساب نتائجه، وليس موضع اللوم هو إرادة العمل الصالح، ففي مثل الأطباء السابق لا لوم عليهم إذا كانوا بذلوا أقصى جهدهم في فحصهم وأتت النتيجة بما ليس في حسبانهم، إنما يلامون إذا قصروا في الحكم وبنوا حكمهم على نظر سطحي غير دقيق. •••
في جميع ما تقدم كان الحكم الأخلاقي يصدر على العمل، ولكن نرى أحيانا أن الحكم الأخلاقي يصدر على العامل، فيقال: إن فلانا طيب وفلانا خبيث أو أنه خير أو شرير، فما الذي نلحظه عند حكمنا هذا الحكم؟
عندما نحكم على العامل نلاحظ «حاصل الجمع» لما يأتي به من أعمال. فقد عرفنا - قبل - ما هو العمل الخير، وما هو العمل الشر، فالآن نذكر لك أن الرجل الخير أو الطيب هو الذي يصدر عنه من الأعمال الخيرة أكثر مما يصدر عنه من الشر، والرجل الشرير هو الذي يكثر منه صدور الأعمال الشريرة، ومن هذا نستنتج أن الرجل الخير قد يأتي بعمل شر ولكن يكون الغالب عليه عمل الخير، لأنا في حكمنا على العمل إنما نلاحظ الغرض من عمله وفي حكمنا على العامل نلاحظ مجموع أعماله في حياته. (3) مقياس الحكم الأخلاقي
ولكن بأي مقياس أقيس الشيء فأحكم عليه بالخير أو الشر؟ إن الناس كثيرا ما يختلفون في نظرهم إلى الشيء الواحد فمنهم من يراه خيرا ومنهم من يراه شرا، بل الشخص الواحد قد يرى الشيء خيرا في آن ثم يراه شرا في آن آخر، فما هذا المقياس الذي بمراعاته نصدر هذا الحكم؟ وأى شيء يراعيه الناس فيقولون: إنه خير أو شر؟
للاجابة على هذا السؤال نستعرض المقاييس التي يستعملها الناس، وقد رأى الباحثون أن الحكم الأخلاقي تدرج في الرقي بتدرج الناس، فهم في حالة سذاجتهم ينظرون إلى الأشياء ويحكمون عليها بمقياس، ثم إذا ارتقوا قليلا تغير مقياسهم وحكمهم، وهكذا حتى يصلوا إلى درجة كبيرة من الرقي فيسمو كذلك حكمهم الأخلاقي؛ ولنتتبع الآن الأدوار التي مر بها لناس. (3-1) العرف
ناپیژندل شوی مخ
فأول دور سلكوه في معرفة الخير والشر «العرف». ونعنى بالعرف «عادة الأمة» فإذا اعتادت أمة عملا وكان فاشيا فيهم فذلك عرف، فزيارة القبور في الأعياد عادة للمصريين، فهذا عرف، وعادة كل أمة في ملبسها ونظام معيشتها ونحو ذلك يسمى عرفا.
ولكل أمة عرف خاص تعد خيرها في اتباعه، وتؤدب الأطفال به، وتشعرهم بأن فيه شيئا من التقديس، وإذا خالفه أحد استهجنت عمله وعدته خروجا عليها، فمن الصعب الخروج على المألوف من عرف في الملبس والمأكل ونظام الأفراح والمآتم وطرق التحية ونحو ذلك.
والناس منساقون إلى تنفيذ ما يقضى به العرف، وذلك بتأثير الرأي العام، فالناس - عادة - يمدحون متبعي العرف، ويسخرون من مخالفه، فلو خرج أحد على عادة الأمة في زيها أو أفراحها ومآتمها أو طرق تحياتها كان موضعا للنقد القاسي.
وفي أيام سذاجة الناس وبداوتهم لم يكن لهم مقياس يقيسون به العمل إلا العرف، فهم يحكمون على العمل بأنه خير لموافقته للعرف وشر لمخالفته له، ولا يزال كثير من الناس في كل أمة مهما بلغت من الحضارة يعملون ما يعملون لا لسبب إلا أنه يتفق وعادات قومهم، ويجتنبون ما يجتنبون لأن قومهم لا يعملون - فمقياس الخير والشر في نظرهم هو العرف، وبه يصدرون أحكامهم على الأشياء.
فلما أرتقى الناس تبين لهم أن العرف لا يصح أن يتخذ مقياسا، فبعض أوامره غير معقول، وبعضها ضار، فوأد البنات كان عرفا لبعض قبائل العرب في الجاهلية، وهو عرف ضار نهاهم الإسلام عنه وأبان ما فيه من خطأ، وعند الرومان كان الأب له الحق في إماتة أولاده وإحيائهم، والرق مع ما كان فيه من معاملة قاسية كان فاشيا في كثير من الأمم، وعادات المصريين في أفراحهم ومآتمهم عرف ضار وهكذا.
وإذا كان العرف قد يخطئ ويتبين الخلف سوء ما كان عليه السلف لم يصح أن يكون مقياسا صحيحا نقيس به الأعمال فنحكم عليها بالخير أو الشر.
ولو أن الناس جروا على مبدأ العرف لم يتقدم العالم عما كان عليه من قديم، لأنه إنما يتقدم بأولئك الذين يرون خطأ العرف فيجاهرون بمخالفته، ويدعون قومهم للخروج عليه، فيلتف حولهم كثير من الناس، ويأخذ رأيهم في الإنتشار حتى يحل الجديد الحق محل القديم الخطأ.
ومع هذا فإن جرى الناس على هذا المقياس كان له بعض الفائدة، فقد حمل كثيرا أن يأتوا بالعادات الصالحة ويمتنعوا عن السيئة جريا مع العرف ورجاء لمدح الناس وخوفا من ذمهم. (3-2) الرأي الشخصي
يلاحظ الذين يدرسون القبائل في حالتها الأولى من البداوة أن الفرد من القبيلة لا يحس إحساسا قويا أنه فرد مستقل بذاته، وإنما يغلب عليه الإحساس بأنه جزء من قبيلة، يحيا بحياتها ويموت بموتها، ويظهر هذا ظهورا بينا حين تقرأ الشعر الجاهلي فترى فيه أن شخصية الشاعر اندمجت في قبيلته حتى كأنه لم يشعر لنفسه بوجود خاص، وتتبين ذلك بجلاء في معلقة عمرو بن كلثوم، وقل أن تعثر على شعر من أشعار الجاهلية ظهرت فيه شخصية الشاعر، ووصف ما يشعر به وجدانه، إنما هو كثير التحدث عن قبيلته وأخبارها وأفعالها.
وفي هذا الدور لا يكون للأخلاق مقياس إلا العرف، فليس للفرد رأي شخصي يقوم به الشيء ليحكم عليه بأنه خير أو شر بل ليس له إلا أن يستحسن ما استحسن قومه ويستقبح ما استقبحوا، فهو لا يأتي بعمل أو يتجنب عملا بناء على تفكير منه ووزن له، بل لأن قومه يأتونه أو يجتنبونه.
ناپیژندل شوی مخ
فإذا ارتقى الناس عن هذا الدور شعر الفرد بأنه - وإن كان عضوا في مجتمع - فله شخصيته، وأن نفسه مستقلة عن قومه، وأن له مصالح شخصية كما أن لقومه مصالح، وأن عقله من الإستقلال بحيث يستطيع ألا يخضع للعرف خضوعا أعمى، بل في قدرته أن يزن الأعمال فيحكم عليها بالخير أو الشر وإن خالف العرف.
نرى هذا في التاريخ دائما، فعند نهوض كل قوم وأخذهم بحظ كبير من الرقي يظهر أفراد يخرجون على التقاليد الموروثة المتعارفة إذا رأوها ضارة، ويزنون الأشياء وزنا جديدا، فيعلنون استحسانهم لأشياء يستهجنها عرفهم، ويستقبحون أشياء يستحسنها العرف؛ وينتشر رأيهم شيئا فشيئا حتى يميل الناس إليه، ويقتنعوا به، وبهذا تنكسر قوة العرف. حصل هذا في عصر السوفسطائيين في اليونان، وفي عصر النهضة في روما، وفي أيام الثورة الفرنسية في فرنسا وهكذا.
في هذا الدور يشعر الإنسان أن العرف غير صالح لأن يكون مقياسا، وأن له من القوة ما يمكنه من تقويم الأشياء والحكم عليها، ولكن يتساءل بم يقومها؟ كيف يعرف الخير والشر؟ ما الذي يضعه محل العرف ليعرف الحق من الباطل؟ وعند ذاك يأتي دور البحث العلمي. (3-3) الوجدان
أجاب قوم عن هذه الأسئلة المتقدمة بأن في كل إنسان قوة غريزية يميز بها بين الحق والباطل، فكل إنسان إذا عرض عليه عمل تلهمه هذه القوة أنه خير أو شر، وهذه القوة منحناها لنميز بها بين الخير والشر كما منحنا العين لنبصر بها، والأذن لنسمع بها، والحكم الأخلاقي يعتمد على هذه القوة فيصدر بالإستحسان أو الإستقباح، وقد ذهب بعض العلماء إلى أن أساس هذا الحكم هو «الوجدان» ويعنون به شعور الإنسان الطبيعي بالإرتياح من العمل أو النفور منه كالإرتياح والنفور الذي يشعر به الإنسان عند رؤيته شيئا جميلا أو قبيحا، فعندما توسوس له نفسه بكذب أو بسرقة يشعر باشمئزاز طبيعي من إتيان ذلك فيحكم عليه بأنه شر، وكذلك عندما يسمع خبرا باغاثة ملهوف أو إحسان إلى فقير أو عدل في حكم يشعر بارتياح طبيعي فيحكم على ذلك بأنه خير.
وقد تصاب هذ القوة الوجدانية بمرض فترى الخير شرا والشر خيرا كما تصاب كل حاسة بالمرض، وكما تخطئ القوة العقلية، فكما أنا لو أعطينا عددا من التلاميذ مسائل حسابية فبعضهم يخطئ في حلها وبعضهم يصيب ولكنا نعرف أن هؤلاء أصابوا وهؤلاء أخطؤا كذلك يختلف الناس في صحة الوجدان ومرضه، فبعضهم يحكم بالشر على ما يحكم عليه الآخر بالخير، ويمكن أن نعرف المخطئ من المصيب، وسيأتي توضيح ذلك عند الكلام على مذهب اللقانة. (3-4) العقل والإستدلال
ويرى علماء آخرون أن ليس في الإنسان قوة طبيعية يحكم بها على الأعمال، إنما نحكم عليها بالعقل والإستدلال، فليس في الإنسان حاسة غريزية يدرك بها الخير والشر، ولكن يحكم عليها بمقتضى تجاربه، فالناس عملوا أعمالا، ولاحظوا ما ينتج عنها، فرأوا نتائجها حسنة فحكموا بخيريتها، وعملوا أعمالا رأوا نتائجها سيئة فحكموا عليها بالشر، وليست القوة الأخلاقية التي نعرف بها الخير والشر إلا عقلنا وتجاربنا، واستمرار الأمة في تجاربها يفضي بها إلى تعديل آرائها في الأشياء، والسبب في تغير آراء الأمم والأفراد في الحكم على الأشياء هو اتساع مداركها بكثرة تجاربها وملاحظاتها واستدلالها، وسيتضح ذلك عند الكلام على المذاهب الأخلاقية.
من هذا ترى أن الحكم الأخلاقي تدرج بتدرج الناس في الرقي، فكانوا أول أمرهم لا مقياس لهم إلا العرف ثم فهموا أن العرف لا يصح أن يكون مقياسا، فجاء بعد ذلك دور البحث والتفكير العلمي.
وكذلك ترى أن العرف - أولا - كان هو المقياس ولكنه مقياس خاص بالأمة وحدها، إذ كل أمة لها عرفها، فلما جاء دور البحث العلمي أصبح الحكم الأخلاقي ينبني على أسس عالمية، وبعبارة أخرى أصبح ينبني على مبادئ عامة تصلح لكل أمة في كل عصر، وسنوضح تلك المبادىء والمذاهب المشهور التي أدى إليها البحث في الفصل التالي. (4) تربية الحكم الأخلاقي
قوة الحكم الأخلاقي ترقى برقي الإنسان، فهو يولد وعنده جرثومة الحكم الأخلاقي، تولد معه حسب قانون الوراثة.
ثم ينشأ في أسرته فيراهم يمدحون أشياء ويذمون أخرى ويكافئون على أعمال ويعاقبون على أخرى، فينمو عنده الحكم الأخلاقي بذلك، ويتبع أسرته في مدحها وذمها، ويستحسن من الأشياء ما مدح عليه، ويستهجن ما ذم من أجله، ثم إذا نما شعر بأنه مضطر أن يتبادل مع إخوته وأخواته الأخذ والعطاء، فيوجد عنده الشعور بضرورة تبادل المنافع، فهو يعطيهم مما يناله ليعطوه مما ينالون، فيرقى عنده بذلك الحكم الأخلاقي.
ناپیژندل شوی مخ
فإذا خرج إلى العالم وتبادل مع الناس المعاملة ورأى حاجته إلى معونتهم وأدرك أنه لا يعيش سعيدا بينهم إلا بمراعاة قوانين وتقاليد اتسع عنده مجال الحكم الأخلاقي، فإذا هو تقدم في العلم ساعده علمه على إضاءة السبيل له ليميز بين الحق والباطل، فكثير من الأعمال الضارة أو الخرافية سببه الجهل بالقوانين الطبيعية، فاستقبال العامة للخسوف والكسوف بالضرب على الأواني النحاسية أو الحديدية مثلا سببه الجهل بأسباب الخسوف والكسوف، ومعرفتنا بشيء من الجغرافيا الطبيعية أو الهيئة يبين أن هذا العمل وأمثاله خرافة لا أساس لها، ومعرفتنا بشيء من قوانين الصحة يغير نظرنا إلى كثير من الأعمال، وانتشار العلم عن النبات والحيوان والمرض والصحة في أية أمة يجعل كثيرا من أفرادها يخرجون على العرف المألوف الذي لا يتفق ونظريات العلوم، والعلم يزيد الإنسان شعورا بشخصيته وبأن له قوة على الحكم على الأشياء، وأنه ليس أسيرا للعرف والتقاليد.
كذلك دراسة علم الأخلاق، واستعراض النظريات التي ينبني عليها الحكم الأخلاقي، ونقدها، وبيان ما يصح منها وما لا يصح، وبيان ما كان الناس عليه أيام بداوتهم في عرفهم وتقاليدهم، وكيف كانوا يحكمون على الأشياء، وما وصلوا إليه من الرقي، وكيف تغير نظرهم إلى الأشياء برقيهم. كل هذا يجعل الإنسان أصح حكما وأصدق نظرا.
الفصل الرابع
مذاهب علم الأخلاق ونظرياته
أشرنا في الفصل الماضي إلى أن الناس في أحكامهم على الأشياء يراعون مقياسا خاصا، فيحكمون على الشيء بأنه طويل أو قصير ويحتكمون في ذلك إلى «المتر» مثلا، ويحكمون على الشيء بأنه خفيف أو ثقيل ويحتكمون في ذلك إلى «الأقة» أو «الرطل» أو نحوهما، فما الذي نراعيه في أحكامنا الأخلاقية؟ إنا نقول: الصدق خير والكذب شر فما هو المقياس الذي عرفت به ذلك؟ وإذا عرض موقف حرج وأردت أن أعرف أأصدق فيه أم أكذب، وتجادل المتجادلون فيه بين محبذ للصدق ومحبذ للكذب فإلى أي المقاييس نحتكم؟ والناس يقولون: إن الصدق والعدل والشجاعة والعفة فضائل، وأضدادها رذائل، فما الشيء الذي فيها حتى جعلها فضائل أو رذائل؟ وبأي مقياس قاس الناس حتى حكموا هذا الحكم؟
هذا الموضوع هو الذي يسمى «المقياس الأخلاقي» ولم يتفق الباحثون فيه ولم يجيبوا عن الأسئلة الماضية جوابا واحدا، بل تعددت فيه المذاهب، ونحن نذكر أهمها: (1) مذهب السعادة
1
لما بحث العلماء في مقياس الخير والشر بحثا علميا ذهب كثير منهم إلى أن هذا المقياس هو «السعادة» وقالوا: إن السعادة هي الغاية الأخيرة للحياة، وهي التي تحرك جميع الناس للعمل، فإذا حللت عمل أي إنسان رأيت أنه إنما يطلب بعمله «السعادة» فالطالب يتعلم، ومحب المال يجمع، والرجل يتزوج، والعالم يؤلف، والكاتب يكتب، والقاضي يقضي، والصانع يصنع، وكل هؤلاء لو حللت أغراضهم من أعمالهم وجدت أن الغاية الأخيرة التي يرمون إليها هي تحصيل السعادة.
ولكن السعادة كلمة غامضة، وإنما يعني بها أصحاب هذا المذهب «تحصيل اللذة وتجنب الألم» فهم يقولون: إن الإنسان في أعماله: من سعى لتحصيل الرزق، وتحصيل العلم، ومداواة مرض، وأكل وشرب، وتأليف، ونوم، ورياضة، إنما يطلب أحد شيئين: إما تحصيل لذه، أو تجنب ألم، ولا يمكن أن يخرج عمل يعمله عن هذين الغرضين.
واللذة هي مقياس العمل، فالعمل يقوم بحسب كمية اللذة التي ينتجها، فيقال: إن هذا العمل خير وذاك شر لأن الأول ينتج من اللذة أكثر من الألم، والثاني ينتج ألما أكثر من اللذة.
ناپیژندل شوی مخ
وليس مذهب السعادة يقول: ينبغي أن يطلب الإنسان السعادة (اللذة) فحسب، لأن ذلك من طبيعة الإنسان، وكل الناس إنما يبحثون وراء اللذة، وكل عمل لا يخلو من لذة، وإنما يقول: ينبغي أن يطلب أكبر سعادة، أو بعبارة أخرى أكبر لذة، فإذا خير بين جملة أعمال ينبغي أن يطلب أكبرها لذة، والإنسان المفرط في شهواته لا يلام لأنه يطلب اللذة، فكلنا يطلب ذلك، ولكن يلام لأن إفراطه في الشهوات يسبب من الآلام أكبر مما يسبب من اللذائذ، والذى كذب إنما يلام لأنه حصل بكذبته لذة صغيرة وأنتج ألما كبيرا وهكذا.
وقال أصحاب هذا المذهب: إن اللذائذ يمكن أن تقارن، ويجب عند تفضيل لذة على لذة مراعاة الشدة والمدة، وكذلك الألم، لأنه يعتبر لذة سالبة، فإذا سئلت عن عملين أيهما أفضل: بناء مستشفى مثلا، أو التصدق على الفقراء بالمال؟ فاحسب حساب ما ينتج عن كل من اللذائذ، ومدة هذه اللذائذ، فإذا كان الأول ينتج لذة بمقدار 80 مثلا في مدة عشر سنوات، والثاني ينتج 200 في مدة سنتين، كان العمل الأول هو الواجب، لأن لذته مع مراعاة مدتها أكثر وهكذا.
ولكن إذا قلنا: إن السعادة هي الغاية الوحيدة للإنسان ولا شيء غيرها، وأنها هي المقياس الذى نقيس به العمل لنعرف أخير هو أم شر، فسعادة من نريد؟
هل ينبغي أن يطلب الإنسان أكبر سعادة لشخصه هو، فالعمل خير إذا كان يسبب للعامل نفسه لذة أكبر من الألم، وشر إذا كان ينتج لنفسه ألما أكثر من اللذة؟
أو ينبغي للإنسان أن يطلب اللذة للعالم الذى يعيش فيه، فالعمل خير إذا كان ينتج لذة للناس أكبر مما ينتج من الألم - ولو كان ينتج للعامل نفسه ألما أكبر - وشر إذا كان ينتج للناس ألما أكبر؟ هذان مذهبان للقائلين بالسعادة: (أ)
مذهب السعادة الشخصية. (ب)
مذهب السعادة العامة، ويسمى أيضا مذهب المنفعة. (أ) مذهب السعادة الشخصية
2
هو المذهب القائل: إن الإنسان ينبغي أن يطلب أكبر لذة لشخصه، ويجب أن يوجه أعماله للحصول عليها.
فعلى هذا المذهب إذا تردد إنسان بين عملين، أو تردد في عمل أيعمله أم يتركه، فليحسب ما فيه من اللذائذ والآلام لشخصه ويوازن بينهما، فما رجحت لذائذه فخير، وينبغي فعله، وما رجحت آلامه فشر وينبغي تركه، وما تساوت فيه اللذائذ والآلام كان فيه مخيرا.
ناپیژندل شوی مخ
وقال أصحاب هذا المذهب: إن كل إنسان يجب أن يبحث وراء لذائذه هو وسعادته، ويعمل ما يوصله إلى ذلك، والعمل الذي يوصل إلى تلك الغاية أو يقربه منها يكون خيرا.
ومن أكبر زعماء هذا المذهب في العصور القديمة «أبيقور»
3
ويرى أن ليست تقاس الأعمال باللذات والآلام الوقتية فحسب، بل الواجب أن يرمي الإنسان بنظره على جميع حياته، ويحسب ما يستتبعه العمل من لذة وألم في الحياة، فشرب الدواء المر يسبب ألما ولكن لأنه قد يذهب ألما أكبر منه - وهو ألم المرض - يكون خيرا، والعاقل ينبغي أن يرفض لذة حالة للحصول على لذة أكبر منها مؤجلة، ومن أجل هذا فضل «أبيقور» اللذة العقلية على اللذة الجسمية، فإن اللذائذ الجسمية سريعة الزوال لا تعد شيئا إذا قيست بتلك اللذة الباقية - لذة العقل وتحصيل العلم - التي بها تطمئن النفس، ومنها يتخذ الإنسان عدة لحوادث الدهر، وصروف الزمان.
وقال: إن خير اللذائذ هدو البال وطمأنينة النفس، وأن سعادة الإنسان تعتمد على حالته النفسية أكثر مما تعتمد على الظروف الخارجية، فليس المال الكثير والجاه الكبير ونحو ذلك يعين على السعادة أكثر مما تعين صفات الإنسان الخلقية والعقلية، ومع ذلك فقد قال «أبيقور»: إن اللذائذ الجسمية الطاهرة ليست محرمة، ولا مرذولة، ولا ضرر على العاقل من أخذ حظه منها من غير إفراط.
وعلى هذا المذهب إنما كانت الفضائل فضائل لأنها تسبب للعامل لذة كبرى، فالعفة مثلا فضيلة، والفجور رذيلة، لأنه لو دقق في حساب ما يجده العفيف من اللذة في رضائه عن نفسه، وبعده عن الآلام التي ينتجها الفجور، واحترام الناس له، وثقتهم به، لوجد أنه يرجح ما يجده الفاجر من لذة وقتية، يتبعها ألم النفس، وفقد الثقة، وتعريض الصحة والمال والشرف للضياع، وهكذا القول في الصدق والكذب، والأمانة والخيانة.
وقد غلط بعض الناس ففهموا أن مذهب «أبيقور» يدعو إلى الإنهماك في اللذات الجسمية والجرى وراء الشهوات، حتى أطلقوا كلمة «أبيقوري» على الفاجر المنهمك في شهواته، مع أن تعاليم أبيقور بعيدة عن ذلك، وقد ندد هو نفسه في بعض كتبه بمن يفهم من قوله هذا الفهم السقيم. [وفي العصور الحديثة قال بهذا المذهب «هوبز» الفيلسوف الإنجليزي (1588-1679م) وبنى مذهبه الأخلاقي على أبحاث نفسية، فكان يرى أن الإنسان مخلوق وفي طبيعته حبه نفسه، والعمل لإسعادها، وأن أساس أعماله الأثرة، (حب الذات) وليس يعمل عملا إلا من أجل نفسه، وليس حبه جاره أو صديقه إلا ضربا خفيا من ضروب حب النفس. نعم إنه قد يعمل الخير لغيره، ولكن الباعث الحقيقي له على عمله هو حبه نفسه، وطلبه اللذة لها أو دفع الألم عنها، وكل ما يسمى «إيثارا» أو نفعا للناس ليس - بعد الفحص الدقيق - إلا نتيجة رغبة في منفعة شخصية يراد تحصيلها عاجلا أو آجلا، ومن أجل هذا قال: يجب أن نساير طبيعة الإنسان فلا نكلفه ما ليس من طبعه، بل نأمره أن يأتي من الأعمال ما فيه أكبر لذه له ويتجنب ما فيه أكبر ألم له].
وعيب هذا المذهب (مذهب السعادة الشخصية) أنه يجعل صاحبه أثرا (أنانيا) لا ينظر في أعماله إلا لنفسه، مات الناس أو عاشوا. انتفعوا أو تضرروا ، إذا رغب في وصول منفعة للناس فإنما ذلك لأنها تجر المنفعة إليه، وإذا تألم من شر نال أحدا فإنما يكون لأن جزءا من الشر يناله هو، وفي الناس في كل زمان قوم يسيرون في حياتهم العملية على هذا المذهب وإن لم يسمعوا به ولم يعرفوا شيئا عنه، تراهم في كل طبقة من طبقات الناس، في الأغنياء والصناع والعمال والموظفين والتجار، أولئك لا يلاحظون في أعمالهم إلا أنفسهم، ينظرون إلى غيرهم من الناس كما ينظرون إلى متاع يستخدمونه لمصلحتهم، عندهم الإنسانية والوطنية والتضحية ونحوها سخافات، إنما الفضيلة في نظرهم أن يبحثوا وراء لذتهم وينشدوا مع الشاعر:
إذا مت ظمآنا فلا نزل القطر
وقد رد كثير من العلماء على «هوبز» فقالوا: إن في الإنسان عاطفة حب الناس بجانب عاطفة حبه النفس، وإن نفوسنا تهتز عطفا على الناس، ورحمة بالمنكوبين، وغضبا على المجرمين، ويحن الوالدان على أولادهم حنينا قد يصل إلى حد أن يتمنوا أن يفدوهم بأنفسهم، فليس من الصواب - إذن - أن يكون مقياس الأخلاق لذة العامل وحده، وأن تكليفنا له بمراعاة الناس والعمل لخيرهم لا ينافي طبيعته.
ناپیژندل شوی مخ
وقد جاءت الأديان من نصرانية وإسلام فأوجبت التضحية عند الحاجة، وحببت إلى الناس الإيثار والإحسان، فكان في انتشار هذه التعاليم ما عاق هذا المذهب عن الإنتشار، فإن الشرف والتضحية والإيثار لا تتفق مع الأثرة وحب النفس.
وقد اعترض على مذهب السعادة الشخصية هذا بجملة اعتراضات: (1)
إذا كانت اللذة الشخصية هي المقياس فمن الصعب إن لم يكن من المستحيل، عد الإحسان فضيلة، مع إجماع الناس على عده كذلك. (2)
هذا المذهب يستلزم احتقار من ضحوا بلذتهم وحياتهم لمنفعة الناس، وتكريم من ضحى بسعادة الناس وحياتهم لمصلحته هو - ولا قائل بهذا - (ب) مذهب السعادة العامة
4
أو مذهب المنفعة
هذا المذهب يقول: إن ما ينبغي أن يطلبه الإنسان في الحياة ليس سعادته الشخصية، وإنما ينبغي أن يطلب أكبر سعادة للناس، بل لكل حساس، ولتوضيح ذلك نقول: عندما نريد الحكم على عمل بأنه خير أو شر يجب أن ننظر فيما ينتجه العمل من اللذائذ والآلام لا للعامل نفسه - كما يقول المذهب الأول - بل لكل الناس، بل ولكل حيوان يتلذذ أو يتألم من هذا العمل، ثم نجمع ما ينتجه العمل من اللذائذ وما ينتجه من الآلام،
5
فإن رجحت لذاته آلامه فخير وإن رجحت آلامه لذاته فشر، فإذا سئلت - مثلا - هل يحسن أن تتعلم البنات مع البنين في مدارس واحدة أو لا، فاحسب حساب ما ينتجه ذلك من الفوائد والمضار للأمة جميعها، وقارن بينهما، فما رجح فاحكم بمقتضاه، وإذا سئلت هل من الحق أن تذبح الحيوان لتأكله فاحسب حساب ألم الحيوان من ذبحه، وتلذذ الآكلين من أكله، وما يستفيده الآكلون صحيا، وما تستفيده الأمة من صحة أبنائها وهكذا، وقارن بين اللذائذ والآلام، ثم احكم على العمل بأنه خير أو شر وهكذا.
وإذا خيرت بين جملة أعمال فاحسب حساب ما ينتج كل من اللذائذ والآلام، فأيها زاد رجحان لذائذه على آلامه فهو الخير، وهو الذي ينبغي أن يعمل.
ناپیژندل شوی مخ
وسعادة الجميع يجب أن تكون مطمح نظر كل إنسان، لا سعادته هو وحده - والفضائل إنما عدت فضائل لأنها تنتج للناس لذة أكثر من الآلام - فهي فضائل ولو آلمت بعض الأفراد، بل ولو آلمت العامل نفسه، وكذلك كانت الرذائل رذائل لأن آلامها للناس ترجح لذائذها، فهي رذائل ولو أفادت العامل نفسه.
فالصدق - مثلا - إنما كان فضيلة لأنه يزيد سعادة المجتمع وبه يرقى ويبقى، ذلك لأننا محتاجون في الحياة إلى طبيب يرشدنا إلى ما فيه حفظ الصحة، وإلى مهندسين نعتمد على أقوالهم في بناء الجسور ونحوها، وإلى كيمائي يبين لنا خواص الأجسام، وإلى مدرس يثقف عقول المتعلمين بما ينفعهم، ولولا الصدق ما كان لنا أن نثق بأقوال هؤلاء ولا ننتفع بآرائهم، فلما رأينا ما ينجم عنه من السعادة للمجتمع حكمنا بأنه فضيلة، وأوجبنا على الأفراد أن يصدقوا، وإن كان في الصدق ألم لبعض الناس.
ورشوة القاضي - مثلا - إنما كانت رذيلة لأن القاضي إذا ارتشى أطلق سراح المجرم، وهذا يشجعه هو وأمثاله على ارتكاب الجرائم، لاعتقاده أنه يستطيع الفرار من العقوبة بالرشوة، وبذلك تكثر المظالم، ويضيع كثير من الحقوق. وفي هذا آلام كثيرة للمجتمع، فحرمت وإن انتفع بها القاضي المرتشى.
وهكذا الشأن في جميع الأعمال، فإن أردت الحكم على عمل بأنه خير أو شر فابحث عما يجلبه من اللذائذ والآلام للمجتمع، مع بعد النظر، ودقة البحث، وتجردك من الهوى ومن تحيزك لنفسك، ثم وازن بين لذائذه وآلامه.
ووزن الأعمال بهذا الميزان بطيء، لأنه يتطلب حسابا دقيقا، ونظرا بعيدا، إلا أن النتيجة موثوق بصحتها، على أن مما يسهل عملية الوزن والمقياس أن أصول الفضائل والرذائل قد وزنت بهذا الميزان وحكم عليها بالخير أو الشر مثل الكرم فضيلة، والبخل رذيلة، والصدق خير، والكذب شر، فإن أردنا أن نحكم على جزئية من جزئياتها فلنرجع إلى أصل من تلك الأصول التي حكم عليها، كأن يكون العمل من قبيل الصدق أو الكذب، ولا حاجة حينئذ إلى هذا المقياس، وإنما نحتاج إليه فيما لا يرجع إلى تلك الأصول، كالعادات التي اختلف الناس في استحسانها واستقباحها، وكالمسائل التي لا ترجع إلى هذه الأصول، فإن أداك بحثك الدقيق إلى أن آلام العمل أكثر من لذائذه فاحكم بشره وإن حكم الناس عليه بالخير، وإن رأيت من الأعمال ما لا ضرر فيه أو ما آلامه أقل من لذائذه فاحكم بأنه خير وإن عده الناس جريمة، ويسمى هذا المذهب «مذهب المنفعة» ومن أكبر دعاته الفيلسوف الإنجليزي بنتام (1748-1832م)
6
وجون ستوارت ميل (1806-1873م).
7
واللذة التي يريدها أصحاب مذهب المنفعة تشمل اللذات الحسية والمعنوية، الجسمية والعقلية، بل قد صرحوا بأن اللذات النفسية أفضل من اللذات الجسمية، وكلما رقى الإنسان طمح إلى أشرف اللذات وأرقاها، فكما أن سعادة الإنسان تختلف عن سعادة الحيوان كذلك تختلف سعادة العاقل عن سعادة الجاهل، واللذائذ الوضيعة سهلة المنال ولذلك كان حصول الجاهل على لذاته أيسر:
وإذا كانت النفوس كبارا
ناپیژندل شوی مخ
تعبت في مرادها الأجسام
قالوا: والواجب ألا يبحث الإنسان عن أكبر لذة بل عن أشرف لذة، وعن خير أنواعها، ولا يتيسر ذلك له إلا بأن يوسع فكره، وأن يكون عنده من حب الخير للناس ما عنده لنفسه.
هذه هي خلاصة هذا المذهب، وقد وجهت إليه اعتراضات كثيرة أهمها: (1)
أنا لو اتبعنا هذا المذهب وجب ألا نحكم على عمل بأنه خير أو شر إلا بعد أن نحسب كل ما ينشأ عن العمل من لذة وألم لكل إنسان، ولكل كائن حساس، وبعبارة أخرى نحسب حساب ما يناله الأقارب والأباعد من اللذائذ والآلام، وما يناله الأحياء وأعقابهم وهكذا، وإذا كان كذلك فمن الصعب الوقوف على نتائج العمل وحسابها، فقد نرى عملا ينفع أمتنا ويضر الأجانب، وقد ينفع معاصرينا ويضر الأجيال المستقبلة، والأجيال المستقبلة كثيرة العدد، من أجل هذا ونحوه يصعب الحساب ويدق البحث حتى لا نستطيع أن نحكم على بعض الأعمال بأنها خير أو شر، فمثلا هل تنتفع الأمة الآن بما عندها من مناجم إذا كان ذلك يضر أبناءها؟ وهل تستدين الحكومة إذا خيف أن يكون الدين حملا ثقيلا على الخلف؟ كل ذلك من الصعب تصفية حسابه على هذا المذهب. (2)
إن هذا المذهب يدور حول اللذة والألم ويتخذ لذائذ الناس وآلامهم مقياسا، ولكنا نرى أن اللذة والألم تختلف باختلاف الأشخاص، فقد يرى أحد في عمل لذة كبيرة ويرى فيه آخر لذة أكبر أو أقل، فيترتب على ذلك اختلاف الناس في الحكم بالخير أو الشر، كما يترتب عليه ارتباك في حساب مقدار اللذة والألم، فمثلا قد يسمع جمع من الناس أصواتا موسيقية فيطرب منها بعضهم طربا كبيرا بينا نجد بجانبهم من لم يأبه لها ولم ينفعل بها أي انفعال، فكيف بعد ذلك نستطيع تقدير اللذائذ والآلام ونتخذها مقياسا تقاس به الأعمال. (3)
إن هذا المذهب يجعل الناس باردين لا ينظرون في الأعمال إلى جمالها وشرفها، والباعث الشريف الذي بعث عليها، بل لا ينظرون إلا إلى لذاتها وآلامها، فضلا عن أن القول بأن الحياة لا غاية لها إلا اللذة والآلم يحط من شرف الإنسان، ولا يليق إلا بالعجماوات.
وقد أجاب أنصار هذا المذهب عن هذه الإعتراضات، وطال بين الباحثين فيها الجدال، مما لا يتسع له هذا المقام.
ومع هذا فإنا نستطيع أن نذكر هنا أن هذا المذهب من أكثر المذاهب انتشارا في العصور الحديثة، وهو أرقى من مذهب السعادة الشخصية، وكان له فضل كبير في إيقاظ العقول، ومطالبتها أن تكون غير متحيزة في أحكامها، فقد طلب من الشخص أن ينظر إلى لذائذ الناس كما ينظر إلى لذاته هو، وطالب المتشرعين ألا ينظروا عند تشريعهم إلى طبقة خاصة وأفراد معينة، بل ينظروا إلى خير الناس كافة، فما يعد جرائم يعاقب عليها القانون وما لا يعد إنما يلاحظ فيه لذائذ المجموع وآلامه، والعقوبات التي توضع بإزاء الجريمة يجب أن يلاحظ فيها أنها تأتي بلذائذ للناس أكبر مما تسبب من الآلام وهكذا. (2) مذهب اللقانة
8 (البصيرة)
رأى قوم أن مذاهب السعادة أو مذاهب اللذة غير صحيحة، وأن اللذة وإن كانت أحيانا دليل الخير فإنها في كثير من الأحيان باعث على الشر، فلا يصح - بعد - أن تكون غاية نطلبها ونقيس الأعمال بها، وإنه لمن الضعة أن تسير الإنسان في الحياة اللذة فقط وألا يسير في أعماله إلا طلبا للذة أو تجنبا لألم، وألا يبعثه على فعل الخير الا توقعه ما فيه من لذة، وألا يجنبه الشر إلا حسبانه ما فيه من ألم.
ناپیژندل شوی مخ
وقالوا: إن الحق أننا نعرف الخير والشر من غير أن نقيسه باللذة والألم، وأننا نحكم على الصدق والعدل والشجاعة بأنها خير وعلى أضدادها بأنها شر لا بالنظر إلى نتائجها وما يتبعها من نفع وضر، ولكن لصفات ذاتية فيها، فالصدق خير في ذاته، والكذب شر في ذاته، من غير أن نحسب حساب ما ينتج عنهما.
وأن في كل إنسان قوة غريزية باطنة، بها يميز بين الخير والشر بمجرد النظر، منحناها كما منحنا العين لنبصر بها والأذن لنسمع بها، فكما نستطيع إذا نظرنا إلى شيء أن نقول: إنه أبيض أو أسود (من غير تعليل) وأنه طويل أو قصير، وإذا سمعنا صوت موسيقى أن نقول: إنه جميل أو قبيح، كذلك نستطيع إذا رأينا عملا من الأعمال أن نقول : إنه خير أو شر.
وقد تختلف هذه القوة اختلافا قليلا باختلاف العصور والبيئات، ولكنها متأصلة في نفس كل إنسان، فهو إذا نظر إلى شيء حصل عنده نوع من الإلهام يعرفه قيمته فيحكم عليه بأنه خير أو شر، ومن أجل هذا اتفق أكثر الناس على عد الصدق والكرم والشجاعة والعدل فضائل، كما اتفقوا على عد أضدادها رذائل، ألا ترى إلى الأطفال يحكمون على الكذب بأنه شر من غير إعمال فكر، ويحتقرون السارق، ويعدون السرقة جريمة ولو لم يكن لهم من النظر البعيد ما يرون به الآلام التي تحيق بالمجتمع من وراء الكذب أو السرقة، وكذلك القبائل التي لم تأخذ بحظ من المدنية، وليس عندهم نظر دقيق يقيسون به ما ينتج من اللذائذ والآلام يكادون يتفقون على الفضائل والرذائل.
هذه القوة التي في طبائعنا نسميها «اللقانة» ونسمي المذهب القائل بها «مذهب اللقانة».
وقد تصاب هذه القوة بالمرض فترى الخير شرا والشر خيرا، كما تصاب العين فلا تدرك بعض الألوان، أو تحكم على الواحد بأنه اثنان، وكما تصاب القوة العقلية فتحكم أحكاما خطأ ولكن العين السليمة والعقل السليم يصححان هذا الخطأ كذلك اللقانة قد تخطئ ولكن اللقانة السليمة تدرك هذا الخطأ وتصححه.
ويمتاز هذا المذهب عن مذهب السعادة بنوعيه بأنه: (1)
يرى الفضائل فضائل في جميع الظروف، وفي كل زمان ومكان، وليس كونها فضيلة تابعا لغاية إذا وصلت إليها كان خيرا وإن لم توصل كانت شرا. (2)
إن الفضائل أمور بديهية ليست في حاجة إلى البرهنة على صحتها. (3)
وأنها ليست محلا للشك، فمن المحال أن نرى يوما ما أن ضدها هو الخير وأنها هي الشر.
وهذه القوة في طبيعة كل الأنواع البشرية، العالي منها والسافل، ولسنا نعني أنها على درجة واحدة من الرقي، وإنما نعني أنها طبيعية في الناس جميعا كحاسة السمع والنظر، وإن اختلفت قوة وضعفا، وأنها ككل ملكات الإنسان قابلة للترقية بالتربية.
ناپیژندل شوی مخ
وعلى الجملة فهذا المذهب يرى أن الإنسان يجب أن يكون أرقى من أن تسيره اللذة والألم، وليس قانون الأخلاق وأوامره خاضعة لنتائج العمل، ولا لما فيه من اللذائذ والآلام، وإنما ركب في أنفسنا ضمير يناجي الإنسان ويأمره بالخير وبالواجب، ثم إن هذا الخير أو الواجب قد يثمر لذة وسعادة، وقد تسير الإنسان إلى حد ما رغبته في اللذة وفراره من الألم، ولكن هذا الضمير لا يخضع لذلك، بل قد يتطلب أحيانا أن يضحي باللذة والسعادة والحياة نفسها للواجب، والواجب واجب ولو منع لذة واستتبع ألما، والخير خير في ذاته مهما كلف من المشاق، وإنه لحط من كرامة الإنسان أن يمسك دائما ميزانا يزن به كل عمل قبل أن يعمل ليرى ما ينتجه من لذائذ وآلام، فإن هذا عمل التجار. أما الأخلاقي فيجب أن يكون أشرف من ذلك، يصغى لصوت ضميره، ويسمع لما يوحى إليه من أوامر ونواه، وهذا هو ما يشرفه ويضعه في أسمى مكان يليق به.
وممن ذهب هذا المذهب طائفة من الفلاسفة الأقدمين يسمون (الرواقيين) وهم أتباع زينون، فيلسوف يوناني (342-270ق.م) كان يعلم أصحابه في رواق مزخرف في أثينا، ومن ثم سمي أصحابه بالرواقيين (Stoics)
وقد كان زينون معاصرا لأبيقور ومعارضا له في تعاليمه. فبينا يرى أبيقور أن الغاية من الحياة هي الوصول إلى أكبر لذة ممكنة للعامل، وأنه يجب إحياء الشهوة وإرواؤها، كان زينون يرى أنه يجب ضبط النفس وقمع الشهوات وعمل الواجب للواجب.
كان هؤلاء الرواقيون يرون أن اللذة ليست هي الغاية للإنسان، ولا هي بالخير دائما، وإنما الغاية نيل الفضيلة لأنها فضيلة. وطلبوا من الناس أن يكفوا عن اتباع الشهوات وأن يمرنوا أنفسهم على تحمل الآلام في سبيل الفضيلة.
والرواقي لا يجعل أكبر همه أن يكون غنيا ولا متلذذا، إنما أكبر همه أن يعيش حكيما فاضلا، في أى حال كان، في فقر أو غنى، وأن يستعمل ما حوله من الأشياء خير استعمال، ومثلوا الناس في الدنيا بالممثلين على مراسح التمثيل، قالوا: إن منهم من يمثل الملك، ومنهم من يمثل السائل الفقير، ولسنا نثنى على الأول لأنه مثل دور الملك ولسنا نعيب الثاني لأنه مثل دور الفقير ، إنما نثني على من أجاد دوره ملكا أو فقيرا ونعيب من لم يجد ملكا أو فقيرا، كذلك الشأن في الحياة، فالإنسان يجب أن يمدح أو يذم لإجادته في عمله أو عدمها، لا لمنصبه الذي يشغله وماله الذي يملكه.
وضرب أحد رؤساء هذا المذهب وهو «إبيكتيتس» (50-115م) مثلا لذلك من لاعبي الكرة، قال: إنهم لا يلعبون للكرة نفسها ولا يهمهم ملكها ولا من ملكها، وإنما يمدح اللاعب لأنه يعرف كيف يلعبها وكيف يجيد رميها، يريد بذلك أن الأشياء الخارجية لا قيمة لها في أنفسها، وإنما يمدح الإنسان على حسن استعمالها لا على ملكها.
والغربيون الآن يطلقون «رواقي» على من اعتاد أن يقابل الأشياء بهدوء وطمأنينة على الرغم مما يحيط بها من خطر وآلام.
ومن القائلين باللقانة في العصور الحديثة «كانت»
9
فقد كان يرى «أن عقل الإنسان هو أساس الأخلاق. وليس الإنسان في حاجة إلى أن يتعلم أن العمل خير أو شر بواسطة الملاحظة أو التجربة، أو قياس ما ينتج عنه من لذائذ وآلام، ولكن العقل بطبيعته يرينا الخير والشر، فإذا عرض أمامنا عمل ما فعقلنا يرشدنا إن كان خيرا أو شرا من غير عمليات حسابية، والعقل يأمرنا دائما أن نعمل ما نحب أن الناس يعملونه، فيأمرنا بالصدق لأننا نحب أن الناس يصدقون، وبتجنب الكذب لأننا نحب أن الناس لا يكذبون. ويجب أن نخضع لصوت العقل وأن نجعل إرادتنا تنفذ ما يأمر به وما ينهى عنه، وإذا جرينا على هذا المبدأ دائما ولو خالف ميولنا وشهواتنا فقد أدينا ما علينا من الواجب وسرنا سيرا أخلاقيا».
ناپیژندل شوی مخ