سأل أمين: وقت لماذا؟ - القطن الآن عندي وعند زوجتي في أكياس، سأنقله مساء في باحة المنزل عندي، وفي مخزن آخر عند زوجتي، وفي نفس الوقت سنملأ أكياسا بفرزة القطن وبأعواد الهندي ونضعها مكان الحريق. وأريد منك يا أمين أنت وأشرف أن تقسموا أعضاء الجمعية بين بيتي وبيت زوجتي، ويستخفوا من بعد صلاة المغرب بحيث لا يشعر بهم أحد، حتى ولا أهل المنزل عندنا أو عند زوجتي، والباقي اتركوه على الله وعلي. - وما الباقي؟ - سترون الآن.
ورفع سماعة التليفون وطلب رقما: ألو، فائق بك؟ - أنا منصور. يشاء الله سبحانه وتعالى أن تنفذ وعدك الذي وعدت في أول لقاء لنا.
وجاء صوت المأمور: ما أسعدني بذلك. - الأمر من اختصاصك وحدك. - ماذا؟ - رفعت أصدر أوامره لرجاله أن يحرقوا القطن عندي وعند زوجتي يوم الخميس القادم. - أهذا معقول؟ - يريد أن يعرف الناس قوته وجبروته، وفي نفس الوقت لا دليل. - معقول؟ - المهم أن هذا العمل الواسع سيحتاج إلى كل رجاله، ولن تجد فرصة خيرا من هذه لتقبض عليهم متلبسين. - وهل تتركهم يحرقون القطن؟ - إن جريمة الإحراق تقع بمجرد القيام بها، أما الشيء المحروق فليكن ما يكون، وسيادتك تعرف القصد الاحتمالي وما قد يترتب على هذا الحريق من انتشار النار في البلدة جميعها. - تصرف في غاية الذكاء. توكل على الله. - وهل لنا غيره؟! •••
رأى أصدقاء منصور المختبئين في تربص رجال رفعت وهم يتقاطرون واحدا في أثر آخر، محاولين قدر جهدهم ألا يلفتوا إليهم الأنظار، وهم لا يدرون أن وراء كل شجرة أو ثنية بيت رجل شرطة أو واحدا من أصدقاء منصور. وكان المأمور نفسه بسيارته الخاصة داخل حديقة البرتقال الواقعة بجانب مخزن سامية. وكان نائب المأمور متربصا هو الآخر قريبا من بيت منصور. كان جميع رجال الشرطة وأصدقاء منصور يعلمون أن الموعد هو الخميس، ولكن لم يعرفوا في أي ساعة وقت لهم رفعت القيام بمهمتهم.
هوم صمت متوقع على الجميع. وكان الجميع - مجرمين وشرفاء - يحاسبون أنفاسهم أن يعلو لها صوت. وتجمد كل في مكانه، فكأنه قطعة من شجر أو حجر من بناء. وارتفع صوت المؤذن يشق الليل والصمت والتربص: الله أكبر، الله أكبر. وفي نفس اللحظة نبت المجرمون من مكامنهم، وتكوفوا حول المخزنين؛ بعض منهم هنا عند منصور في بيته وبعض منهم هناك عند سامية في عزبتها. وانتظر رجال الشرطة وأصدقاء منصور جميعا حتى أشعل المجرمون النيران هناك وهنا، ثم خرجوا إليهم من حيث لا يحتسبون، وقبضوا عليهم جميعا متلبسين؛ الشرطة تؤدي واجبها، وأعضاء جمعية الحق شهود.
وظهرت سيارات الشرطة بعد قليل ونقلت المجرمين إلى المركز، وبدأ التحقيق.
كانوا كما توقع منصور هم كل عصابة رفعت، لم يتخلف منهم إلا عبد الله أبو سرور الذي أعلن خروجه على رفعت صائحا في وجهه: لا إله إلا الله، محمد رسول الله. •••
كانت ضربة حاسمة لرفعت، حتى لقد راح أصدقاؤه ومن كان يصطنعهم يسخرون منه، وينقلبون عليه جماعات ووحدانا، فدارت به الأرض؛ فقد رأى ما بناه في عشرات السنين يهوي أنقاضا. وسارع إلى صدقي البحراوي المحامي ليحضر مع المتهمين ويترافع عنهم. وكان ذلك عجبا؛ فقد قال صدقي بعد ثورته التي أعلن عنها في بيت الهنيدي: ألم أعد إليك قضاياك جميعا يا رفعت بك؟ - وغضبت منك غضبا شديدا. - غضبك كان في حسباني وأنا أرسل القضايا. - ظننت أن الأتعاب كانت قليلة، وها قد جئت لأضاعفها. - أنت ظننت ذلك يا رفعت بك. - أنا لم أغضبك في شيء، فكان عجيبا أن ترسل إلي القضايا بلا تعليق. - ألم يدر بذهنك أن إنسانا ما تأتي عليه لحظة يحاول فيها أن يتطهر ويقول لا إله إلا الله، محمد رسول الله؟ - فجأة؟ - أترى أنت أنها فجأة؟ يا ليتها كانت فجأة. إذن لحمدت نفسي أنني رجعت إلى الله من تلقاء نفسي، ولم يهزني شاب صغير كنت أنا أولى أن أسبقه في الرجولة والشجاعة وفي صيحة الحق. - ما فات فات. نحن الآن فيما نحن فيه. - وما الذي نحن فيه؟ - نحن إزاء قضية جمعت الشرطة فيها كل رجالي. - أنعم بالحكومة وأكرم. - هل أفهم من هذا أنك ترفض ما جئت لك من أجله؟ - أكاد أعرف ما جئت من أجله، ولكن لا أتصوره. - لماذا لا تتصوره؟ - محام أرسل إليك قضاياك القديمة، فكيف يقبل قضايا منك جديدة، أليست تلك عجيبة من عجائب الدنيا؟ - الأمر مختلف. - فيم الاختلاف؟ - هذه ليست قضايا خاصة بي، إنها قضايا أفراد شتى.
ثم إنها قضايا جنائية، وليست مدنية مثل التي كانت عندك. - رفعت بك، أرجو ألا يكون ما حدث قد أثر على ذكائك، كيف تقول إنها قضايا أفراد، إنها جميعا قضيتك أنت، والغالب أن يذكر واحد من هؤلاء اسمك كمجرم. - يستحيل. - أنت الآن في موقف لا يسمح بالتأكد من أي شيء أو أي شخص. هؤلاء مجرمون، والقضية جناية. ألا يحاول كل منهم أن يتشبث بأي شيء؟ - بل كل واحد منهم يعلم أنه إذا دخل السجن فلا ظهر له إلا أنا حتى يجد بيته ما يعيش منه. - ومع ذلك، ليس لك أن تتأكد من شيء. - فما قولك أنت؟ - فيم؟ - هل ترفض هذه القضايا؟ - لا إله إلا الله، محمد رسول الله. - يعني يذهب كل هؤلاء إلى السجن؟ - ولكم في القصاص حياة . - وبعد، ماذا أفعل؟ - مكاتب المحامين في كل شارع. - في المركز، أنا لا أثق إلا بك. - أنا لن أترافع عنك أبدا يا رفعت بك.
راح رفعت يكلم نفسه! - ماذا أعمل؟ ماذا أعمل؟ ألجأ لمحامين من القاهرة؟ - هذا يكون أحسن؛ لأنك ستواجه قضايا أخرى يا رفعت بك. - ماذا؟ - مظاليمك كثيرون، وما كان يخيفهم بالأمس من رجالك وسلاحك زال. امحى من الوجود. فتوقع قضايا جديدة مدنية وجنائية من كل نوع. - أتهديد هذا؟ - يا رفعت بك، لا تفقد ثباتك؛ فإنك لم يبق لك غيره. الجماهير انفضت عنك، ورجالك في السجون، لم يبق لك إلا ثباتك، فحذار أن تفقده، هذه نصيحة لوجه الله، كيف أهددك أنا؟ هل ظلمتني؟ إنني فقط أتوقع بتفكير حر ليس فيه مصالح شخصية.
ناپیژندل شوی مخ