ولكن يفيد كلام أبى الريحان البيرونى احتمال أن يكون لأصل البرهمية رسالة سماوية، ويرجح هذا الاحتمال بدليلين ينشأ عنهما، وبهما يكون احتمالا ناشئا عن دليل، ولمثل هذا الاحتمال قوة فى الاستدلال.
[الأدلة على سماوية الأصل البرهمي]
أولهما:
أن الرسل المذكورين فى التوراة والقران ليسوا هم الرسل واحدهم، بل يوجد غيرهم، فقد قال تعالى: مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ «١» ويقول ﷾: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ «٢» فوجود ديانة سماوية بين الهنود الذين كانت فيهم ثقافة وإدراك أمر راجح، بل أمر يقارب المقطوع به بمقتضى النصوص القرانية.
ثانيهما:
ما يذكره أبو الريحان البيرونى فى كتابه (ما للهند من مقولة، مقبولة فى العقل أو مرذولة) من أن خواص الهنود مواحدون، وأن عوامهم هم الذين دخلت الوثنية فى مزاعمهم، فهو يقول فى هذا المقام:
«اعتقاد الهند فى الله ﷾ أنه الواحد الأزلى، من غير ابتداء ولا انتهاء، المختار فى فعله القادر، الحكيم المحيى المدبر المنفرد فى ملكوته عن الأضداد، لا يشبه شيئا ولا يشبهه شىء. ولنورد لك شيئا من كتبهم لئلا تكون حكايتنا كالشىء المسموع فقط: قال السائل فى كتاب ياتنجل: من هذا المعبود القوى؟ قال المجيب: هو المستعالى بأزليته وواحدانيته عن فعل لمكافأة عليه براحة تؤمل وترتجى، أو شدة تخاف وتتقى، والبرىء من الأفكار، لتعاليه عن الأضداد المكروهة، والأنداد المحبوبة، والعالم بذاته سرمدا. إذ العلم الطارئ يكون لما لم يكن بمعلوم، وليس الجهل بحجة عليه فى وقت ما أو حال.
ثم يقول السائل بعد ذلك: فهل له من صفات غير ما ذكرت؟ فيقول المجيب: العلو التام فى القدر لا فى المكان، فإنه يجل عن التمكن، وهو الخير المحض التام، وهو العلم الخالص عن دنس الهوى والجهل. قال السائل: أفتصفه بالكلام أم لا. قال المجيب: إذا كان عالما فهو لا محالة متكلم.. قال السائل: فإذا كان متكلما لأجل علمه فما الفرق بينه وبين العلماء الذين تكلموا من أجل علومهم. قال المجيب: الفرق بينهم وبينه هو الزمان، فإنهم تعلموا فيه وتكلموا بعد أن لم يكونوا عالمين ولا متكلمين، ونقلوا بالكلام علومهم إلى غيرهم، فكلامهم وإفادتهم فى زمان، إذ ليس للأمور الأزلية بالزمان اتصال، فالله ﷾ عالم متكلم فى الأزل، وهو الذى كلم براهما وغيره من الأوائل على أشكال شتى، فمنهم من ألقى إليه كتابا، ومنهم من فتح الواسطة بابا، ومنهم من أوحى إليه، فقال بالفكر ما أفاض عليه. قال السائل: فمن أين هذا العلم؟ قال المجيب: علمه على حاله فى الأزل، وإذ لم
_________
(١) سورة غافر: ٧٨.
(٢) سورة فاطر: ٢٤.
1 / 14