فأدرك الرجلان أن أحمس على حداثة سنه يعرف أشياء كثيرة، وكان إسفينيس يشعر نحوه بمودة واطمئنان، فقص عليه قصة دخولهما مصر، وفي أثناء حديثه عادت إبانا تحمل أقداح الجعة، وسمكا مشويا، فوضعت الشراب والطعام أمامهم، وجلست تصغي إلى قصة إسفينيس حتى ختمها بقوله: «إن الذهب يذهل القوم عن نفوسهم ويخلب ألبابهم، وسوف نمضي إلى حاكم الجنوب ونعرض عليه نفائس ما نحمل، وأملنا أن يوافق أو ينال لنا الموافقة على تبادل التجارة بين مصر والنوبة، لنعود إلى سابق عملنا وتجارتنا» .. فقدمت لهما أقداح الجعة والسمك، وقالت: إذا وفقتما إلى غرضكما فستقومان بأعباء عملكما منفردين، فلا الرعاة يرضون بالعمل في التجارة، ولا المصريون في حالتهم الراهنة من الفقر والبؤس بقادرين على المشاركة فيها!
وكان لدى التاجرين ما يقولان في ذلك، ولكنهما آثرا السكوت عليه، وأقبلا على السمك يأكلان وعلى الجعة ينهلان، وأثنيا على السيدة أجمل الثناء، وأطريا مائدتها الساذجة، فتورد وجهها، ولهج لسانها بشكر الشاب على جميل صنيعه، وبلغ منها التأثر مبلغا عظيما فقالت: لقد مددت إلي يدك الكريمة في الوقت المناسب، وكم من مصريين بائسين تطحنهم رحى الظلم في الصباح والمساء دون أن يظفروا بمعين!
وبدا أحمس سريع التأثر، فما كاد يسمع أمه تقول هذا القول حتى تضرج وجهه باحمرار الغضب، وقال بحدة : المصريون عبيد، يلقى إليهم بالفتات ويضربون بالسياط، أما الملك والوزراء والقواد والقضاة والموظفون والملاك جميعا فمن الرعاة، السلطان اليوم للبيض ذوي اللحى القذرة، والمصريون عبيد في الأراضي التي كانوا بالأمس أصحابها!
وكان إسفينيس يرمق أحمس في أثناء تدفقه بالكلام بعينين يلوح فيهما الإعجاب والعطف، على حين ظل لاتو خافضا عينيه ليخفي تأثره، وسأله إسفينيس: وهل يوجد كثيرون يغضبون لهذه المظالم؟ - نعم، ولكننا جميعا نكظم الغضب ونحتمل الإساءة، شأن الضعيف الذي لا حيلة له، وإني لأتساءل أما لهذا الليل من آخر؟ فقد انقضت عشرة أعوام منذ رضي الرب الغاضب علينا أن يسقط التاج عن رأس مليكنا سيكننرع.
وخفق قلب الرجلان خفقة عنيفة، وامتقع إسفينيس، ونظر لاتو إلى الشاب دهشا ثم سأله: كيف تعرف هذا التاريخ على حداثة سنك؟ - تحفظ ذاكرتي صورة قليلة قائمة، ولكنها واضحة لا تزول، لأيام الشقاء الأولى، ولكني أدين لأمي بمعرفة تاريخ قصة طيبة الأسيفة التي لا تفتأ ترددها على مسمعي!
فنظر لاتو إلى إبانا نظرة غريبة اضطربت لها المرأة، فأراد أن يسري عنها فقال لها: أنت سيدة فاضلة وابنك شاب نبيل!
وقال لاتو لنفسه إن السيدة ما تزال تحاذر بالرغم من كل شيء، وكان في نيته أن يسأل عن بعض أمور تهمه، فعدل عن هذا إلى المستقبل، وغير الشيخ مجرى الحديث بلباقة وصرفه إلى وجوه تافهة، فأعاد الطمأنينة إلى النفوس، وشملهم الصفاء وتبادلوا جميعا شعور المودة الخالصة، وحين هم التاجران بمبارحة الدار قال أحمس لإسفينيس: متى تذهب يا سيدي إلى حاكم الجنوب؟
فقال إسفينيس وهو يعجب للسؤال: ربما ذهبت غدا. - لي رجاء. - ما هو؟ - أن أصحبك إلى ضيعته.
فسر إسفينيس لذلك، وقال للشاب: أتعرف الطريق إليها؟ - حق المعرفة.
وحاولت إبانا الاعتراض على ابنها، ولكنه أسكتها بإشارة عصبية من يده، فابتسم إسفينيس وقال: إذا لم يكن عندك مانع، فستكون الدليل إليها.
ناپیژندل شوی مخ