فأول دور سلكوه في معرفة الخير والشر «العرف». ونعنى بالعرف «عادة الأمة» فإذا اعتادت أمة عملا وكان فاشيا فيهم فذلك عرف، فزيارة القبور في الأعياد عادة للمصريين، فهذا عرف، وعادة كل أمة في ملبسها ونظام معيشتها ونحو ذلك يسمى عرفا.
ولكل أمة عرف خاص تعد خيرها في اتباعه، وتؤدب الأطفال به، وتشعرهم بأن فيه شيئا من التقديس، وإذا خالفه أحد استهجنت عمله وعدته خروجا عليها، فمن الصعب الخروج على المألوف من عرف في الملبس والمأكل ونظام الأفراح والمآتم وطرق التحية ونحو ذلك.
والناس منساقون إلى تنفيذ ما يقضى به العرف، وذلك بتأثير الرأي العام، فالناس - عادة - يمدحون متبعي العرف، ويسخرون من مخالفه، فلو خرج أحد على عادة الأمة في زيها أو أفراحها ومآتمها أو طرق تحياتها كان موضعا للنقد القاسي.
وفي أيام سذاجة الناس وبداوتهم لم يكن لهم مقياس يقيسون به العمل إلا العرف، فهم يحكمون على العمل بأنه خير لموافقته للعرف وشر لمخالفته له، ولا يزال كثير من الناس في كل أمة مهما بلغت من الحضارة يعملون ما يعملون لا لسبب إلا أنه يتفق وعادات قومهم، ويجتنبون ما يجتنبون لأن قومهم لا يعملون - فمقياس الخير والشر في نظرهم هو العرف، وبه يصدرون أحكامهم على الأشياء.
فلما أرتقى الناس تبين لهم أن العرف لا يصح أن يتخذ مقياسا، فبعض أوامره غير معقول، وبعضها ضار، فوأد البنات كان عرفا لبعض قبائل العرب في الجاهلية، وهو عرف ضار نهاهم الإسلام عنه وأبان ما فيه من خطأ، وعند الرومان كان الأب له الحق في إماتة أولاده وإحيائهم، والرق مع ما كان فيه من معاملة قاسية كان فاشيا في كثير من الأمم، وعادات المصريين في أفراحهم ومآتمهم عرف ضار وهكذا.
وإذا كان العرف قد يخطئ ويتبين الخلف سوء ما كان عليه السلف لم يصح أن يكون مقياسا صحيحا نقيس به الأعمال فنحكم عليها بالخير أو الشر.
ولو أن الناس جروا على مبدأ العرف لم يتقدم العالم عما كان عليه من قديم، لأنه إنما يتقدم بأولئك الذين يرون خطأ العرف فيجاهرون بمخالفته، ويدعون قومهم للخروج عليه، فيلتف حولهم كثير من الناس، ويأخذ رأيهم في الإنتشار حتى يحل الجديد الحق محل القديم الخطأ.
ومع هذا فإن جرى الناس على هذا المقياس كان له بعض الفائدة، فقد حمل كثيرا أن يأتوا بالعادات الصالحة ويمتنعوا عن السيئة جريا مع العرف ورجاء لمدح الناس وخوفا من ذمهم. (3-2) الرأي الشخصي
يلاحظ الذين يدرسون القبائل في حالتها الأولى من البداوة أن الفرد من القبيلة لا يحس إحساسا قويا أنه فرد مستقل بذاته، وإنما يغلب عليه الإحساس بأنه جزء من قبيلة، يحيا بحياتها ويموت بموتها، ويظهر هذا ظهورا بينا حين تقرأ الشعر الجاهلي فترى فيه أن شخصية الشاعر اندمجت في قبيلته حتى كأنه لم يشعر لنفسه بوجود خاص، وتتبين ذلك بجلاء في معلقة عمرو بن كلثوم، وقل أن تعثر على شعر من أشعار الجاهلية ظهرت فيه شخصية الشاعر، ووصف ما يشعر به وجدانه، إنما هو كثير التحدث عن قبيلته وأخبارها وأفعالها.
وفي هذا الدور لا يكون للأخلاق مقياس إلا العرف، فليس للفرد رأي شخصي يقوم به الشيء ليحكم عليه بأنه خير أو شر بل ليس له إلا أن يستحسن ما استحسن قومه ويستقبح ما استقبحوا، فهو لا يأتي بعمل أو يتجنب عملا بناء على تفكير منه ووزن له، بل لأن قومه يأتونه أو يجتنبونه.
ناپیژندل شوی مخ