43

خطرات نفس

خطرات نفس

ژانرونه

قصدت إلى سطح الصخرة حيث بقية هياكل الآلهة.

لقيني دليل فرددته، إذ أحسبني لست أحتاج إلى دليل، فإذا بشيخ هرم، رث البزة، كريه المنظر، قد اقترب مني، وخاطبني بلسان فرنسي، تنسحب عبارته السقيمة متعثرة بين فكين ارتخت عضلاتهما، ووهنت أدواتهما، ففهمت منه أنه يريد إرشادي، وأنه لن يلح ولن يغلو في الأجر، وأنه يفخر بنفسه، فيحسب أنه يعلم مالا يعلمون.

أخذتني رأفة بذلك الشيخ الفاني، وقلت لعل الخير عند هؤلاء الشيوخ، فأومأت إليه بالقول، فتقدم متوكئا، متباطئا في صعوده، حذرا في خطاه، وكنت أحوطه بنظراتي حرصا عليه من السقوط. فلما جئنا إلى مكان يشرف على هضاب أثينا ومنازلها، أشار الدليل الشيخ بعصاه إلى هضبة وقال: هنا على هذه الهضبة من نحو ثلاثة وعشرين قرنا كان يقف «ذيموستينس» خطيبا بين أهل أثينا، ثم نظر إلي وقال: أتدرى من «ذيموستينس»؟ فتجاهلت، فقال: كان فصيحا كبيرا، فقلت: وكم في الناس اليوم يا شيخ من طلق اللسان فصيح! فقال: أجل، ولكنهم يخدمون الباطل بفصاحتهم. أما «ذيموستينس» فكان يخدم الحق بفصاحته.

ثم أشار بعصاه إلى هضبة أخرى وقال: وعلى هذه الهضبة كان مجلس قضاة «أثينا» ليحكموا بين الناس بالعدل تحت سماء الله، وعلى مرأى من تمثال رب العدل، ثم استطرد الشيخ من أمر القضاة في «أثينا» البائدة إلى القدح في قضاة هذا الزمان وشئون هذا الزمان. وصبرت على شرحه؛ بل صبرت على تشاؤمه حتى بلغنا معبد البتول «أثينا» ربة الحكمة.

لا أريد أن أتحدث بما تحدث به الدليل «ديمتري» من خطأ في التاريخ، أو صواب. ولا أريد أن أذكر لك كيف استحال هيكل الربة البتول «أثينا» إلى كنيسة للبتول مريم بعد نحو اثني عشر قرنا من تشييده. ولا أريد أن أذكر لك كيف استحال هذا المعبد بعد نحو التسعة عشر قرنا من تشييده إلى مخزن لذخائر الترك ومعدات قتالهم. ولا أريد أن أذكر لك ما أدى إليه حصار أهل البندقية من تخريب هذا الأثر البديع وتحطيمه. ولا أريد أن أحدثك بما حمله لورد الإنجليز إلى بلاده من كنوز هذا المعبد في القرن التاسع عشر. على أنني أعيد خواتم الجمل التي كان يختم بها «ديمتري» الدليل شرحه وحديثه: «آه لو قدر القساوسة الفن، فلم يحولوا ذلك المعبد إلى كنيسة. وآه لو فهم الترك جمال الفن فلم يحولوا ذلك المعبد إلى دار لذخائرهم، أو دار لربهم! وآه لو أخطأت قذائف المتحاربين هذه الآثار المقدسة، فلم يهدم منها ما تهدم! وآه لو أبقت اللوردات في تلك المعابد كنوزها وآثارها! ثم آه لو احترم الناس نتائج العبقريات ومجهود العقول!» جمل فيها حسرة وعبرة.

أما جمال هذا المعبد، وروعة هذه البقايا والآثار، ونظام هذه العمد، ونسق تلك النسب، فلا أحدثك به مهما أطرقت إلي، ورغبت في قولي، فلا القلم قادر على ضبط تصوير هذه الدقائق، ولا أذنك قادرة على وعي ذلك الضرب من الحسن، إنما هي عينك، وإنما هو فؤادك. فأقبل إلي، وقف معي وقفة «بالأكروبوليس»، ثم حقق النظر يتحرك الفؤاد.

ولكن شيئا يبقى بالمعبد من أثر النصارى. ولكن شيئا يبقى بالمعبد من أثر المسلمين! آلهة حلت الدار إثر آلهة. وزمان استخلف على هذه الآثار إثر زمان. وأحداث وغير تمر على تلك الأحجار والأنقاض خلف أحداث وغير. ودول تأتي وأخرى تدول. فمن رب الأرباب ومن رب المكان والزمان، ومن محدث الأحداث ومغير الغير ومعز الدول ومذل الملوك والقرى؟

سبحانه سبحانه ما أكبر شأنه.

عفوا أيها الإله الأعظم وغفرانا، إذا أنا بقيت ساعة بهذا المعبد أناجي ربته الأولى، وأتمثل قرونا خلت ومدنيات عظمت.

إنكم معشر الآلهة تتعالون عن التعدد، فأنتم واحد وإن تعددت أسماؤكم، ووحدة وإن تعددت صفاتكم. وفي ذكر أحدكم ذكر للآخر كما يعلم الراسخون.

ناپیژندل شوی مخ