الجزء الأول
نشأته- شبابه- بعثته مصابرته المشركين اتصاله بالقبائل هجرته ﷺ
1 / 3
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
مقدمة
محمد رسول الله وخاتم النبيين
لله الحمد على ما أنعم، وله الفضل فيما أكرم، إذ أكمل الدين، وأتم الرسالة الإلهية، بإرسال محمد ﷺ بالهدى ودين الحق، ليظهره على الدين كله، فأكمل الهداية، وأبلغ الغاية، وكشف المحجة، وبين الجادة، ورفع راية الاسلام القوى العزيز، المكين، وحمل الحواريون من أصحابه ما حملهم الله، فقاموا بواجب التبليغ، وأدوا الأمانة التى حملوها، فكانوا منارا مقتبسا من نوره، فرضى عنهم، ورحم الإنسانية بما اقتبسوا من معانى الرسالة المحمدية.
يا رسول الله:
إن الله خلقك بشرا سويا، ولكنك فوق سائر البشر، واثارك التى حملتها الأجيال من بعدك فوق القدر، ونحن معشر المتبعين لك إن كان فينا شرف هذا الاتباع إنما ندرك بالتصوير أمثالنا. فمن خواطرنا ومنازع نفوسنا نتعرف نفوس غيرنا، ونحكم على أحوالهم، وإن حاولنا أن ندرك من هو أعلى منا، فإنه يجب أن يكون علوه على مرأى أنظارنا، وفى مطالع افاقنا، فعندئذ نحاول وقد نصل، ولكنك يا رسول الله فى علو لا نصل إليه، وفى سماك لا نراه، وليس منا من يضاهئك حتى نتمثله ونتخيله، فأنّى لأمثالنا أن يكتب فى شأنك، وأن يعلو إلى شأوك، إن ذلك أمر فوق المنال، ويعلو على مدارك الخيال.
ومن أجل هذا نضرع إلى الله أن ينالنا بغفرانه، إن تسامينا محاولين الوصول إلى الكتابة فيك، فالمعذرة قائمة، والقصور ثابت، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها.
يا رسول الله:
قد كتبنا فى أئمة أعلام، قد قبسوا من نورك قبسة أو قبسات، أدركنا نورهم، ووفقنا الله تعالى إلى ما نحسب أننا وصلنا فيه إلى ما يفيد، وبمقدار ما قبسوا كنا ندرك ما به شرفوا، وما به أصابوا. واهتدوا.
فلما جئنا إلى ساحتك. وحاولنا أن ندخل إليها، غمرنا النور، وكف أبصارنا الضوء المنير، فأنّى ندرك، وأنّى نرى، وقد صرنا كذى رمد غمره ضوء الشمس، أما ما هو أعلى، فأصابتنا الحيرة، ولا هادى لنا يخرجنا منها، إلا أن تكون الهداية من الله تعالى كما أمر إذ قال سبحانه: قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ «١» فليس لنا إلا أن نلجأ إليه ضارعين أن يهدينا لتصوير شخصك الطاهر المطهر، أو لتقريبه إذا كان التصوير فوق طاقتنا، وأعلى من أن نصل إليه، فإن التقريب يحل عند العجز محل التسديد، والعجز مغفور، والقاصر معذور، والله عفو غفور.
_________
(١) سورة ال عمران: ٧٣.
1 / 5
يا رسول الله:
إننا نكتب فى العظماء لنصور نواحى عظمتهم، ولكل عظيم ناحية واحدة من نواحى العظمة، فالاتجاه إلى تلك الناحية هو مفتاح عظمته، فتسهل معرفته، ولكنك يا رسول الله فوق عظمة الأشخاص، لأن وجوه عظمتك تعددت، حتى يعجز المحصى عن الإحصاء، والمستقرئ عن الاستقراء، وإذا نفدت الطاقة أقر مطمئنا بعجزه، ومؤمنا بأن وجودك فى هذا الوجود معجزة البشر، فإذا كنت من البشر، ولست فى كونك إلا بشرا، فلست إلها، ولست ملكا من الملائكة، فإنك فى مقام أعلى من سائر البشر ومن الملائكة، صانك ربك، وحفظك ورباك على عينه، حتى كنت وحيدا بين الغلمان، بما كلأك الله به وحماك، وصبيا فريدا بين الصبيان، وكنت الشاب الأمين عن رجس الجاهلية بين الشباب، فكل شىء فى حياتك الأولى كان من الخوارق التى علت عن الأسباب والمسببات، فلم تكن أثر تربية موجهة، ولا أثر بيئة حاملة، ولا أثر شرف رفيع، وإن كان محققا، ولكنك كنت صنيع الله، فكنت معجزة بشخصك وكونك ووجودك، فيك البشرية، وفيك المعجزة الإلهية اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ «١» .
يا رسول الله يا خير البشر:
كنت ذا الخلق القويم، والسياسى الحكيم، والقائد العظيم، والحاكم الرفيق، والمربى لأمتك بالشورى، والوحى ينزل إليك، وكنت الرؤف بأمتك، والمحارب الرحيم، وحامل لواء السلام فى مرحمة النبى، وعزة القوى، أنشأت جماعة مؤمنة ابتدأت بها بذرا صالحا، وأخذ ينمو فى بيئتك الطاهرة، مختفيا فى خلايا الإيمان، حتى أخرج شطأه، فظهر متعرضا لمقاومة الحدثان، قويا فى تكوينه حتى استغلظ واستوى على سوقه، وصار قوة الحق فى الأرض، وكنت كما قال الله تعالى مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ، تَراهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا، يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانًا، سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ، ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ، وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ «٢» وكل ذلك بتوجيه ربك، وإلهام نفسك، وعلو فكرك، وقوة قلبك، فمن أى ناحية يدرس حياتك الدارس، وقد كان كل شىء فيك قويا عظيما، كما قال فيك ربك، وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ «٣» .
اللهم ربى، ولا خالق سواك، ولا إله غيرك.. وليس كمثلك شىء، وأنت السميع البصير، خلقت محمدا من البشر، وجعلته سيد البشر، وأرسلته رحمة للعالمين، وإذا كان وجوده وما أحاط به خارقا للأسباب والمسببات فقد أرسلته بمعجزة لا تزال تتحدى الخليقة إلى يوم الدين.
_________
(١) سورة الأنعام: ١٢٤.
(٢) سورة الفتح: ٢٩.
(٣) سورة القلم: ٤.
1 / 6
ربى العظيم:
لقد تطاولت فاعتزمت أن أكتب فى سيرة نبيك وخاتم أنبيائك محمد ﷺ، فاغفر لى يا رب ذلك التطاول، إنك أنت الغفور الرحيم، وأمدنى بعونك وتوفيقك فى هذا المقام الذى يعلو عن طاقتى، وتعجز فيه قدرتى إن لم يكن منك العون.
رب لا تخزنى، فإنه لا قدرة لى إلا بتوفيقك، ولك الفضل، والمن، وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ «١» .
وإنى قد اتجهت إلى القصد فى القول. فمهما يكن الإطناب، فإنه لا يصل إلى الغاية ولا يبلغ الشأو. ولذلك اجتهدنا فيما هو تحت سلطان قدرتنا، ومع ذلك استطال بنا القول، وإن لم ندرك النهاية، فهى فوق قدرة عاجر مثلى، ولقد قسمت الكتاب إلى ثلاثة أجزاء:
أولها- ذكر حياة النبى ﷺ من ولادته التى حاطتها الخوارق، وحياته التى كانت كلها إرهاصات بالنبوة، حتى بعثه الله تعالى بشرا رسولا، وأوذى هو وحواريوه فى الله، وصبر وصابر، حتى كانت الهجرة التى أنشئت بها مدينة الإسلام، ودولة الإيمان.
والثانى- فى جهاده، وقمع الشرك، وفتح الطريق للدعوة المحمدية، وإزالة المحاجزات من طغيان الظالمين، وفتنة المؤمنين، حتى تسير الدعوة فى طريقها من غير عوج، وفى طريق معبد لا يحاجزه الشر، ولا يدعثره الإيذاء. وإن هذا الجزء ينتهى بصلح الحديبية، حيث يئس الشرك من أن ينال من أهل الإيمان، وعجز عن أن يغزو المؤمنين، وصارت الكلمة العليا فى الجزيرة العربية للإيمان، وسارت الدعوة فى كل مسار.
والجزء الثالث من بعد الحديبية، وفيه تجرد النبى ﷺ لليهود الذين كانوا شوكة فى جنب العرب، وأخذ الإسلام يعم جزيرة العرب، ويخرج إلى أقطار الأرض، فكانت مؤتة، وكان الفتح العظيم الذى يئس فيه الشيطان أن يعبد فى هذه الأرض، وأخذ الإسلام يغزو ما حول العرب بكتب النبى ورسله، والسرايا يبثها، وبالخروج إلى الروم الذين قتلوا المؤمنين من أهل الشام فى أرضهم، فكان لابد من تأمين الدعوة، وإزالة الفتنة، وهذا الجزء ينتهى برحلة النبى ﷺ من هذه الدنيا بروحه إلى السموات العلا.
اللهم انفعنا بهديه، واهدنا سبله، إنك تهدى من تشاء، وإنك على كل شىء قدير.
محمد أبو زهرة
_________
(١) سورة هود: ٨٨.
1 / 7
[تمهيد]
الاضطراب الفكرى:
١- فى القرن الخامس الميلادى وما يليه، كان العالم الإنسانى يموج بالشر، وتضطرب النفوس، واستحكمت الأهواء، وتفرق بنو الإنسان، حتى صار القانون السائد المسيطر، الحق هو القوة، والقوة هى الحق، فشاهت الأفكار، وتقطعت الأسباب. وصار ابن ادم ينقض ما أبرمته الفطرة، ويحل الرابطة الإنسانية الجامعة، وعجز العقل عن أن يحكم بين الناس، بل إنه اتخذ العقل مطية لتبرير الباطل، وتزييف الحق، والعبث بالميراث الإنسانى للنبيين من بعد إبراهيم وموسى وعيسى، وشوهت المفاسد تعاليم موسى وعيسى، وغيرهم من الأنبياء المرسلين، فالنصارى قد استسلموا لحكم الأباطرة وزكوه، بل أيدوه، وتفرقوا، وصار بأسهم بينهم شديدا، وأغرى الله ﷾ بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة.
فالملكانيون تحكموا فى اليعقوبيين، حتى نفروا منهم. واليهود شوهوا تعاليم موسى ﵇ فضربت عليهم الذلة والمسكنة، وصاروا مع فساد قلوبهم، لا وجود لهم إلا بمعونة قوى يريد أن يكون غالبا لهم ولغيرهم، وتسربلوا سربال العداوة لبنى الإنسان جميعا، إذ يعطون لأنفسهم من الصفات العقلية، والمزايا الدينية ما ليس فيهم وينكرونه فى غيرهم، حتى زعموا أنهم أبناء الله وأحباؤه، وأنهم شعب الله المختار، وزعموا لغيرهم المنزلة الدون، وكانوا يقولون عن العرب الذين نكبوا بمعاشرتهم.. لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ.. «١»، فهم يأخذون منهم بالحق والباطل، ولا يعطونهم شيئا لأنه لا سبيل لهم بحق، ولا بغيره.
٢- وكان الأقربون والأبعدون، والقاصون والدانون فى اضطراب فكرى، وعجز العقل البشرى عن أن يحل مشاكل هذا الوجود. فتاه العقل فى معرفة أصل الوجود، ولم تستطع الفلسفة الأيونية أن تحل مشكلة أصل الوجود، ولا أن تصل إلى منشئه، مما أثبت أن العقل مهما يؤت لا يستطع أن يفسر سر الظواهر، فهو يعرف مظاهر الأشياء، ولا يعرف الأسرار المستكنة الباعثة، يعرف مظاهر الحرارة والكهرباء ولا يمكن أن يعرف ما يحركها، إلا إذا اتجه إلى معرفة المؤثر من الأثر، والمنشىء مما أنشأ. ولكنه- وقد غمر بالمحسوسات، ومظاهر القوى، دون أن يعرف مصدرها، عمى عن الأصل وشغل بالفرع، فتاه فى هذه السماء، وصار فى عمياء، لا يعرف المبتدأ وإن عرف مظاهره.
ومع ظهور الأديان السماوية، واختتامها بالإسلام لا يزال العقل، وهو مأسور بما يحس، لا يعرف ماوراء المحسوس، وكل ما تراه من سيطرة العقل ونفاذه لا يتجاوز المظاهر واستخدامها، وهو يجهل باعثها، ولا يعرف منشئها إلا إذا كان ينفذ من المظهر إلى المنشئ المكون.
_________
(١) ال عمران: ٧٥.
1 / 9
وإنه لا يمكن معرفة الكون على حقيقته إلا بالإيمان بمن أنشأه، وإن الأديان السماوية تدعو إلى معرفة المنشىء مما أنشأه، ومعرفة الخالق من المخلوق، فهى تدعو إلى دراسة الخلق لمعرفة من أنشأه. تدعو إلى دراسة الكون، وتعرّف مظاهره لمعرفة من وراء هذه المظاهر، ولم يكن ذلك شأن الدارسين للكون فى الماضى، ولا من يدرسون مظاهره المجردة فى الحاضر، وإنما يهمنا الماضى الذى كان قبل محمد ﷺ، وما كان عليه الوجود.
٣- تلك كانت حال العقيدة فى الفلسفة الأيونية، والفلسفة اليونانية التى ورثتها، ولما جاء سقراط زعيم هذه المدرسة وكبيرها، أراد أن ينزل بالفلسفة من السماء إلى الإنسان، ودعا إلى ترك البحث عما وراء الطبيعة ومظاهرها، وأراد أن يعمل ما يجدى وما ينفع فى السلوك الإنسانى، بدل أن يهيم فيما وراء الطبيعة من غير هاد يهدى، ولا مرشد يرشد.
أخذ يدرس نظام التعامل الإنسانى، ومقياس الفضيلة الذى يميزها عن الرذيلة، ليميز به الحق من الباطل، وخطأ السلوك واستقامته؛ ليعرف ما هو فاسد وما هو صالح.
ودعا إلى ذلك، واختلف هو وتلاميذه، فمن قائل إن القياس هو المعرفة وهو ما اختاره سقراط، ومن قائل إنه الحكمة والعدالة والشجاعة والعفة. والفضائل كلها ترجع إلى هذه العناصر، وقد اختار ذلك أفلاطون، ومن قائل إنه اللذة أو المنفعة، فما هو نافع، ولو نفعا شخصيا فهو خير، وما لا نفع فيه فهو شر، ومن قائل إن الخير وسط بين رذيلتين.
وهكذا كانت المتاهات العقلية فى إدراك أسس التعامل الإنسانى، كالحيرة فى معرفة العقيدة الصحيحة، فالعقل لم يستطع أن يصل إلى قانون التعامل المستقيم، كما لم يصل إلى إدراك سر الوجود، بل كان يهيم فى نظريات من غير أن يصل إلى حقائق ثابتة.
وفى وسط ذلك الديجور ظهرت السوفسطائية التى تشكك فى حقائق الوجود، فمنهم من أنكرها، ومنهم من شك فى كل شىء، ومنهم من قال إن الحق فى الأشياء هو ما يعتقده كل امرىء فى ذات نفسه، وتسمي العندية، فليس للأشياء حقيقة، وإنما الأمر فيها إلى اعتقاد وجودها.
وهكذا كان الضلال المبين بسبب الاعتماد على العقل المجرد فى وسط تلك الفلسفة التى لا تهدى، بل يضل فيها الفكر، كما يضل السارى فى ظلمات الليل.
المجوسية:
٤- ولو غادرنا اليونان ومن سبقوهم إلى الفرس ومن وراءهم فإنا واجدون عجبا، فإنا نجد بجوار الفلسفة اليونانية التى سرت إليهم فلسفة أخرى، أرادت أن تنظم التعامل الإنسانى وتحل مشكلة أصل
1 / 10
الوجود بأوهام توهموها، وأساطير اكتتبوها، فكانت الزرادشتية التى تفرض أن الوجود له إلهان إله الخير وإله الشر، وأن كليهما يتنازع النفس الإنسانية والكون وما فيه.
وإن هذا- بلا ريب- باطل لا أصل له من دين، ولكن قد يقال إنه تحريف لدين سماوى، كان يدعو لعبادة الله تعالى واحده، ولا مانع من ذلك عقلا، وقد وجد فى بعض كتب ذلك بقايا تبشر بمحمد ﵊، وقد قال تعالى: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ «١» .
ولكن نجد بجوار ذلك مذهبا اجتماعيا خطيرا يدعو إلى القوة، وأنه لا عبرة بالضعفاء، وأنهم لا يصلحون للبقاء، فالحق مع القوى دائما، والباطل مع الضعيف دائما، فقانون الحياة يعمل للأقوياء على الضعفاء، ويجب أن يبقى الأقوياء، وأن يفنى الضعفاء، فلا إيمان بالعدل، وإنما الإيمان بالقوة.
المانوية:
٥- ثم كان بفارس أيضا مذهب يحسب أن الوجود الإنسانى كله شر يجب ألا يبقى، بل يجب العمل على إفناء الإنسان، وهو مذهب (مانى) وعقيدته تسمى المانوية، فهو مذهب يدعو إلى الفناء. ولذلك يمنع الزواج، حتى لا يكون تناسل، وينتهى ذلك الإنسان الذى اعتبر وجوده لعنة فى الأرض، ومادام الإنسان فى الإنسال مستمرا، فإن اللعنة الإنسانية مستمرة، وكأنه يحسب أنه نزل إلى الأرض بخطأ ارتكبه أبوه، فالخطيئة باقية بوجوده.
المزدكية:
٦- وبعد ذلك جاء المذهب المخرب، كان مذهبا اخر يحل الواحدة الإنسانية، والعلاقة الفاضلة، وهو مذهب (مزدك) الذى انتشر فى فارس، وأساسه إباحة النساء، فلا زواج ولا ارتباط، بل يسافد الإنسان كما يسافد الحيوان من غير أى قيد من رابطة حافظة للأنساب، وراعية للطفولة المقبلة، كما أباح الأموال، فلا ملكية تحمى إنسانا، من إنسان، بل كل الأموال مباحة للجميع من غير أى نظام، فهو يمنع القيود فيها كما يمنع القيود فى النساء.
وجملة هذا المذهب أنه يبيح الانطلاق من كل قيد، كما أن الحيوان فى البادية أو الغابة منطلق، لا يقيد إلا بقوة غير التى ترسم له حدا لا يتعداه.
والوهم الذى قام عليه ذلك المذهب أنه زعم أن الشحناء والبغضاء تتوالدان من احتياز النساء بالزواج أو نحوه، واحتياز المال بالملكية، ويحسب أنه إذا زالت روابط الزوجية، وزالت الملكية للأموال يكون الناس فى
_________
(١) سورة فاطر: ٢٤.
1 / 11
سلام دون خصام، وياليته اعتبر الإنسان كالحيوان لأنه مع زوال الملكية والعقود الرابطة للعلاقة بين الذكر والأنثى فى الحيوان لم تزل القوة الغالبة والافتراس بين الحيوانات المتحدة فى الجنس والأرومة والمختلفة القوة والقدرة على التسلط والعدوان.
ومهما يكن فقد انتشر ذلك المذهب فى فارس، وضاعت الأنساب، واعتنقه بعض الأكاسرة، وساد وسار مدة حكم هذا الكسرى.
ولكن زال ملكه، قبيل مبعث النبى ﷺ، فانظر كيف تأذّى بهم ما سمّوه حكم العقل.
البراهمة:
٧- ولو أننا تجاوزنا فارس إلى ماوراءها من أرض المشرق، فإنا واجدون الهند، وما فيها، وهنالك نجد ديانة تقوم على التفرقة الإنسانية بين الطبقات، فالناس ليسوا سواء فى الحقوق والواجبات، بل يقرر دين البراهمة التفرقة بين الناس من حيث العبادة والزلفى لبراهما، إلههم الأكبر؛ فقد انقسم الناس من حيث مهنهم التى تتوارث، والتى تصير المهنة عندهم أصلا نسبيا ينتقل من الأصول إلى الفروع، ومن الفروع إلى فروعهم فقسموا إلى أربع طبقات:
[طبقات الناس في عقيدة البراهمة في المجتمع الهندي]
الطبقة الأولي: هى أعلاها وهى طبقة البراهمة
، وهم رجال الدين الذين يبينون أحكامه، ويزعمون أنهم خلقوا من رأس إلههم (براهما) ولذلك كانوا أعلى الناس، لأنهم خلقوا من أعلى الإله. وهم فى زعمهم خلاصة الجنس البشرى، وعقله المتفكر، ورأسه المدبر، لأن الرأس عنوان ذلك كله، فهم علاوة الجسم.
الطبقة الثانية: طبقة الجند
، ويزعمون أنهم خلقوا من مناكب إلههم (براهما) ويديه، وهم لهذا الحماة والغزاة وموطن القوة. ومرتبتهم دون مرتبة البراهمة، وهى تليهم مباشرة.
الطبقة الثالثة: طبقة الزراع والتجار
، وهم مخلوقون من ركبتى إلههم، والمسافة بينهم وبين الطبقة السابقة لها كبيرة، وهى قريبة من الطبقة التى تليها مباشرة لتقاربهما فى التكوين والخلق.
الطبقة الرابعة:
طبقة الخدم والرقيق، وهؤلاء خلقوا فيما يزعمون من قدمى إلههم فهم أحط الطبقات، وأبعدها، لأنها البعيدة عن رأس (براهما) .
وهناك دون هذه الطبقات طبقة أبناء الزنى والمحرومين أو المنبوذين، والذين يتناولون الأعمال الحقيرة فى المدن، ويسمون من ليسوا من الهنود (أبليج) ومعناها أنجاس، فكل من ليس هنديا نجس.. ويلحق بتلك الطبقة من المنبوذين.
1 / 12
ونجاسة أولئك ليست نجاسة معنوية فقط، بل هى نجاسة حسية فى زعمهم، حتى أن الأجنبى لو شرب من كوب ماء حطموه، وألقوا بحطامه فى الأرض.
ويلاحظ فى هذه الطبقات أنها تتوارث، فلا يرتقى ابن طبقة إلى أعلى منها، ولا ينحدر من هو فى الأعلى إلى الأدنى.
والفضائل تتفاوت بتفاوت الطبقات، ففضائل البرهمى أن يكون وافر العقل ساكن القلب صادق اللهجة، ظاهر الاحتمال، ضابطا لنفسه، مقيما للعدل، بادى النظافة، مقبلا على العبادة، مصروف الهمة إلى التدين.
ويجب أن يكون الجندى مهيبا شجاعا، ذلق اللسان، سمح اليد، غير مبال بالشدائد، حريصا على لقاء الخطوب، وتيسيرها.
ويجب أن يكون الزراع والتجار عاكفين عليها، يرعى الزراع شئون السوائم وتربيتها، ويقوم التاجر بشئون التجارة، ومعرفة الأسواق، وما تتقاضاه الخبرة من صفق فى البياعات والتمرس بشئونها وتعرف أحوالها.
ويجب أن يكون الخدم والأسارى والأنجاس مجتهدين فى الخدمة، والتحبب إلى الناس، لأن ذلك أليق بما ينبغى أن يكونوا عليه من اداب، وهذا الذى يتفق مع أعمالهم فى الجماعات.
ويقول أبو الريحان البيرونى فى كتابه (ما للهند من مقولة، مقبولة فى العقل أو مرذولة) بعد بيان الطبقات ما نصه: «وكل من هؤلاء إذا ثبت على رسمه وعادته نال الخير فى إرادته إذا كان غير مقصر فى عبادته غير ناس فى جل أعماله، وإذا انتقل عما عهد إليه إلى ما عهد إلى طبقة أخرى- كان اثما بالتعدى» .
هذه نظم وعبادة فيها وثنية، وإذا ضربنا صفحا عن الوثنية فيها واتجهنا إلى النظم العملية، فعجب كيف يقبل شعب مهما تكن درجة التفكير فيه تلك الطبقية المقيتة، ويسير عليها على دين واجب الطاعة، ومن أجل هذه الطبقية كان التأخر النفسى والاجتماعى.
هل للبرهمية أصل سماوى:
٨- لا شك أنه لا يوجد فى دين سماوى التفرقة الطبقية التى يعتبرها البراهمة فى القديم فى ضمن دينهم الذى انتشر بها قبل المسيح، ولا تزال بقاياها قائمة، وإن خفت حدتها بفعل الزمان، وبطبيعة الاتصالات الإنسانية العامة، وشيوع فكرة المساواة بين الناس علما، وإن كان العمل لا يزال يتخاذل عن تعميم المساواة بين الناس بحكم الخضوع المزعوم لقضايا العقل الذى يحسبون أنهم يطبقونه.
1 / 13
ولكن يفيد كلام أبى الريحان البيرونى احتمال أن يكون لأصل البرهمية رسالة سماوية، ويرجح هذا الاحتمال بدليلين ينشأ عنهما، وبهما يكون احتمالا ناشئا عن دليل، ولمثل هذا الاحتمال قوة فى الاستدلال.
[الأدلة على سماوية الأصل البرهمي]
أولهما:
أن الرسل المذكورين فى التوراة والقران ليسوا هم الرسل واحدهم، بل يوجد غيرهم، فقد قال تعالى: مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ «١» ويقول ﷾: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ «٢» فوجود ديانة سماوية بين الهنود الذين كانت فيهم ثقافة وإدراك أمر راجح، بل أمر يقارب المقطوع به بمقتضى النصوص القرانية.
ثانيهما:
ما يذكره أبو الريحان البيرونى فى كتابه (ما للهند من مقولة، مقبولة فى العقل أو مرذولة) من أن خواص الهنود مواحدون، وأن عوامهم هم الذين دخلت الوثنية فى مزاعمهم، فهو يقول فى هذا المقام:
«اعتقاد الهند فى الله ﷾ أنه الواحد الأزلى، من غير ابتداء ولا انتهاء، المختار فى فعله القادر، الحكيم المحيى المدبر المنفرد فى ملكوته عن الأضداد، لا يشبه شيئا ولا يشبهه شىء. ولنورد لك شيئا من كتبهم لئلا تكون حكايتنا كالشىء المسموع فقط: قال السائل فى كتاب ياتنجل: من هذا المعبود القوى؟ قال المجيب: هو المستعالى بأزليته وواحدانيته عن فعل لمكافأة عليه براحة تؤمل وترتجى، أو شدة تخاف وتتقى، والبرىء من الأفكار، لتعاليه عن الأضداد المكروهة، والأنداد المحبوبة، والعالم بذاته سرمدا. إذ العلم الطارئ يكون لما لم يكن بمعلوم، وليس الجهل بحجة عليه فى وقت ما أو حال.
ثم يقول السائل بعد ذلك: فهل له من صفات غير ما ذكرت؟ فيقول المجيب: العلو التام فى القدر لا فى المكان، فإنه يجل عن التمكن، وهو الخير المحض التام، وهو العلم الخالص عن دنس الهوى والجهل. قال السائل: أفتصفه بالكلام أم لا. قال المجيب: إذا كان عالما فهو لا محالة متكلم.. قال السائل: فإذا كان متكلما لأجل علمه فما الفرق بينه وبين العلماء الذين تكلموا من أجل علومهم. قال المجيب: الفرق بينهم وبينه هو الزمان، فإنهم تعلموا فيه وتكلموا بعد أن لم يكونوا عالمين ولا متكلمين، ونقلوا بالكلام علومهم إلى غيرهم، فكلامهم وإفادتهم فى زمان، إذ ليس للأمور الأزلية بالزمان اتصال، فالله ﷾ عالم متكلم فى الأزل، وهو الذى كلم براهما وغيره من الأوائل على أشكال شتى، فمنهم من ألقى إليه كتابا، ومنهم من فتح الواسطة بابا، ومنهم من أوحى إليه، فقال بالفكر ما أفاض عليه. قال السائل: فمن أين هذا العلم؟ قال المجيب: علمه على حاله فى الأزل، وإذ لم
_________
(١) سورة غافر: ٧٨.
(٢) سورة فاطر: ٢٤.
1 / 14
يجهل قط فذاته عالمة، لم تكتب علما لم يكن له، كما قال فى فيد الذى أنزل على براهما: احمدوا وامدحوا من تكلم بفيد. وكان قبل فيد، قال السائل: كيف نعبد من لم يلحقه الإحساس؟ قال المجيب:
تسميته تثبت إنيته، فالخبر لا يكون إلا عن شىء.. والاسم لا يكون إلا لمسمى، وهو إن غاب عن الحواس فلم تدركه، فقد عقلته النفس، وأحاطت بصفاته الفكرة، وهذه هى عبادته الخالصة» .
هذه نقول البيرونى فى كتابه عن الكتب المقدسة الهندية، وهو يدل على ثلاثة أمور:
أولها:
أن هذه الكتب تدل على واحدانية الله ﷾، وتنزهه عن مشابهة الحوادث، فهو ليس كمثله شىء وهو السميع البصير العالم المتكلم، والمتصف بكل كمال، لا يتلاقى فيه مع صفات أحد من البشر. فواحدانيته ﷾ فى الخلق والتكوين، وصفاته العلية، وخلوصه سبحانه بالعبودية لا ريب فيها فى كتب البرهمية الأصلية.
الأمر الثانى:
أن الرسل جاءت إليهم، وقد ذكر أن النصوص الدينية فى التوراة والإنجيل والقران، لا تمنع ذلك بل إنها تؤيده، كما تكون من الايات الكريمات.
وإن براهما- لم يكن إلها، ولا شىء فيه من الألوهية إلا أنه كان رسولا من عند الله تعالى.
والعبارات التى نقلها لنا البيرونى من كتبهم صريحة فى ذلك صراحة مطلقة.
الأمر الثالث:
أن هناك كتابا منزلا تلقاه براهما من ربه، من غير نظر إلى كون ذلك الكتاب حرف فيه الكلم عن مواضعه كما حدث للتوراة والإنجيل، أم لم يحرف، والراجح أنه حرف لتقادم العهد، بدليل أنه وجد عندهم تشبيه ونحل لبراهما وصف فيها بالإله، لا وصف الرسول عند عامتهم.
كتبهم:
٩- للبراهمة كتب كما دلت على ذلك عبارات البيرونى، وأقدم ما عرف من كتبهم الفيدا، ولم يعرف المؤرخون عصره على وجه التحقيق والضبط، وأقصى ما تأكد لديهم أن الفيدا كانت موجودة قبل القرن الخامس عشر قبل ميلاد المسيح ﵇، فقد كانت مع الفاتحين الاريين على أنها من أصول ديانتهم..
والفيدا مجموعة من الأشعار ليس فى كلام الناس ما يماثلها فى نظرهم، ويقول جماهيرهم:
«إن البشر يعجزون عن أن يأتوا بمثلها» ويقول البيرونى أن خاصتهم يقولون أن فى مقدورهم أن يأتوا بمثلها ولكنهم ممنوعون من ذلك احتراما لها. ولم يبين البيرونى وجه المنع: أهو منع بمعنى التحريم، بمعنى أن فى استطاعتهم أن يأتوا بمثلها ويتجهوا إلى ذلك، ولكنهم كلفوا ألا يأتوا، أم أن هذا المنع إنما
1 / 15
هو صرف لهم عن أن يأتوا بمثلها، فهم قادرون على أن يأتوا، ولكنهم صرفوا عن ذلك كما يقول بعض الجهلاء فى إعجاز القران منحرفين فى دينهم؟ لم يبين لنا البيرونى أى الوجهين أراد بالمنع. لئن أراد الأول، وهو منع بالتحريم وذلك لا يقتضى الامتناع، فقد يكون من بعض المكلفين من يعصى، فيأتى بمثلها، أو يزيد عليها، لأن الناس ليسوا معصومين عن المخالفة، ولا أحد من البراهمة يعتقد جواز وجود أمثالها، ولذلك نرجح أن يكون الامتناع فى زعمهم بصرفه، ونكتفى من الإشارة إلى كتبهم بهذا القدر.
البوذية:
١٠- بعد أن حرفت البرهمية وجعل الناس فى عقيدتها طبقات كان لابد أن يكون من بينهم من يغيّر، ولا يرضى بهذه الطبقات، ولذلك ظهر من بينهم من لا يرضى وهو من رجال الطبقة الأولى، وبلغ أقصى الغاية فيها، وهو بوذا، الذى ولد سنة ٥٦٠ قبل المسيح ﵇، وكانت دعاية بوذا تخفيف ويلات الإنسانية التى أرهقها نظام الطبقات.
ولقد اتجه فى سبيل تخفيف ويلات الإنسانية إلى الدعوة لتخفيف الحاجات وكف النفس عن الشهوات، وهذه الشهوات هى التى تشقى، فإذا كانت ويلات الناس تجىء إليهم من ناحية أهوائهم وشهواتهم، واتساع مطالبهم، والرغبة فى المزيد منها، فإن تخفيف ويلات الحياة يكون بتربية النفس على الاستغناء عن أكثر مطالبها. والاكتفاء بالقليل ومجانبة الأهواء والشهوات. فإنها هى التى تجعل النفس طلعة، تحب اللذائذ وإن كانت عاقبتها سيئة، فكان من الواجب السيطرة على الأهواء.
وقد وضع منهاجا للتربية النفسية، الخط الأول منه يبدأ باجتناب الأهواء، والاتجاه إلى الأمور بقلب سليم منها، فإن النفس تشرق، ويكون إدراكها سليما، ثم يكون من بعد ذلك الاعتقاد سليما، ومن بعد الإدراك يكون النطق الصادق. ثم العمل القويم، ثم السلوك الحسن، ثم الجماعة التى تقوم على الأخلاق.
[مبادىء بوذا الخلقية]
ويقرر مبادىء خلقية، فهو يقول فى النهى عن أمور عشرة:
١- لا تقتل أحدا.
٢- لا تسرق ولا تغضب، ولا تأخذ ما لا لم يقدم إليك.
٣- لا تكذب، ولا تقل قولا غير صحيح.
٤- لا تشرب خمرا، ولا تتناول مخدرا.
٥- لا تزن ولا تأت بأى أمر يتصل بالحياة الجنسية يكون محرما.
1 / 16
٦- لا تأكل طعاما لم ينضج.
٧- لا تتخذ طيبا، ولا تكلل رأسك بالزهر.
٨- لا ترقص، ولا تحضر مرقصا، ولا حفل غناء.
٩- لا تقتن فراشا وثيرا، فلا تقتن أرائك وطنافس، ولا وسائد ولا حشايا رافهة.
١٠- لا تأخذ ذهبا ولا فضة.
وإن هذه المبادىء البوذية فيها عيب، وهى ناقصة.
أما عيبها، فإنها لا تعتمد على عقيدة موجهة، بل يروج عن بوذا أنه أنكر أن يكون ثمة إله منشىء للوجود، ولهذا شاعت عبادة الأوثان فيمن جاؤا بعده، فلم تنق قلوبهم، لأنه لم تسلم عقيدتهم، وكانت وهما من الأوهام ضل فيها العقل، ولم يهتد إلى سواء السبيل.
ويضاف إلى هذا عيب اخر، وهى أنها تزهد فى الحياة، وتمنع الانتفاع بخيراتها. فكأنما مباهج هذه الحياة، إنما خلقت لكى ترى وتشتاق النفوس لها، ثم تحرم على الإنسان.
وأما النقص فلأن فضائلها سلبية، هى نهى لا طلب، ومنع لا التزام، فالخير فيها لا يطالب به، ولكن يتجنب الشر.
إن الفضائل الإنسانية تتكون من عنصرين، عنصر إيجابى وهو تقديم النفع الإنسانى والقيام بحق الإنسان على أخيه الإنسان، والاتصال بالتعاون بين الناس بعضهم مع بعض، وذلك هو العنصر القوى فى الفضيلة، والعنصر الثانى الامتناع عن الإيذاء، وهذا هو العنصر السلبى، وهو الأدنى، والأول هو اللباب، وهو الخير الحقيقى، بل إنه يمنع غيره، فإن النفع يمنع بعض الأذى، فإذا اقتصرت البوذية على السلب نقص معنى الكمال فيها.
وإن تكاليف البوذية قد يستطيع تنفيذها الخواص، ولا يمكن أن يكون تنفيذها عاما، والمذاهب لا يلاحظ فى تطبيقها الخاصة، بل لابد أن يكون تطبيقها عاما، وهى كالمذاهب الصوفية يطبقها الشيوخ، ويقاربهم المريدون، ولا يمكن أن تكون نظاما عاما يطبقه الجميع.
[أقسام البوذيين]
ولهذا لم يطبقها الجميع، بل انقسم البوذيون أنفسهم إلى قسمين:
(أحدهما) البوذيون الذين أخذوا أنفسهم بالتعاليم السابقة
لا يحيدون عنها، وقيدوا أنفسهم بأنواع من الأطعمة، وحرموا غيرها، ولا يختارون للباسهم إلا الخشن من الثياب، لما راضوا أنفسهم عليه من ترك لذات الحياة لتكون الحياة تحت سيطرتهم، ولا يخضعوا لسلطانها.
1 / 17
(ثانيهما) البوذيون المدنيون، وأولئك لم يطبقوا المنهاج الشاق
، فاختاروا لأنفسهم طريقا وسطا ليس فيه إفراط فى اللذائذ، ولا شدة فى تركها.
أخذوا ببعض الأخلاق البوذية من تواضع وصدق وأمانة، ونالوا بعض الملاذ التى لا تعقب ألما، ولم يندفعوا فى اجتراح الشهوات، حتى لا يصابوا بالام الحرمان إن لم يستطيعوا.
وخلاصة القول أنهم أخذوا من المبادىء السلبية المبادىء الخمسة الأولى، وهى ألا يقتلوا، ولا يسكروا، ولا يكذبوا، ولا يزنوا، وتركوا الباقيات من المنهيات، فلم يحرموها على أنفسهم.
ولقد كان ذلك الانقسام سبيلا لأن يكثر المدنيون، ولأن يوجد فريق لا يأخذون بشىء من هذه المبادىء بل يتركونها وراءهم ظهريا. وبذلك ضعف العقل واحده عن أن ينشىء دينا امرا وناهيا.
الكونفوشيوسية:
١١- وإن البوذية التى ولدت فى الهند كان أكثر تابعيها فى الصين لا فى الهند، وقد انتقلت إليها وثنية، كما كانت فى الهند، واقترن بها ما ليس منها، وانحرفت العقول.
ولكنها إذا انتقلت إلى الصين قد احتضنتها بيئة امتازت من بين البيئات بالوثنية والتمسك بكثير من المبادىء العملية التى تتفق مع قانون الأخلاق إلى حد كبير، ولكن لعدم اعتمادها على عقيدة قوية، كانت فى قلوب شاغرة، وإذا سكنت المبادىء فى قلوب شاغرة عن الإيمان جف عودها، ولم تقو على البقاء.
كان فى الصين فيلسوف يسمى فى لغة الفرنجة كونفوشيوس، وهو تحريف لاسمه الأصلى فى الصين، وهو «كونج فوتس»، وقد أخذ ذلك الفيلسوف بالمذهب البوذى، ولكنه أخذ بمبدأ البوذيين المدنيين، وكان مذهبه ليس دينا يتبعه، ولكنه إصلاح يدعو إليه.
ومع وجود المنهج العلمى فى إصلاح كونج فوتس نجد بجواره فيلسوفا كان أسنّ من كونج فوتس إذ أن هذا ولد سنة ٥٥١ قبل الميلاد، أى أنه يعاصر بوذا، والفيلسوف الاخر واسمه لوتس، كان يكبر الأول بنحو خمسين عاما، ومذهبه هو الاعتزال أو أن ينجو بنفسه ومن يتابعه من المفاسد.
وقد التقى الفيلسوف الشاب كونفوشيوس الذى يرى أن مبادىء الأخلاق يكون أساسها النفع الإيجابى، لا الاعتزال السلبى، بالشيخ لوتس الذى لا يرى إلا الاعتزال السلبى، فتحاورا.
1 / 18
قال الشيخ للشاب: «إن الخير ليس في محاولة إصلاح المجتمع الفاسد بالعمل والاختلاط، إذ أن الاختلاط يفسده، بل الخير كل الخير في الزهادة والقناعة والاعتزال، والتسامح، ومقابلة السيئة بالحسنة، وهي العفو» .
قال الشاب للشيخ: «إذا كان واجب كل شخص من احاد الأمة أن يعتزل في كهف من الكهوف فمن الذي يبقي في المدن يعتمرها، وفي الأرض يفلحها ويزرعها، وفي الصنائع يمهر فيها، ومن الذي ينسل ويعمل ليبقي الكون عامرا ببني الإنسان؟ وإذا كان الاعتزال مقصورا علي الحكماء، والفضلاء، فمن الذي يربي الإنسان ويؤدبه، أم يترك الناس حائرين بائرين لا هادي ولا مرشد» .
عقيدة الصين القديمة:
١٢- ومهما تكن اراء كونغ فوتس من الحكمة والصواب فقد اختلط بها ما ليس سائغا، فقد كان يعتقد بالهة، وبأن السماء مرتبطة بالأرض، فيصلح الكون إذا صلح الإنسان، ويفسد بفساده، لقد كان كونج فوتس يعتقد ما يعتقده الصينيون القدماء.
وأساس هذا الاعتقاد أنهم يعبدون ثلاثة أشياء: السماء، والأرواح المسيطرة على ظواهر الأشياء، (الملائكة)، وأرواح الاباء.
والسماء التى يعبدونها لا يقصدون بها تلك القبة الزرقاء، بل يقصدون الأفلاك ومداراتها، والقوى المسيطرة التى تسيطر عليها وتسيرها فى مدارتها. وباتصالها بالأرض والرياح والأمطار تنبت الأرض، وكانت عبادتهم للسماء لاعتقادهم أنها عالم حى يتحرك حسب نظام دقيق محكم، وللسماء السلطان الأكبر على العالم، إذ أن كل ما فيه من قوى مسيرة خاضع لسلطان السماء.
وظاهر كلامهم أنهم لا يفرضون للكون- سمائه وأرضه- قوة منشئة مغايرة هى المدبرة والتى تحفظ العالم، وتحول قواه، فهم بذلك يعدون منكرين لله الواحد الأحد الفرد الصمد، وعلى ذلك يكون الأساس الذى بنيت عليه عقيدتهم باطلا.
وهم يعتبرون التحول والتغير فى الكون على حسب مداركهم، وعلى أساس عقيدتهم السقيمة، فهم يرون أن العالم قسمان مادى وروحى وأن الروحى، هو الذى يسير المادي، فهم بهذا يرون أن المنشيء من ذات الكون لا من قوة فوقهم، وبذلك يتقاربون من الفلسفة الأيونية.
ومع أنهم لا يؤمنون بالواحد الأحد المنفرد بذاته عن المشابهة يؤمنون بالقضاء والقدر، ويرون أن السماء هى التى تقدر وتقضي، فلا مفر من حكمها فى زعمهم، ولا خلاص من سلطانها فى اعتقادهم.
1 / 19
ويؤمنون بأن الأحكام القدرية مرتبطة هى والأمور الكونية، بالأخلاق الإنسانية، فإذا كانت الأخلاق مستقيمة استقام الكون، وإذا فسدت اضطرب، فكلما كان الاعتدال والانسجام والعدالة بين الناس استقام الكون ولا يضطرب. وما الزلازل وما خسف الأرض وكسوف الشمس وخسوف القمر إلا من فساد الأخلاق، وعدم استقامتها. وهى أمارات على ذلك، وإذا كان السلوك غير القويم يحدث الاضطراب، فالسلوك القويم يجلب الخير، والبركات، ويجعل كل ما فى الكون يجيء على ما يحبه الإنسان ويرضاه.
وعلى ذلك يكون المؤثر فى الكون ثلاثة:
أولها: السماء بسلطانها، والأرض بقبولها لحكم السماء، والإنسان بإرادته الخلقية. فإن اختار خير الأخلاق وأفضلها واتجه إليها فإن مظاهر الكون تكون لخير الإنسان. فالجو يمتليء بالنسيم العليل، والحرارة المنعشة غير اللافحة، والغيث المحيى لموات الأرض من غير أن يخرب العمران، ويصير غيثا، وتكون الشمس المشرقة، والنهار المبصر والليل الساجى.
١٣- وبذلك نجد أن العقيدة الصينية فاسدة، والخلق الصينى قوي، والإرادة الصينية قويمة ولكنها قائمة على عقائد فاسدة، وما يقوم على الفاسد لابد أن ينهار، إذ هو قائم على شفا جرف هار، غير مستقر ولا ثابت الدعائم.
وإذا كانت الفلسفة اليونانية ووليدتها الرومانية قد عجزتا عن تكوين حكم خلقى له مقياس ثابت لا يتغير بتغير الأعراف ولا بتغير الأماكن والأزمان، فإن الصين قد وصلت إلى حكم عملى حسن فى جملته يتجه إلى الخير فى غايته. ولكنه لم يقم على دعائم ثابتة من إيمان، خالية من الأوهام، وعقيدة بعيدة عن الأخيلة غير المحققة ولا الثابتة.
إن العقيدة الصالحة هى التى توجد الأخلاق الثابتة، وهى التى توجد المجتمع الفاضل الذى يريد الخير بدافع من إيمان ثابت الدعائم قوى الأركان.
١٤- وننتهى من هذا السياق الذى انتقلنا فيه من اليونان والرومان سائرين إلى الشرق الأدنى فالشرق الأقصى- إلى أن العالم كله فى الفترة التى كانت قبل المسيح وخاتم النبيين محمد ﷺ، كان يموج فى مضطرب فسيح من الاراء والمنازع المتناحرة.
وإنه فى الوقت الذى كانت الوثنية تضيق فيه ذرعا بالواحدانية التى جاء بها موسى وخلائفه، وجاء بها عيسى وحملها حواريوه- كان الشرق الأقصى بعيدا عن هذه الدعوات إلى الواحدانية، فكانت فيه
1 / 20
مجوسية الفرس، ووثنية الهندوس، وظلم الطبقات، ثم كان من وراء ذلك عبادة الأفلاك والنجوم والأرواح فى الصين.
كان العالم إذن يموج بفساد الفكر، وفساد العمل، واضطراب الحكم، وانقطاع الصلة بين الحاكم والمحكوم، وسيطرة الأقوياء على الضعفاء، وقد اشتد الطغيان.
وثنية اليونان والرومان:
١٥- وبجوار تلك كانت أوروبا تعيش فى ظلمات الوثنية، وكان غربها من الوندال والسكسون قبل المسيح يعيشون فى جاهلية عمياء، لم يكن فيها هاد ولا مرشد، كما تعيش بعض القبائل فى مجاهل أفريقية، ولا فرق بينهم إلا فى اللون، فأولئك بيض وهؤلاء سود ولكن الفعل واحد، والوحشية متقاربة، ولعل البيض أغلظ أكبادا، وأقسى قلوبا.
١٦- ولما جاءت المسيحية جاءت إليهم بعد أن شاهت، واعتراها التغيير والتبديل، وذلك لأن الفلسفتين اليونانية والرومانية من بعدها عجزتا عن إصلاح الأخلاق، وبث الاطمئنان فى القلوب، والرضا فى النفوس، فكان لابد من دين يقود العقل إلى ما فيه خير العباد.
وقد فقدت الأوثان قوة تأثيرها فى الجماعات، إذ أن الفلسفة قد أيقظت العقول، وإن لم تهدها، وحركت الأفهام ودفعتها إلى التفكير، وإن لم تهدها إلى الصراط السوى الذى يسلكه من يستضيء بنورها واحدها، فكان لابد من دين بجوارها، وخصوصا أن المدائن الرومانية لم يكن فيها التناسق الاجتماعى الذى يجعل كل إنسان يرضى بما قسم له من حظ.
إن التاريخ يحكى أن توزيع الثروة فى الدولة الرومانية لم يتحقق فيه العدل الاجتماعي، فبينما ترى الترف فيمن أفاءت عليهم الدولة بالغنائم والأسلاب من الفتوح الرومانية ترى ألوف الألوف من الناس قد حرموا ما يتبلغون به فى حياتهم، فاستولى عليهم الإحساس بالظلم، والناس لا يشقون بالام ذاتية وحرمان ذاتى بمقدار ما يشقون لسعادة غيرهم التى امتنعت عليهم، وكذلك كانت الالام فى سواد الرومان، ولولا بقايا من الصبر عندهم لانفجروا فى ثورات ما حقة لا تبقى ولا تذر.
مزج الفلسفة بالدين:
١٧- وفى هذا الوقت أرادوا أن يمزجوا الفلسفة بالدين أو يحلوا الفلسفة محل الدين، إذ أخذت التماثيل تفقد قوتها، ولم يعد لها سلطان فى التأثير فى نفوس الشعوب، وفقدت معابد الأوثان ما كان لها من روعة، ولقد كان يعتور النفس الرومانية حينئذ عاملان قويان كلاهما فيه شدة وبأس، فشعورهم بالبأساء
1 / 21
والالام يجعلهم فى حاجة إلى عزاء من الدين، وسلوى بالجزاء فى يوم اخر غير يوم الشقاء الذين يعيشون فيه، والعامل الثانى الذى أضعف هذه السلوى هو أن الالهة التى تمثلوها فى الأوثان فى زعمهم قد فقدت قوة تأثيرها.
وقد أرادت الفلسفة أن تحل محل الأديان، ولكنها لم يكن لها تأثيرها، فاتصلت بالأديان والتقت بها التقاء تعاون، وليس التقاء تخاصم وتناحر، كما كان الشأن بينهما.
جاء فى كتاب (المباديء الفلسفية) «إن الفلسفة استخدمت نظريات علوم اليونان لتهذيب الاراء الدينية، وترتيبها والتقدم بها إلى الشعور الدينى اللجوج بفكرة فى العالم قد تقنعه. فأوجدت نظما دينية تتفق مع الأديان فى النظر فيما وراء المادة اتفاقا يختلف قلة وكثرة» .
وهنا نجد الفلسفة اليونانية التى تسمى الأفلاطونية الحديثة تحاول الالتقاء بالديانتين اللتين كانتا بارزتين فى ذلك الإبان، وقد تخاذلت وثنية اليونان والرومان عن أن تقف واحدها فى الميدان، فأتى باراء فى خلق العالم تقرر أن منشيء الكون الجدير بالعبادة فى نظرها يشتمل على ثلاثة أمور:
أولها- أن الكون صدر عن منشيء أزلى دائم لا تدركه الأبصار ولا تحده الأفكار ولا تصل إلى معرفة كنهه الأفهام.
ثانيها- أن جميع الأرواح شعب لروح واحدة، وتتصل بالمنشيء الأول بواسطة العقل الذى صدر عن المنشيء صدور المعلول عن علته، فهما متلاقيان فى القدم. ويصبح التعبير عن المنشيء الأول بالاب وعن العقل بالابن، وإن كان أحدهما ليس متخلفا عن الاخر فى الزمان.
ثالثها- أن العالم فى تدبيره وتكوينه خاضع لهذه الثلاثة.
التثليث فى الفلسفة:
١٨- وخلاصة القول أن المنشيء الأول هو مصدر كل شيء، وإليه معاده لا يتصف بوصف من أوصاف الحوادث، فليس بجوهر، ولا بعرض، فليس بفكر كفكرنا، ولا إرادة كإرادتنا، ولا وصف له إلا أنه واجب الوجود، يتصف بكل ما يليق به، يفيض على كل الأشياء بنعمة الوجود، ولا يحتاج هو إلى موجد له.
وأول شيء صدر عن هذا المنشيء فى نظر صاحب تلك المدرسة- وهو أفلوطين- هو العقل، صدر عنه كأنه متولد منه، ولهذا العقل قوة الإنتاج، ولكن ليس كمن تولد عنه.
1 / 22
ومن العقل انبثقت الروح التى هى واحدة الأرواح، وعن هذا الثالوث يصدر كل شيء، ومنه يكون التدبير والخلق.
ويلاحظ أمران:
أولهما- أنه التقت الأفلاطونية الحديثة مع الدين
، وصارا يضربان على نغمة واحدة هى نغمة ذلك التثليث، وهو ما اشتملت عليه النصرانية التى حالت إليها المسيحية التى تزعمها من تركوا ما دعا إليه المسيح ﵇.
وبها تلتقى الفلسفة مع ذلك الدين، وتلتقى الوثنية التى تتعدد فيها الالهة وتكوّن منهما تلفيق متناسق أو غير متناسق، من غير نظر إلى كون هذا الامتزاج مزيجا قد اختفت فيه ظواهر العناصر الممتزجة فى مزاج واحد، أم لم تختف.
الأمر الثانى- أن شيخ هذه المدرسة هو أمنيوس المتوفى سنة ٢٤٢ ميلادية
، اعتنق الديانة المسيحية الأولى التى جاء بها أتباع المسيح ﵇ فيما نظن، ثم ارتد عنها إلى وثنية اليونان الأقدمين.
وجاء من بعده أفلوطين المتوفى سنة ٢٧٠ م. وقد تعلم فى مدرسة الإسكندرية أولا، ثم رحل إلى فارس والهند، وهناك استقى ينابيع الصوفية الهندية واطلع على اراء بوذا ومذهبه، وبراهمة الهند وديانتهم، وعرف اراء البوذيين فى بوذا، وقد رفعوه إلى مرتبة الإله، والبراهمة فى كرشنة، وقد رفعوه أيضا إلى مرتبة الإله، وقد عاد من بعد هذه الرحلة التى تزود منها بالزاد البرهمى والبوذى إلى الإسكندرية التى كانت مهد مدرسته المثلاثة على النحو الذى بيناه.
١٩- فى هذه الموجة الفكرية كان يعيش العالم فى القرن الثالث من مولد المسيح ﵇، وقد استمر ذلك الاضطراب الفكرى أمدا بعده، حتى جاء القرن السادس، وقد زادت المنازع وتخالفت المناهج، وانحل الفكر انحلالا شديدا فيما يتعلق بالاعتقاد.
وانشقت النصرانية التى انحرفت عن تعاليم المسيح عيسى بن مريم على نفسها، فكان منها الملكانية وكان منها اليعقوبية، واشتد الخلاف بينهما، حتى انتقل الخلاف إلى عداوة فكرية ثم إلى عداوة تشبه العداوة الجنسية، وأغرى الله تعالى بينهم بالعداوة والبغضاء، وتفرقت النفوس والأفكار، وضعف الاعتقاد، وانحل الإيمان، فإنه كلما انتقلت العقائد إلى أن تكون موضع مجادلات تضعف، ويعرض لها الشك، وينتهى اليقين، وكذلك كان الأمر فى الأرض التى كانت تعتنق النصرانية فى القرن السادس، فى البلاد التى كانت تجاور الجزيرة العربية وفى الجزيرة نفسها.
1 / 23
٢٠- فالمسيحية إبان القرن السادس الميلادى قد ضعف الإيمان بها، لكثرة الجدل فيها، ولم تكن قد استقرت الأفكار حولها، واقتصرت على اتجاه معين من اتجاهاتها.
فابتدأت أولا باضطهاد الوثنية لها، وتجسس اليهود على النصاري، واختفى المسيحيون فى أكنان من أرض الروم وفلسطين مستسرين بعقائدهم. وكلما ظهر فريق منهم قوبل بالاضطهاد، والأذى المرير، وتبارى فى ذلك ملوك الرومان، وقد جعلوا عمل أمرائهم الذين يرسلونهم هو ذلك الأذى ليئدوا ذلك الدين الجديد فى مهده، ويقبروه فى حجر ولادته.
وقد تكاثرت المصادر الدالة على ذلك الاضطهاد، وقد جاء فى كتاب (تاريخ الحضارة) ما نصه «قد كتب بلين وكان واليا فى اسيا إلى الإمبراطور تراجان كتابا يدل على الطريقة التى كان يعامل بها المسيحيين قال: «جريت مع من اتهموا بأنهم نصارى على الطريقة الاتية، وهو أنى أسألهم إذا كانوا مسيحيين، فإذا أقروا أعيد عليهم السؤال ثانية وثالثة مهددا بالقتل، فإن أصروا أنفذ فيهم عقوبة الإعدام مقتنعا بأن غلطهم الشنيع، وعنادهم الشديد يستحقون بهما هذه العقوبة، وقد وجهت التهم إلى الكثيرين بكتب لم تذيل بأسماء من كتبوها، فأنكر المتهمون أنهم نصاري، وكرروا الصلاة على الأديان الذين ذكرت أسماءهم أمامهم، وقدموا الخمور والبخور لتمثال أتيت به عمدا مع تماثيل الأديان، بل إنهم شتموا المسيح، ويقال إنه من الصعب إكراه النصرانى الحقيقى على شتم المسيح، ومنهم من اعترفوا بأنهم نصاري، وكانوا يقرون بأنهم يجتمعون فى بعض الأيام قبل طلوع الشمس على العبادة، وعلى إنشاد الأناشيد إكراما للمسيح، وتعاهدوا بينهم لا على ارتكاب جرم بل على ألا يسرقوا ولا يقتلوا ولا يزنوا وأن يوفوا بعهداهم، ورأيت من الضرورى أن أعذب امرأتين ذكرتا أنهما خادمتا الكنيسة، بيد أنى لم أقف على شيء سوى خرافة سخيفة» .
وقد كثر الاضطهاد، وكان نيرون يجعل من النصارى مشاعل تسير فى موكبه، إذ يطليهم بالقار، ويشعل فيهم النار. وتسير تلك الشعلة فى احتفاله بنفسه.
وأوقع دقلديانوس بنصارى مصر أشد الاضطهاد، وأنزل بهم العذاب، وقتل فى مصر المسيحية التقتيل الذربع الماحق، حتى أنه اعتبر تاريخ ذلك العذاب هو ابتداء التاريخ القبطى.
٢١- وبعد زوال الاضطهاد ظهرت الخلافات على أشدها، فكانت بقايا الواحدانية تظهر على لسان أريوس، ومعه أكثر كنائس الشرق، وأكثر الكنائس فى فلسطين، وكثير من كنائس مصر.
ولما أراد قسطنطين أن يدخل فى النصرانية جمع مجمع نيقية سنة ٣٢٥ م وأعلن ثمانية عشر وثلاثمائة من المجتمعين ألوهية المسيح، فأخذ بقولهم مع أن المجتمعين ابتداء فى المجمع كانوا يبلغون ٢٠٤٨ أو يزيدون، ولكن أراد أن تتغير المسيحية إلى ما يقرب من الفلسفة والوثنية على أن يبقى اسم المسيحية وإن خلت من لبها، وهى الواحدانية التى تحارب الوثنية.
1 / 24