ضمير قلق
مآتمنا
نظرة في الطريق
رغيف الشفاء
الشباب المدبر والشعرة البيضاء
الدعوات
الكأس المرة
على مسرح الإدارة
واسع الرحمة
ساعة عبادة
شكوى إلى الله
يمين رولان
القهوة والبيت
في ذكرى عام
في نعيم الفن
العيش الحقير والعيش الكبير
في شم النسيم
عيد آمنة
قرابين الانتخاب
الوطن
الاكروبوليس
وقفة بالحصن المقدس
الله أكبر
لقاء الوطن
لعام 1924
السماء
الموت الساخر
عائلة
ضيق وضجر
لذكرى الأديب1
في الغابة
دار ودار
حياة حول موت
طيف زائر
حول ما لله
رحاب العلم ورحاب الدين
الغيبة والبهتان
حقوق الأفراد
الجمود
إلى الفتيات المبعوثات
حول الديمقراطية
فكر سجين
صورة من صور النفاق
صورة من صور التقلب
سعادة الباشا أو صورة من صور التصنع
لعام 1926
عند أطلال طيبة
أيام العيد الفائتة
التسامح
للعام الهجري الجديد
لهجة ابن الخاقان
الرضا
عام 27
الإيثار
الدس والحسد
نصف شعبان
العفر الطاهر
التصنع والتواضع
أيام العيد
الإغراق في المجاملة
القانون الخلقي وجلاله
أنت أنت الله
عام 1930
ضمير قلق
مآتمنا
نظرة في الطريق
رغيف الشفاء
الشباب المدبر والشعرة البيضاء
الدعوات
الكأس المرة
على مسرح الإدارة
واسع الرحمة
ساعة عبادة
شكوى إلى الله
يمين رولان
القهوة والبيت
في ذكرى عام
في نعيم الفن
العيش الحقير والعيش الكبير
في شم النسيم
عيد آمنة
قرابين الانتخاب
الوطن
الاكروبوليس
وقفة بالحصن المقدس
الله أكبر
لقاء الوطن
لعام 1924
السماء
الموت الساخر
عائلة
ضيق وضجر
لذكرى الأديب1
في الغابة
دار ودار
حياة حول موت
طيف زائر
حول ما لله
رحاب العلم ورحاب الدين
الغيبة والبهتان
حقوق الأفراد
الجمود
إلى الفتيات المبعوثات
حول الديمقراطية
فكر سجين
صورة من صور النفاق
صورة من صور التقلب
سعادة الباشا أو صورة من صور التصنع
لعام 1926
عند أطلال طيبة
أيام العيد الفائتة
التسامح
للعام الهجري الجديد
لهجة ابن الخاقان
الرضا
عام 27
الإيثار
الدس والحسد
نصف شعبان
العفر الطاهر
التصنع والتواضع
أيام العيد
الإغراق في المجاملة
القانون الخلقي وجلاله
أنت أنت الله
عام 1930
خطرات نفس
خطرات نفس
تأليف
الدكتور منصور فهمي
ضمير قلق
القاهرة في 16 من يوليه سنة 1915
اليوم لا علما أكتب ولا منطقا. إنما هو حديث فتى مهموم في لحظة من تلك اللحظات التي تبعث فيها النفس أعز مكنونها من الشعر والإحساس. حديث فيه تاريخ حال من أحوال نفس بشرية يظفر منه القارئ بجزء صغير من أجزاء تلك الحقيقة الكلية العظمى، التي لو استقصيتها لوجدتها مجموعة لتاريخ الكون في جزئياته. وإن أكرم قسم في ذلك التاريخ ما تضمن أحوال النفوس ومنازعها.
قال الفتى:
إنك تحسبني يا سيدي من أهل السرور وأنصار الصفاء. يغريك بذلك ثغري الضحوك، وارتفاع صوتي في محافل الأنس والطرب، والتماس المجون في كل إشارة وكل عبارة.
على أنك قد نسيت، أيها العزيز، تلك الأوقات التي ألبث فيها ذاهلا عن الناس وأحاديثهم. فتنسدل على وجهي سحابة من الحزن، لا تترك لناظر فيه أن يتبين علامة من علائم النشاط والأمل. ولا تبقي من إشراقه ونضارة الشباب فيه إلا بسمة خاصة، أوهم الناس بها أني معهم فيما يقولون، وأفكر فيما يرتأون.
إنه ليخجلني البقاء يا صديقي في جمع من الجموع وعلي مسوح السواد، بينما تكون الناس راغبة في المسرات واقفة عند أبوابها. ولقد أعمل جهدي على صد غارات الحزن المتتابعة على نفسي، كما تتلاحق الأمواج المرهوبة على جرف حطيم. وحينئذ أعمد إلى البعد عن الناس حتى لا يشذ لباسي الأسود من الأسى عن سرابيلهم النضرة من السرور.
كنت أومن بطهارة الحياة إيمانا، وكنت أحسن الظن بالناس أيما إحسان؛ لأني لم أخرج إلى ساحة العيش إلا من عهد - كما علمت - قريب. وكنت عند عهدي بالشباب تلميذا مجدا كثيرا ما لابست الكتب وانقطعت للدرس، وقليلا ما لابست الناس، ونظرت في شؤون الحياة. ولقد جعل القضاء لطائفة من الكتاب الخياليين علي سلطانا، فكنت أصبو صغيرا للصور الجميلة والخلال الكريمة والأشباح الشريفة التي كانت تخرجها أذهانهم قبل أن أتصل بحقائق الحياة المرة المؤلمة.
خرجت من عالم الكتب إلى عالم الناس، وكنت أتوهم أن الناس يلقونني لأعمل معهم، وأكتب تحت أعينهم صحيفة من سفر الحياة الواسع، فأملأها برسوم الحق والواجب، وآثار العمل والأمل، وأصور فيها صورة الأب الصالح، والزوج الوفي، والوطني الصادق، والإنسان العادل في نفسه وفي الناس. وكنت أظن أن كلمات الحرية والإخلاص والفضيلة والرحمة والكمال وأمثالها مما وسعه المعجم تسعها معاملات الناس بعضهم لبعض، على أنني صدمت صدمة بالغة حين رأيت أن الناس يسيرون على خلاف ما كنت أظن. وأن الحياة تكاد تكون جارية لمقادير غير ما كنت أقدر. وأن السجايا التي كنت أظنها من صفات البشر إنما هي لمخلوقات خيالية تبصرنا ولا نبصرها، وترانا ولا نراها. هالني وأفزعني أن أرى في الحياة مسرحا واسعا للنفاق والرياء والخداع والأباطيل، وأن هذه الأشباح الشنيعة قد صرعت تلك المخلوقات الشريفة التي نسميها الفضائل، واستبدت وحدها بميدان الحياة كله. تساءلت: أكانت الكتب تخدعني، وتغير صور الأشياء، فتجعل ضعفاء الحقيقة هم الأقوياء، وأقوياءها هم الضعفاء؟ أم هو الوجود لم يبلغ بعد في تاريخ نشوءه طورا تنال فيه الفضائل منازلها من الكرامة والإجلال، وتسير في المعاملات كأنها الكواكب تجري في داراتها على سبل ممهدة، فتصبح حينذاك القوة والغلبة ميزة للسجايا وحدها، ثم تساءلت: هل فترة الحياة من شأنها أن يظل فيها أشباح خيالية، تتخذ وكرها في رؤوس البشر، وتشبه الأملاك في نورانية أجسامها، وتغري النفوس بالنزعات العالية، أم توجد كرام السجايا حقا عند أفراد أغنياء بأنفسهم عن الناس معززين منعمين بمداعبتها، يحسبهم الجهال مهزومين، وهم يعيشون كآلهة الأساطير، يسخرون من نعيم الناس، ولهم من أنفسهم أكبر نعيم. وقلت في نفسي بعد ذلك كله: هل القوي في الحياة الاجتماعية هو من يخضع لنواميسها من الرياء والظلم فيخدع ويظلم؟ أم هو الذي يحتقرها في قوانينها ليعيش تحت راية مبادئ أخرى تنسجها له تصوراته وخيالاته السامية؟
إن منشأ همي يا سيدي هو ذلك التنازع القائم بين ما تحن إليه نفسي ونزعاتها، وبين المبادئ التي يقوم عليها المحيط الذي يضمني.
أأعيش منفردا واحدا في عالم الخيال، أم أدخل إلى ساحة البشر، وأخلع ثوبي الجميل الكريم؟!
مآتمنا
القاهرة في 30 من يوليه سنة 1915
مآتمنا تذهب برهبة الموت ووقار الأسى، فهي ممقوتة عند الله، وهي عار علينا في مظاهرها.
يزعم أهل النظر والعلم أن السرور أدعى إلى صنوف الحركات، وأن الحزن أدعى إلى السكينة. وذهب ابن خلدون إلى أن «طبيعة السرور هي انتشار الروح الحيواني وتفشيه وطبيعة الحزن انقباضه وتكاثفه»!
نعم. صدق في نتيجة رأيه الإمام، فالفرح والوجد أمران مقدوران على البشر من قديم يغشيان الأفراد والأمم. فأما الأول، فآيته الحركة وأما الثاني فآيته السكون. وإذا كان الأول يخلع على الوجوه بهجة ونضارة، فإن الثاني يلقي عليها صنفا من صنوف الحسن أبلغ معانيه الصبر على احتمال المكروه، والشجاعة على احتمال الألم.
إذا صح لي الشك في قول الأمثال السائرة أن الكلام من فضة والسكوت من ذهب، فلقد آمنت أن صمت الأسى أفصح من كلامه، وإشارته أوقع في النفس من عبارته.
ألا أن الموت لا يطلب إلينا إلا أمرا واحدا، هو أن نتعظ به، فإنه أفصح خطيب، ونحفظ الوفاء لمن يموت في الحزن الصادق. وما مظهر الحزن الصادق إلا غمامة جميلة تعلو الوجه، ودمعة حارة تروي الوجنات، وتأوه صامت ينتزع من أعماق الفؤاد.
روي أن النبي
صلى الله عليه وسلم
أتى ابنه إبراهيم، وهو في حجر أمه يجود بنفسه، فأخذه النبي
صلى الله عليه وسلم
فوضعه في حجره، ثم قال يا إبراهيم: «إنا لا نغني عنك من الله شيئا»، ثم ذرفت عيناه، ثم قال يا إبراهيم: «لولا أنه أمر حق، ووعد صدق، وأن آخرنا سيلحق أولنا لحزنا عليك حزنا هو أشد من هذا، وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون، تبكي العين، ويحزن القلب، ولا نقول ما يسخط الرب.» •••
اللهم ارحم قومنا، فإنهم لا يعلمون كيف يجلون وقار الموت، ولا ينعمون ببهجة الحياة!!
نظرة في الطريق
القاهرة في 6 من أغسطس سنة 1915
على هذه الطريق التي تقطعها قدماك كل صباح، ومن هذه المشاهد التي تجري تحت نظرك كل يوم، وفي واسع هذه الضوضاء التي يسبح فيها سمعك، أيها السائر، اتئد وانظر، واتعظ. فبين ذلك صحف حية منشورة بين يديك فيها، لو تعلم، حكم بالغة.
ما أرى في الطريق، وما يجري فيه كأنه عبارة صارخة تقوم على كلمات شتى!!
وما أكثر مفردات هذه العبارة، فيها العامل المكب على عمله، والمتعطل الساكن إلى كسله، والمنعم التائه في نعيمه، والبائس المصدوم في بؤسه، وهذا الطاغي وذاك الباغي. وهذا المسرور وذاك المدحور، وهذا الشاكي وذاك الباكي، وهذا وذاك.
كل واحد من مفردات هذه العبارة؛؛ بل كل فرد من هذه الأفراد الذين يمرون أمامك، إنما هو يمثل معنى من المعاني و«يلعب دورا» من الأدوار في مسرح هذا الوجود.
هذه كلمة للعمل، وذاك للكسل. هذا للشقاء وذاك للنعمة، هذا للخديعة، وذاك للغرور، وهذه للقوة، والآخر للضعف، وهذا للحق، وهذا للباطل. وهلم جرا.
تلتئم هذه المفردات جميعا لتركب جملة واحدة؛ بل هيكلا واحدا معناه حياتنا الاجتماعية. •••
إذا جاز لأهل البلاغة أن يحكموا على فصاحة الجملة بسلامة الألفاظ وحسن التركيب، فقد يجوز لأهل الاجتماع أن يحكموا على رقي الجماعة بما تحمله أفرادها من تلك المعاني المختلفة.
في الجماعات الوضيعة تربى المفردات السقيمة ذات المعاني الواهية، فإذا رأيت الطريق تموج بأفراد، هذا يمثل دور الكسل وذاك دور اللئيم، وهذا دور المنحط، وذاك دور الخادع. وهذا دور الذليل، فقل: إن هذه الجملة الاجتماعية عليلة لا ينشرح لها الصدر، ولا تجود إلا بمعنى الحياة المنحطة.
وإذا رأيت في بلد ما أن الطريق تموج بأفراد تحمل النشاط قلوبهم والجمال وجوههم، والبشر محياهم، والقوة أجسامهم والنظام أعمالهم، فقل: إن تلك الجملة الناطقة التي يحملها هذا الطريق هي فصيحة بليغة، تدل على رقي الجماعة.
رقي الجماعة هو رقي أفرادها وعظمتها تكون في تعدد أساليب هذا الرقي تعددا يظهر في اختلاف المواهب السليمة للأفراد.
رغيف الشفاء
بين الواقع والخيال
شرنفاش في 8 من أكتوبر سنة 1915
في الحياة ناس ممتعون يحويهم الوجود وهو كاره. يدنون إلى النعيم من طرق يكره الله أن يسير فيها البشر الصالح؛ لأنها مسالك الأدنياء والأشرار، ويقول أهل العبادة والتوكل بأن الله لا يطرح البركة في عيش هؤلاء الناس وصدق السادة المتوكلون.
إن الرجل الذي آتيك بحديثه ، أيها القارئ، هو شبيهك في نوعه الحيواني، وأرجو أن تكون أعلا منه في إنسانيتك، وأرقى مطمحا.
عاش هذا الرجل حينا من الدهر بين الناعمين، يطعم كما يطعمون من ألوان مختلفة، وينام كما ينامون على لين الفراش، ويخلع الحرير، ويلبس الحرير. وكان يشتغل قليلا، ويظفر من عمله بأجر غير قليل وجاه جزيل، وينال من هذا الجاه تحيات وافرات.
ظل على هذا الحال حتى تولاه مس سيء من حياة النعومة، التي ليست من حقه؛ فأصبح شاحب اللون، شحيم الأعضاء، أجش الصوت، مرتجف القلب، مضطرب الضمير.
هال الرجل أمر مصيبته، ففزع إلى التداوي، فجيء له بصفوة الأطباء.
نصح له الطبيب بالملاهي ليستريض بأنوارها وحسناتها وحسانها، فلم يزده اللهو إلا سقما على جسمه، وسعيرا في نفسه.
نصح له الطبيب أن يتعدى البلاد، ويجوز الشرق للغرب، وينعم هناك بأرض حيا الله رباها، وجدد بهجتها، فلم تزده بلاد البهجة والنعيم إلا هما.
وصف له الطبيب إكسير البحار، وهواء الجبال، وعصير القلوب والأكباد. وصف له الطبيب ما وصف، فلم يبق من الأدوية ولم يذر، ولكن ظل فيه الداء.
وبينما هو ذات يوم يفكر في حاله، ملقى على مقعده، إذ ساقه النوم إلى عالمه، فرأى فيما يرى النائم كأن الحائط قد انشقت، وظهر له من خلفها شبح نوراني، يكاد يكون وجهه كالشمس، أو كالقمر، وسمع صوتا ينادي بأن العلة لا تزول إلا بغذاء من رغيف طاهر معجون بدم الناس، بدم لا ينبع من جرح، ولا يرشح من مرض.
ذعر الرجل من هذه الرؤيا، وضرب في الأرض يسأل كل عالم بتأويل الأحلام؛ حتى التقى بشيخ من أهل الله صالح، قال له: أنا آتيك بتأويل رؤياك، فاتبعني وسار به بعيدا بعيدا عن المدينة، وانتهيا إلى شجرة عجوز، بارك الله في ظلها لمن يلجأ إليه من عملة المزارع الواسعة القريبة إليها، وجلسا يرقبان رجلا عليه ثوب خلق أزرق، يعمل بجد في الأرض.
ولما كادت الشجرة تنتقل ظلالها، وتتوسط الشمس في السماء، مال العامل عن عمله، واتجه نحو الشجرة والعرق يتصبب من جبينه، وإشراق الجهد الصالح يتألق على وجهه، وانتحى ناحية في ظلها الواسع، وأخرج من جعبة حقيرة رغفانا تكاد تكون سوداء ومعها نبات يؤكل، ودعا الشيخ وزميله دعوة الكريم، فتقدم الشيخ إلى الطعام، وأشار على زميله العليل بإتباعه، وأكلا من طعام العامل وشربا من مائه.
شعر العليل بنوع من الرغبة في الطعام، لم يكن يشعر به من قبل، وبدأ يفكر في أمر الحياة واختلاف جهد الناس فيها ونصيبهم منها، وأخذت تتسرب إلى فكره طائفة من الخواطر من شأنها أن تكسر حدة الطمع، وتحقر النعيم المكتسب من وراء الذلة والدناءة، وتهدي إلى حياة الرضا، والبساطة، والحلال. وكان في ذلك اليوم بدء الشفاء. •••
أن رغيف العامل الفلاح معجون بدمه وعرقه، وبينما هو يهيئه تنقض على كتفه غربان من البشر، يختلسون من لحمه الطاهر طعاما هنيئا، فيئن وهو صابر، ولكن الله عدل شهيد يعطف على الفقير المظلوم جزاء صبره، ويصيب الغربان بمرض في الجسم، ووخز في الضمير.
الشباب المدبر والشعرة البيضاء
شرنفاش في 5 من نوفمبر سنة 1915
أيها القارئ الصديق الشاب:
إن الفتى الذي ألقى عليك قوله كان من هؤلاء الذين أعزهم الله بآية الشباب فقضى ربيع العمر بين لذة الحب ولذة الأمل، ولذة العمل، ولبث يعدو في ذلك السبيل الزاهي حتى اشتعلت في رأسه شعرة بيضاء أدرك بها أنه قطع في سبيل الله ما قطع. وأنه كاد يدخل في مسلك قفر من نعمة الصبا، ونعيم الغزل.
ظن الفتى أن تلك الشعرة هي نذير كاذب بفوات الشباب، وزعم أنها فوتت على نفسها غذاءها من لحمه ودمه فابيضت فخاطبها قائلا: «ليس لك أن تزعجيني أيتها الشعرة، فما زلت بحمد الله فتيا أحب زهرة الربيع الوليدة العطرة، وأطرب من حديث الغانيات وأصبو لذكر كل عمل مجيد.»
ما زلت محبا للحياة أعانقها إجلالا لما فيها من عظمة، وحرصا على ما تظهر به من جمال، فيغشاني الليل، ويجود بفترة هادئة تقبل علي فيها طوائف الرغبات، وإذا بخل الدهر برغبة جاد الليل لنا عنها بجميل العزاء.
يلحق الليل النهار فيشرق وجه الوجود، وتلقي شمس الصباح في نفسي قذيفة من القوة أتعقب بها كل عمل صالح. وهكذا اليوم الصالح إن أغلق في الليل عن عزاء، فإنه يفتح مع الفجر على نشاط ورجاء.
هذه يميني أيتها الشعرة البيضاء، محشوة بالعافية، وهاتان قدماي تحملاني على الأرض غير وجلتين ولا متخلخلتين، وهذا سمعي ليس به وقر، وهذا بصري حديدا، فإذا كنت أيتها الشعرة نذير الهرم، والهرم نذير الموت، فاجعل اللهم يوم لقائي لك في أيام الشباب، فلقد نعمت به ولقد أحببته ووددت لو ألقاك اللهم فتيا.
يقولون: «إن في تلك الكواكب البراقة أودية وظلالا، فأي فتاة من أهل السماء تنتظرني اليوم تحت كروم هذا النجم اللامع لأقبلها وأشرب من عصير تلك الكروم وأستأنف الحب في عليين، على مرأى من الملائكة والمطهرين.» •••
وا أسفاه لو فلت الشباب، ولم نقض من الشباب إربته.
أن الحياة جميلة، وخير ما في الحياة ربيعها، وخير الربيع ما انقضى بين الحب والعمل والأمل.
الدعوات
على ذكر الحرب
شرنفاش في 12 من نوفمبر سنة 1915
لأهل القرى أصوات أجهر من أصوات المتحضرين؛ وربما كان ذلك؛ لأن صدور القرويين هي أقدر على دفع الهواء وهزه بقوة، أو لأن هواء القرية غير ممزق بالحركات المختلفة التي تقوم عليها المدينة، أو لأنه بليل برطوبة النبت الغض والحقول العطرة، أو من هذه الأسباب جميعا. ولقد طوح النوم عني صوت علا غير بعيد من نافذة غرفتي يدعو لآخر بالبركات. وبمقدار ما آلمني أن أتخلى عن راحة كنت في حاجة شديدة إليها، سرني أن استقبل الصباح على صوت امرئ من الأنس يبغي الخير لأخيه.
أثار ذلك الحادث في نفسي خواطر شتى، تطوف حول الدعوات، وتجر إلى البحث في ماهية الأماني، وما ينجم من الشعور بالضعف عند عدم نيلها، وما يكون من الاستنجاد بقوى عظمى تذعن لها قلوب الناس يوم تظل عقولهم وقدرتهم قاصرة عن إدراك ما يطمع العلم في كشف أسبابه، وغير ذلك من المسائل التي يطرحها أهل العلم للتنقيب.
وقد يكون للسادة رجال الدين آراء في تلك المطالب التي يوجهها العبد إلى رب حكيم قدير، إن شاء ردها، وإن شاء لقيها بقبول.
لست اليوم أبحث في الدعوات من سبيل السادة أهل العلم، أو من وجهة السادة أهل الدين، وحسبي أنها نزعات فطرية موجودة في البشر منذ علم للبشر تاريخ. يسجل القلب تلك النزعات، ثم يرفعها اللسان نحو ملكوت مسير الأمور ومصرف الأحوال.
ولقد كان الناس قديما يوجهون دعواتهم عند رحاب أنصاب معظمة، أو أرباب مكرمة، ويقول المتدينون: إن الله يتقبل الدعوات إذا صدرت عن قلوب طاهرة، ليس فيها غل ولا دنس.
كم في الأرض من دعوة رفعت عن لسان والد يطلب الخير لذريته، أو نبي يطلب الغفران لملته، أو حاكم ينشد التوفيق لأمته، فهل من دعوة رفعت إلى الله من قلب نقي؛ ليصير السلم عاما والنار سلاما. •••
يقولون: إن بعد الشدة الرخاء. ولقد شهدنا شعوبا غرس الله بهم زرعا، وشاد بهم عمرانا وأقام لهم مجدا فحل بهم القضاء، وجرت في أوديتهم الدماء، وكم من قلب يرجو لو وضعت الحرب أوزارها فما لله لا يستجيب؟ ألأن قلوب البشر لم تزل غير نقية لا يرضيه دعواتها؟ •••
تداول الدعوات بين الناس نذير بأن القلوب تتهيأ للحب، ومتى ساد الحب القلوب، ساد الأرض السلام.
الكأس المرة
القاهرة في 9 من يونيه سنة 1915
قرأت في صحيفة من صحائفه ما يأتي: «كان الحر في ذلك اليوم شديدا. والسائر في أنحاء المدينة يستر وجهه من هبوب ريح سخينة محملة رمالا مصفرة يخشى الصدر أن يصيبه أذاها فيستنشق نصيبه من الهواء بتؤدة وأناة وكان الناس يحاربون هذا الوجود الشاق على الأجسام باستمرار المثلجات لترطيب دمائهم ترطيبا. ولما آذن النهار بالانصراف كأن ملائكة في السماء خلطت أنفاسها الطيبة في ذلك الجو فطفئ لهيبه شيئا فشيئا وترك القوم مضاجعهم إلى القهوات يستقبلون ليلة حلوة من ليالي القاهرة.
خرجت إلى القهوة في بدء المساء وكنت أكاد لا أجد لنفسي مكانا لوفرة الجالسين فانتحيت جانبا بين ذلك الجمع وكأنهم كانوا من الذين لم تحل بينهم هموم الأيام وصروفها وبين ساعة سرور تقضى في لذة الشراب.
الجعة الصفراء، مرغية، نقية، خالصة ينم عن برودتها بخار الماء المحيط بزجاج الكأس، ونسيم الليل المنعش يحمل رائحة حببها الخمرية إلى المشام ليثير رغبة الشاربين، ونور الغاز شديد يظهر صفاء تلك الكؤوس المرصوصة صفا صفا والساقون يروحون سراعا بأكواب فارغة ويعودون بها ملأى والبؤساء من صغار الباعة، أو السائلين ينسلون دون أن يشعر بهم أحد؛ لأن السقاة شغلوا بعملهم والناعمين يلهون بنعيمهم وكأن هؤلاء البؤساء كانوا رسائل من عند الله يذكرون بتفاوت حظوظ الناس.
لفت نظري رجل بائس واهن القوى. نحيل الجسم ضعيف البصر، يحمل على كتفه العانية فتاة توسدته فنامت، وأسدل شعرها أصفرا هملا جميلا على كتفيها الصغيرتين.
تنام الطفلة في الساعة التي من حق الطفل فيها أن ينام على فراش لين هادئ، ولكن المنكودة تنام في غير مأوى. يطوف بها والدها المجرم الجاني حيث فصلها من دمائه المعذبة لتنال نصيبها من الشقاء. لا أدري لماذا يلد الناس إذا لم يكن لأولادهم سهم في النوم الهنيء، ولا في الطعام المريء!
نظرت إلى الرجل فاضطرب رأسي بأفكار متناقضة وفؤادي بعاطفة ليست محدودة ولا مضبوطة، فكان يدفعني عامل من الشفقة والحنان، ويهزني عامل آخر من القسوة والظلم، ولربما كان في القسوة والظلم كيان هذا الوجود.
نظرت إلى الرجل نظرة متنمرة، ورفعت الكأس في يدي، وكأني كنت أتخيل نفسي جنديا مظفرا في معمعة كبيرة هائلة، قد نسى من لذة النصر ما تحت بصره من هول الموقف وبشاعة المنظر.
رفعت الكأس لأشربها في صحة الظافرين أمام من لا يجد خبزا، أشربها صرفة أمام من يتجرع الذل والهوان، ولكن فرائصي كادت ترتعد من بقايا شفقة كانت في نفسي، ولم يكن ما ألقى من عسف العيش، وظلم الوجود، ومر الحياة لينزعها من ذلك الفؤاد.
شربت الكأس دفعة واحدة، على أن مذاقها قد كان وا أسفاه مرا ...»
على مسرح الإدارة
القاهرة في 23 من يونيه سنة 1916
قرأت في صحيفة من الصحف ما يأتي:
من زمن غير بعيد، وأنا أمثل دوري على مسرح أعمال الإدارة، وكنت قبل ذلك أشتغل بالزرع، وأدير شؤون فئة من العمال يسعون تحت عيني في أعداد الأرض، وتهيئتها؛ لتنبت رزقنا جميعا. كنت أساجلهم الحديث، وكأني بهؤلاء الفقراء لا شكاة لهم من الفقر، ولا يتذمرون منه؛ لأنهم يملكون متاعا طيبا غير المال بجانب رزقهم الضئيل، يملكون الهواء الطلق، ورئتين واسعتين تخرج قهقهة الضحك عالية، وتهز الهواء هزا. يملكون زهر الربيع، ودر الندى، ونور الفجر المنبثق، وجمال الأصيل، وهدآت الليل الساكن، وكواكب الصيف الريفي الجميل.
كنت قرير النفس بأعمال الحقول، وكادت تنسيني الحياة الريفية الرتيبة، التي قل ما يتناولها التغيير كثيرا مناظر العوز والفقر الفاشي بين سكان المدينة، على أنني لما عدت إلى القاهرة، واستبقاني صحابي بينهم، وساقني القضاء المحتوم إلى عمل عام في منصب من مناصب الإدارة، تبينت إذ ذاك صورة جديدة من أحوال البشر. صورة التنافس في السلطة، والمكر السيئ والمكر المحمود، والخديعة، والحسد، والجبن، والتشفي، والنفاق، والرياء، وغير ذلك من صفات تلصق بالجماعات التي تتعدد فيها الوظائف، وتتفاوت فيها مراتب الموظفين.
بين هذه الوجوه كنت أرى الوقت بعد الوقت وجها شاحبا خجولا وجلا، يلعب به الرجاء، ويصرعه اليأس. وجه الفقير يلتمس عملا ليأكل خبزا، ويحمل ملتمسه على قرطاس جميل بخط جميل واهما أن جمال الطلب وسيلة لقبوله.
كنت في بدء حياتي الإدارية كثير العناية بهذه الطلبات أقرأها، واستعيد قراءتها، وأحملها مسرعا إلى رؤسائي آملا أن تصيب قبولا، فأحمل البشرى عن ارتياح وسرور.
تكررت هذه الطلبات، وتكرر رفضها من الرؤساء، وألفت شيئا فشيئا قساوة هذا الرفض، وبعد أن كنت أحمله إلى أربابه متلطفا متأسفا أصبحت أحمله إليهم، كما أحمل أي نبأ لا يتحرك له الفؤاد.
سافر رؤسائي إلى مصايفهم وزودوني ضمنا بنزعاتهم ووكلوا إلي بعض الأعمال، فمن أيام تناولت كتاب رجل من القوم الذين يمضون نهارهم في البحث عن عمل صغير في المصالح، أو كتابة خطابات لرؤسائها يسترحمون ويتظلمون إليهم من الفقر وحمل العائلة.
كان لهذا الكتاب ميزة تظهره على أمثاله، كان مرسوما على ورقة نزعت من كراسة تلميذ في بدء سني دراسته، والورقة مصفرة والمداد الذي كتب به، كأنه مداد طفل طالما خلطه الطفل بالماء.
واليد التي خطته هي يد عانية، لا تجيد رسم الحروف، والقلم الذي صاغه لا يحسن صوغ الجمل. ليس في الخطاب أكثر من المعنى الذي تعودنا وعيه من مثل ذلك الكتاب.
الرجل فقير وذو عائلة، ويلتمس من مراحم صاحب السعادة عملا ليأكل منه الخبز، وهو يدعو لصاحب السعادة عند الله بطول العمر.
كان ذلك الخطاب في مجموعه كالأمل الشاحب الضعيف وضعته أمامي، وغمست الريشة في الحبر الأحمر، ورسمت عليه كلمة الإهمال التي علمنيها أصحاب السعادة الرؤساء!
رسمت الكلمة بغير رفق فتمزق من الخطاب شيء ونثرت الريشة قطيرات حمراء، كأنها دم الفقير انتثر من قلب ممزق.
ناديت الكاتب ليحمل هذا الأمل الضعيف المهزوم.
ناديته ليحمله ويقبره في أضمامة الأوراق المهملة مع أشباهه، ولعله هناك يتضام إليها ليشكو إلى الله حال صاحبه فإن الله رحيم، ولكنه نزع الرحمة من نظام الأعمال الاجتماعية، فليست الرحمة من قواعدها.
واسع الرحمة
القاهرة في 16 من أكتوبر سنة 1916
سرت من نحو ثلاثة أيام في جنازة متوفاة على دين المسيح ابن مريم، وقد ألفت كما ألف غيري مرأى جنازات النصارى، فليست غريبة عندي الرسوم التي يتخذونها في تشييع أمواتهم، ولكن كانت تلك هي المرة الأولى التي ذهبت فيها إلى مقابرهم في تشييع راحل عن هذه الدنيا.
رأيت في قبورهم حسن النظام، وتصوير الأبدية في صورة تجمع إلى جلال الموت جمال السكون. على أن ذلك لم يكن ليغرب عني، فإن الرقى المدني الذي اختلطت به حياة الفرنج، لا بد أن يكون له أثر في جميع نظمهم في الحياة وعند الممات.
وصل المشيعون إلى المقبرة. وهناك خف وطؤهم، وخشعت أبصارهم، ونزلت عليهم السكينة وحيا من عظمة الموت؛ بل من جلال الأبدية وعظمة الفناء.
لفت نظري، بين هذه المناظر المرهوبة قوم من السائلين المسلمين، ينتظرون عند الباب العطف والرحمة.
لقد أحسن هؤلاء البائسون في اختيارهم تلك المواقف عند أبواب القبور، فإن المرء بعد زيارته هاتيك المواطن المحترمة يخفض من كبريائه ويرق قلبه، ويصبح رءوفا بالضعيف، حنانا على السائل المحروم.
لفت نظري ذلك؛ لأن عاطفة الرحمة تمثلت لي في هذا المكان وفي تلك الساعة في أجمل صورة يجب أن تكون عليها الرحمة. عاطفة تخرج من جانب القلب في سبيل الله إلى كل عاجز ضعيف. عاطفة طاهرة لا تبصر إلا الضعف والحرمان.
رأيت على باب مقبرة النصارى سائلين من المسلمين. وما أحسبني رأيت قط في مقابر المسلمين مسيحيا يطلب الإحسان.
يا ليت شعري! أراجع ذلك إلى طبائع الجماعتين في فهم معنى الرحمة، وفي الجود بها، أم أحسن المسلمون إذ فهموا أن الرحمة لا دين لها، فأصبحوا يلتمسونها عند مقابر من ليسوا على دينهم، وأساء النصارى القيم، فزعموا أن الرحمة لا تخرج خالصة لهم من بين مقابر المسلمين، فلم يطلبوها لدى أبوابها؟
أما آن للناس أن يفهموا أن في الصدور عواطف تود لو تعيش فوق المذاهب والاختلافات، وأن أحق العواطف بالرعاية في نزعاتها الحرة عاطفة الرحمة. كتبها الله على نفسه، وهو واسعها لعباده جميعا.
ساعة عبادة
الإسكندرية في 2 من أغسطس سنة 1917
في طريق الرمل رقت سلم الترام مع أمها، وأظن أنها تسكن في «حلة قيصر». صعدت حيث يصعد الناس على ظهر المركبة رغبة في الهواء الجاري وتسريحا للنظر، ينطلق في امتدادات الأفق المتصل ببحر الروم. استقلت الفتاة بمجلس كان من الحق أن يشغله اثنان، واستباحت لنفسها أن تستأثر بالمكان وحدها لقلة الذين كانوا في المركبة وقتئذ.
جلست بمعزل متجهة إلى الحر، متخذة سياج المركبة مسندا لظهرها، ووضعت ذراعها على متكأ المقعد، ثم أسندت رأسها على ذلك المعصم الجميل النحيل. شخصت الفتاة بعينيها السوداويين الطويلي الهدبين إلى الأفق المتدلي على البحر، وانفرجت شفتاها الورديتان عن ابتسامة، تكاد تتفتق كما تتفتق الأكمام في أول تحولها إلى زهر نضير، وغابت بذهنها عن الناس كأنها كانت تخاطب خلقا في الملكوت الأعلى. وكان النسيم يعبث بخصل شعرها الطويل المرسل الأسود، فيطوحه برفق إلى صدرها، ثم ينزعه برفق عن هذا الصدر المشرق المزدان بصليب ذهبي ، وهاج متصل بسلسلة ذهبية تطوق عنقا لا يعيبه طول، وقد تجاوز حد القصر.
اتجهت حيث يقع بصري على هذا الخلق الفتان. لم أختلس النظرات اختلاسا، وإنما رأيت أن أشبعها حسنا غير مكترث بما قد يأخذني به الناس من تلك النظرات؛ لأني كنت حينئذ طاهر النية أمام الله، فلا يخجلني أن أتمتع متاعا طاهرا بجمال فتاة لا تكاد تبلغ الرابعة عشرة. الفتاة ذات سمرة تبعدها وأهلها أن يكونوا من أهل الشمال، والفتاة صغيرة السن، لم تتعلم من الناس بعد أن الجمال كثيرا ما يتخذ وسيلة للخيلاء والغرور، والفتاة لم تتعلم بعد من الغزل إلا ما علمتها الطبيعة من الميل إلى كل شيء جميل، فكأنها كانت تغازل البحر والنسيم، أو كأنها كانت تداعب الأملاك الذين يخفون صورهم عن خيالنا المنطفئ، ويظهرونها في رؤوس الأطفال، فتراهم يسرون ويبسمون لنغم مريح يسمعونه ولا نسمعه. الفتاة جميلة جميلة!! على المقعد الجنيب لمقعدي كان يجلس قس شيخ بمسوحه السوداء، وبيده كتاب من تلك الكتب المنزلة، وكان القس يقطع سطوره صامتا متعبدا.
ليت شعري! أي العبادات كانت إلى الله أقرب يا صاحبي القس؟ أعبادة رجل يرى الله في الكتاب! أم عبادة من كان يعجب بالمصور الأكبر في صورة بديعة صورها!؟
شكوى إلى الله
القاهرة في 24 من أغسطس سنة 1917
كثيرا ما تكيدني الأيام والليالي، فتحول بيني وبين كل عمل أتسلى به، وتصرف إلى نفسي ضجرا وإلى رأسي طائفة من الأفكار لا أسيغ معها القراءة، ولا يلذ لي معها الحديث. عند ذلك أفر من سكون الدار فرارا، وأفر من وجوه الإخوان إلى حيث تقودني قدماي في الأسواق، فأقف أمام الحوانيت أتسلى بالنظر فيها إلى ما يباع ويشرى، واليوم وقفت عند حانوت وراق بالأزبكية، وطلبت إلى البائع الفتى أن يعرض علي صنفا من البطاقات عليه رسم الوجوه الحسان.
لبى البائع الطلب، وقدم لي منها عددا وفيرا، فرأيت على واحدة رسم جندي يقبل فتاة جميلة، وكتب تحت الصورة: من وهب حياته للمجد حق له أن يسعد بقبلة من تلك الشفاه.
وعلى ثانية رسم جندي يبسم لفتاة تودعه، وكتب تحت الصورة: سأخضع العدو كما أخضعت قلبك.
ورأيت على ثالثة رسم فتاة وفتى تدل سحنتهما على اختلاف بينهما في الجنس. في شمال الفتاة زهرة، وفي يمينها يمين الفتى، وكتب تحت الصورة: كما اتحدت أوطاننا نتحد على الحب طول الحياة.
ثم رأيت على رابعة صورة زوج تقدم لزوجها الجندي هدية عيد الفصح من حلواء وزهر وكتب تحتها: هذه الحلواء وهذا الزهر الذي يباركه الله في عيده، أرجو أن يكون من شأنه أن يرفع مجدك، ويبقي لي قلبك.
أخذت أقلب البطاقات واحدة بعد واحدة، وفي داخل النفس أنة تنفر من الحسرات فتمزق الفؤاد تمزيقا وفي العين دمعة تترقرق من الذكرى ويمنعها الحياء من السقوط.
أخذت أقلب البطاقات واحدة بعد واحدة، وأقول في نفسي أي بطاقة يكون فيها العزاء لمن أصبح لا يجد حبيبا يبثه كلمة الحب. ومن لا زوج له تشاركه بإخلاص في هموم الحياة. ومن هو من جنس قد تغمطه حقه الأجناس، ومن ليس له حول يدفع عن وطنه به الأذى؟
يا صاحب الحانوت يا صاحبي هل من بطاقة ترسم عليها السماء دليلا للعزة الإلهية، ويكتب تحتها: إلى الله يرسلها من تملا نفسه الشكوى؟
يمين رولان
القاهرة في 3 من نوفمبر سنة 1922
أرأيت إذ تمر في أحياء المدينة الكبرى متسعا من الأرض عليه أكوام من الرمل، وألواح من الحديد والخشب، وأكداس من الحجر والجير، وعليه ما تعلم وما لا تعلم من المواد ومن آلات التشييد والتعمير؟
تلك المواد وتلك الآلات أكثر ما يستخدمها أهل المعمار من مهندسي الغريبين أمثال رولان وغيره، ممن يعيشون بيننا.
أرأيت هناك آلة يحركها البخار مسلطة على ذراع من الصلب، كأنه ذراع النمرود، وهل رأيت هذا الذراع العاتي الجبار يرفع من الأرض كتلة حديدية ضخمة، فإذا قطع بها إلى السماء سبيلا تركها تهوي، فترتعد حينئذ فرائص البطحاء حتى إذا بلغت الكتلة مقرها اهتزت منها جوانب الأرض اهتزازا، واندكت منها دكا، وكادت من هولها تمور؟
تلك الآلات وذلك الذراع هو ما أعنى به «يمين رولان»، وإن شئت فسمه «يمين المعمار الغربي». •••
طالما وقفتني تلك العدد مع نفر من الضاربين في السبيل. طالما وقفت لأشهد جبروتها، وطالما أخذت الخواطر تنعطف على رأسي، وترسل معها على وجهي وشفتي ابتسامة وادعة بريئة من كل ذنب. •••
أغدا - أقول في نفسي - يصبح ذلك المتسع من الأرض الذي تضرب فيه أثقال الحديد، وتحفر فيه فؤوس الفعلة، وتخطه بنان المعمار. أغدا يصبح ذلك الفضاء عامرا، فيرتفع فيه البيت الشامخ العديد الطبقات، العديد الشرفات؟
أغدا تطمئن في تلك الدور الآباء والأمهات والبنون والبنات والعروس وعروسه، والحبيب والحبيب، لهم فيها مسكن ونعيم، وقد أمر من وراء حجراتها وأقطع طريقي في طول أسوارها، ولا يصيبني إلا ما شاء الله من هناء الطرف بالقصر المنيف والدار الشامخة، وقد يفلت إلى سمعي من إحدى نوافذه نغمة شادية، أو دقة عازف تطير من تحت أصبعه رنة ينشرح لها صدري، ويرتاح لها قلبي، وتجري بها مهجتي؟ •••
وحقا يا أخي ما هي إلا أيام معدودة حتى يستقيم البيت، ويتنفس العمار في أرض كانت بالأمس خرابا، وكل ذلك يرجع أكثر الفضل فيه إلى تلك الآلات التي جهزها العلم، والتي اصطلحت بيني وبينك على أن نطلق عليها اسم «يمين رولان». •••
إلا أنني لا أخفي عنك أيها الصديق القارئ أنه على إعجابي بتلك العدد والأدوات، ومع إكباري لكثير من مظاهر المدينة الحديثة في تخطيط المدن وتصوير المنازل، فإن حسرة تستولي على نفسي عندما تضرب «يمين رولان» على وجه أرضنا من غير رحمة ولا إشفاق، فتزول من آثارها رسوم مدننا، وتضمحل أشكال هندستنا، وتتحول أنظمة بيوتنا، وتتغير أساليب عيشنا وعاداتنا الخلقية، وكثيرا ما تتناسب العادات والأحوال النفسية مع ظروف المكان والمحيط.
وا حسرتاه على منازلنا التي نبتت فيها طبائع الكرم، وشيم الوداعة، تستحيل إلى بيوت غريبة تملأها آلاف من الناس؛ كأنها ثكنات الجنود، أو مكامن النمل العديد.
وا حسرتاه على تلك «المناظر» التي كان يغشاها أجدادنا وآباؤنا، فيصرفون فيها سمرهم، وينشرون في جوها أنسهم، ويفيض في جوانبها جودهم المطبوع ، وحسبهم المرفوع .
وا حسرتاه على تلك الدور ذات «الحيشان» والغرف الوسيعة، التي لا تضيق فيها الصدور، وينطلق فيها المحيى بالبشر والإيناس.
وا حسرتاه على كثير من المعالم الشرقية، يطغى عليها سيل الغرب الجارف فيغرقها، وكم فيها من جمال! •••
إن في مظاهر عيشنا ومدنيتنا الطيب الصالح، فلنستمد له من مدينة الغرب دون أن نضيعه، ولنعمل على ألا تستبد بنا المدنية الغربية في كل أمر، ولنعمل على أن تترفق بنا «يمين رولان» العاتية.
القهوة والبيت
القاهرة في 10 من نوفمبر سنة 1922
نبهني صديق إلى قهوة في إحدى الطرق التي يكثر فيها غدوي ورواحي. لم تبلغ تلك القهوة من العمر إلا أياما. عليها نضرة الشباب، وعليها بهجة الجديد، وهي مغمورة في لجج من الأنوار، ويغشاها الناس فيعمرونها كما يعمر الجامعات طلاب العلم المخلصون.
تواجه القهوة حارة هادئة تجد في أقصاها مساكن لم يرفع الغنى أهليها إلى طبقات الدور الشامخة، ولم ينزل بهم الفقر إلى تلك الموائل التي تجثو إلى الأرض، فتكاد تغور فيها غورا.
وقفت ذات ليلة في الطريق البرزخ الموصلة بين القهوة والحارة، بحيث أشعر بالسكون الشامل لتلك المنازل، وأشهد عن بعد من القهوة لآلئ الأضواء، وما يجري فيها من مظاهر الحركة والمرج.
وكأن الحركة والأضواء التي كانت تفلت إلي من تلك القهوة العمرة كلمات فيها معنى اللوم، والازدراء، والعتب، والتشفي، والمفاخرة. كأن القهوة في هرجها وأفراحها تناجي البيوت في سكونها وأساها، وكأن البيوت كانت تتوجع من ذلك الحديث وتئن.
أيه أيتها البيوت ...
إنك خلوت من الحياة المؤنسة، التي تنشرها في رحابك الزوجة الصالحة والابن النجيب. وإنك خلوت من العطف والتراحم الذي يتولد من تضام الأسرة ومودة العائلة. وإنك خلوت من روح السرور الذي ينتشر من أنس الأخلاء والأصدقاء.
إنك لا تستكملين أسباب الراحة والرفاهية. أين منك ضوء درى؟ أين منك منافذ تستعطف عليك الهواء العليل؟ أين منك صور وفنون تتخذين منها زينة وحلية؟ أين منك زرابي مبثوثة وطنافس مفروشة؟ ...
إن جوي مشبع بالسرور، وجوك مشبع بأثقال الحزن والنكد، إني مضيئة باسمة، وأنت مظلمة قاتمة . فانقضي على عروشك. أيه أيتها البيوت! ... •••
كأني كنت أشعر عندئذ أن منافذ بيوتنا المسكينة الحزينة عيون مقرحة من البكاء، ناظرة إلى تلك القهوات، شاكية إلى الله من مر الألم؛ وكأن البيوت تقول: تبا لك أيتها القهوات! ... إنك تجذبين إلى أحضانك الخبيثة أربابنا وفتياتنا، فيصرفون فيك قطعا من الليل وجزءا من النهار، يتبادلون فيك سمرهم، وينفقون فيك أموالهم.
إنك تأخذين إليك الزوج من زوجه، والأب من بين بنيه، وتجعلين عرصاتنا خالية، وأجوافنا خاوية.
على أنك أيتها القهوات إن كنت تفخرين علينا بقوم يعمرونك ويتركوننا، فكم يغشاك من خامل كسلان لا يرفعه بين الناس شرف العمل، وكم يغشاك من ماجن مستهتر دنيء لا تعمر به أرض، ولا تغبطك عليه دار. وكم يغشاك من وارث مضيع يأكل من عمل الغير ويشرب من دمه!!
لا فخر لك علينا. أيه أيتها القهوات ... •••
يقولون من ينشئ مدرسة يغلق سجنا، وأقول من ينشئ قهوة يخرب بيوتا ...
يا قوم لا تعمروا القهوات، وتهدموا البيوت. وإن أردتم بناء مجد الوطن، فأعمروا البيت ونظموا العائلة ...
في ذكرى عام
القاهرة في 5 من يناير سنة 1923
للمرء أن يتسمع ما يخفق به قلبه، ويقيد ما يمر من الخواطر بوجدانه. وله أن يخفي منها ما شاء، وله أن يعلن منها ما شاء، ما دام الناس لا يصيبهم أذى من سره ولا مكروه من جهره.
أقيد بعض ما اتصل بنفسي في الساعة التي كانت برزخا بين العام الميلادي الذي رحل وذلك الآخر الذي حل.
غشيت قبل منتصف الليل داري. والتحفت حرصا على الدفء بدثاري في ساعة كان بردها على شديدا. وأخذت على نفسي ألا أضجع، وألا أنام حتى يلفظ العام نفسه الأخير. فأذكر له بالخير ما أحسن به إلي، وأسامحه فيما أساء. ولكل راحل إلى الله حق في الذكرى وحق في المغفرة.
جلست على مائدة كتابتي. وأخذت أعد بطاقات، أكتب عليها كلمات التهانيء والمجاملة. وأخذت أحصي الأسماء على قطعة من الورق. فلما انتهيت من ذلك الإحصاء، وأعدت عليه النظر، تولاني خاطر مزعج، اضطربت له النفس . وقد يزعج النفس الأليمة ما قل، كما يزعجها ما جل.
غدا أرسل لزيد تلك البطاقة. وفي غد يحمل البريد لخالد تلك الأخرى. وفي غد أغشى دار بكر لأبسم في وجهه.
في غد يحصل كل ذلك، ولكن كم من هؤلاء الذين أذكرهم غدا لا يسعدني وجودهم، ولا يشقيني غيابهم. ولا يسعدهم وجودي، ولا يألمون لفقدي. على أني أجامل الناس كما يجاملونني، وأخضع معهم لقوانين النفاق الاجتماعي كما يخضعون ... فتبا لأساليب الحياة. تعلم الناس النفاق باسم الجميل والأدب.
وفي اليوم الذي أحيى فيه من لا تسعدني بسماتهم ولا خير لي ولهم في تبادل التحيات، يحول الزمان وصروف الدهر والغير بيني وبين من كانت تشرق لي بسماتهم، ومن كان الله يجعل لي من دعواتهم ظفرا وسعادة ... إن الحياة تقوم حقا على معاندة الإنسان.
تركت مائدة كتابتي، وفتحت بابا لأصل بين غرفة نومي وغرفة عملي؛ حتى يتسع المكان لسيري وخطواتي التي يستفزني إليها القلق، ثم جعلت أدخن بشدة بين جيئة وذهاب في مدى الغرفتين، ثم استلقيت على كرسي كبير، وشرعت أتسلى برؤية ما أدفعه في جو الغرفة من دخان يذهب من صدري ذرات متآلفة متقاربة، ثم ينتشر، ثم ينبسط، ثم يتلاشى في الجو كأنه لم يكن.
أخذت أتذكر في مكان الله الواسع، أراضي أحببتها ونعمت فيها حينا. وتذكرت في زمان الله الواسع أياما كالعسل قد مضت وانقضت. وتذكرت من خلق الله الذي لا يحصى عددا أشباحا تلاشت في ظلمات الثرى. تذكرت وتذكرت وتذكرت كثيرا.
اذكرونا مثل ذكرانا لكم
رب ذكرى قربت من نزحا
ثم أخذت أحاسب نفسي على زلاتها. وأزن أمامها آمالها. وأتبين في ذهني؛ بل في غشاء قلبي؛ بل في لحمي وعظمي ما فعله به الزمن. وما رسمته عليه السنون.
وبينما أنا مستغرق في أمري، نبهتني من غرفة أخرى دقات الساعة الكبيرة إلى الأهبة لوداع عام يفوت ...
كأن دقات الساعة كلمات يعدد بها العام المنصرم بعض ما يذكره لنفسه من خير وشر. كان العام يقول في دقائقه الأخيرة:
تن ... سخرت من الغافلين حتى صحوا من الشدة والمحن ...
تن ... أغريت الإنسان بالذهب الوهاج، فتهافت على ناره كما يتهافت على النور الفراش ...
تن ... جعلت في الناس والأمم من يعملون لقتل الضعيف ولو كان بريئا.
تن ... آويت اللص، وسترت الخديعة. وكثيرا ما أعليت الباطل على الحق ...
تن ... نفرت بين قلوب، وأشعلت ضغائن، وأثرت فتنا ...
تن ... صرفت الناس على وجهك يا الله ليعمدوا إلى الأثرة والشهوات ...
تن ... تمخضت بآراء وقدمت عظات وعبرا. ولكن الناس لا يفقهون ...
تن ... أحرقت أفئدة، وأجريت دموعا، وشربت دماء ...
تن ... كم من صحيح أضعفت ... وكم من عزيز أذللت ... وكم من عليل داويت ...
تن ... جردت أشجارا من ورقها الأصفر الجاف ... وأبدلتها منه ورقا جديدا ... وجعلت عليها زهرا نضيدا ...
تن ... صرفت العاشقين وهم في سكرات القبل عن مرارة العيش، ثم أخذتهم أخذ الجبار، فبدلت هناءهم تعسا. وبدلت سعادتهم شقوة وجحيما ...
تن ... لبيك اللهم لبيك ...
وما كادت تضمحل في أذني الرنة الأخيرة التي كانت تمام الساعة الثانية عشرة من منتصف الليل لآخر شهر ديسمبر من سنة 1922، حتى تصعدت من قلبي زفرة، وحارت في عيني دمعة. عندئذ وجهت وجهي شطر السماء قائلا:
أيتها الأزلية التي تجتمع فيها الأزمان المتوالية، وتستقر عندها الأحقاب المتتابعة. وتتوحد في وحدتها جميع الخلائق. مغفرة لما قدمنا من ذنوبنا وما أخرنا. وصفاء لنفوسنا بما تصفو به نفوس الصالحين ... اللهم آمين.
في نعيم الفن
القاهرة في 16 من مارس سنة 1923 ... ثم ذهبت إلى الملهى.
وهناك عزف العازفون، وتضاءلت الأنوار. وامتلأ المكان نغما. وتشبع الجو أريجا.
ثم تطاولت الأعناق، وتوجهت الأبصار، ثم عم السكون، وحق الإنصات، فلا تسمع حسيسا.
ثم انحسر الستار عنهن. وكن نسوة كثيرات ومعهن رجال، ثم انصبت الأضواء ذات الألوان من الثريات والآلات على تلك الأجسام ليظهر كل جزء من أجزائها. وكل حد من حدودها وتقاسيمها. وكأنهن كن يسبحن في لجج من شموس وأنوار.
ولقد ذكروا لي خيرا كثيرا عن «الجوقة» الروسية الراقصة التي وفدت إلى مصر قريبا، وكان الحق فيما ذكروا. وكنت أتمادى في التردد إلى الذهاب لأشهد هذا الفن خضوعا لصوت كان يدب في نفسي، وخضوعا لما يستكن في القلب من عادات وعقائد قد نشأت من آدابنا القومية وأخلاقنا. فكنت أقول: أأذهب إلى مجالس الرقص، وطالما أحببت أن أكرم نفسي بمجالس الكمال. وكنت أقول: أأغشى مطارح الأهواء والمجون، وطالما ألفت أن أعرض نفسي للجد والعمل. على أنني علمت بعدئذ أن في اللهو ما قد يدفع للجد، وأن في مجالس المجون ما قد يستفز للكمال، وأن في المسارح ما قد يرفع الإنسان من عالم الأشباح إلى عالم الأرواح. وكذلك رأيت من رقص «أنابافلوفا»، وكذلك ما سمعت من نغم. أحقا كانوا من نسوة ورجال يذهبون ويجيئون على مسرح التمثيل؟ أم تلك طيور كانت تتهادى؟ أم غضون كانت تتمايس، أم تلك أزاهر كانت تطوح بها النسمات؟ أم تلك إشارات من السحر علمتها الملائكة للبشر، فكانت توجه النفس إلى التسبيح والتقديس؟ أم تلك إشارات إلى الملأ الأعلى تدل على أن في الفن الجميل معراجا إلى الله
تالله ما ألم بنفسي فحش عندما تمايلت المتمايلات، واهتزت القدود، وتوردت الخدود.
وتالله ما ألم بها فحش عند ما درج الدارجون، ووثب الواثبون.
وتالله ما ألم بها فحش عندما تخاصر المتخاصرون، والتفت الغصون بالغصون. كأن أذرعا وأيديا عند إشارتها تستخرج من الفضاء حسنا كامنا، فتنثره إلى الأبصار، فتشعر به القلوب. وكأن أرجلا تحجل على نغمات القيثار والأعواد تقطع في الفضاء مسلكا من الحسن، تتبينه عند تلك الخطا. ذلك كان رقصهم، ولقد أصبحت أستنكر أن أطلق اسم الرقص على تلك الحركات عندما أتذكر مراقصنا التي رأيتها تدعو إلى الفجور، وتناجي النفوس بالفحشاء والمنكر.
كانت الراقصة طيرا تمثل أجمل ما على الطير. وكانت الراقصة زهرا تمثل خير ما تتلون به الزهور وتتشكل به الورود؛ بل كانت الراقصة خفة ورشاقة؛ بل كانت الراقصة نسيما.
أتظن أن في حركة الطير، وفي صورة الزهر، وفي هبة النسيم، وفي ملاحة الرشاقة، ما يدعو إلى البغي والفحشاء؟
كلا. وتالله ما مر بنفسي فحش، فإن في جمال الفن ما يسمو بالنفس عن وساوس السوء، وطالما قيد الجمال نفوس الناظرين عند هيكله المقدس، فلا يعرفون عنده لغوا ولا كذبا، ولكنهم يعبدون، وقد يعشقون.
خفي وارقصي يا راقصة الروس، وعلمينا من تلك الحركات التي تدعو للعبادة والتقى. إن الله هو ذلك الفنان الأعظم.
العيش الحقير والعيش الكبير
القاهرة في 6 من إبريل سنة 1923
ليست الحياة ملهى نتوجه فيه بأبصارنا إلى مسرحه الواسع لنشهد أدوار الممثلين. إنما الحياة تدعونا؛ لأن يمثل كل منا دوره، ويقوم بنصيبه في روايتها التي تتعدد فصولها ما تعددت الذراري وما تعاقبت الأجيال.
من الناس من يتهافتون على الخير الذي يصيب عشيرتهم وأمتهم من غير أن يكون لهم في جلب ذلك الخير نصيب، ومن غير أن يدفعوا في مشتراه ثمنا. وأنهم كذلك قد يتوقون الشر إذا نزل بالجماعة التي يعيشون فيها؛ بل قد يبالغون في سبيل الوقاية، وما كانوا ليتنبهوا إلى الشر لولا أن جاءهم بذلك نبأ من غيرهم. ومثل هؤلاء الناس مثل الرجل الخامل في القافلة يقطع معها الصحراء كيفما تسير، حتى إذا بلغت القافلة ماء بعد جهد وعناء، أخذ ذلك الخامل يروى ظمأه، ويسيغ الماء عذبا فراتا كما يسيغه من أرشد إليه، وأتعب النفس للحصول عليه.
إننا نعيش في حياة اجتماعية نحتمي بنظمها، ونتنعم بخيراتها، ونتكون من عناصرها، ولم تكن تلك الحياة الاجتماعية من عمل فرد معين، أو من عمل ظرف معين. ولكنها من عمل الجماعة في أجزائها وفي كليتها، ومن عمل كل ظرف يحيط بالجماعة في غابرها وحاضرها وسيرها. وعلى ذلك فقد يكون من العدل أن نرد بمجهودنا وأعمالنا إلى تلك الجماعة ثمن ما يصيبنا من حياتها ونظمها.
وفي الحق إنها لحياة حقيرة، تلك التي يظهر فيها الفرد مستفيدا من كل شيء دون أن يفيد. متأثرا بكل شيء دون أن يؤثر. منفعلا بكل شيء دون أن يكون لبعض شؤون الحياة فاعلا. إنها لحياة حقيرة تشبه حياة الحيوان الدنيء، أو النبات الطفيلي.
لكن للإنسان حياة أعلى من ذلك وأكبر؛ لأن للإنسان عقلا وإرادة. فيستطيع بالعقل أن يجعل للحياة قصدا يسير إليه، وأن يرسم لعيشه نموذجا ومثالا حسنا. وإنه بالإرادة قد يوجه جهوده إلى الوصول لقصده، ولتحقيق ما رسمه لنفسه من مثال حسن.
نعيش في بيئة مكونة من مخلفات من سبقونا. وفيها أعمال لمن عاصرونا. ولقد يكون لنا من مخلفات هؤلاء وأعمال هؤلاء ما نستفيد منه ونحمدهم عليه. وقد يكون لنا كذلك من مخلفات هؤلاء وأعمال هؤلاء ما فيه لنا تعس وشقوة. أفنقصر همتنا على الحمد تارة وعلى الذم أخرى! ...
يحركني لمعالجة هذا الموضوع أن أرى فئة من الناس من مواطنينا لا هم لهم إلا أن يستفيدوا لأنفسهم من العيش دون أن يحاسبوا ضمائرهم، فيفكروا في مصلحة الجماعة، ويتذكروا أن ما يصيبهم من خير كانت الجماعة منشأه، وما قد يصيبهم من سوء قد تكون الجماعة مصدره. إن الإنسان الرشيد مكلف في كلتا الحالتين أن يعمل لتمكين الخير أو لدرء الشر.
لقد أكره الجامد الذي يحرص على ما ألفه من حياة، فينظر فيما خلفه، ويقلب النظر فيما حوله، ولا يضرب ببصره فيما يمكن أن يكون أمامه في الطريق. ذلك هو أعمى النفس وأعمى الفؤاد.
ولقد لا أحب الذي يذهب به خياله الطائش، فيترك سبيل خير معروف لسبيل قد يتوهم فيه خيرا كبيرا. ومثله مثل الكلب الطماع الذي عبر النهر بقطعة من اللحم، فرأى خيال اللحم فظن أن الخيال حقيقة، وترك ما كان عنده لينال هذا الخيال فباء بالخسران.
أكره طريق الأول ولا أحب طريق الثاني. وإنما أبغض منهما إلى نفسي ذلك الذي لا يحب من الحياة مثالا يتطاول إليه. ولا يحب منها حالة يعمل على استبقائها. ذلك هو الطفيلي الذي يكسب لنفسه من وراء كد الغير.
كن ثائرا إن شئت، ولتكن الحياة في نظرك تافهة مرذولة، فلا تريدها في شيء، ولا تريد أن تستبقي من شؤونها شأنا، ولا تريد إلا الهدم لما نظنه لا يصلح إلا للهدم.
وكن محافظا جامدا إن شئت. تريد أن تحيى على ما وجدت نفسك عليه؛ لأنك ترى الخير كل الخير في حياتك، فتحارب كل هدام، وتقف في وجه كل جديد ؛ لأنك لا ترى خيرا في الهدم، ولا ترى خيرا في الجديد. ولكن حذار أن تكون طفيليا، تمر بك الحياة، فتأخذ منها دون أن تؤدي إليها. واعلم أن حياة ذات قصد تعتمد على الفكر لهي شريفة لنسبتها للفكر والقصد والعمل. وأن حياة لا قصد لها إلا الأنانية، ولا يوجهها فكر من الأفكار، لهي حياة منحطة حقيرة. واعلم أن خير العيش أن تعرف أن الحياة حق، وأن التقدم المعقول حق، وأنه من الواجب عليك أن تشترك بشيء من جهودك في هذا التقدم المعقول. بذلك تدخل في عيش الأبرار، وقد تتوصل منه إلى عيش العظماء والأطهار، فاعمل لغيرك واعمل للتقدم دائما.
في شم النسيم
القاهرة في 13 من إبريل سنة 1923 ... وكانت أكثر الحوانيت مغلقة في ذلك اليوم. حتى حانوت صاحبي الحلاق الإيطالي، حتى حانوت الأرمني بائع الدخان الذي كنت أحسبه مفتوحا، فقصدت إليه لابتاع من بضاعته ما اعتدت أن أشتري. وبينما أنا أضرب في المناهج الوسطى في المدينة كنت أجد أحيانا جماعات من نساء الفرنجة ورجالهم، أو ممن تشبهوا بهم من الشرقيين يتأهبون لركوب المركبات والسيارات ومعهم صناديق فيها طعام وشراب. وكانت رياح حفيفة تهب أحيانا على وجهي فترمي عليه مما كانت تحمله من خلاصة الرمل والطمي. وكنت كلما تنحيت لأنجو من أثر العفر، أو كلما أخرجت من جيبي خرقتي أمسح بها وجهي وعيني، كنت كثيرا ما أتذكر النيل والصحراء، وكلاهما مصدر لهذا التراب. وفي هذا التراب خير مصر من تبر ونبت، ينعم به أهلها الزارعون، وينعم أهلها الحاصدون.
ولكن خاطرا قد تولد في ذهني من إجماع أهل الأديان والأجناس المختلفة على أن يحتفلوا بيوم شم النسيم.
لقد رأيت مرة بينما كنت أسير خلف دار الأوبرا صبية من لمامي أعقاب السجاير يرتعون ويلعبون. فوقفت في ناحية لأنظر إلى مرحهم، وأضحك من هذه السذاجة الرثة اللاعبة ... وبينما كانوا في شغلهم إذ أقبل عليهم صغير من مساحي الأحذية، ووضع صندوق عدته بجانب الجدار، ونسى واجبه من السعي على الرزق، وأخذ يلعب هو الآخر مع نظرائه اللاعبين . وبعد قليل أقبل عليهم صغير رومي ممن يتجرون بالكعك والحلوى، فوضع بجانب صندوق المساح سلة تجارته وحيا الصغار بابتسامة، فحيوه بأحسن منها، ثم أخذ يشاطرهم أصناف اللعب من جرى ووثب. عندئذ أيقنت أن للطبيعة حكما أقوى من حكم الأجناس وأوضاع الحياة وشؤونها. إنهم صبية نسوا أن وراءهم أعمالهم التي يكسبون منها أقواتهم، ونسوا أنهم من أجناس ولغات وديانات مختلفة. نسوا كل ذلك، فجمع الصبا وشئون الصبا فيما بينهم، وعلى ذلك علا صوت الطبيعة على صوت الآراء الاجتماعية التي طالما كان من أمرها أن تفرق بين الناس، وطالما كان من أمرها أن تدعوهم للتنابذ والشقاق.
وكان الأمر كذلك في شم النسيم. فقد اجتمع أهل مصر على الاحتفال به، فأغلق صاحبي الحلاق حانوته. وأغلق بائع الدخان الأرمني حانوته، كذلك واجتمع الفرنجة والنصارى والمسلمون واليهود في مصر على أمر واحد، على تحية الربيع وتفريح النفس بمقدم الربيع.
وكم من صوت للطبيعة يدعو الناس للتقرب، ولكن الأفكار الفاسدة ووساوس القلوب المعتلة طالما سمعت للتفريق.
عيد آمنة
القاهرة في 19 من مايو سنة 1923
إنها قطعة من النسيج الرقيق في نحو المترين، ولم تكن لتصلح لشيء مذكور، تلك القطعة التي بقيت من جلباب لسيدة من سيدات الدار. اتفقت فتيات البيت على أن يجعلن من تلك القطعة رداء لآمنة لتلبسه في يوم العيد. •••
آمنة فتاة صغيرة في نحو الثامنة من العمر، قصيرة القامة، مليئة البدن، بسامة الوجه، مشرقة الجبين. ولقد أبقتها أمها القروية عندنا لتترعرع في حضانة من في الدار، فهي أصغر من في البيت سنا، وهي صديقة للبيت ولمن في البيت. وهي ابنة للجميع، وخادمة أمينة للجميع.
ولما علمت الفتاة الصغيرة بمشروع سيداتها من أنهن يحتلن ليجعلن لها من قطعة النسيج جلبابا تتزين به في العيد، ولما تبينت صحة الخبر إذ رأت تفصيل الثوب وخياطته، فاض على وجهها السرور، وفاض في نفسها النشاط. فتطوعت لكل عمل من الأعمال التي تقدر عليها. بكرت على غير عادة، فأطعمت دجاج الدار وحمامه، وملأت أوعية الماء، ونشطت كل النشاط على غير ما ألفنا منها، ولم يكن لهذا من سبب إلا أنها تحققت أنها تلبس الثوب الجديد غدا، وأنها تلبس حذاءها وتستقبل العيد. •••
لقد كان الأمر، فجاء العيد، وارتدت الفتاة ثوبها القشيب، وزينت جيدها بعقدها الخشبي، ووضعت في جيبها كل ما اقتصدت من مليمات لا تتجاوز عدد الأصابع. وأذن لها أن تلعب في الحارة أمام الباب.
ولم يكن في البيت إنسان إلا آمنة والشيخ الأسود العجوز. أما نحن أهل البيت، فكنا ذهبنا إلى المقابر، وكلنا قد بلغنا من العمر ما يؤهلنا لذكر أعزاء لنا قد غابوا في الثرى. فمنا من يذكر زوجا، ومنا من يذكر أما، أو أخا، أو أختا، ومنا من يذكر والدا، أو جدا، ومنا من يذكر إخوانا وأصدقاء.
ذهب الكل إلى القبور ليذكروا في يوم العيد موتاهم. ولقد تحمل نفسي فوق تذكار الموتى أثقالا من شئون الحياة ومشاغلها. عدت من المقبرة وقضيت بعض ما اصطلح الناس عليه من واجب المجاملة في العيد، ثم قصدت الدار لأستريح فيها، فوجدت على الباب آمنة تمرح وتلعب.
وجدتها إشراقا وبهجة. وجدتها غبطة وسرورا. وجدتها وكأن جميع أعضائها الصغيرة تشير إلى أن أنظر إليها في جلبابها الملون الجميل. أما الشيخ الأسود فكان على مقعده أمام الباب. منحنيا على مسبحته، لا يكترث بشيء إلا بدمدمة الأذكار التي قد تعود ذكرها عندما ترتاح نفسه للعبادة.
لم تكن آمنة لتشعر بما أشعر به من حزن، ولم تكن آمنة ليمر بخاطرها ما يشق على نفسي من المشاغل والواجبات. ولم تكن آمنة لتقدر من الحياة إلا أنها ظفرت بالثوب الجديد، وأنها نالت من بين قريناتها حظوة وبهجة في هذا العيد. لم تكن آمنة لتقدر إلا ذلك. وحرام على الأيام أن تدس في تلك القلوب الغضة إلا ما يلائمها، ويريد الله أن يجعله نصيبها من غبطة وفرح. •••
حرام على الأيام أن تسوق الحزن إلى الصغار. وحرام على الأهل أن يشركوا أبناءهم في أحزانهم، فيصحبوهم معهم إلى المقابر، وقلوب الصغار لم تهيأ إلا للسرور والأفراح.
حرام على هؤلاء الأهل أن يصدعوا تلك الأفئدة التي لا تريد إلا أن تدق ببهجة الحياة، فيحولوا بينها وبين بهجة الحياة. حرام أن نشرك الصغار في آلامنا، وحسب الصغار ما تعده لهم السنون والأيام من شدة ومحن. •••
لقد حاولت أن أفرح بالعيد كما تفرح آمنة، ولكن هيهات هيهات! فقد حالت السن؛ بل وقد حالت المشاغل بيني وبين سذاجة المسرة. لم يعد للذين جف ماء الفرح من قلوبهم إلا أن يستفيضوه من نفوس الفرحين. وهل أدنى إلى الفرح من قلوب الصغار والآملين والأصحاء المعافين والمنعمين الذين غفلوا عن حوادث الدهر، وغفلت عنهم عيون الأيام! إن هؤلاء هم الذين تنجذب إليهم من الوجود مظاهر السرور، كما تنجذب إلى الحديد الكهرباء، فلننتفع بخصائصهم، ويجب أن ننال عنهم قسطنا من السرور، ويجب أن نمهد لهم حياة الأفراح حتى يفيض علينا شيء من بهجتهم يسرى عن نفوسنا سحائب الألم.
لم يبق لي ولا مثالي من أيام الأعياد إلا ابتسامة نأخذها مما يفيض من شفتي أمثال آمنة.
قرابين الانتخاب
القاهرة في 8 من يوليه سنة 1923
كان الناس في قديم الزمان يقدمون القرابين والضحايا رغبة في رضاء آلهتهم، أو لاستغفارهم من الذنوب، أو ليجعلوا مما يقدمون وسيلة لمعرفة شيء من علم الغيب، والوقوف على كل شيء من أسرار الإلوهية وعزتها.
وقد كانت تقدم هذه القرابين وهذه الضحايا من خير ما تحرص عليه الناس من لحوم الحيوانات الغريضة، ومن الفاكهة الطيبة، ومن خير ما تنبت الأرض من بزر وحب، ومن خير ما يحتسيه الإنسان من خمر يلذ الشاربين، ومن خير ما يتطيب به الإنسان من دهن، ومن خير ما يحرقه من بخور!!
كانت الناس تجود بأغلى من هذا وذاك. كانوا يجودون بضحايا من البشر عندما يحسبون تلك الضحايا البشرية ترفع مقت آلهتهم، وتزيل غضبهم، وتمنع نقمتهم. وكم من حيوان أغرقه اليونان في اليم إرضاء لآلهة البحار! وكم من تراب خلفته النيران من عظام ولحوم ليختلط ذلك التراب بباطن الأرض زلفى لمن يسكن جوف الأرض من الآلهة!! وكم من دم غاص في التراب ليروى منه سكان الأرض الأقدسون !! ولكن مرت العصور على هؤلاء الأجيال من البشر فتهذبت عقولهم شيئا فشيئا، ورقت نفوسهم رويدا رويدا، وضعف سلطان الأساطير والخرافات فيهم، فقلت الضحايا، واستبدلت بضحايا البشر دمى وتماثيل قد تلقى في الماء. وقد يرمى بها في النيران فداء لتلك العذارى التي كانت الآلهة تشرب من دمائها وتنهش لحومها!! •••
استبدلت كثير من التقاليد والطقوس الدينية بتقاليد وطقوس حديثة هي خير من الأولى. فأبطلت عادات ممقوتة. ونزلت أرباب عن عروشها. وأنقذت الأذهان من سلطان آلهة موهومة. على أن ربا من الأرباب لم يزل مسيطرا على أغلب نفوس البشر. لا يرتدع برادع الدين، وقد لا ينهاه زاجر العقل، وقد لا تزحزحه عن عرشه زلزلة العواطف المتيقظة!
أتدري من هذا الرب القدير؟ أتدري من هذا المسيطر الجبار القهار؟؟ ...
أنه رب المصلحة الشخصية. وأنه أجشع الأرباب في طلب القرابين!
لا يقنع من اللحوم. ولا يثمل من الدماء. ولا يستمرئ الفاكهة، ولا يستطيب الشراب. ولا يرغب في طيب الدهون.
أن رب المصلحة الشخصية يريد أن يتقدم له القوم في الانتخاب بقرابين من الضمائر!! ...
ويل له!. ويل لهم من رب الأرباب! ...
الوطن
البحر في 28 من يونيه سنة 1923 ... وكنت كمن نقل إلى عالم آخر حين صعدت إلى الباخرة، للمرة الأولى، بعد عشر سنين لم أبرح في أثنائها مصر، ولم أعبر في خلالها بحرا، فتذكرت أياما خلت، كابدت فيها أسفارا، وقطعت فيها أمصارا. تذكرت عمرا كان الصق بالشباب، ونفسا كانت أكثر قبولا لمعاني الحياة، وخيالا كان أوسع لصور الأمل. تذكرت نفسي إذ كنت أقل تجارب في العيش، وأكثر جرأة في سبيله، وأقل حملا من تبعاته. تذكرت النفس في الغابر، وعرضت لها في الحاضر، ونظرت بين النفس إذ كانت في ضحاها، وبينها وقد أثقلتها التكاليف فمالت بها عن سمت الشباب، ثم حسبت أن شئون الحياة هي مصدر ما يألم منه الفؤاد، ثم حسبت أن ذلك المكان من الأرض الذي أبرحه مصدر ما يضيق به الصدر، فكدت أقول للباخرة: اقلعي سريعا، وتوغلي على اليم، وسيري إلى حيث لا أرى من شرفاتك إلا أفق الماء والسماء، فأرسل أفكاري متواصلة في عظمة الكون، فلا دارا أراها تذكرني بوحوش البشر، ولا ضوضاء أسمعها، ولا بغضاء أشهد آثارها، ولا أوراقا أقرأ فيها اللغو والباطل، ولا وجوها كريهة، ولا سحنا منحطة.
فإلى بحر الظلمات، أيتها الباخرة، أو إلى بحر الزمهرير، أو إلى منطقة يجهلها الإنسان، فأنسى عند هذا العالم الجديد الذي تذهبين بي إليه كل ما يسوء الماضي، وكل منظر مكروه من مناظر الغبراء. فلا أرى شكلا من أشكال الشقاء، ولا أرى صورة من صور الخداع والنفاق، ولا أرى صورة من صور المذلة والخنوع، ولا أخضع لقانون من تلك القوانين الفاسدة التي ينوء بها ظهر الأرض، ويروجها الإنسان بحماقته وظلمه.
ولكن الباخرة لم تكد تتحرك حتى ضعفت في نفسي سورة الغضب، ثم أخذت تخف قليلا قليلا مع سير السفينة. ولما كاد يختفي عن ناظري مرأى الشاطئ وما عليه ومن عليه من الأهل والإخوان خمدت السورة، وخبت النار، وحل محلها في القلب نسيم الحنين.
أقول للباخرة عندئذ سيري في رعاية الله، أيتها الباخرة، ثم عودي بي إلى أرض أحفظ منها صورة ابتسامة مشرقة، وأعي منها صدى دعوات خالصة، وأعرف لي فيها إخوانا وأحباء، وأصيب من جهود عاملها خيرا، وأرعى فيها صبية وصغارا، وأعالج فيها أملا عزيزا.
سيري أيتها الباخرة، ثم عودي بي إلى أرض الأحباء. حيا الله مصر. حيا الله الوطن.
الاكروبوليس
القاهرة في 3 من أغسطس سنة 1923
وقفة بالحصن المقدس
من نحو ثمانية وخمسين حولا، جاء إلى هذه الهضبة العالية التي تشرف من الجنوب على مدينة آثينا، رجل كان قد بلغ من العمر وقتئذ سن الرجولة، محيط بتاريخ البشر، عالم بتطور المدنيات، فوقف ساعة على سطحها بين معابدها البالية التي شهدت نحو خمسة وعشرين قرنا خلت وقفة أنزلت على نفسه كلاما صافيا نقيا نيرا، أشبه بكلام المأخوذين المسبحين بجلال الكون وعظمة الله.
اسم هذا الرجل رينان، وكان من أكابر البشر، ولقد تضمن قوله عن معابد «الاكروبوليس» نوعا من التمجيد لذوق الإغريق وفنهم وعلمهم وتاريخهم، حتى صغر عنده حيال عبقرية اليونان كل أثر من آثار الشعوب الأخرى، وقل في نظره أمامها كل جليل من مجهود القرائح.
جئت إلى هذه الصخرة، ولست متدرعا بما تدرع به رينان من العلم، ولا أملك قلما كقلمه يسيل بالعذوبة والبيان. ولكني جئت إليها بقلب هيأته الظروف لأن يحس بما يحس به فؤاد صحيح. لأن يحس المؤثرين الخالدين الجمال والألم
أسجل اليوم بعض ما مر بنفسي عند زيارة تلك المعابد، والإمعان في دقائقها، خضوعا لما توحيه إلى الخاطر عبر التاريخ من غير حرص على ما يحرص عليه الواصفون، ومن غير عناية خاصة بما يعني بذكره المؤرخون. وإن ما يسجله هذا القلم لضرب من التصوير لبعض حالات النفس عندما يسمو بها إلى عالم آخر معنى من معاني العظمة والكمال.
الجمال المهمل
أثينا في 3 يوليه سنة 1923: ... وبكرت إلى «الاكروبوليس» فلما بلغت باب الجنوب، اندفعت بسرعة لست أدري لها سببا، ثم أخذت أسير رويدا رويدا في طريق مصعدة، تنبت عليها أعشاب برية، أزهر بعضها، وعلى جانبي الطريق شجيرات من الصنوبر والزيتون قصيرة هزيلة مصفرة، وقد يرى الناظر قطعا كثيرة من أعمدة وحجارة وصفائح من المرمر، على بعضها نقوش وكتابة، وقد ألقيت هذه البقايا جميعا على الطريق هملا من غير نظام. وبينما كنت أتلفت تارة يمنة، وتارة يسرة، وتارة للأمام، إذ قيد البصر رأس عمود رفيع ملقى بين هذه الأحجار، نحتت عليه أوراق نوع من نبات الشوك. جلست عند هذه القطعة الحجرية الصغيرة التي كنت أستطيع أن أرفعها بيدي من غير جهد. وفي هذه الجلسة كنت أتصور كل ما يستطيع أن يتصوره الإنسان من معاني الحسن، ثم أسلمت نفسي مسحورا بجمال هذه القطعة التي قد يمر أمامها السائر من غير أن ينتبه إليها، وهكذا الحال في كل جمال مهمل.
كنت أقول في نفسي كيف لا يعني القوم بهذه القطعة، فلا يمنعون عنها مس الرياح، ولا يحمونها من صيب السماء، ولا يحولون بينها وبين قيظ الصيف، ولا يضنون بها على عوادي الدهر والغير؟!، ثم كنت أعود إلى نفسي وأحاورها ، فأقول: أكان إسلامي لجمال هذا الحجر المنحوت ضربا من التأثر بما كان يلقي في روعي من جمال فن اليونان، أم كان فهما صحيحا للحسن قذف الله به في قلبي بعد عمر، لم أعرف فيه نفسي مفتونا بالجمال؟!
وبينما كنت أتخيل صورة الأوراق على هذه القطعة أطول مما هي، وبينما كنت أتخيلها أقصر مما هي، وبينما كان خيالي يمد في أنحاء هذه القطعة طولا وعرضا، ويتعرض أوراقها صغيرة وكبيرة، قليلة وكثيرة، كان كل ما يهيئه الخيال حقيرا، إذا قيس بما هي عليه في الحقيقة والواقع، وكأني كنت أقرأ عليها كلمتين صافيتين من كل إبهام: البساطة والجمال. •••
ما الجمال؛ وماذا أقول في الجمال!
الجمال خطيب صامت، لا يرغب أن يتحدث الغير عنه، إذ في صمته كل فصاحة وفي سكوته كل بيان.
الجمال نسب وأوزان قد تحسه النفس أحيانا بوساطة العين بعد خلوصه مما يعلق به من مادة وأضواء. وقد تسمعه النفس أحيانا بوساطة الأذن دون أن يلبس أحرفا، أو تكون له لغة تحفظ في المعجمات.
الجمال متكبر قاهر، متكبر؛ لأنه يجل عن أن يقدمه للنفوس أحد، فهو يعرف نفسه بنفسه. قاهر؛ لأنه يغلب الأنفس القوية على أمرها، فيوقع في أسره من شاء، ويتخير لرقه من شاء.
الجمال كالله وكالقوى الخفية من حيث أنها لا تعرف بذواتها، ولكنها تعرف بآثارها.
الجمال صحراء واسعة لا حدود لها يضل فيها الساري من أي ناحية سار، ولكنه أينما سار وجد فيه جنات ونعيما.
الجمال كتاب عظيم وضعه مزين السموات والأرض القادر على كل شيء.
الجمال ضرب من الأدب، فهو رواية طويلة لا تنتهي فصولها، ولا يتعب ممثلها، ولا يمل شاهدها.
الجمال ضرب من المنطق والمعقول مقدماته العين، أقيسته الفؤاد، ونتائجه الوجد والهيام.
الجمال عبده صالح لله، فلا يطلب إليك في حضرته إلا أن تسبح لمولاه.
الجمال معنى طلق، لا يريد أن يحد، ولا يريد أن يعرف؛ لأن الحدود والتعاريف من سفاسف الأمور، والجمال لا يتصل بهذه السفاسف.
الجمال معرفة، والله أعرف المعارف، وبينما كنت مغرقا في شدة الإعجاب بهذا الفن، تاركا لذاكرتي أحيانا أن تتمثل بعض أوان من المرمر، أخرجت من مصر أخيرا من مقابر الملوك، وحبست في دار الآثار في قفص من زجاج، بينما أنا كذلك أنعم النفس بمقارنة الجمالين، وأتخيل شيئا رأيته على ضفاف النيل، وأمعن النظر في شيء أراه على جانب صخرة (الأكروبوليس). إذ أقبل الحارس الأعرج، وكان ينبغي أن أشعر بمقدمه من بعد؛ لما يحدثه صوت قدمه وهو يمر بتثاقل على حصى الممشى لولا إغراقي في ضرب من الخيال.
ضحك الحارس في وجهي، ودمدم بكلمات يونانية، فهمت منها عبارة الجمال، وأشار بالانصراف. تبا لك أيها الحارس، لقد قطعت علي عبادة حارة خالصة.
وقفة بالحصن المقدس
العرق دساس
أثينا في 4 من يوليو سنة 1923
خرجت وقد قنعت من زيارة الأمس بالاستمتاع بدقة الرسم المنخوت على رأس العمود الملقى بين الأحجار على جانب أحد طريقي «الأكروبولس». وكان لتلك الزيارة أثر رغبني في الفن والحسن، حتى أخذني هيام وولوع بالجمال. آليت على نفسي بعد ذلك اليوم أن أتجمل، فقلت والله لأقصرن شاربي، وأرجلن شعري، وأعطرن لباسي. ووالله لأجرؤن في سبيل التأنق، فأثبت على صدري زهرة غضة، وأزين أظافري، وأضع في أصبعي خاتما يتلألأ نوره، وأرسل على صدري سلسلة من الذهب البراق، وأمشي بوطء خفيف عندما يحسن الوطء الخفيف، وأسير مرحا عندما يحسن السير مرحا.
لا أريد أن يكون شفيعي بين سبيل التأنق وفرة مال، فالمال حقير. ولا أريد أن يكون شفيعي في سبيله علما، ففي العلم باطل وغرور. ولا أريد أن يكون شفيعي في سبيله جاها وحسبا، فالمرء ابن نفسه، وكل امرئ عن نفسه مسئول. حتى ولا أريد أن يكون شفيعي في سبيله ملكا، فالملك لله جميعا. إنما رضيت أن يكون شفيعي في سبيله عبوديتي وخضوعي لرب الحسن والجمال، أعبده مخلصا لوجهه العبادة، ولقد كان من عبادة آلهة الغابرين منذ القدم أن يتشبه الإنسان ببعض أوصافها.
أخذتني تلك النشوة؛ بل أخذتني تلك الجذبة، وأخذت أقول في نفسي: الجمال فضيلة، ومن الخير أن يعمل الإنسان الحيلة ليتصل بجميع الفضائل، ثم شرعت في الذهاب إلى حانوت لأبتاع منه بعض ما أستعين به على التجمل والتأنق.
طلبت إلى صاحب الحانوت أن يعرض علي أثمن ما عنده من العصا دون أن يحسب للاتفاق حسابا، وبينما هو يعرض على أرشقها وأظرفها شكلا، إذ حانت مني التفاتة إلى عصا غليظة، خلت من الحسن، ولكن ملامح البأس والمتانة تبدو عليها، فلم أرد البصر عنها حتى انتزعتها من بين أخواتها، ثم عجمت عودها، فهززتها بعنف، واتكأت عليها بقوة، ثم مثلت عندي فضيلة المتانة، وما أطيب المتانة في الجسم، وفي الخلق، وفي العصا. •••
عفوا يا ربة الحسن إذا لم أف بالعهد، فخنثت في خلفي، وعدلت عن سبيلك إلى سبيل رب القوة.
عفوا يا ربة الحسن، فالعرق دساس فإني من بلد شيدت فيه الأهرام، وأكبر أهله الأقدمون البأس قبل أن يكبروا الجمال.
أغريتني يا ربة الحسن، فكدت أغفل لحظة عن رب القوة فلما توجهت إلى أنظاره، واخترقت حجب خمسين قرنا مضت، وناداني من خلف معبد من تلك المعابد القديمة القائمة على ضفاف النيل، أبت إليه تائبا نادما، وانتزعت العصا المتينة رمزا لتقديم القوة وإجلال المتانة، ثم هرولت أضرب بها في مناهج أثينا الجميلة، ذاكرا اسم الله القوى الدائم قبل اسمك الجميل.
الله أكبر
أثينا في 7 من يولية سنة 1923
قصدت إلى سطح الصخرة حيث بقية هياكل الآلهة.
لقيني دليل فرددته، إذ أحسبني لست أحتاج إلى دليل، فإذا بشيخ هرم، رث البزة، كريه المنظر، قد اقترب مني، وخاطبني بلسان فرنسي، تنسحب عبارته السقيمة متعثرة بين فكين ارتخت عضلاتهما، ووهنت أدواتهما، ففهمت منه أنه يريد إرشادي، وأنه لن يلح ولن يغلو في الأجر، وأنه يفخر بنفسه، فيحسب أنه يعلم مالا يعلمون.
أخذتني رأفة بذلك الشيخ الفاني، وقلت لعل الخير عند هؤلاء الشيوخ، فأومأت إليه بالقول، فتقدم متوكئا، متباطئا في صعوده، حذرا في خطاه، وكنت أحوطه بنظراتي حرصا عليه من السقوط. فلما جئنا إلى مكان يشرف على هضاب أثينا ومنازلها، أشار الدليل الشيخ بعصاه إلى هضبة وقال: هنا على هذه الهضبة من نحو ثلاثة وعشرين قرنا كان يقف «ذيموستينس» خطيبا بين أهل أثينا، ثم نظر إلي وقال: أتدرى من «ذيموستينس»؟ فتجاهلت، فقال: كان فصيحا كبيرا، فقلت: وكم في الناس اليوم يا شيخ من طلق اللسان فصيح! فقال: أجل، ولكنهم يخدمون الباطل بفصاحتهم. أما «ذيموستينس» فكان يخدم الحق بفصاحته.
ثم أشار بعصاه إلى هضبة أخرى وقال: وعلى هذه الهضبة كان مجلس قضاة «أثينا» ليحكموا بين الناس بالعدل تحت سماء الله، وعلى مرأى من تمثال رب العدل، ثم استطرد الشيخ من أمر القضاة في «أثينا» البائدة إلى القدح في قضاة هذا الزمان وشئون هذا الزمان. وصبرت على شرحه؛ بل صبرت على تشاؤمه حتى بلغنا معبد البتول «أثينا» ربة الحكمة.
لا أريد أن أتحدث بما تحدث به الدليل «ديمتري» من خطأ في التاريخ، أو صواب. ولا أريد أن أذكر لك كيف استحال هيكل الربة البتول «أثينا» إلى كنيسة للبتول مريم بعد نحو اثني عشر قرنا من تشييده. ولا أريد أن أذكر لك كيف استحال هذا المعبد بعد نحو التسعة عشر قرنا من تشييده إلى مخزن لذخائر الترك ومعدات قتالهم. ولا أريد أن أذكر لك ما أدى إليه حصار أهل البندقية من تخريب هذا الأثر البديع وتحطيمه. ولا أريد أن أحدثك بما حمله لورد الإنجليز إلى بلاده من كنوز هذا المعبد في القرن التاسع عشر. على أنني أعيد خواتم الجمل التي كان يختم بها «ديمتري» الدليل شرحه وحديثه: «آه لو قدر القساوسة الفن، فلم يحولوا ذلك المعبد إلى كنيسة. وآه لو فهم الترك جمال الفن فلم يحولوا ذلك المعبد إلى دار لذخائرهم، أو دار لربهم! وآه لو أخطأت قذائف المتحاربين هذه الآثار المقدسة، فلم يهدم منها ما تهدم! وآه لو أبقت اللوردات في تلك المعابد كنوزها وآثارها! ثم آه لو احترم الناس نتائج العبقريات ومجهود العقول!» جمل فيها حسرة وعبرة.
أما جمال هذا المعبد، وروعة هذه البقايا والآثار، ونظام هذه العمد، ونسق تلك النسب، فلا أحدثك به مهما أطرقت إلي، ورغبت في قولي، فلا القلم قادر على ضبط تصوير هذه الدقائق، ولا أذنك قادرة على وعي ذلك الضرب من الحسن، إنما هي عينك، وإنما هو فؤادك. فأقبل إلي، وقف معي وقفة «بالأكروبوليس»، ثم حقق النظر يتحرك الفؤاد.
ولكن شيئا يبقى بالمعبد من أثر النصارى. ولكن شيئا يبقى بالمعبد من أثر المسلمين! آلهة حلت الدار إثر آلهة. وزمان استخلف على هذه الآثار إثر زمان. وأحداث وغير تمر على تلك الأحجار والأنقاض خلف أحداث وغير. ودول تأتي وأخرى تدول. فمن رب الأرباب ومن رب المكان والزمان، ومن محدث الأحداث ومغير الغير ومعز الدول ومذل الملوك والقرى؟
سبحانه سبحانه ما أكبر شأنه.
عفوا أيها الإله الأعظم وغفرانا، إذا أنا بقيت ساعة بهذا المعبد أناجي ربته الأولى، وأتمثل قرونا خلت ومدنيات عظمت.
إنكم معشر الآلهة تتعالون عن التعدد، فأنتم واحد وإن تعددت أسماؤكم، ووحدة وإن تعددت صفاتكم. وفي ذكر أحدكم ذكر للآخر كما يعلم الراسخون.
لقد كنتم دهورا، وكانت عروشكم قمم هذه الجبال، ومعابدكم من مرمر مسنون، وفي خدامكم عذارى يشرق جمالهن حول تلك المعابد، وينتشر عطرهن حول ما يحرق من بخور.
كنتم تخاطبون الناس على قدر عقولهم أيها الآلهة يوم كانت عقول البشر أقل مرانا على فهم المعاني العالية، فتصورون أنفسكم في حدود تصوراتهن، وتشكلون عظمتكم بأشكال خصالهم، فتقتتلون مثلما يقتتل الإنسان، وتغضبون مثلما يغضب، وتلعبون مثلما يلعب، وتمكرون مثلما يمكر. اختلطتم بأهل الأرض، وكنتم تعيشون بينهم، وتتبادلون وإياهم المشاعر، وكنتم ضيوفا عندهم، وكانوا عيالا عليكم، وكانت حياة البشر حقا مقدسا.
ولكنكم قدرتم أيها الآلهة أن عقول الناس قد مرنت، وأن بصائرهم قد صفت، وأن قلوبهم قد رقت، فتحولتم في الأذهان إلى آلهة ذوات معان دقيقة وصفات لطيفة لم يفهمها الناس حق فهمها فتباعدت المسافة حينئذ بينكم وبين نفوس الناس، ثم تحولتم بعد ذلك إلى ربوبية واحدة ومعنى أوسع وقوة أشمل. كانت بيوتكم هياكل، وكانت كنائس، وكانت مساجد، وإن تلك الهياكل التي شادتها يد الإنسان ستزول. وإن تلك المساجد التي دعمتها يد الإنسان ستزول. ولكن عروشكم الأولى القائمة على جلال الكون وجمال الطبيعة باقية لا تزول.
والآن أجلس في بيت من بيوتك يا ربة الحكمة، فلا هو بالهيكل، ولا هو بالكنيسة، ولا هو بالمسجد، ولكنه بيت يحفظه التاريخ، ويحوطه العلم، وتحترمه الحكومات، وتحج إليه العلماء، ويطوف به أهل الفن، ويذكر في عرصاته الذاكرون كيف تتغير الأحوال، وكيف تستحيل المدنيات، وكيف يفهم الجمال؟!
تحولوا ما شئتم أيها الآلهة، حسبما تجدون من ظروف الأرض والزمان واستعداد العقول، ولتسعد بكم أحزابكم، فلقد تبينت ربي، وعرفت إلهي.
هو رب أبي مذ كنت في صلبه، ورب أمي مذ تكونت في أحشائها، هو رب كما تعلمون واسع باسط. له بيت من حجر، لا نقوش عليه كبيوتكم، ولا فن فيه. لا يضره إذا فتت بيته واستحال رمالا، تذروها رياح الصحراء الملتهبة. ولا يفرحه أن سبكت له مدنيات الدنيا وفنونها؛ لأن كل شيء ما خلاه باطل، فهو غني بنفسه، وهو قانع من المعابد والبيوت بكتلة من الحجر الأسود لا نسق فيها ولا جمال.
ربي، يا ربة الدار، بدوي الطبع، يقنع من الأرض بالرمل الواسع، ومن السماء بكواكبها وغيثها، وحسبه الشعور بوفرة العزة والكرامة.
ذلك هو ربنا، يا ربة الدار. ذلك هو رب الكعبة الذي نودي اسمه بعد عشرين قرنا مضت على هيكلك بين جدرانه. فقال قائلنا حينئذ: الله أكبر، الله أكبر، حي على الفلاح.
لقاء الوطن
القاهرة في 10 من سبتمبر سنة 1923 ... وحينما كانت تسير بنا السفينة في الليل، حيث لا نرى إلا نجوم السماء، والأفق مظلم من جميع النواحي التي تحيط بالفلك، يممت نحو ربان الباخرة، حيث كان في غرفة عمله، فحييته وقلت: أنحن الآن في منطقة مصرية أيها الربان؟ فقال: نعم. فقلت: ومتى إن شاء الله نرسى على بر مصر؟ قال: في ضحى الغد. عندئذ تولاني ضرب من السرور، وسرى إلى فؤادي نوع من الاطمئنان، ولبست درعا من العزة، فأشعلت غليوني، ثم أخذت أسير على ظهر الباخرة، وأخرجت من محفظة أوراقي كتبا، وردت إلي وأنا في بلاد الغربة من أهل وأصدقاء، كتبا كنت هممت بتمزيقها وطرحها بعد أن علمت ما بها إلا أن عاطفة حالت بيني وبين أن أقبر تلك الرسائل في أرض غريبة نائية، فلما علمت أنني أتنفس من هواء مصر، وتظلني سماؤها، ويحملني ماؤها، ألقيت في اليم بتلك الكتب التي قدرت أن لا فائدة من حملها، وقلت في نفسي: اليوم لا ضرار، فالآن تزول حروفها في ماء الوطن وتتحلل مادتها.
ثم نزلت إلى غرفة نومي، وأوصيت الخادم أن يوقظني مبكرا، حتى أتخير مكانا على ظهر السفينة أستطيع أن أعتزل فيه لأتبين منه أرض مصر من بعيد وقتما يقدر النظر على تبينها، ثم ألقيت بنفسي على مضجعي، ولكن خواطر كانت تضطرب في رأسي حالت بيني وبين نعاس كنت في حاجة إليه، ثم غلبني النعاس أخيرا، ثم أوقظت وقتما أردت، ثم صعدت إلى ظهر الباخرة، وشخصت ببصري إلى حيث يمكن أن يلوح الشاطئ، وكان الفلك يسير. وكأن الفلك كان سيره بطيئا. ومن بعيد بعيد تبينت خطا طويلا قائما يتجلى في الأفق. تبينت تلك الأرض التي طالما قدرت لها جميلا. وتجاوزت لها عن ذنوب وسيئات، فنهضت واقفا، ومددت ذراعي إلى حيث أرى ذلك الشبح المحبوب، وقلت سلاما، وتحية ورحمة من الله عليك مصر أمنا الرءوم. لو أن الله قضى على الساعة بالموت للقيته مستريحا، وأغمضت عيني على شعاع من النور، يفيض من شمسك، ولفظت آخر زفير يحمله الصدر من هوائك. ولو كان للساني أن ينطق وقتئذ بكلمة لكانت دعوة لك صالحة ختامها الحمد لله رب العالمين، ثم انتقلت من مكاني إلى مكان آخر حيث أحضر لي قلم وقرطاس، فكتبت هذه الكلمات «أحب مصر؛ لأن كل ما يتصل بي من خير إنما هو من فضلها وبركاتها. أحب مصر؛ لأني أحب آمالا تولدت في منها؛ ولأني أحب خيرا يوحيه إلي ما فيها من شر؛ ولأني أحب صالحا يوحيه إلي ما فيها من فاسد؛ ولأني أدرك فيها نقصا يحبب إلي الكمال.
أحب مصر؛ لأني أراها مزرعة واسعة ضعفت أرضها وهرم شجرها المثمر، وأساءت الحشائش المفسدة إلى نبتها الطيب ، فلعلي أصلح فيها باعا من الأرض، ولعلي أعين فيها نبتة نافعة على النماء، ولعلي أستمتع يوما فيها بثمرة ناضجة. أحب مصر مستودع عظام ودماء أنا جزء منها، ومستودع تاريخ وأحلام لي في جميعها نصيب، ومستودع قلوب تحنو علي، وتتصل دقاتها بدقات فؤادي.»
ثم أحضر لي الخادم طعاما وبعد أن طعمت صعدت مرة أخرى على ظهر الباخرة. تبينت عن بعد دور الإسكندرية العالية فقلت: «سلام عليك أيتها الدور مادام في أهليك من يتقي الله في حق هذه البلاد. سلام عليك ما ظلت فيك نفوس ترعى بإخلاص صالح هذا الوطن»
ثم أفلتت دمعة من عيني من أثر الانفعال، فنزلت إلى غرفتي لأهيئ متاعي، وأنزل إلى البر وألقي أرض الوطن.
لعام 1924
القاهرة في 12 من يناير سنة 1924
في مقدم هذا العام، انتقلت من داري القديمة التي كنت أسكنها إلى تلك الدار التي أسكنها الآن. وبينما كنت أعمل ليلا في ترتيب أمتعتي. وإخراج كتبي، والصور التي أزين بها الحوائط من حقائبها وصناديقه،ا إذ أخرجت من أحد تلك الصناديق صورتين تعودت أن أحلهما في غرفتي مكانا، يكثر عليه ترداد النظر.
كانت إحدى الصورتين لعزيز قضى في شرخ الشباب، فكنت أخرجها من قاع الصندوق كأني كنت أخرج تذكارا ماضيا من أعماق القبور. وكانت الصورة الأخرى لعزيز بعيد مازال حيا، تشخصه مذ كان في ربيع العمر باسما بهيا.
أخذت الصورتين برفق، ونظرت إليهما نظرة دعت إلى نفسي عظة وحسرة، وامتزجت ذكراهما في الخاطر بانتقالي من دار إلى دار؛ بل امتزجت ذكراهما في الخاطر بانتقالي في العمر من عام إلى عام، ثم تغلغلت تلك الذكريات المختلفة من حبيب مات، وعام فات، وعزيز غيرته الأحداث والأوقات!!
تغلغلت في النفس تلك الذكريات، فهاجت الخيال، والعواطف والفكر. حول ذلك الدهر وحول ما يسوق من عبر. •••
لقد أفنى الدهر صاحب الصورة الأولى، فاستحال إلى ترابا، وستنسى يوما ما من النفوس ذكراه.
ولقد حول الدهر بعد عشر سنين صاحب الصورة الأخرى من حال إلى حال. فحط على الجبين خطوطا لم تكن عليها من قبل، ورسم على تلك الخدود ثنيات. وأنضب من ذلك المحيى ينبوعا من ينابيع البسمات. وأبدل سلوكا من الشعر الذهبي بسلوك من الفضة. وأسكن ذلك الرأس فكرا ومشاغل لم تكن لتسكن ذلك الرأس الجميل في الصبا. وأسكن ذلك الفؤاد الطيب آلاما ما أشدها على ذلك الفؤاد الحساس. وأزال من ذلك القد المياس نشاطا وخفة، ما أحوج الجسوم إليها في سبيل الحياة. •••
تذكرت ما أحدثه الزمن في الشخصين، فكررت النظر في الصورتين، ولكنهما على ما كانتا عليه من نيف وعشر سنين!.
ما زال رسم البسمات على تلك الشفاه باديا، وما زالت الأعين فيهما لا تغمض عن مرأى هذا الوجود!
عندئذ تخيلت الزمن ضعيفا بنفسه، لا يقوى على سرعة تغيير الجماد، عندئذ ذكرت أن أقرب ما تصل إليه يد الزمن هي الحياة والأحياء والنفس ومن بالنفس ومظاهرها يعيشون.
عندئذ حقرت الزمن لضعفه أمام المادة.
وعندئذ أكبرت الزمن لقوته وقدرته على الأرواح والنفوس.
عندئذ استقسيت الزمن لتحويله الصدح ندبا، ولتحويله البسمات دموعا وأنات، ولتحويله النشاط وهنا، والوهن فناء.
عندئذ حمدت الزمن، فقد يحدث الآلام، وقد ينسى الآلام. •••
أصغرت شأن الزمن، وأكبرته، واستقسيته وشكرته. وكانت تلك العواطف والأحكام المتناقضة تترع نفسي، وتفور في رأسي، فتدفعني إلى نزعات ونزوات، وتطوف علي بخيالات حتى رغبت في أن أتخلص من تذكر الزمن، وشرعت في أن أخرج ولو برهة صغيرة عن سلطانه الحقير الكبير، القاسي المشكور. فخطر ببالي أن أرتدي ملابسي، وأخرج ليلا وأعين الناس غافلة؛ لأقصد على غير ما ألفت دارا من تلك الدور، وهناك أشرب وأطرب، وألهو وألعب. فالسنون تطوى ونحن عن حياتنا غافلون، والعمر يتقدم، ونحن عن أنفسنا ساهون.
هممت ولكن ... ولكن ما كدت أهم حتى عاقتني العوائق، وأقربها مني ضعف الجسم، ويقظة الضمير.
فيا معشر الشباب، احرصوا على حسن استخدام الزمن، ولا تتركوه يمر دون أن تنالوا منه ما قد ينيله من رقى في النفس وسرور. واعلموا أن أطيب آثار الدهر في العيش ما يتصل بنفوس الأحياء من صفو وحب، وصفاء.
السماء
القاهرة في 29 من فبراير سنة 1924
ترسل السماء أضواء في الليل والنهار. وطالما أحيت السماء الخلائق بأنوارها وحرارتها. وطالما هدت كواكب السماء سفنا ضالة إلى بر النجاة. وطالما أمدت السماء عواطف البشر بخير ألوان الشعر والخيال، فأسكنوا آلهتهم أفخم ما تخيلوه في السماء من أبراج وطبقات، ثم نقلوا على الأرض أمثلة مما تصوروه، فعملت الفنون إذ ذاك شئونها: فشيدت المعابد الضخمة، والبيع الزاهرة، والمساجد العامرة.
إن الزهور والحقول لتنتعش انتعاشا عند ما تشرق عليها الشمس من سماواتها في الصباح. وأن أرواح الأفراد والأمم لتنتعش كذلك إذا أشرقت عليها شموس المثل السامية. •••
المثل الأسمى هو سماء صافية تستخرج البصيرة من كبدها كل خير؛ بل هو أفق رفيع يستنهض العواطف إليه، فتتحرك النفس دائما للرقى والعروج؛ بل هو معنى إذا امتلأت به نفس الإنسان استصغر أكثر ما يشغل الناس من سفاسف الأمور؛ بل هو إشراق ساطع كابتسامة الحور العين يملأ لألاؤه النفس غبطة وارتياحا؛ بل هو ذلك الرقيب القوى الذي يسدد الخطى، ويوفق الفعال إلى حيث يريد الخير والحق أن تكون تلك الخطى وتلك الفعال. ذلك هو المثل الأسمى. ذلك هو سماء النفوس الصافية. •••
في تلك السماء المعنوية - سماء المثل الأسمى - كواكب تهتدي بها النفوس الرشيدة التي تعلم كيف تهتدي بها، كما يهتدي الملاح بنجوم السماء، وهو يسير في البحر الزاخر. فيها كواكب للعدل، وللرحمة، وللمحبة، وللعطف، وللكرامة، وللخير، وللحق، وكم فيها من كواكب الخصال الحميدة، والشيم الكريمة.
وفي تلك السماء ترسم أشباح الأنبياء والقديسين والعظماء والصالحين من الناس والأبرار والصابرين والشاكرين والذاكرين. كلهم كواكب، وفي تذكرهم نور يهتدي به البشر.
فليجتهد كل إنسان في أن يصل بين حياته الأرضية المادية بتلك السماء المعنوية. وليربط بسبب بين عالم الحقيقة الحاصلة وبين عالم الخيال الجميل المنتظر، وليعلم أن الحياة الدنيا لا تطيب إلا إذا مزجت بحياة روحية عالية مداها المحبة بين الناس، وغرسها السلام، وأفقها السماء.
الموت الساخر
القاهرة في 25 من إبريل سنة 1924 «أنجل» رجل نحيف الجسم. ممتقع اللون فقير الثياب، له عينان واسعتان، يسفلان جبهة ظاهرة العظم، ويعلوان وجنتين بارزتين. له شاربان رقيقان طويلان مرتفعان، وإذا ابتسم تنفرج شفتاه عن أسنان ناصعة البياض، قوية حسنة الرص والترتيب. وخلاصة القول في وصفه أنه لطوله ونحفه وقلة لحمه ودهنه وابتسامته الخاصة أدنى إلى صورة تلك الهياكل العظمية التي يخلصها الموت من الإنسان بعد زمن قليل. •••
طالما كنت ألقى «أنجل» في حانوت الحلاق. وطالما كان يقص على سوء حاله، مع كثرة عياله وقلة أشغاله. وكثيرا ما كان يثور في حديثه على نظم الحياة. وكثيرا ما كان يسب الفقر، وكثيرا ما كان يسخر من الغني الشحيح. •••
مر زمن طويل لم أر فيه وجه صاحبي هذا، ولم تسمع فيه أذني صخبه على الدنيا، وأنينه من أهلها، وبينما كنت سائرا ذات يوم في إحدى تلك المناهج الكبرى، إذ وصل إلي صوت استوقفني، فإذا بصاحب الصوت هو «أنجل» يبسم لي، ويمد إلي يده، وكنت أكاد أنكر صاحبي القديم؛ لأنه أصبح على غير ما كان عليه من صورة ومسوح. •••
أصبح أنيق الثياب بعد أن كان رثها. أصبح عطر الرائحة نظيفا. أصبح متختما بالذهب. أصبح مترفا بالحلي. أصبح وجهه مضيئا بعد ظلمة. أصبح صوته مليئا بعد تهدج. أصبح «أنجل» غير ما ألفت، وأصبح «أنجل» غير ما عرفت. حياني باسما، وصافحني وثيقا، وكلمني متلطفا رقيقا، وكل ذلك وأنا أنظر إليه ما بين تحديق وترنيق، وكأني كنت مذهولا من مظهر للرغد والنعمة، ما كنت أظن أن ألقى الرجل عليهما في يوم من الأيام. •••
ثم مضى «أنجل» في سبيله، ومضيت أنا الآخر في سبيلي أفكر في أمر هذا الانقلاب الغريب، حتى لقيت رجلا يعرفه، فحادثته في أمر ما رأيت، فقص علي الأمر، وفسر لي اللغز:
ذلك أنه كان «لأنجل» عم بخيل جمع مالا كثيرا، ولم يستمتع به في شيء، ولم يكن له وارث غير «أنجل»، فمات العم، وأحيى موته ذلك الذي كان بالأمس حيا ميتا.
عندئذ مر بخاطري شيء مما يقوله الاشتراكيون في المال ومخلفي الثروات والأموال. وعندئذ فهمت السر في نعمة صاحبي. وعندئذ تجلت لي معنى تلك الابتسامة التي لقيني بها في حاله الجديد. ورأيت في صورتها المتصلة بهيكله النحيف، ووجهه العظمي، ابتسامة الموت الساخر ممن لغيرهم يجمعون. وعندئذ قدرت معنى الأثر الإسلامي القائل: «ينادى مناد كل ليلة فيقول: اللهم اجعل لمنفق خلفا، ولممسك تلفا.»، ثم ترحمت على من قال:
وإن أشد الناس في الحشر حسرة
لمورث مال غيره وهو كاسبه
عائلة
فينا في 17 من سبتمبر سنة 1924
الدار في فينا، في الحي العاشر، وهو حي تتعدد فيه المعامل، وفيه مدرسة للهندسة الصناعية، وفيه يسكن أكثر من يعيشون بعرق الجبين.
قصدت إلى هذا الحي لألحق تلميذا من أهلي في تلك المدرسة، فسرت في بعض سبله، وطفت مع نفر من شبابنا الموفق في بعض نواحيه، لأتخير مسكنا للطالب الذي أتعهد بعض شؤونه، واهتدينا أخيرا إلى الدار.
الدار كبيرة ذات طبقات خمس، وفي كل طبقة سبعة أقسام، والعائلة التي رغبنا في استئجار غرفة عندها تسكن الطابق الرابع. وفي ذلك القسم الذي تسكنه يجد الداخل بهوا صغيرا تشغله أدوات لمعالجة الطعام. ويجد عن يساره غرفة صغيرة فيها سرير من الخشب، وخزانة ملابس ومنضدة، وبعض مقاعد. ويجد عن يمينه غرفة أخرى أكبر من الأولى فيها سريران كبيران وبجانبهما سرير صغير. وفي إحدى زوايا تلك الغرفة معزف (بيانو)، وفي زاوية أخرى خزانة للملابس. وحوائط الغرف مغطاة بالورق المزركش، وأرضها من خشب مصقول ناعم، وفي السقف ثريات جميلة للكهرباء. تلك هي الدار وأثاثها، أما ساكنوها فعامل خباز يناهز الخمسين من العمر وزوجته وولدهما الطفل (ماركس)، وهو في نحو الثانية عشرة وكلبهم (وولف).
دخلنا تلك الدار قبيل الظهر، وكنا أربعة فوجدنا الرجل مشمرا مجدا في تنظيفها. وبعد تبادل التحية سأله أحدنا أهنا غرفة لطالب؟ فقال: نعم، وفتح باب الغرفة الصغيرة فتفقدنا أثاثها، ثم سأله سائلنا وما أجر تلك الغرفة؟ فقال الرجل علم ذلك عند ربة الدار، وهي الآن في عملها، وستعود حول الساعة السابعة. فقال قائلنا: أو لست رب الدار؟ وقد يكون عندك نبأ ذلك! فأجاب نعم، ولكن هذا من شأن السيدة، فتفضلوا بالعودة ريثما تعود، وبينكم وبينها يكون الحساب.
نزلنا على أن نرجع، وقلت في نفسي إن هذه الطبقات الفقيرة من يذكر حكمة الإنجيل «دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله»، ثم ذهبنا إلى حيث صرفنا وقتنا، وعدنا في الموعد المضروب. طرقنا الباب ففتحته لنا سيدة تماثل زوجها في العمر، ترتدي بزة بسيطة نظيفة. تنم عن فقر وصبر. ولما دخلنا الدار انغمرت أسماعنا في جو من التوقيع والنغم، فنظر أحدنا وقال: إنه طفل صغير يعزف. فتوجهت أنظارنا حيث الغرفة التي تتدفق منها الموسيقى تدفقا، وكان بابها مواربا قليلا، ففطنت السيدة إلى دهشتنا، ودعتنا لندخل تلك الغرفة. وهناك وجدنا الشيخ الخباز يجلس على حافة السرير الصغير، وفتاة وفتى من الجار الجنب يجلسان على حافة السرير الآخر، وبين يدي الفتى آلة موسيقية شبيهة بالعود، أما الطفل فكان أمام البيانو يدق بأنامله الماهرة الدقيقة، ويرافقه الفتى على الآلة الأخرى، والفتاة كانت تشترك معهما بصوتها إنشادا. لم يكن لنا في تلك الغرفة مكان لنجلس، فوقفنا، ووقف الشيخ معنا، وضاق المكان بنا وبما فيه من أثاث. سألتني ربة الدار عما إذا كان لنا رغبة في سماع شيء معين. فطلبت لحنا من تأليف الموسيقي (اشتروس). فأخذ الغلام يعزف بحذق ما طلبت. وكان الشيخ أبوه ذو القميص الأزرق واللباس المرقوع يرمقه، بنظر العاطف الآمل وأمه في زاوية تحيطه بحنانها وغبطتها. ولمحت لباس الصبي، فوجدته ممزقا رثا. طأطأت رأسي إجلالا؛ لأني كنت أسمع من دقات الصبي أنشودة الفقر والجد والشرف، ونظرت إلى من حولي من الرفاق ليستوحوا من تلك الحياة موعظة.
ولما انتهى الغلام من توقيعه بين إعجابنا صفقت له مع رفاقي، وهنأت به أمه وأباه، ثم دعوت السيدة لتنتقل معنا إلى الغرفة الثانية؛ لنتفاوض فيما جئنا من أجله. وهناك قدمت الحديث بكلمة في الموسيقى، وفي مستقبل ذلك الموسيقي الصغير، وإذ ذاك قالت السيدة بشيء من السذاجة والألم: «لقد قال الأستاذ الموسيقي «ماير» علمي صبيك، فقد يصير رجلا عظيم الشأن في الموسيقى شبيه «بموزار»، ولكن عملي وعمل زوجي ودخل الغرفة التي أؤجرها لا يبقى لنا من المال ما نربي به نبوغ الولد.»
تأثرت وتذكرت أن النبوغ طالما نبت في أمثال هذه العائلة التي شعرت في جوها بالفضيلة والصبر والقناعة وفهم الحياة والاحتيال الشريف على التمتع بما في العيش من جمال. تذكرت من رجال الغربيين «روسو» و«كنت» وتذكرت «رينان».
ثم قلت في نفسي: عائلة تطلب اليسير من المال، فلا تجده لتكوين نبوغ مرتجى، وعائلة تصرف الكثير من المال على ولد فيكون من الضالين. حارت الأفهام في تقسيم الحظوظ. ألحكمة يفعل الله ذلك؟!
ضيق وضجر
القاهرة في 13 من يونيو سنة 1924
شيء يوقر الصدور، فلا تتسع الصدور لما ينعش من هواء. شدة تقرب بين ثنايا الجبين، وتخفي في غورها إشراق الجبين. نقطة سوداء في الأفق يرعاها البصر الكليل، ولا يحيد عن مرآها البصر الكليل.
عروة تصل بين الحاجبين، وعقدة تضرب على الشفتين الصامتتين.
سدادة تلقى في الأذن، فلا تسمع الأذن عبارة تسلية، أو كلمة عزاء. سيال يسري في الأعصاب، فيخدر الجسم عامل القوة وعامل النشاط. •••
ومع ذلك فقد تكون نسمات الليل نقية باردة، ولكنها تمر إلى الصدور دون أن تحس الصدور ببردها وسلامها.
ومع ذلك فقد تكون الجباه ملساء ينعكس عن لمعانها نور الله ورضاه، ولكنها تخفي النور وتبدي الغضب.
ومع ذلك فقد تكون في الفضاء شموس وأقمار وأضواء متلألئة، ولكن العين لا تقع إلا على النقطة السوداء.
ومع ذلك فقد تسيل البسمات، وتنتقل من شفة إلى شفة، كما ينتقل الطير من زهرة إلى زهرة، ولكن البسمات لا تقع على بعض الشفاه.
ومع ذلك فقد يحمل الهواء ألحانا عذبة، ونغما شجيا، ولكنه لا يحمله إلى بعض الآذان.
ومع ذلك فقد تكون مادة الأعصاب سليمة، لم تأكلها السنون، وتعاقب الأوصاب واللذات، لكنها لا تقوى على الحركة، ولا تستمرئ للنشاط طعما.
تلك هي صورة الضجر. وذلك هو شأن الضجرين. •••
وكم من مرة يحاور الضاجر نفسه في أمر ذلك الضيق، وفي بيته رغيف يأكله، فلا يشكو جوعا، وفي حقيبته كساء يرتديه، فلا يخاف عريا، وتحت سماء الله سقف يظله، فلا يخشى قلة المأوى، وعلى أرض الله فراش وثير يتقلب عليه إذا أوى، فلا يخاف خشونة وبأسا.
وكم من مرة يقول: أي سم جرى في دمي، فكان مصدرا لذلك الضجر؟
وأي غبار يختلط بالهواء، فيصير إلى صدري، فيحبس عني الهواء رطبا بليلا؟
وأي كثافة تختلط بالأضواء، فلا تشف عن لآلائها وبهائها؟ وأي سحرة تمسخ تلك الوجوه أمامي، فتحول إلى أشكال القردة الهازلة؟
وأي سحرة تلون تلك الوجوه بالأحقاد القاتمة؟ •••
أف أف يا رباه ... أهو دم فاسد يجري في عروقي، فيفسد علي هذا الوجود؟ أم هي مواد حللها الفساد فاغتذى الجسم منها، فلا أرى في الكون إلا فسادا؟ أم هي الحياة الاجتماعية قد اعتلت واختلت، وأحوال النفوس قد فسدت؟
أف أف ... لقد فسد جو الحياة الاجتماعية، فأصبحت أكثر النفوس لا تتنفس إلا ضيقا وضجرا. فمتى يستحيل الضيق فرجا، ينفث عن الصدور، ويطهر الجو المسموم؟
لذكرى الأديب1
ليون (فرنسا) في 18 من أغسطس سنة 1930 ... وفي الليل تتألق نجوم في السماء، وعلى الغصون زهور تبتسم، وعلى الصدور لآلئ تداعب النور، وفي القصبة وحي ودرر بين أصابع الأديب ... •••
ويسألون ما الأدب؟ ويسألون من الأديب؟ ...
الأدب عالم معنوي تتغذى منه العواطف الرقيقة، والأفهام الدقيقة؛ بل هو معراج ترقي به النفس إلى السماء لتشعر بالجمال، وتعقل الكمال.
والأديب إنسان يعلم كيف يتحدث إلى النجوم المتألقة، وكيف يخاطب الغصون المياسة والزهور، وكيف يجعل من صرير القلم نغما شجيا.
يكدح ويكد، وقد يسهر الليل وراء لفظ من الألفاظ؛ بل قل وراء درة ليسكن فيها المعنى الظريف ...؛ بل وراء أحرف إذا هي امتزجت، فكأنما هي أوتار تسمعك صوت المعاني عاليا رنانا؛ بل وراء قبس من نور يضيء حول الخفي المستور في زوايا النفوس، فتراه واضحا جليا ...؛ بل عن صور من الفزع والجزع والغبطة والهناء، ليرمز بها لمعاني الفزع والجزع والغبطة والهناء ... •••
وبينما يكون في مجالس الناس إذ يقص القصاصون، ويتحدث المتحدثون، ويتسامر المتسامرون، فتنظر في وجهه، فترى حدقتيه كأنهما اتجهتا إلى عالم آخر. وكثيرا ما تطير نفسه إلى حيث تناجي الملائكة، إلى حيث تتخاصر المعاني والكلم.
وبينما قوم يلهون في مآكلهم ومشاربهم، ومتاجرهم، وترهاتهم، ودسائسهم، يلهو الأديب بما يهبط عليه من عالم البيان، وما يستوحيه من عالم السحر الحلال.
وبينما قوم يعيشون بجسومهم ونفوسهم على الأرض وحول المادة، يعيش الأديب بنفسه في السماء وحول ما في السماء ...
وطالما تحول ذهنه المكدود وإكسير دمه وخلاصة عصبه إلى تلك السطور التي تقرءونها، وتقولون: إنه يكسب منها ثناء أو مالا. ولكن كل ما يكسبه الأديب من مادة يتحول عنده معنى وأدبا، تتنفسون من نسماته، وتتنسمون من شذاه.
يعيش الأديب من العمر ما شاء الله أن يعيش، ولكنه يعيش في الفن وللفن. وتصادفه في حياته آلام وأوصاب، ومع ذلك تمر عليه ساعة هناء لا يعدلها عنده أي متاع وهناء. ساعة يتزوج المعنى من لفظ، ساعة يحضر هذا الزفاف المحمود. •••
يعيش الأديب في أدبه، ثم يأتيه الموت! ... الموت!!. حينئذ ينضب الحوض الزلال الذي كنتم منه ترتشفون. حينئذ يسكت البلبل الذي كنتم بأغاريده تطربون. حينئذ لا تجد الطيور من كان يداعبها في غدواتها وروحاتها. حينئذ لا تجد النجوم من كان يسامرها في داراتها وعوالمها. حينئذ لا تجد الحسان من كان يعلم كيف يناجي الحسان، ويفهم قدر الحسن والغزل.
حينئذ تفقد المعاني من كان يدق لها الطبول لتتخاصر مع الألفاظ، وتسألون أين الذي كان يخاطب الغصون إذا ماست، والفاتنات إذا دللن، ويحرك الأفئدة العاطفة، ويطمئن القلوب الواجفة ... وتسألون أين الذي كان يحرق البخور ويعطر الهواء؟
إنه الآن في الثرى وتحت التراب ... •••
يا صاحب الجبين الندي، والذهن المكدود: أنك تموت بعد الحياة، وتسكت بعد الخطاب، وأنك تجد الملائكة تهيئ لك عقودا مما ثقبته من لآلئ ودرر. فإذا كان في عقد منها خرزة صغيرة من خزف، فاعلم أنها دليل هذا اليوم الذي هبطت فيه من عالم الأدب الرفيع، فشاركت الناس لحظة في ترهاتهم وأباطيلهم. على قبر الأديب تحية وسلام.
في الغابة
ميدلينح هتر بربل بالنمسا في 7 من سبتمبر سنة 1924
يوم الأحد ... وقد أشرقت الشمس، واعتدل الجو، وأمسكت السماء صيبها بعد أن عبست وأمطرت مدرارا في أيام هذا الأسبوع الماضية.
خرجت من الفندق قاصدا الغابة القريبة، فانتهجت سبيلا مطروقا، ثم عرجت في سبيل آخر إذ سمعت ثمت نغما موسيقيا مطربا.
ولما بلغت مفرقا للطرقات، ألفيت هناك رجلا مبتور الساق، يستند على شجرة وبين يديه آلة من آلات العزف يوقع عليها ذلك النغم الشجي. في مثل هذا اليوم الصحو يحج القوم إلى الغابات من أقصى المدينة والضواحي المجاورة نسوة ورجالا، وفتيانا وشيبا، وأطفالا، ورضعا. وفي مثل ذلك اليوم يقضي الناس شطرا عظيما من نهارهم في حضن الطبيعة بين لفائف الأشجار، ليتنفسوا من نسيمها المجدد للدماء. وفي مثل هذا اليوم يكسب ذلك المنكود ما يجود به ذوو الشفقة وأهل الإحسان من هؤلاء المستريضين.
ذهبت كذلك لكي أمتع نفسي بما ليس في بلادنا من مناظر تلك الربى وتلك الغابات، ثم اتخذت مكانا غير بعيد من الموسيقى وغير بعيد من الطرقات التي يمر بها الرائحون والغادون. فمن أم وبنيها، ومن زوج وزوجها، ومن غادة هيفاء تتأبط ذراع فتى مليح، وكثير من هؤلاء المستريضين يحملون أدوات يستخدمونها لطعامهم وشرابهم ولهوهم. وكأن هذه الطبيعة تسع في حيزها تلك المظاهر المختلفة التي يظهر الناس بها: فمن مظهر للبر إذ تجد أما رءوما تمتع صغارها بحاجاتهم من الرياضة واللعب، ومن شيخ وشيخة يشتركان معا بين أحضان الطبيعة في جميل الذكريات وفي تحية الوداع لحياتهما الآفلة، ومن شاب وشابة يشتركان في المتاع بسكرة الحب والنسيب، ومن فاجر وفاجرة يعتزلان ناحية تحت خمائل الأشجار، ويتفننان في أساليب الخلاعة والفجور.
وكأن الكل لا يتناجون إلا همسا في حضن تلك الغابة، حيث خيل إلي أن صفوف الأشجار الباسقات كأنها حراس شداد، وقفت خاشعة إجلالا لهذه الطبيعة الواسعة الرحمة التي تفسح بين أحضانها مجالا للبر والفجور.
أن الطبيعة وسعت كثيرا، ورحمة الله وسعت كل شيء، ولكن عواطف الإنسان وعقله قيدتها تقاليد وشؤون، فما أضيق صدر الإنسان إزاء السعة الطبيعية والإلهية.
فكرت مليا في معاني الحرية، وأخذت أنظر بين فهم الغربيين وفهم الشرقيين في تقدير الحياة، ثم اعتراني تعب، فشعرت بحاجة الجسم إلى الراحة، فألقيت به على تلك الأرض المفروشة بالعشب الأخضر، وبما تساقط عليها من أوراق الشجر اليابسة، وحسبت أن جسمي قد حن إلى أصله في الثرى، فوضعت صدري على أديم الأرض، ثم بسطت ذراعي كأني أضم بهما تلك الأم الروم، وكأني كنت أقول إيه يا أمنا الأرض أن دمي ولحمي وعظمي وعصبي لفي حاجة إلى نفثة من تلك النفثات المنعشة التي تملئين بها ذراتك، فتستحيل قوة وحياة، ثم عدت فجلست وحدقت إلى ما كان يبدو من السحب من خلال تلك الظلال الوارفة، فوجدتها تتلبد رويدا رويدا، وأخذ القوم حينئذ يهيئون شؤونهم ليعودوا إلى حيث يلتجئون من غضب السماء إذا هي أمطرت، وأخذ الموسيقي المبتور يردد نغمات أخيرة خافتة، خلتها أنشودة الوداع لذلك الصفاء الذي متعت الطبيعة به القوم حينا قليلا ...، ثم تساقط الرذاذ ...، ثم تحول مدرارا.
ولقد كنت آخر من آب إلى مأواه في الفندق الذي أسكنه. ولما بلغته خلعت عني معطفي المبلل، ودخلت بهو المكان، فوجدت القوم ما بين عازف وراقص وسامر وصادح، فأيقنت أني في قوم يعلمون كيف يحيون حياة طيبة، ويستفيدون من أيام راحتهم سواء صحت الطبيعة أم غضبت.
حيا الله الحياة، وحيا الله قوما يقدرون معنى الحياة.
دار ودار
القاهرة 20 من يونيو سنة 1925
أعرف في بعض مناهج القاهرة، غير بعيد من إحدى دور الحكومة، منزلا صغيرا محيلا شاحب اللون. ومكانته بين المنازل الفخمة التي تحيط به، وتواجهه كمكانة الرجل الهزيل الرث بين قوم ذوى نضرة وبهاء، فلا يلفت النظر حالهم بمقدار ما تلفته رثاثة ذلك المسكين. •••
لقد سكن هذا المنزل صديق لي كان فيما مضى متوسط الحال. ولما فتح الله عليه، وشال في جو المراتب تركه إلى منزل آخر كبير، منبسط العرض منبعج البطن، واضح اللون، نقي البشرة. •••
لعل صديقي لم يخالف سنة المألوف، فأوسع على نفسه إذ أفاض الله عليه الخير، وخلى المسكن القديم لمن يتناسب حاله مع حاله من تواضع وإقلال. ولعل ذلك المنزل لم يطرأ عليه منذ عرفته شيء يذكر، لا في صورته، ولا في شأن أهليه، ولا في أمر أصحابه، فلم يصب ببتر، أو شق، أو تحويل، أو تغيير، حتى يحسن قوامه، ويجمل منظره. ولعل كل ما أصيب به هذا المنزل منذ عرفته كان مرض الرطوبة، فكان يعالج باستبدال أحجار غير التي بليت. وكان لا يغادره ساكن متواضع إلا ليحل محله ساكن يشبهه تواضعا. وكان لا يبيعه مالك مقل إلا ليشتريه مالك مقل. ومجمل القول في تاريخ ذلك البيت أنه ذو بقاء طويل متشابه يحيط به الذكر الخامل. •••
لكن على مقربة منه قصر فخم، هو الآن دار لإحدى مصالح الحكومة. وأذكر أني عرفته من نحو ربع قرن، إذ أتيت لأول مرة من الريف إلى مدينة القاهرة، ودخلته مع صديق طفل يتصل بوشائج القربى مع خادمة من خادمات ذلك القصر الذي كان يسكنه وقتئذ أهل الغز والإقبال.
أجلسنا في غرفة صغيرة، وكان ذلك أول عهدي بنور الكهرباء، فأخذت أعبث وألعب كما يعبث الطفل الريفي، وأتسلى بإصدار ذلك النور، فأدير الزر الكهربائي، وأنظر وأدقق حتى جاءت قريبة زميلي الصغير، وأخذت قسطها من مسامرته ومداعبته، ثم انصرفت عنا، وانصرفنا إلى حيث كنا نبيت. •••
مرت أيام وأيام، وللأيام أدوات ومعاول تعمل بها في الكون إصلاحا وإفسادا، وتشييدا وهدما. فهدمت في تلك الدار مظاهر العز والإقبال، وورثها غير أهلها الأولين، ثم تقادم العهد، فوصل إليها الخراب، فاغبرت وأصبحت لا تشرق بما كانت تشرق به من بهجة وسعادة، ثم مرت أيام تلو أخرى، فأغلقت أبوابها وخزائنها على ما كان فيها من رياش وأثاث، ثم مرت أيام تلو أخرى، ففتحت تلك الخزائن، وعرضت طنافسها وزرابيها وأنساب في غرفاتها المساومون والدلالون، ثم مرت أيام تلو أخرى، فابتاعتها الحكومة، ودخل فيها المهندسون والبناءون، وشقوا في جوانبها، وبدلوا في أوضاعها، ثم مرت أيام تلو أخرى، فسكنها مستخدمو الدولة من العمال والكتاب والحجاب، وأصبحت موضعا تطؤه أقدام الخاصة والعامة، وكلهم يرى فيه له حقا.
ومجمل القول أن هذه الدار تغيرت من حيث معالمها، وتغيرت من حيث أقوال أصحابها! وتغيرت من حيث زوارها وقاصدوها، وفعلت بها الغير ما لم تفعله بالدار الضئيلة الأولى. •••
سبحان من لا يتغير ...
نظرة إلى هاتين الدارين المتجاورتين تذكرك أن للمجد أجلا، وإن طال وأخال أن الرفيع الذي دل ثم ذل، واشمخر، ثم اندثر، وشال به الإقبال، ثم حط به الإقلال، قد يحسد المتواضع الذي يبقى على حاله طوال الأيام صابرا ولربه شاكرا.
حياة حول موت
القاهرة في 27 من يونيو سنة 1925
في تلك المقابر، القريبة من قرى مصر، كثيرا ما تجد قبورا خربة متهدمة الأركان، متخلخلة اللبنات، مثغورة الجوانب، كأنها ترمز إلى الموت في أبشع صوره من تهدم وتخلخل وتبعثر.
وقد تجد أشجارا من النبق، أو الجميز غير مشذبة الفروع، ولا متناسبة الوضع، تظلل هناك صهريجا من الماء، كأنه رمز للأسف المقيم الدامع.
وإن تلك الألوان البيضاء المغبرة، والألوان الطينية القاتمة، التي تظهر بها هذه المقابر، ليست من الجمال في شيء، فلا توحي إليك بلغة الألوان والتناسب أن للموت عظة ورهبة وجلالا. •••
لست أريد بما أسلفت أن أرسم لك صورة لتلك المقابر الكريهة، ولا أن أمثل لك الموت في شكله مزدريا مهانا، ولكني ألفتك إلى أن حول تلك القبور كثيرا ما تجد حقولا يانعة بالنبت الغض، وفيها طيور مغردة فرحة، وتجوب في أنحائها حشرات مرحة، وفيها صفحة للحياة واضحة. •••
وهناك في حقل من هذه الحقول الحية، ترى إنسانا حيا يعمل في الأرض، فيستنبت النبت، ويعين الغصن النامي في وجهته إلى النور والسماء، وينعش الزهرة للابتسام، ويتعهد ما يبدو على أديم هذه الأرض من مظاهر الوجود.
وإني لأساءل نفسي عن حال هذا الإنسان؛ بل أسائلها عن قيمة تلك الحياة البشرية التي تكد وتكد حتى وهي قاب قوسين من تلك المقبرة. •••
ليست حياة الإنسان أن يقنع بما يشترك فيه مع آخر الكائنات من غذاء ونمو وسعى وتناسل. لكن الحياة لا تكون حياة إنسانية إلا إذا تيقن الفكر البشري بمنزلته من عالم التفكير.
يقول بسكال: «خطر أن تظهر للمرء أنه شبيه بالأنغام من غير أن تظهر له عظمته، وإنه لخطر كذلك أن تظهر له عظمته من غير أن تظهر له حقارته، وأخطر من هذا وذاك أن تتركه في عماء من عظمته وحقارته. ولكن من المصلحة أن تظهرهما له جميعا.» فهل يعلم هذا الفلاح حقا قيمته من هذا الوجود؟ وهل يعلم حقا نصيبه من عظمة، أو مهانة، وما له في هذه الأرض من مكانة؟ وهل تزج حياته حقا في عداد الحيوات الطيبات؟ وهل يحشر موته حقا في زمرة الموت المستطاب؟
كما أن بعض الموت قد يصير ينبوعا لعيش رغد منير، فإن بعض العيش يكاد يكون موتا مظلما كريها. •••
تعس من يعيش عيشا لا خير فيه، وتعس من يموت موتا لا خير فيه!!
وما أقسى حياة تلوح كأنها الحياة تعمل وتكدح ... ولكن ... قاب قوسين من هذه المقبرة.
طيف زائر
القاهرة في 11 من يوليو سنة 1925
زارت دارنا منذ أيام عجوز، انقطعت بين دارنا وبينها أسباب التزاور منذ عهد بعيد يرجع إلى زمن طفولتي، إذ كنا في بلد غير هذا البلد، وفي دار غير هذا الدار، وفي محيط غير هذا المحيط، وكانت دنيا حينئذ في أخلاقها وفي شئونها غير دنيا هذه الأيام.
ولست أدري أي ظروف هيأها القضاء لهذه الشيخة الفانية، فجاءت إلى مدينة القاهرة، ثم علمت أين نسكن، وأين نكون من غير الدهر، وأين نكون من أمور الحياة.
لم يعرف زائرتنا صغار المنزل الذين ولدوا تحت سماء غير السماء التي أظلت طوال الأيام، تلك الزائرة، لكن لم ينكرها عجائز البيت رغم ما اتصل بسحنهم من توالى السنين.
ولقد توخيت أن أكون بحيث لا يعطل مجلسي ما قد ينشأ بين ممثلات الماضي من حوار، وبحيث استطيع أن أسمعه أملا في أن أجد درة تكون في طيات تلك الأحاديث المتهدجة، وربما يعثر المرء على موعظة بالغة، تلقيها حاملات الليالي والأعوام.
بقيت طويلا على هذا الحال، أتسمع من القول ما يتصل بعضه بذكريات حياتي الماضية، وخيل إلي أن كل ذكرى كانت تنقلني بأسرع من لمح البصر، فتقطع بي شوطا بعيدا إلى حيث أحل بالماضي الذي أسكن إليه، وأسعد لحظة بصورته البسامة الهادئة.
ولما حانت ساعة نزولي من الدار، ارتديت ملابسي، وخرجت وفي أذني صدى لحديث العجائز، ثم اتخذت سبيلي المعتاد في حارة ضيقة من حارات الحي الذي أسكن فيه، وهناك لقيت شيخا معمما بعمامة حمراء، مرتديا جلبابا أزرق، ذا لحية لم يكمل بياضها، ولم يغادرها قليل السواد، ذا وجه فيه علامات الصبر والأسى، بيده أصناج يدق بها دقا موسيقيا لطيفا على السمع، وينشد ضروبا من الأناشيد القديمة التي تخرج من صدره، أكثر أنغامها وأقلها يخرج من حنجرة تستبقي شيئا من عنفوان الشباب ورنته. •••
وقفت من الحارة في موضع أسمع فيه صوت الشيخ الشادي، وأتبع بنظري حركاته، وأوطن سمعي لما يحمله الهواء من أغانيه ونبراته، التي كنت أخالها لشبح من أشباح الماضي البعيد، ثم انعطف الرجل في منعطف، فتوارى عن بصري، وانقطع صوته عن سمعي، ولم يبق منه إلا الصدى الضئيل.
حينئذ مضيت، ولكن تذكرت أن الفرد لا تكمل شخصيته إلا إذا اتصلت حياته بما يربطها من الماضي بذكريات، وأن الأمم لا تكمل قوميتها إلا بما يذكرها بالغابر ومشخصاته البائدة، وما أتعس امرأ يهون عليه ماضيه، وما أشقى أمة لا تستبقي من تاريخها طيفا يزور.
حول ما لله
القاهرة في 18 من يوليو سنة 1925
أن بعض بيوت الله من مساجد، ومعابد، وكنائس، بحدها فخمة البناء، عالية الأركان، فيها الزرابي المبثوثة، والآنية النفيسة، والتحف الثمينة. وفيها مظاهر الفن والزخرف، وما تشتهيه نفوس الطامعين. وقد يؤم تلك البيوت قوم من الناس، وهم في مظاهر وجاهتهم وأبهتهم، فتنتظرهم على أبوابها السيارات الفاخرة والخيول المطهمة.
وتجد في بعض الحقول، وعلى حافة بعض النهيرات التي تجري في هذا الوادي، مسطحا صغيرا من الأرض، فرشت عليه أعشاب وحشائش مجففة، وله شبه سياج من غضون الأشجار وفروعها. وهناك، في وقت الأصيل قد تجد فئة من عمال الحقول يستقبلون قبلة الإسلام، ويصلون لله في بساطة، ويسجدون لجلاله في خشوع، ويذكرون اسمه لا في عنت القول، ولا في تكلف البيان.
عندما أتمثل صورة تلك المعابد الضخمة، وبعض زوارها وروادها، ثم أتمثل صورة ذلك المصلى الذي يهيئه الفلاحون في ناحية من حقل، أو على مقربة من غدير أتذكر بعض ما يروى من آثار اليونان الأقدمين من أمر الزلفى إلى الله ونية المتزلفين. •••
يذكر «فرفريوس» أن أحد سراة «تساليا» قصد إلى معابد «دلفوس» ليتقرب إلى ربه، ومما أعده لذلك مائة من الثيران مذهبة القرون.
وبينما كان هذا الغني عند المعبد بمظاهر جبروته ووجاهته، إذ أتى رجل فقير من أهل «هرميون»، فاقترب من المذبح، وأخرج من جعبته الحقيرة قبضة من الدقيق، وألقى بها في لهب النار المتوقدة عند المعبد. عندئذ أعلنت السادنة، التي كانت ينتظر الناس قولها في أي القرابين كان عند الله أكرم، أن ربها قد تقبل بقبول حسن قبضة الدقيق من فقير «هرميون»، ولم يكن ذلك نصيب القرابين التي ساقها سري «تساليا». •••
ولقد يتخذ أهل الأخلاق من مثل هذه القصة بعض أدلتهم في الحكم على قيمة الأعمال بما يتصل بها من النيات. فذلك الذي كان يتزلف إلى ربه بمظاهر كبريائه دون أن تخلص نفسه من عوامل المفاخرة، كان أبعد من الله من ذلك الذي تقدم له بالقليل مخلصا. وأحسب أن هذا العامل القروي الذي يفرغ من عمله، فيذكر ربه وحيدا منفردا لهو أدني إليه من هؤلاء الذين يقصدون إلى بيوته العالية؛ ليعلنوا للناس أنهم تقاة؛ وليظهروا للناس أنهم من الصالحين. وأخال أن كثيرا من هؤلاء الذين يتظاهرون بغيرتهم على دين الله وعلى ما لله فيصيحون، ويهولون، وينادون لنجدته، ويحفزون لنصرته، هم أبعد من الله من شيخ مخلص، يرشد في السر، ويصلح في السكون. •••
أن لله صدق النفوس، وأنه لفي غنى عن المساجد الفخمة والكنائس الضخمة، وأنه لفي غنى عما يساق إليه من ابتهالات منمقة، وصلوات غير صادقة، وأنه لفي غنى عن ضجة تقام كأنها لوجهه، أو كأنها لنصرة دينه ما لم يلابسها حسن النية وإخلاص الضمير.
رحاب العلم ورحاب الدين
القاهرة في 1 من أغسطس سنة 1925
منذ بضعة أيام نقلت لنا الصحف الأمريكية ، أن في إحدى ولاياتها صراعا جدليا، قد احتدم بين طائفتين، إحداهما تنصر مبادئ الدين، والأخرى تدعو لمبادئ العلم، وتنصر مذهب أهل النشوء والارتقاء. ومنذ أيام نقرأ في صحف بلادنا مقالات بعضها من مؤلف كتاب «الإسلام وأصول الحكم»، وأنصار له يذهبون إلى أن دين الإسلام لا شأن له بمسائل الخلافة، ولا بصورة خاصة من صور الحكم، والبعض الآخر يكتبها طائفة من رجال الدين، ينكرون على المؤلف ما ذهب إليه، ويدعون إلى إخراجه من حظيرتهم؛ لأنه فكر على أسلوب غير أسلوبهم، ونظر في بعض المسائل على وجه غير الذي ينظرون. •••
ولقد بين لنا التاريخ أن كل عصر من العصور لا يخلو من جدل عنيف بين رجال طائفة بعينها. فقديما تجادل رجال الدين فيما بينهم، وقديما تجادل رجال العلم فيما بينهم، وقديما نزع بعض رجال الدين إلى أن يخرجوا بعضا آخر من حظيرتهم، وقديما نزع بعض رجال العلم ألا يعترفوا بعلم آخرين خالفوهم في رأيهم، ونظروا إلى الأمور بغير نظرهم.
ولم يكن منشأ هذا الجدل العنيف الذي يخل منه عصر، ولم تتبرأ منه أمة إلا قصر الأنظار وضيق الصدور.
كأن الجامدين من أهل العلم، أو من رجال الدين قد لا تصل أبصارهم أحيانا إلى لآلاء تلك الحقيقة التي يتألق بها كل شيء في الوجود، والتي تظهر أن طرائق الإفهام تتحول. وكأن في آذانهم وقرا، فلا يسمعون صدى المنطق السليم، يردد أن رحاب الدين الحق واسعة، وأن رحاب العلم الحق واسعة، وكأنهم يحسبون أن القوالب التي صبوا فيها آراءهم حينا من الدهر، تظل على حالها رغم كر الدهور ومر السنين. •••
إن من أهل الدين من يعرف لله تعالى أسماءه الحسنى، فيصفونه بالرحمة، ويصفون رحمته بالسعة، ولكنهم يحدون أفقها بمقياس أبصارهم القصيرة. وان أهل العلم ليعرفون أن حبل العلم ممدود وأن مداه غير محدود، ولكنهم قد يتعنتون أحيانا، فلا يريدون أن تسمو الأنظار إلى رقبى ما هو محتمل.
ولو أنصف أهل الدين وأهل العلم جميعا؛ لرأوا أن للدين الصحيح وللعلم الصحيح رحابا ؛ يستطيع أن يأوي إليها كل وارد، وأن يلجأ إلى ميادينها كل قاصد من غير اصطدام، أو زحام.
ألا أيها الجامدون لا تضيقوا رحابا، بسط الله جنباتها للواردين، ولا تسدوا أبوابا فتحها الله للقاصدين.
الغيبة والبهتان
القاهرة في 8 من أغسطس سنة 1925
رذيلتان فاشيتان في الناس، ترتكزان على أسوأ خلال البشر، وأكثر ما تعتمدان عليه: الجبن، والحقد، والحسد.
رذيلتان إحداهما مثلها مثل الوقح، الذي لا يبالي أن يستر أمام الغير ما به من مظاهر القحة والسماجة، ولا يستحي أن يبرز أمام الأنظار بما يلابسه من عيب ظاهر. والأخرى مثلها مثل اللص الذي يتلمس لنفسه من الظلمات مخبأ يسكن إليه بما سلب، وهناك يلقى غنيمته، ويدور ببصره فيما حوله من الخوف، وتجحظ عيناه من الحذر، وكلما ذكر أنه سارق دق فؤاده فزعا وجزعا.
أما الرذيلة الأولى فهي رذيلة الغيبة، وهي أن تقول في الناس من خلفهم ما يؤذيهم ولو كان حقا.
وأما الثانية فهي رذيلة البهتان أو الاختلاق، وذلك أن تقول في الناس ما يؤذيهم، وأنت تعلم أنك غير صادق فيما تقول. •••
للإنسان أن يستمتع بين من يعيش فيهم من الناس بحسن السمعة، وباحترامهم له، وبعطفهم عليه؛ وذلك لأن الإنسان مدني، ومن طبيعة المدنية أن يعايش الإنسان بني جنسه، ويعني بتقديرهم إياه، وصلتهم به، ورعايتهم له.
لكن لهذا الإنسان نزعة الفرد، وحق الفرد، وحرية الفرد، وهو يريد أن ينعم بذلك الحق في مدى واسع، لا يفقد معه حقه المتصل بنتائج مدنيته من عطف، وتقدير، وصلة، ورعاية.
على ذلك يكون من الخير وحسن التوفيق أن يحتفظ الإنسان بحقه الفردي في الحرية، وبحقه المدني في حسن الصلة بالناس.
وعلى ذلك أيضا لا يكون من الخير في شيء أن تسيء إلى أحد في سمعة حسنة اكتسبها، وليس من الخير في شيء أن تحول عنه شعورا عاما تألف لحبه.
وليس من الخير أن تخلق النفرة بينه وبين بيئته، أو تجعل التقاطع بينه وبين عشيرته، وليس من الخير أن تحول بينه وبين إشراق وجوه تلقاه بتحية وابتسام.
إنك إن فعلت كنت مغتابا، وما كان الله ليرضى عمل المغتابين. •••
رب مغتاب يلبس مسعاه مسعى الأخيار، وينتحل المعاذير ليتشبه بأهل الحق، فيقول: إني أظهر للناس عيبا في أحدهم، قد خفي عليهم، وأظهر للناس صورة ما كانوا ليعرفوها على وجهها الصحيح.
ولو أن هذا المغتاب يريد الخير صدقا لأتخذ الوداد، قبل المخاصمة والعناد. وأخذ بأسباب الإصلاح قبل أن يشهر العداوة والسلاح، ولأسر له النصيحة فيما يرى من العيب قبل أن يفشيه جهرا وعلانية، فلربما كان في إفشاء العيب رذيلتان: رذيلة الاغتياب، ورذيلة الإفشاء. •••
أيها الناس، لا تتقولوا جهارا على فلان إن شذ، أو خرج لتؤذوه، ولا تتقولوا على فلان إنه أساء لتضروه، فإنكم تبوءون بإثم المغتاب إن كان ما تدعون صدقا، وتبوءون بجريرة المختلق الأثيم إن كان زورا وبهتانا.
حقوق الأفراد
15 من أغسطس سنة 1925
لعباد الله من الله حقوق يجب أن تصان. لهم حقوق أساسية هي الأصول لكل ما يتفرع عنها من حقوق، وهي التي يترتب عليها كل ما يطالب به الإنسان من واجب.
لعباد الله من الله حق الحياة، فواجب عليهم صيانتها وعدم العبث بها حتى تستخدم لما جعلت له من واجبات هذا الوجود.
ولعباد الله من الله أن يكونوا أحرارا في مظاهر عيشهم ومسعاهم، وذلك؛ لأن الذي يريد أن ينعم بهبة الحياة لا يستطيع أن يعمل حسبما تقتضيه شؤونها وظروفها إلا إذا كان حرا طليقا، لا يعطله عن أفعاله معطل، ولا تقف عقبة في سبيل شعوره بأنه الفاعل لما يفعل ويريد، وأنه المسئول عما يهم به ويفعله.
ولعباد الله من الله أن يكونوا أحرارا في إطلاق ملكاتهم المفكرة، تسير في داراتها، كما تسير في الفضاء الواسع، تلك الشموس والأقمار لا تتقيد في سيرها إلا بسبلها الخاصة من أساليب المنطق السليم ومناحي النظر المستقيم. ولتلك الملكات البشرية أن تتوغل ما استطاعت، وما طاب لها التوغل في مسالك المنطق والنظر. وما كان العقل لابن آدم إلا ليتعقل به، ولم تكن له ملكات التفكير إلا لتؤدي وظيفتها من بحث وتفكير. •••
تلك هي حقوق الإنسان الأولية التي تستلزم واجباته الأولية، فحقك الذي ترعاه من الحياة يدعو إلى تقديرك للواجب نحو الحياة، وحقك الذي ترعاه في أن تكون حرا في سعيك، يدعو إلى واجبك في تقدير حرية المسعى والعمل. وحقك في أن تعتقد وأنت حر، وأن تفكر بحرية، يقضي بواجبك في تقدير عقائد الغير وحرية الغير في التفكير.
تلك حقوق لا حد لها إلا حق الغير فيها، وأن كل تضييع، أو تفريط في تلك الحقوق، أو في بعضها لهو تفريط في إنسانية الإنسان، أو في بعض ما له من معنى هذه الإنسانية.
أشد ما يؤلم امرأ يقدر حقوق الإنسان، ويرعى حقوق الفرد أن يجد من قوانين الجماعات، أو نزعات الحكومات ما يتعارض وتلك الحقوق. فالقانون الذي يطول بحده القاسي فردا يستخدم حقه الطبيعي في حرية الرأي، ثم يحول بينه وبين الحق المدني في العمل والسعي لهو قانون يتنافى وأصول الحقوق الطبيعية. وأن النزعة التي تنزع إليها الجماعات في تضييق ميدان التجاذب، والتآلف، والتسامح، بينها وبين أفرادها؛ لهي نزعة قاسية لا تتفق وتقدم الإنسانية ورقي الأمم، وإن النزعة التي تنزع إليها الحكومات أحيانا في أن تبيح لنفسها ولأنصارها حرية التصرف والسعي والعمل، ثم تنكرها على خصومها لهي نزعة قاسية هادمة لأقدس الأصول في حقوق الأفراد ومصلحة الجماعات.
فيا أنصار الحق طالبوا بحق الإنسان حين تشعرون بخطر يهدد حق الإنسان. ويا أشياع الحرية أنشدوا الحرية ما شعرتم، إن الحرية الصالحة الصحيحة في خطر.
الجمود
القاهرة في 24 من أغسطس سنة 1925
للجامدين أذهان ليست كالأذهان، ولهم قلوب ليست كالقلوب، ولهم نفوس ليست كالنفوس.
فأذهانهم لا تمتد إلى ما يمتد إليه النظر الواسع، ولا تنسجم حركاتها حيث تنسجم مقدماته ونتائجه.
وقلوبهم لا تشعر بما تشعر به القلوب، فلا تحس ألوان الجمال المتصلة بمظاهر الخلق، ولا تتأثر بضروب الأحداث التي تختلف في هذا الوجود، ولا تخفق لآيات الله في السموات، ولا تخفق لآيات الله في الأرض، ولا لآياته المطوية في كر العصور وعبر الدهور.
ونفوسهم محجبة وراء سجوف من السواد ، ولا يصل إليها ضوء من الأنوار المتلألئة في نواحي الكمال، ولا تنبعث فيها حرارة الإيمان بالتقدم والخير، ولا يستعر منها قبس لنار الهمة المتحفزة للأمام. •••
إن طبيعة الذكاء أن يتطاول إلى شئون هذه الحياة ليحوزها بالفهم، وينبسط إلى الأمور ليتصل بها بالمعرفة، وطبيعة الجمود أن ينقبض عن أشياء هذا الوجود وينصرف عنها. والجامدون ينكمشون إلا عما ألفوه، وينقبضون إلا عما ورثوه.
إن أظهر ما يمتاز به الإنسان عقله الذي يبحث به وشخصيته الضاربة جذورها في الماضي، القائمة سيقانها في الحال، الممتدة فروعها وغصونها للمآل.
فالبحث إذن هو من خواص العقل، والانسياق مما هو حاصل إلى ما هو منتظر ركن من أركان الشخصية البشرية، والعقل والشخصية كلاهما ميزة ابن آدم. لكن الجامد يعطل عمل العقل، ويكبل نزعات الشخصية، ويقص جناح التطلع، وأكثر أعماله وحركاته قد تتصل بالعادات، والمألوفات، والغرائز.
وعندي أن أهل الجمود هم أدنى إلى معاني الموت منهم إلى معاني الحياة الصحيحة؛ وذلك لأن شأن الحياة الصحيحة أن تظهر فيها الحركة متصلة غير مقطوعة، ومتشعبة غير مركزة، وتتفاعل مظاهر الحياة بعضها مع بعض على مدى واسع غير محدود. لكن الجامدين لا يتصلون بالحياة إلا من بعض جهاتها، ولا يفسحون نفوسهم لأطرافها المترامية. •••
للجمود عصور يشتد فيها أمره، وتقوى فيها زمره. وقد تكون تلك العصور هي عصور الجهالة والانحطاط، وتغلغل طبائع الاستبداد، ودنو الشعوب من الشيخوخة والهرم.
وفي هذه العصور يكون مثل الجامدين مثل الطفل الذي قد يريد به أبواه خيرا، فيسرعان ليحولا بينه وبين غذاء في عناصره سوء، فيغضب الطفل ويصيح ويبكي، وكذلك أهل الجمود فإنهم يغضبون، ويهلعون، ويجزعون عند ما يراد بهم الخير؛ لأنهم قد لا يعقلون التمييز بين ما يضر وما ينفع. •••
لكن الأطفال تساس أحيانا وتؤخذ باللين، وتقهر أحيانا وتؤخذ بالقسر. وفي عصور الانتعاش يجب على المجددين أن يعلموا كيف يساس أهل الجمود.
الجمود في الأمم شر وأذى وإثم، فحاربوه إن وجدتموه.
إلى الفتيات المبعوثات
القاهرة في 3 من أكتوبر سنة 1925 ... وكما أن الحاضر من الأيام يمثل لنا أحيانا صورة من صور الماضي، فتكاد تحسبه الماضي دون أن يكونه، كذلك قد تمر بوجه السماء المشرقة سحابة، فتحسب أنك في فصل الغمام دون أن تكون فيه، وكذلك قد تذرف العيون دموعا رطبة، وقد يتهدج الصوت بنبرات متقطعة، فتحسبك محزونا دون أن تكون كذلك حقا. •••
تذكرنا الماضي البعيد حين ذهبنا إلى الثغر لنودع فتياتنا المبعوثات في سبيل العلم، فمثلت في خيالنا تلك الأيام إذ أرسلنا مع زملاء لنا في ذلك السبيل، وشهدنا صورة من تلك الصور التي شاهدناها بالأمس من مظاهر الدعوات الخالصة، والقبلات الطاهرة، والوداع الشديد، وسمعنا من الآباء مثل ما سمعنا بالأمس تلك الوصايا، يزود بها الأبناء والأبناء مطرقون احتراما، وكأن رءوسهم تنخفض لما يلقى فيها من ذهب ثمين، وإن خلاصة ما شهدنا وسمعنا تنحصر في دائرة من المعاني، لا تخرج عن معنى الإيمان والشرف والوطن. •••
لم أنس من ذكريات الأمس البعيد، شبح ذلك الشيخ الأسمر النحيف، يقدم عند الوداع لأحد أقربائه من زملائي كتاب دينه المقدس، فكأن آخر ما أوصاه به أن يذكر ربه، ولو نسى كل شيء، وقد رأيت بالأمس القريب آباء فتياتنا وأمهاتهن، يقدمون لهن المصاحف ويوصونهن بذكر الله، وما أجدر قلب الفتاة الطاهرة أن يعمره ذكر الله الكريم.
وقد سمعت بالأمس القريب، كما سمعت بالأمس البعيد، المودعين يذكرون فتياتنا بالخلق وبالشرف، وما أجدر نغمات الشرف، بأن تعمر أذن الفتاة، وما أجدر الشرف أن يذكره الذاكرون لمن نبتن في الشرق وعشن في نوره وآلامه.
وقد سمعت بالأمس القريب من الآباء كما سمعت بالأمس البعيد ذكر الوطن، وللوطن على أبنائه واجبات، وللوطن على أبنائه حقوق، ومرحى لمن يؤدي للوطن حقا، وهنيئا لمن يقوم له بواجب. •••
إن ذكر الله، ونجوى اسمه عند السفر وحيال النازحين أمر قديم قد عرفناه وألفناه، والوصية بحسن الخلق وكرم السيرة عند السفر، وحيال النازحين أمر قديم قد عرفناه وألفناه، وذكر الوطن والوصية بعزته ومجده عند السفر، وحيال النازحين أمر قديم قد عرفناه وألفناه. لكنا لم تألف قبل هذا الأمس القريب تلك الدموع الغالية ترسلها تلك العيون، وتلك الزفرات تفيض بها صدور يملؤها الحنين، لم نألف مرأى عرائس النيل المخدرات ينزحن في سبيل العلم والوطن.
إيه يا فتياتنا، إن الوطن المتحفز للحياة يرسل أبناءه في سبيله جيلا بعد جيل، فتفنى الأجيال لرفعته، وهو خالد، ويرقى على مجهودات أبنائه التي تتكدس تحت قدميه وهو صاعد.
إيه يا بنات النيل سلام عليكن ما حفظتن للنيل عهده. وأديتن الأمانة وشرفتن الكنانة.
سلام كليكن ما قدرتن الشرف والوطن، وإن الوطن بمن فيه من فتيان وشيب فداء لشرف فتياته وأمهاته. •••
لا تنسين تلك الأوراد التي قرأها، لكن الأمهات قبل أن تبرحن أرض مصر. ولا تحقرن تلك التمائم التي أوصاكن بها أمهاتكن الطيبات الصالحات، واتلون تلك الأدعية التي أوصيتن بتلاوتها!! أتدرين ماذا تفيد تلك الأوراد، ولأي شيء ترمز حقا تلك التمائم؟
إنها ستصرخ في آذانكن، بأنكن من قوم لهم ماض وتقاليد وإن للماضي عليكن إن تطورنه، ولكن لا تحقرنه. •••
يا فتياتنا المبعوثات من مصر ولخير مصر، إنكن ترسلن إلى بلاد طالما حاكى نساؤنا نساءها فيما لا ينفع، فحاكينهن أنتن فيما ينفع، وأقدمن إلينا بما يفيد.
قد نقنع منكن بالقليل من العلم الناضج الصافي، ولكن لا نرضى أن تقدمن إلينا إلا بالكرامة كلها، وبالشرف كله، فارجعن به كاملا، أو متن في سبيله.
حول الديمقراطية
لصغار اليوم ورجال الغد
القاهرة في 7 من نوفمبر سنة 1925
يوم الخميس، أمس الأول، كان على أن ألقي درسا في مدرسة المعلمين، وفي ساعة يعقبها انصراف الطلاب إلى دورهم. وما هو إلا أن ألقيت درسي حتى انحدرت إلى منزلي من غير إبطاء. وبينما أنا في طريقي مسرعا. إذ حانت مني التفاتة عند مدرسة المنيرة الابتدائية، فوجدت سربا من صغار التلاميذ يحومون حول شاب طويل القامة، رث الثياب، قاتم اللون، يتحرك بينهم حركات تنم عن ضجر، دون أن تبدو على وجهه الأشعث الأغبر علامات الغضب؛ بل كان يبدو في ثنايا سحنته المظلمة البائسة شيء من العطف غير يسير. وكأن هؤلاء الصبية يحومون حوله كما يحوم النحل حول شجرة باسقة، ولأصواتهم أزيز يشبه أزيزه، ويرسلون أكفهم الصغيرة لشيء بين كفيه الضخمتين القويتين إرسال من يريد أن يخطف شيئا عز عليه أن يناله. •••
مر بنفسي خاطر من السوء نحو هذا الفتى الوضيع طبقة في عرف الناس، ودفعتني عواطف أبوية؛ بل دفعتني مهنة المعلم إلى أن أقصد إلى هذا الجمع من التلاميذ لأتبين سره وغايته، وأعمل عندئذ بما يوحيه إلي واجب المرشد إزاء ما يستجلي من أمر.
لما تقدمت إلى الجمع صاح الفتى «الديموقراطي» بصوت أجش: إنها مئتان!! مئتان، قد نفدتا في هذا المكان. والله إنها مئتان! وأصوات الصغار تردد مقاطعة: هات واحدة؛ بل هات واحدة. إن لم نأخذ منك ولا واحدة!
ولما رآني الفتى مقبلا عليه مد إلي يمينه من فوق رءوس هذا الجمع بشيء مما معه، فتبينت إذ ذاك أنها كراسة بيضاء عليها إعلان لإحدى دور الصور المتحركة، وأن الصغار يتهافتون ليصيبوا من هذه الكراسات التي توزع بلا ثمن، وأن الفتى المنكود المكدود يقوم بما سخر له من توزيع الإعلان بذمة ونشاط. •••
حينئذ بدد ضياء الحقيقة ما هجس في خاطري من سوء الظن، وفاضت نفسي بعطف سابغ حول هذا الجمع البريء، وتمنيت لهؤلاء الصبية الصغار الذين هم عقول المستقبل، وضياؤه وعدته، أن يدنيهم هذا المستقبل من ذوي الأذرع العاملة المنتجين، فيلتفوا حيال الديموقراطية، إيمانا بما عندها من خير وثمر، كما يلتفون اليوم حول واحد من ممثليها التعساء، ويتخاطفون بغبطة ما تمده إليهم يده المنتجة العاملة!!
فكر سجين
القاهرة في 28 من نوفمبر سنة 1925
بعد يوم كد فيه الذهن ونصب، وبعد ليل قضيت بعضه في حوار عنيف، يثير في النفس هما، ويغريها بجهود. عدت إلى داري بنصيب من الحمى، لا أدري أهو عند أهل الطب ما يسمونه حمى الأوصاب، أم هو ضرب من ضروب الاضطراب؟ تلقيه إلى جنبات هذا الجسم أمواج في النفس، فتظهر ما في قرارها من عناصر الألم، والاشمئزاز، والثورة علي ما يغيظ ويوجع من حوادث هذا الوجود. •••
عملت الحمى عملها من العبث براحتي، وصدت النوم عن جفون كانت في حاجة إلى أن تنطبق عليه. ولبعض أنواع الحمى نسيج من الذكريات والتفكيرات طالما تشابهت مع ألوان من الهذيان، دون أن تكون عناصرها حقا من الهذيان. لكنها أمور قد تكونت من آثار الحياة الواقعة، وتسربت إلى أعماق النفس، ثم توارت في هذه الأعماق، واستكنت فيها زمنا والعقل في غفلة عنها، ثم طففت تحت تأثير عارض من الأعراض وكثيرا ما تعين بعض أعراض الحمى علي ظهورها، وكثيرا ما يكون القلم الدقيق أداة لاقتناصها. •••
كان أول ما شعرت به طافيا في النفس بعد غفوة من غفوات آخر الليل شبح الحرية، وصورة الحياة الحرة، واستدعت تلك الصورة معها ما قد يعتور الحرية من عقبات، تحول بينها وبين عشاقها وأنصارها، فظهرت أمامي تلك القيود التي تشد القلم وتثنيه عن الكتابة فيما يذهب إليه، ومثلت أمامي تلك العقد التي تعقد اللسان وتلويه دون قصده من الحديث فيما يريد، وصورت أمامي تلك الحواجز والاعتبارات التي طالما حالت بين الإنسان وبين ما ينزع إليه من أقوال وأعمال.
وما كان أفظعها من صور، وأنا في الليل وبين الوحدة والهم والألم!!
حوادث تمر علينا سراعا والحياة تمضي سريعة، فوددت لو ظفرت بالأسباب التي تهيئ لي أن أسجل عن تلك الحوادث رأيا. لكن ما في النفس من رأى يحتبس كما تحتبس الزفرات في عين المغيظ. •••
تركت فراشي وأشعلت النور، وتحولت إلى حيث تكون الدواة والقرطاس، وجلست جلسة المتحفز للكتابة، وقلت في نفسي لن تثنيني قيود الوظائف، ولن تثنيني آراء الناس عن أن أكتب، وأن أتكلم، وأن أذكر ما يختلج في نفسي، وأن أظهر ما انطوى في الضمير، ثم أخذت في الكتابة، وكان القلم مجدا مسرعا في كلمات تحوم حول ذلك المعنى: لم تقيدون الحرية ولا تحلونها ولا تشعرون بخيرها وبركاتها، وهى تسير في الأمم سير الحياة في النبت الزاهي، فتجعل في الوجود ابتساما؟
وبعد أن مضيت في الكتابة علي هذه النغمة عدت، فتذكرت أن للجرائد قيودا، وأن للكتابة قيودا، وأن ما أريد أن أكتبه قد يدخل في دائرة تلك القيود القاسية، فمزقت ما كتبت وعدت إلى سريري، ثم قلت في نفسي: سأعقد اجتماعا لأتكلم، وسأسير بلساني في المجالس، فأذكر ما أريد أن أذكر، وأبشر بما أريد أن أبشر به، وأدعو إلى ما أريد.
على أنني تذكرت أن في المجالس عيونا طالما سعت بالناس إلى الشر، وطالما أساءت إلى البريئين من حيث لم يكونوا يحسبون لها حسابا.
رباه، ولكن في النفس آراء محتبسة تريد أن تجد لها في الخارج متنفسا، والخارج وا أسفاه تملؤه الحواجز والعقبات وتحده الحدود. •••
ثم أخذت أحاسب نفسي، وأقول أهو حرص على مالي، أم هو حب في منصب، أم هو اندفاع في سبيل لذائد الدنيا، أم هو خضوع لحاجاتها وترهاتها، كل ذلك ألهانا عن أن نسير في الآفاق لتلمس الحياة الحرة حيث تكون.
ثم قلت في نفسي: إني أصبحت قادرا على أن أباعد بيني وبين كل شيء، وأن أترك كل عزيز، وأباين هذه الدنيا، لكني تذكرت أربطة ذهبية ثقيلة تربط رجلي، وتجعلني أحن إلى حياتي التي عليها وفي سبيلها ألين. •••
شعرت بضعفي الجسمي، وبالحرارة والاضطراب، وبالأفكار المحتبسة تضغط صدري، وكان الفجر على وشك أن يحين، وفي أفق السماء نجم متلألئ كأنه يشير إلى أن لا حرية في هذه الأرض، وكأني كنت أخاطبها قائلا متى يا كواكب السماء وأنت تبدين لأبصارنا منيرة، ولآمالنا رموزا لعوالم لا يشوبها الفساد، متى يا نجوم الليل تطلق نفوسنا السجينة من سجونها وقيودها ونعيش في عالم مرتفع حر شبيه بعالمك السماوي المنير؟
صورة من صور النفاق
القاهرة في 5 من ديسمبر سنة 1925
على شفتيه ابتسامة وأسارير وجهه مشدودة، ليبدو منها لون من ألوان الإشراق، ويلوح على محياه طلاء من البشر. لكن في قلبه سواد، وبين جنبيه عتمة وسحاب، وفي صدره إفراز من الخبث، ينفثه في حديثه كما تنفث الأفاعي سمومها في الماء النمير.
هو في ساحة الأمير يدعو للأمير بالنصر والتأييد، ويتشدق بمظاهر الحب والولاء، وهو في حضرة الوزير يقول: لقد انفرد مولاي بالإصلاح، ولم يتخذ لأعماله إلا مدارج الفلاح، فإذا هوى عن ساحة الأمير، وانحدر عن حضرة الوزير، أخذ يهجو مع الهاجين، وينتقد مع الناقدين.
قد تجده أحيانا يختلف إلى القهوات والمجالس ليختلط بمن لا يحب ولا يتفق وإياهم من الناس فيسايرهم، ويلاين في القول كأنه في اغتباط، وتحول أضواء ابتسامته البراقة بين فراسة محدثيه وبين أن يروا ما ظل في أعماق نفسه مستورا.
تلك هي صورة المنافق الذي يبدو في الحياة بلونين، ويتشبه بشبهين، ويبدو ظاهره مغايرا لباطنه.
يقطع المنافق في هذه الحياة ما شاء الله أن يقطعه من العمر، زاعما أنه عاش طوال هذه السنين حقا، وينسى أنه في وقت نفاقه حين يظهر النفس على غير حقيقتها وسجيتها، يحكم على نفسه بالإعدام؛ وذلك لأن شخصه الصحيح المطبوع قد يتوارى عن الوجود أثناء مظهر شخصه المعتل المصنوع، الذي يبكي بينما يريد الشخص الحقيقي أن يضحك، ويمدح بينما يريد الشخص الأصيل أن يقدح، ويضمر بينما يريد الشخص المطبوع أن يذيع ويظهر. •••
يحسب المسكين أن نواحي الحياة الاجتماعية، لا يلتئم وإياها إلا بعض المواقف التي يظهر فيها المرء على غير فطرته، وينسى أنه ومن على شاكلته هم الذين يهيئون في الحياة الاجتماعية تلك النواحي التي قد يفوز فيها المنافق، ويدحر فيها الصادق.
وقد يقول لك أحيانا على نحو ما يقول بعض علماء النفس والاجتماع: إن حياة الجماعة قد تقتضي في كثير من شئونها بالضرورة أن ينزل الإنسان عن بعض شخصيته ويرائي ويداجي، لكن يفوته أنه ينبغي للإنسان ألا يقنع بكل ما في هذه الحياة الاجتماعية على ما هو عليه، ولكن يجب على الإنسان الرفيع أن ينظر إلى الحياة على ما ينبغي أن تكون عليه.
قد يكون من أخلاق البهائم أن تسير على السبيل المطروق، وتنتحي النحو المهيأ، لكن من خلق الإنسان الممتاز أن يستكشف في حياته سبلا غير التي تألفها الجماعات والأحشاد المنحطة، وأنه يرى في أفق هذا السبيل كوكب الكمال متلألئا لامعا.
حياة الإنسان هي شخصيته، وشخصية الإنسان هي مجموعة ما انطوت عليه نفسه من آراء، ومشاعر، ودرجات من النشاط، وحياة الإنسان هي غاية لنفسها وليست وسيلة لشيء مجمع على حقيقته في هذه الحياة.
فلماذا إذن يغير الإنسان ما في نفسه من أفكار لأفكار أخرى؟ ولماذا يستبدل بعواطفه التي تشبعت بها سجيته عواطف أخرى، ولماذا يزيف إرادته التي تلتئم وطبيعته وعواطفه ويتخذ إرادة مغايرة لها؟
أيها المنافقون: اعملوا على أن تظهروا على حقيقتكم، وكونوا كما أنتم، وعيشوا بوجدانكم، فذلك أحرى بأن يجعل لكم من الحياة حياة، وإلا فالنفاق يجعل بعض العمر نوعا من الموت، هو أحط أنواع الموت لو كنتم تعقلون.
صورة من صور التقلب
«مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء»
القاهرة في 12 من ديسمبر سنة 1925
زيد من الناس قد يكون ربعة القوام، يضرب لونه إلى الطين الطفلي، وقد يكون طويلا أو قصيرا، قاتم اللون أو أقرب إلى الدكنة، وقد يكون أبيض، وقد يكون على كل لون شئت، أو من أي مقياس؛ لأن نوع المتقلبين عديد الأشخاص كثير الوجوه.
لكن زيدا نبيه، يفهم ما يلقى إليه سريعا، ظريف؛ لأنه متناسب الخلقة والوضع، وقلما تغادر شفتيه الابتسامة الوديعة الهادئة. ليس بالمشغوف بالأدب، وهو على ذلك يحرص على حفظ أبيات من الشعر وبعض أمثال، وكلها لا يعدو المعنى الذي تستطيع أن تخرجه من ذلك الشطر: «ودر مع الدهر كيف دارا» فكأن الأصل في فلسفة زيد هذا وثقافته أن يعلم المرء كيف يتقلب ويدور. •••
كان من الذين متوا إلى الحزب الوطني بسبب يوم كان لرجال ذلك الحزب الصولة والدولة. وكان مع الوفديين في وقت ما، وقد أكل خبزا وملحا مع الديموقراطيين، وتعاقد مع الدستوريين والتحم بالاتحاديين. لم يتصل بحزب من هذه الأحزاب إلا ساعة ظن أن لهذا الحزب شأنا ونفوذا، وقد يكون لرجاله كلمة ومقام! ما أكثر أنداد زيد في الدنيا من الذين يسيرون وراء مصلحتهم، أو من الذين يستخفون بالسلوك المستقيم وسننه، أو من الأخساء الذين يتعلقون بمن يقوى، ويفرون ممن ضعف.
على أن الذي يسليني من أمور زيد هو أسلوبه في محاوراته، وبعض أحاديثه ومداوراته، في وقت يحسب فيه أن دولة حزب من الأحزاب كادت تدول، وأن حزبا آخر كاد حاله إلى المجد يحول، أو أن عزيز قوم قد آن له أن يضمحل، وأن ينال مكانه رجل كان من الذين محيت أسماؤهم من الكتاب وآن لاسمه أن فيه، ويصير من النابهين.
في ذلك الوقت يقلل زيد اختلاطه بمن كان يلابسهم كثيرا من هؤلاء الذين آن للمجد أن ينصرف عنهم، وإذا جلس بالمجالس سمعته يقول: هذا بلد لا خير فيه وليس فيه الخير، وليس الخير فيه، والخير لا يكون فيه، وما إلى ذلك من عبارات مكررة ومعان واحدة، تكاد تبغضك إلى كل بلد، وتكاد تكرهك في كل جماعة وفئة.
وفي ذلك الوقت يشرع في أن يشد الحبل بينه وبين هؤلاء الذين كان قد ارتخى الحبل عندهم من زمن مضى، ويشرع في أحاديثه بذكر بعض حسناتهم التي كانت في رحمة الله منطوية وينتهز فرصة سانحة ليرافق صديقا لزيارة هؤلاء الذين سيصبحون عما قريب أولياءه ويصبح وليهم. وإنك لتعجب من جرأته عند ما يسوق لمن يحسبهم أولياء المستقبل القريب مظاهر الود وآيات التبسيط، ومن تحدثه معهم في شئونهم الحزبية كأنه واحد منهم ولا تدهش إذا سمعته يقول أمامهم ينبغي أن تكون خطتنا إزاء خصومنا هي كذا وكذا وأن تكون أعمالنا لإصلاح شئوننا هي كذا وكذا بصوت تملؤه الحماسة.
ولا تدهش من أمثال هذا يوم تراه أوتوقواطيا، ويوم تراه ديموقراطيا، ويوم تراه إنكليزيا، ويوم تراه وطنيا. ويوم تراه وليا. ويوم تراه عصيا.
هو كل شيء؛ لأن حكمته البالغة «ودر مع الدهر كيف دارا»؛ ولأنه يجد من الفطنة والذكاء أن يتخذ المرء لكل حالة لبوسها، إن المتقلب لا يقدر قيمة الحياة إلا بمقدار ما يكسبه الإنسان فيها من وجاهة المظهر، وزيادة الثروة، والتنكب عن العقبات، ولا أنكر عليه أن الوجاهة والرزق والراحة من الخيرات التي لا تهون؛ لكني أنكر عليه الجهل بأن في الوجود خيرا آخر اسمه الخير الخلقي، يتلخص في حسن تقدير الناس للناس، وفي راحة الضمير، وأن لذة هذا الخير قد تربى على لذة ما يطلبه من مال ووجاهة وراحة. •••
أنكر على المتقلب ما أنكر، وأعجب لأصحاب المبادئ كيف يلقى المتقلبون في رحابهم سهلا، وكيف يجدون في الحياة الاجتماعية أهلا.
أستغفر الله، قد تساورني الوساوس، فأقول: عندنا أما غافل يستخدمه المتقلبون، وأما متقلبون بالقوة والاستعداد، فهم يأنسون بالمتقلبين بالفعل والحركة.
سعادة الباشا أو صورة من صور التصنع
السبت في 19 من ديسمبر سنة 1925
من الناس من يهيئ له القضاء أسبابا ليتصف بصفات النبالة والشرف. فما يبطنه مما تخفي النفوس نبيل، وما يظهره مما تبديه الجوارح لطيف ظريف، وهؤلاء هم الأشراف حقا ولو لم يكونوا من طبقة الأشراف عرفا واصطلاحا.
ومن الناس من ينشأ فظا فيما يعلن، مرذولا فيما يسر، فتعاف مظهره ومخبره معا. فهو حقا من الطغام رغم وفرة نعمه، وكثرة خدمه، وحسن ثيابه. ومختلف ألقابه.
وذلك لأن النبالة الحقة صفة من صفات النفس، وإن مظاهرها من الحركات الخارجية لا تؤثر أثرها الصالح في الناس، ولا تقع وقعها الحسن إلا إذا كانت ترجمة مطابقة لما في النفس الشريفة من معاني الشرف وبواعثه. •••
وإليك وصف نبيل من نبلاء العرف، لم يجعله الله ليكون نبيلا، ولكن الزمان الأعمى حشره في زمرة ذوي الألقاب من أهل الشرف!
عرفت ذلك الباشا منذ كان طفلا، فكان يأكل كما تأكل الأطفال من أبناء طبقته، ويفرح كما يفرحون، ويحزن كما يحزنون، فيه وداعة البساطة، فإذا حزن ظهر عليه حزنه، وإذا غضب بدا عليه غضبه.
ذهب إلى المدرسة وجد واجتهد، وجاز عليه كل ما يجوز على التلاميذ من حيل، وفوز، وآمال، ومثوبة، وعقوبة. وبعد أن جاز دور التلمذة ارتقى سريعا إلى درجات أرباب المناصب المميزين، ثم حبي الرتب، ثم منح الألقاب. وخلاصة القول: إن صديقنا الطفل الوديع المتواضع حسبا وحالا أصبح شخصا آخر. أصبح مولاي الباشا ...
ومولاي الباشا تعلم من غير حذق كيف يهتز في مشيته معجبا، وكيف يحيي أقرانه القدماء من أصحاب «الحضرة» بنوع من البسمات الحائرة التي توهمك أنها تهبط عليهم من الأفق الأعلى، وكيف أصبح يحيي زملاءه أصحاب «السعادة» بنوع من الابتسامات المترققة المتظرفة التي لا تطابق في صناعتها صناعة الله لوجهه القاتم وشفتيه الغليظتين!
أصبح لمولاي الباشا بطن، ولقد كان رفيقي الطفل لا بطن له، وأصبح صوت سعادته يتشعب عند خروجه، فبعضه يخرج من الأنف الشامخ، وبعضه يخرج من حلق مقبوض العضلات، وقد تسمع من صوته المتوزع بين نبرات الغرور، والادعاء، والتعاظم، رنات تشبه نغمة التؤدة والرزانة والوقار، كان مولاي يوهمك في تباطؤ أن كلماته ذهبية تتثاقل في تتابعها لما فيها من النفاسة والحكم ...
أين ذلك الصوت الماضي الذي لم يكن فيه تكلف ولا صناعة، وكان يخرج كأنه حديث القلب السليم؟ وأين تلك المشية الخفيفة التي حلت مكانها المشية المتثاقلة؟ وأين ذلك الاطمئنان والسكون الذي كان لعضلات رقبته ووجهه، فحل محله التقلص والتصعير؟ وأين ذلك الهندام البسيط، وقد حل محله نوع من الأناقة والتجمل، لا يتناسبان وسحنته البغيضة. •••
أشفق على مولاي الباشا أن تعتاد حنجرته وأرجله وعضلاته ونظراته ما لا يلائمها من الطبع، ويصبح مثله مثل الذي يدع صنعه الذي يليق به ويشاكله، ويطلب غيره فلا يدركه؛ ولذلك أعيد عليه ما قرأه وقرأناه في كتاب «كليلة ودمنة» في باب «الناسك والضيف» «زعموا أن غرابا رأى حجلة تدرج وتمشي، فأعجبته مشيتها، وطمع أن يتعلمها، فراض على ذلك نفسه، فلم يقدر على إحكامها، وأيس منها، وأراد أن يعود إلى مشيته التي كان عليها، فإذا هو قد اختلط، وتخلع في مشيته، وصار أقبح الطيور مشيا.» ... •••
مولاي: خفف عن نفسك غلواء شخصيتك الموهومة، وكن كما أراد الله أن تكون عليه مما يلتئم مع شكلك، ومما يتفق مع ما راضك عليه آباؤك وأجدادك، واعلم أن من لبس ثوبا ضافيا فقد يتعثر، ومن لا يحذر مخاطر التعالي فقد يتدهور.
لعام 1926
الأحد في 3 من يناير سنة 1926
إيه يا عام، أقبل على الوجود كما أقبل عليه غيرك. فإنك قد تلقى في سماوات الصباح شموسا نيرة، وفي سماوات الليل نجوما متلألئة. وقد تجد كما وجد غيرك زهرة تتفتح عن أريج تنشره عطرا في الصبح إذا تنفس. وقد تجد كما وجد غيرك طائرا أنيقا يستقبل فجرك بالتغريد. وقد تجد عبدا من عباد الله ناسكا يحييك بدعوات وصلوات. وقد تجد نواة في جوف الأرض تتمخض عن حياة. وقد تجد حياة في داخل الأرحام تتحفز للوجود. وقد تجد فكرا في داخل النفوس يتوثب للظهور، وعواطف في حنايا القلوب تفيض حبا وحنينا. •••
ولكن ... ولكن قد تجد أيها العام مع مظاهر السعادة، والنور، والحياة، خليطا من مظاهر الشقوة، والظلمة، والعدم.
إن رأيت على الأرض زهورا، فقد ترى على الأرض قبورا. وإن رأيت شفتين انفرجتا عن الابتسام، فقد ترى شقين شدا من سقام وآلام. وإن تسمعت من بعض الأفئدة حنينا، فقد تسمع من أفئدة أخرى أنينا. وإن وجدت في ناحية من نواحي الأرض عدلا ورحمة، فقد تجد في بعض نواحي الأرض ظلما ونقمة، وإن وجدت بطونا تدفع فقد تجد أرضا تبلع. وإن وجدت في ناحية من الربوات عيون النرجس يبللها الندى، فكم تجد من عيون سليمة تبللها الدموع. •••
ولم أشأ يا عام أن ألقاك، كما يلقاك الشباب في المراقص والأفراح، بين قبلات طاهرة، أو قبلات فاجرة، ولم أشأ أن ألقاك يا عام في مجلس الصهباء بين قرع القوارير، أو رنين الطاس والكأس. ولم أشأ أن ألقاك يا عام حيث يفزع العبد لمولاه، وحيث يستغفره ويترضاه. وآثرت أن ألقاك في الأمس الأول في غرفتي وحدي، وبين حيطان أربع؛ لأتحدث إليك في انفراد، وأحاسبك في نفسي عن غير غل، أو عناد.
شعرات بيضاء أخذت تنبت في الرأس، وبعضها يتجه نحو الأرض، وبعضها يتوجه للسماء، رمزا إلى أنك أيتها الأيام تدنين الخلائق إلى أصولها في الأرض وفى السماء!! وأعصاب تراخت! وعضل قد تصلب! وعظام يبست! وفى سبيل الخير ضعف العصب والعضل والعظام.
لكنك أيتها الأيام وإن استطعت النيل من جسومنا، فقد صان لنا الله من عبثك العرض والكرامة، فارحلي عنا بما ترحلين، وأقدمي علينا بما به تقدمين، فلا حقد عليك لما تسلبين، ولا خوف ولا رجاء مما وفيما تحملين.
إيه يا عام، لقد تولد في مجراك نفوس بريئة غافلة عما تخفيه لها لياليك، جاهلة بما تحفظه لها أيامك، وإذا بك وأنت تعمل خلف بسماتك الماكرة لتخفي لتلك النفوس البريئة في مكامن السبل طوالع النحس، أو طوالع السعود.
فكم من الناس زهت لهم الأماني، وتلألأت لهم الآمال، فخدعتهم عن تلك الأماني، وأطفأت أمام أعينهم نور الآمال!! وكم من الناس حولت لهم العيش المنكود نعيما، وأحلت لهم النار بردا وسلاما.
فيا أيها العام: إن غرك سلطانك، وإن كبر لديك في نفسك شأنك. فاذكر حكمة سليمان «باطلة الأباطيل، وكل شيء غير الله باطل».
عند أطلال طيبة
القاهرة في 20 من مارس سنة 1926 (1)
انتقلت مع فريق من طلاب مدرسة المعلمين من مدينة الأقصر إلى الشاطئ الغربي للنهر المبارك؛ لأرى ما أبقى الدهر من معابد ومقابر، ولأطوف طوفة حول ما أبقى الأوائل للأواخر، فقطعنا طريقا ممدودة بين حقول من العدس والحنطة، ومما ينبت النيل العزيز. •••
كان يحد النظر جبل «القرنة»، وهو جبل جيري غير مرتفع، تواترت عليه مؤثرات الأكوان والأزمان، فاغبر لونه، ويكاد الناظر يراه أفقيا. وكنا كلما دنونا منه بدا للطرف تمثالا «أمينوفيس» كالأشباح الهائلة يشقان من الفضاء إلى السماء شقا سنجابيا يتقيد عنده البصر، ولقد خيل إلي أن التمثالين العظيمين إنما نصبا للإشراف على هذا الفضاء الواسع؛ وليملآه رهبة وعزة، ويستوقفا كل من يمر بهما ليحييهما قائلا:
سلام عليكما أيها الشاهدان على عز غابر، وبأس حاضر، لقد تعاقبت عليكما الليالي والأيام، وتخلفت عند قدميكما الحقب والأعوام، وانصبت فوق رأسيكما أضواء الشمس الضحوك وعتمة الظلام. سلام عليكما، لقد هبت في وجهيكما لوافح الرياح، وتبللت عيونكما بطل الصباح، وابتسم الدهر تارة حولكما في هذه الديار فعمتها العظمة، وقطب حاجبيه لها تارة أخرى، فتوالت عليها المحن والنقمة. كل ذلك وأنتما صامتان لا تتحركان، تشعران بعظمة كانت ثم مضت، وعزة تولت وانقضت. وماض جد عظيم، وتاريخ، ثم مقيم.
سلام عليكما من كل عابر، ومن كل ذاكر. •••
ثم تذكرت في سبيلي إلى زيارة الآثار أنني منذ بضع سنين، قد قطعت طريقا في بلاد اليونان لمعابد «دلفوس »، يقرب شبها من الطريق الذي قطعته في الأسبوع الماضي، وينتهي ذلك الطريق الذي يتلوي ويهبط، ويصعد بين مزارع الأعناب والزيتون إلى واد سحيق، وجبل صخري منعزل، كانت شيدت عنده بيوت آلهتهم ومنازل السحرة والناسكين فيما سلف.
ثم تذكرت، والذكرى تبعث الذكرى أديرة الرهبان النائية، وصوامع المنقطعين للعبادة النازحين، فمر بخاطري عندئذ أن أنظر بين عهدين من عهود التاريخ. وحالتين من أحوال النفس البشرية، مر بخاطري أن أنظر بين العهد الغابر، والعهد الحاضر. وبين النفس المتصلة بالملأ الأعلى، والنفس المتصلة بشؤون الدنيا.
لقد كان العهد القديم يعني بالمعابد والقبور؛ لأنه كان عهد الله وعهد الأديان، فتخير لآثاره ومشيداته كل مكان تكتنفه الرهبة، وقصد إلى كل ناحية تشملها السكينة والقرار والهيبة. وحيث وجد المكان منسجما مع نزعته الربانية، شاد لدينه وآخرته، وأعرض عن دنياه.
أما العهد الحديث فهو عهد دنيوي، فقد جعل آثاره في المصانع والمتاجر، وشادها حيث تسهل المواصلات، وتقضى الحاجات، وتدر الأموال، وتكثر الأعمال، فحيث وجد المكان والزمان ملائما لإبراز نزعته المادية من مصالح الحياة، شاد للأرض وعمر، ونسى ربه في السماء وتكبر.
ولو جاز لنا نتنبأ بأمر المستقبل، لقلنا ستكون آيته المصنع والمتجر، وأما الماضي فآيته المعبد والمقبر.
أن نفس الإنسان الذي مضى كانت تهيم بعالم البقاء، وتعاف الفناء، وأما نفس الإنسان الحاضر فإنها أعلق بعالم الشهادة، وأدرى بالمنافع، وألصق بالواقع.
إنسان الماضي سماوي، وإنسان الحاضر أرضي، فهل حقا هبط آدم وأبناؤه إلى الأرض من السماء؟! (2)
الكرنك ... وذهبت في ليلة مقمرة إلى معبد الكرنك. وفى الليل تطيب التأملات، وفى ضوء البدر المنتشر في السموات والأرض ما قد يأخذ بالنفس العانية إلى نوع من الارتياح والانشراح، وبين الأطلال البالية حيث تصيح البوم صيحاتها، وتئن أناتها، ما قد يوحى إلى النفس خشية الوحشة، ورهبة العدم، وبين الأروقة الواسعة، والعمد الضخمة المرفوعة، والتماثيل الموضوعة والأفنية المنبسطة التي تسمع من خلالها دبيب هوام الأرض وخشاشها، ما قد يدعو إلى سكينة في النفس، واحترام يخامره الإعجاب والدهشة. •••
هناك في تلك الليلة البيضاء بين تلك الأروقة، وعند تلك الأعمدة، وفي هاتيك الأفنية، شعرت نفسي بحاجة إلى التأمل وحالة من الارتياح، والهيبة وتقدير العظمة. وقد يفعل هذا المزيج من الانفعالات فعل السحر أحيانا. وما السحر إلا ذهول المرء عن الحقائق، فتؤخذ نفسه بغير الواقع، وتتصل بضروب الخيال، وتلابس الظنون والأوهام، فيرى ما لا ترى العيون، ويسمع ما لا تسمع الآذان، ويحس ما لا تحسه المشاعر. •••
كثيرا ما يشعر المرء بأثر السحر عند منظر جميل أخاذ، أو عند نغم مستطاب شجي، أو عند رؤية ما يروق من مظاهر الكون، أو آيات الفن، لكن أثر السحر يختلف باختلاف علله وتباين أسبابه. فتأثير الهياكل والآثار في النفس لون من السحر، يغاير في نوعه تأثير الأغاني والألحان؛ وذلك لأنه يرد النفس إلى الماضي البعيد، فترى العين بعين الغابرين، ويستحيل الذوق إلى ذوق البائدين؛ وذلك لأن كل أثر من آثار التاريخ قد يستبقي فيما أبقاه عبقرية من شادوه، وذكرى من أقاموه، وحس من هيئوه، وإن شئت فقل خلاصة تاريخهم الناطق، وإن شئت فقل أرواحهم الحائمة. وقد تجتاز هذه المعاني جميعا نفوس الزائرين، فتتأثر بها فتصيرها لحظة من جوهر غير جوهر الحاضر، وتنحرف بها عن تقدير الحال فتنساه، ولذلك قد يرى الإنسان عصرا غير عصره، وينظر بنظر غير نظره، ولعل السر كل السر في زيارة الآثار، أن يتعلم الزائر كيف يستغرق بشعوره في شعور الماضين، ويتمثلهم زمانا ومكانا.
ولقد اختبرت في نفسي فيما مضى أثر الفن اليوناني القديم في وقفة وقفتها ب «الأكروبول» في ليلة قمراء، فكنت أحسب أن الأعمدة المنحوتة من المرمر المسنون، وبقايا التماثيل والأحجار التي ينساح عليها الضوء الفضي الخالص، كلها تبسم، وكأني كنت أرى أشباحا من البشر الضحوك تصب الخمور، وترسل الأنغام، وتدير المراقص، وتنشد أناشيد الجمال.
ومن نحو أسبوعين، قد اختبرت في نفسي أثر الفن المصري في «الكرنك»، فشعرت بالسحر في ساحاتك يا آمون، فخلت أن الكهنة بمسوحهم يحملون السفن المقدسة، ويطوفون ويرتلون ويتمتمون. وخلت أن عظيما من «الرمامسة» تتزلزل الأرض لجبروته، وتتلألأ السماء فوق عرشه، ويصيح بالناس وهم سجد خشوع، أنا ربكم، ولي أرض مصر، ولي فيها الحصون والخلود. •••
إيه يا مبيد السالفين، يا رب العالمين. إيه يا حقيقة فوق الحقائق، ويا ملء الآفاق ومبدع الخلائق. إن يكن الإنسان وهو ذلك المخلوق الضعيف الذي توزن كلماته، ويحد زمانه، ويقاس مكانه. ليس في مقدوره إلا أن يلهج بعظمتك حقا في معبار حروفه، وقدر زمانه، ومحدود مكانه، فصورك أحيانا من منحوت المحاجر، وشاد لمجدك العمائر، وصاغك من صلب المعادن، وشكك من باسق الأشجار، وتطلع إلى وجهك في إشراق الشموس والأقمار، ودعاك بأسماء مهما اختلفت مقاطيعها وعباراتها، فما هي إلا موجات من موجات الاهتزاز، فأنت أنت وإن تباينوا في تعيين صفاتك وأسمائك أنت أنت رب الأرباب، الذي تشعر النفس ساعة صعودها وصفوها بعظمته وربوبيته، وأبديته وسرمديته. •••
وكان ضوء القمر الفضي مموها بشيء من زرقة «الجرانيت»، وكنت أكاد في ذهولي لا أشعر إلا بمعاني العظمة والجلال. ولكنها التفاتة بدت مني إلى السماء الواسعة، إذ كانت الشعرى تتلألأ في كبدها، وتتوهج، فكانت كأنها كلمة الله الأعلى تقول لمن سحرته عظمة فرعون وفتنه فنه: إن عظمة الله في السماء فوق كل عظمة، وفنه فوق كل فن.
أيام العيد الفائتة
القاهرة في 17 من إبريل سنة 1926
هي أيام كتلك التي تأتي بها دورة الفلك، فتطلع فيها الشمس في متنفس الصباح، وتغرب فيها كذلك عند مقدم الليل وحلول الدجى.
وهى أيام لا يصيب فيها الأرض إلا ما أصابها من الخضوع لسنن الوجود.
وهى أيام لا تتخلف فيها تلك القوة العظيمة التي تشد الأرض في مدارها حول الشمس، وتدفع حول الأرض تابعها القمر.
وهى أيام لا يفتأ فيها الندى، يتساقط على كؤوس الزهر، وتجري فيها الجداول بين الحقول النضرة، وتغرد فيها الطيور على أفنان الشجر.
وهى أيام قد تتحرك فيها الأصداف، وما فيها من لؤلؤ دفين بين طبقات اللجج، وقد تتحرك فيها الدموع على عزيز طوته الغبراء في أحشائها.
فهي أيام شأنها إذن في عالم المحسوس، كشأن غيرها من الأيام. •••
لكن في نظام الكون عالما معنويا يرى بعين غير التي ينظر بها إلى ذلك الوجود المحسوس، عالما لا يخضع لقوانين الأفلاك إذا هي تدور، أو إذا هي تمور، ولا لقوانين الحياة والأحياء. إذا هي تنمو أو تحور عالما لا يخضع إلا لقوانين القلوب، إذ تذكر وتشعر، أو تظهر وتضمر. ولقوانين النفوس إذ تميل وتنفر، وتتمنى وتقدر. •••
وفي تلك الأيام التي يصطلح الناس على تسميتها أيام العيد، يتجلى منظر واضح من مظاهر تلك القوانين النفسية، قد ينتهي عند تحليل ما يتصل به من طقوس ورموز وأدعية وصلوات إلى صنوف من الذكريات، وألوان من الآمال، وضروب من الانفعالات، تلفح ريحها الأفراد والأمم، وقد تفعل فيهم فعل السحر، فتخرجهم عن طورهم المألوف، فتصبح أيام العيد كأنها غير سواها من الأيام، وكأن شمسها غير الشمس ونسيمها غير النسيم. •••
ولقد مرت علينا سنون - طيب الله ذكرها من سنين - كان فيها القلب باسما، والبال ناعما، فكنا نشعر بقانون العيد كما يشعرون، ونلبس له الجديد كما يلبسون ... ولكن ... الفلك سيار، والزمن جبار، فلا هو يبقي الغصن لينا رطيبا، ولا هو يبقي القلب للسرور خصيبا.
فأين أنت يا أيام النفوس الفتية، ويا ليالي الصبا الهنية، أين؟ أين أنت وقد كنت تجودين على القلب بخصائصك من بحبوحة السرور، وعلى الذهن بسعة الخيال، ولذائذ الأحلام والآمال. وكنت تجودين بجميل الذكريات. وكنت تجودين بملء الضحكات، وكثرة البسمات. وكنت تجودين بأحاديث الأنس والجمال.
أين أنت يا تلك الأيام، أيام العيد، التي كانت تشرق شموسك دون أن تمر أضواؤها بسحب متلبدة، وغيوم متعددة!.
وأين أنت أيها البصيص من النور الوهاج والأمل، الذي كان يحفز الهمم القوية للنشاط والعمل. أين؟!
سلام على ما مضى وفات، ونظرة رجاء لما هو آت. وليبارك الله للزهرة المتفتحة في أيامها وأعوامها، وللصغير الناشئ في جديد ثيابه، وفى عطف أحبابه، وليغمر بفضله محيا الناس بالسرور، وقلوبهم بالنور. وليسبغ على نفوسهم أسباب الوئام، وليهيئ للأمة في سبيلها الرشاد والسلام.
التسامح
القاهرة في 19 يونيه سنة 1926
في هذا الوقت الذي يحل فيه كدح العام وكده على الجسوم، وتقع فيه ضروب من الأوصاب على العضل والأعصاب؛ بل في هذا الوقت الذي قد يشتد فيه القيظ أحيانا، فتذبل الزهور على العيدان، ويشرد فيه الكرى عن الأجفان؛ بل في هذا الوقت الذي قد تعرض فيه لنوابنا الكرام ألوان الآراء، ويطلب إليهم أنواع الإفتاء؛ بل في هذا الوقت الذي يذهب فيه الفحول من شيوخنا مذاهب الجدال، وتظهر في مجالسهم مظاهر النضال؛ بل في هذا الوقت الذي تضجر منه النفوس، وتسأم، فتهيج من الجليل، وتهيج من القليل. أقول: في هذا الوقت يطلب إلى عزيز علي أن أتحدث إلى القراء في معنى التسامح - وآه لولا التسامح وبلسمه الشافي؛ لالتهبت النفوس من كل مجادلة، أو من كل مبادلة، ولولاه لجرحت نفوس الناس من التشاد، وتورمت أفئدتهم من الأحقاد، ولولاه لتقطعت أوصال المحبين، وتفرقت جموع المتواصلين، فهو نعمة لولاه لما ظل الخير بين الناس.
ولقد يكون للتسامح غدة روحية، جعلها الله في القلوب لتفرز فيها عصيرا طاهرا، يرهمها كلما قرحت من أمور الحياة الاجتماعية وشئونها القاسية، ولقد يكون التسامح أدنى الخلال بجدارة ابن آدم الذي سواه ربه وسوى معه ضعفه ونقصه.
يقول أهل الأخلاق: إذا كان من حق الإنسان أن يقيد نفسه، ويربط عقيدته بما يبدو له حقا، وأن يميل عما يظهر له باطلا، فمن واجبه كذلك حيال غيره أن يحترم آراء هذا الغير فيما يبدو له حقا أو باطلا دون أن يلزم بالاقتناع بحقه، أو مطاوعته في باطله. ولا يقصر الأمر في احترام رأي الغير على الرأي المستكن في النفس، أو الملابس اللينة، وما تخفي الصدور، لكنه يتناول مظاهر هذا الرأي من قول ينطلق من النفس انطلاقا إلى الحياة الظاهرة، أو من عمل يتحقق به أمر من أمور هذا الوجود على أن يكون هذا القول، أو هذا العمل غير متعارض وحق الغير، أو معطل لمسعاه.
ويقول أهل الأخلاق أيضا: ينبغي ألا يتخذ الإنسان وسائل العنف، ولا يستخدم ضروب التأثير القاهر ليحول شخصا عن آرائه وعقائده لعقيدة أخرى، ولو كانت تلك العقيدة صحيحة سليمة، وما كان عليها ذلك الشخص معتلة سقيمة، لكن لكي يأخذ أحدنا غيره إلى رأيه ينبغي أن يسلط عليه الحجة برفق، ويرسل إليه البرهان متينا لينا؛ ذلك لأن الأدلة والحجج تعمل في النفوس عملها، ولو كانت مصفحة بالمكابرة؛ لأن الحق ضياء، والضوء جذاب بطبعه، والباطل ظلام، والظلام بطبعه منفر ممقوت مهما دفعت إليه الأهواء التي تطمس على البصائر وتعمي الأبصار.
قد يخيل للمرء أحيانا أن الاقتناع برأي من الآراء يحمل المقتنع به على الدعاية له بنوع من المغالاة، يمت إلى عدم التسامح، وقد يخيل للمرء أحيانا أن الذي يقتنع برأي ولا يبشر به بشدة، هو مفرط في حق عقيدته وإيمانه، مستخف بمبدئه ورأيه، لكن لو تأمل الإنسان قليلا لوجد أن الحرص على تأييد رأي صحيح لا يقتضي الشدة في وسائل ذلك التأييد؛ لأن خير مؤازر للحقيقة نورها الساطع، وإن الحق لشديد بنفسه، قوي بأثره وتأثيره.
ولطالما أدى التعصب لرأي من الآراء وعدم التسامح فيما عداه إلى القطيعة بين الخلان؛ وحسب الإنسان - لكي يتسامح - أن يذكر أنه مهما بلغ من الوصول إلى الحقائق، فإن جوهرها المطلق ليس في حيازته، وإنما هو في حيازة الله، وحسبه أن يتذكر كذلك أن بعض الحقائق التي تحكمنا ببراهينها، وتبهرنا بضيائها قد يسطع من خلفها نور يتضاءل عنده كل ما نرى من ضياء.
ولطالما أدى كذلك تمسك أهل النفوذ والسلطان والحكومات برأي من الآراء مع عدم مراعاة التسامح فيما يخالف هذا الرأي إلى تقسيم الأمم شيعا، وتمزيقها ألفافا، ورياضة بعض على الخنوع والذلة، وبعض على النفاق، وبعض آخر على الجمود. وسر عظمة الأمم في الإباء يبت في أفرادها، والصراحة تفيض بين بيئاتها، والتفكير الحر يعم رؤوس مفكريها. •••
والتسامح في درجة من درجاته فد يتشكل بصورة العفو عن بعض الزلات والذنوب، وصفة التسامح من الصفات التي ينسبها السادة أهل الدين والتقوى إلى الله واسع الرحمة الغفور. وقد أتخذ الأنبياء والصالحون من التسامح والعفو ما جملوا به شمائلهم، فاتصف بالتسامح موسى، وقدس التسامح عيسى، وعمل بالتسامح محمد حتى لقد ورد فيما يروى من الآثار الإسلامية أن رسول الله العربي لما قدم مكة، وضع يديه على باب الكعبة والناس حوله وقال: لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده.
ثم قال: يا معشر قريش: ما تقولون، وما تظنون؟ فقال قائلهم: نقول خيرا، ونظن خيرا. أخ كريم وابن عم رحيم، وقد قدرت. فقال الرسول: أقول كما قال أخي يوسف: لا تثريب عليكم، اليوم يغفر الله لكم.
وجدير بالمرء أن يذكر قول من قال:
وخذ من الناس ما تيسر
ودع من الناس ما تعسر
فإنما الناس من زجاج
إن لم ترفق به تكسر
فتسامحوا وتصافوا، إن الله يحب المتصافين المتسامحين.
للعام الهجري الجديد
القاهرة في 17 من يوليه سنة 1926
في ليالي هذا الأسبوع الأول من شهر المحرم رسمت على صفحة السماء أهلة؛ كأنها شقق اللجين تتزايد، ثم تتزايد حتى تصبح بدورا، كلما تقدمت ليالي الشهر إلى منتصفه، ثم تتناقص هذه البدور حتى تغيب، وهكذا تنشأ الأهلة، وتنمو في كل شهر عربي، وهكذا تتضاءل البدور وتضمحل وتغيب.
ولقد اعتاد الناس أن يستبشروا ببزوغ الهلال، أول كل شهر عربي، ويدعوا ربا طالما تقبل دعاء المستبشرين أن يهله بالأمن والإيمان والبر والسلامة، وأن يجعل الشهر مباركا عليهم، وعلى آلهم وعشرائهم ومن يحبون. •••
وفى هذا الأسبوع من هذا الشهر كم من دعوة عرجت إلى السماء من قلب يملؤه الرجاء، وكم من قبلة ساذجة طاهرة ألقتها أم رءوم على جبين ولدها وهى تنظر إلى الهلال باسمة مستبشرة، وكم من صديق نظر إلى وجه صديقه وفاض من عيونهما البشر بعد أن لمحا القمر الناشئ في الأفق، وإن وراء هذه الدعوات وإن حول هذه القبلات، وإن خلال هذه البسمات، قد يتجلى عطف الله على الناس ورحمته السابغة عليهم، والله يحب الآملين، ويرأف بمن يحسن به الظن من عباده، ولا يرضى عن القانطين منهم الذين لا يرجون ولا يتشوقون. •••
في الأخبار أن الله أوحى إلى داود عليه السلام أن أحبني، وأحب من يحبني، وحببني إلى خلقي، فقال داود: يا رب كيف أحببك إلى خلقك؟ قال: اذكرني بالحسن الجميل، واذكر آلائي وإحساني، وذكرهم ذلك، فإنهم لا يعرفون مني إلا الجميل.
وقيل ليغفرن الله يوم القيامة مغفرة ما خطرت على قلب أحد، حتى أن إبليس ليتطاول لها رجاء أن تصيبه.
وعلى ذلك نستقبل العام الهجري، ونحن نذكر الله ذا الآلاء والرحمة والإحسان. نذكره راجين الخير متفائلين طامعين في إحسانه وغفرانه، وما الحياة القيمة إلا بشر ورجاء وطموح للخير والعلاء. فأقبل أيها العام الهجري إذن على بركة الله ورحمته وحنانه، فالرحمة يا رب هي أحب صفاتك إليك، وحسن الظن بك أحب ما تطلبه إلى عبادك، وأنا لنرجو رحمتك، ونحسن الظن برحمتك ورأفتك، ونرجو عفوك عما سلف. •••
اعتاد الناس أن يهنئ بعضهم بعضا عند دخول السنة الجديدة، وليت شعري علام يتبادل الناس تلك التهانئ؟ ألأن عاما أضيف إلى العمر، فكان كأنه الحجر الجديد، يسمو به لتلك الحياة هيكلها؟ أم لأن العام الجديد مجموعة من التجارب تذكي النفس، وتعينها على أن تتكمل؟ أم يهنئ الناس بعضهم بعضا في مستهل الأعوام؛ لأن المرء يجتاز من سبيل العمر مفازة، فخرج من مخاوفها سالما، وقطع طريقا، فلم يضل فيها، ولم يك فيها من العاثرين؟ أم يهنئ الإنسان الإنسان بالزمن الذي انقضى من العمر، فأصبح ما سوف يتحمله الإنسان من سني العيش وأنصبه أقل عددا وأخف أحمالا وإثقالا؟!
لو أنصف الناس لحبسوا التهانئ على ما في الحياة من قيم، وإن عاما جديدا يفتح سبيله في عمر الإنسان العاقل الحكيم لهو نعمة من الله، قد يستفيد المرء من بركاتها، ويثقف بعظاتها، ويرفع النفس بتجاربها وآياتها. •••
إذا كان لنا أن نستقبلك أيها العام الهجري الجديد بنوع من أنواع العبادة عملا بوصية أهل التقى، الذين يستحب عندهم بناء السنة على الخير؛ لكي يكون ذلك أحب وأرجى لدوام بركة الله، فتقبل منا ربنا دعاء خالصا، نرفعه إلى وجهك الكريم مخلصين.
اللهم لقد قطعنا من العمر مراحل فيها كبونا، وزلت النفس، وعثرت القدم، فأعنا على أن نستفيد لبقية طريقنا من كبوة كبوناها فيما مضى، وعثرة عثرناها، فيما انقضى. اللهم لقد كتبنا بأعمالنا صحفا تشهد عندك علينا بما أحسنا وبما أسأنا، فأعنا على أن تكتب في صحيفتنا الجديدة ما يزيد فيها الحسنات على السيئات.
اللهم تقبل منا دعوة صالحة لبلدنا الذي نعيش في ظله، ونستمتع بخيره، ولأحبابنا الذين ننعم بعطفهم وودادهم، وأنا لنحمدك دائما، ونأمل في برك وخيرك. آمين.
لهجة ابن الخاقان
القاهرة في 24 من يوليه سنة 1926
لما مات السلطان الخليفة محمد وحيد الدين السادس، ناولني صديقي الأستاذ داود بركات جريدة من جرائد الشام لأقرأ فيها ما يأتي: «تلقينا من سمو البرنس محمد سليم أفندي الكلمة الآتية: يشكر البرنس محمد سليم باسم أعضاء البيت الملكي العثماني رجال المفوضية العليا والحكومة المحلية والشعب البيروتي والوفود التي أتت إلى بيروت من الجهات، وجميع من تفضلوا، فشاركوا آل عثمان في تشييع جنازة السلطان الخليفة وحيد الدين السادس طالبا من الله ألا يريهم مكروها في عزيز. باسم العائلة الملكية العثمانية البرنس محمد سليم بن السلطان عبد الحميد خان الثاني».
لم يقدم إلي الصديق تلك الجريدة لأطلع على كلمة شكر مفيدة في جريدة سيارة، لكنه أراد أن التفت إلى كلمة قد لا تمر دون أن تترك في النفس أثرا غير الآثار التي تتركها في النفوس كلمات الشاكرين المحزونين، كلمة شكر للناس ممن كانوا يقدرون أن من واجب الناس أن يشكروهم بعد الله، وأن من حقهم حيال الناس أن يقبلوا الشكر، أو يردوه. كلمة شكر ممن كانت تنخفض لهم أرفع الرؤوس، وتتضاءل عند عزهم أعز النفوس. كلمة شكر ممن كانت الجباه والأنوف تتضع عند حشمهم، وترغم عند خدمهم، كلمة شكر يكتبها ابن الخاقان الأعظم في جريدة سيارة، وفى نهر من أنهارها التي تتسع لأكثر ما تخطه أقلام الكاتبين، ولأكثر ما يروى من أخبار الناشرين، ولأكثر كلمات الآخرين. فسبحان من يهز العروش، ولا يهتز عرشه، ويضع الأعلياء، ويرفع الأذلاء، وهو باق في عظمته وملكوته، لا يداني عزته عز، ولا تهز عرشه قوة.
أن الخواطر تدعو الخواطر ، وبعض الذكريات تدعو الذكريات، وبعض العبر تدعو للعبر. ولقد تذكرت فيما تذكرت عندما قرأت كلمة الشكر زيارة لقصر من قصور قياصرة النمسا. عرضت فيه للزائر أمتعتهم الغالية وزخارف الدنيا التي كانوا بها ينعمون. ونعيمها الذي كانوا فيه يتقلبون. وفى القصر رأيت غرف نومهم ونعيمهم، وغرف أسمارهم وعظمتهم. وفي غرفة من الغرف قليلة الرياش رأيت سريرا بسيطا، ومحرابا، ومنضدة، وضعت عليها كتب مقدسة. ووقف بنا الدليل، عند هذا السرير الضئيل، وفي هذه الغرفة الساكنة التي تتجلى فيها آثار الزوال، ومظاهر الاضمحلال، قال: هنا مات فرنسيس يوسف القيصر، وبموته مات عهد القياصرة. وفي هذه الغرفة التي وقفنا بها وقفة محيت كل مخايل العزة التي كانت تتجلى فيما رأت العين من غرف تخيل لنا الذل بعد العز، والإقلال بعد الإقبال، والشقاء بعد الهناء، والفناء بعد البقاء، وحول السرير الذي ذهب صاحبه إلى حيث لا يعود، وفى الغرفة التي خمدت فيها أنفاس كانت قوية، وخفت فيها صوت كانت تخفت عنده الأصوات، لم يبق إلا صدى يكاد يتردد حول المحراب. أن الملك ليس إلا لله، والعظمة الحقة هي له دون سواه، ثم هبطنا إلى حيث رأينا مكان مراكب القياصرة، وتصورنا الخيول المطهمات وجلالة الراكب، ورهبة المواكب، ولكن وقع نظرنا على المركبة التي حملت فيها الملوك إلى مقابرهم على مقربة من تلك المركبات التي كانوا يذهبون فيها إلى مواكبهم، فتذكرنا كذلك أنه يخلف الشقاء الهناء، وقد يخلف الفناء البقاء. فلو علم العاقلون من الملوك والأمراء والسادة والعظماء أن السماء في الأفق قد تتصل بالغبراء، ولو فطنوا أن الرفيع قد يسفل، وأن نجمه قد يأفل، لهونوا على أنفسهم نزعات الكبرياء، وخاطبوا الناس بلسان الناس، فإن لهم يوما تستبد بهم فيه يد الحدثان، وتصير لهجتهم كما صارت لهجة ابن الخاقان.
الرضا
القاهرة في 5 من أغسطس سنة 1926 ... في الأرض زهرة ناضرة، تشع من حولها هالة من الحسن والبهاء، قد تحسبها ابتسامة لماعة كالأمل. وقد تحسبها مراحا تطمئن إليه العين، ويستريح إليه النظر. وقد تحسبها نورا ينبعث من الأرض ليضئ بأشعة البشر ناحية من نواحي الوجود، وقد تحسبها عينا تتجه إلى السماء. ويلوح من حولها الرجاء.
وفى الأرض كذلك زهرة ذابلة قد تحسبها مثالا للانقباض والكآبة. وقد تحسبها النجم الآفل، والحسن الزائل، وقد تحسبها كلمة الانقطاع، أو تحية الوداع.
وربما كان السبب إلى نضرة الزهرة الباسمة ذلك الشباب الذي يتسلط على حياتها. وربما كان في ماء الحياة الساري في أنسجتها، وربما كان في محيطها المندي الذي يدفع عنها أعراض الذبول، ويبعد عنها زمن الأفول، ولكن أيا كان السبب، فإن الزهرة الناضرة تظل رمزا للبشر والرضا.
وربما كان سبب انكماش الزهرة الذابلة مرضا أصابها، أو قيظا لفحها، أو هرما بلغ منها، ومهما تعددت الأسباب فإنها تظل رمزا للانقباض والعبوس. •••
مثل الإنسان الذي يفيض البشر في وجهه، وينطلق الرضا من محياه، مثل الزهرة الناضرة تبعث الأنس إلى النفوس، والقرة إلى العيون، والانشراح إلى الصدور، ومثل الإنسان المكفهر الوجه، المقطب الجبين، مثل الزهرة الذابلة، إذ يدعو النظر إليها إلى الأسى والسآمة.
أن الأول ليفهم لغة الإشراق، ويحن إلى السرور. أما الثاني فلا يعرف إلا الظلمة، ولا تنطلق نفسه إلا إلى الديجور. الأول يطرب للغناء، ويتشوق لحنين الحداء. أما الثاني فلا يتسمع من الوجود إلا صيحة الشوم، ونعقة البوم. الأول يأنس لزقزقة الأطيار، وحفيف الأشجار. أما الثاني فيعبس للأقدار، وتسود في نظره أضواء الأقمار.
قد يجد العبوس لحالته تلك من الانقباض أسبابا. فتارة يحسبها من ضنك العيش، وتارة يتوهم لها أسبابا من السقام، وأوهاما من الآلام، وتارة يحسبها في خيبة الرجاء، أو في شدة البلاء، لكن لعل أدق الأسباب إلى سر حالته استعداده للجزع من الوجود، وخلوه من درع الرضا ووقاية التسليم.
لو علم الإنسان حق العلم أن في قوة الإيمان بالأزل وقوانينه ما قد يخفف شدة شقائه، ووطأة ضرائه، لما تردد في أن يأخذ طريق الفلاسفة الرواقيين، فآمن بما تنزل به إليه سنن الكون بأرضه وسمائه وقبل الأمور بالرضا. •••
روي أن النبي العربي سأل طائفة من أصحابه ما أنتم؟ قالوا: مؤمنون. فقال: ما آية إيمانكم؟ فقالوا : نصبر على البلاء، ونشكر عند الرخاء، ونرضى بمواضع القضاء. فقال النبي: مؤمنون ورب الكعبة.
وروى الغزالي فيما روى أن عابدا عبد الله دهرا، فأرى في المنام أن فلانة الراعية تكون رفيقة له في الجنة، فسأل عنها العابد إلى أن وجدها، ثم استضافها لينظر إلى عملها الذي تستحق عليه نصيبها من الجنة والخلود، لكن العابد كان في دهشة من أمرها عندما كان يبيت قائما وتبيت نائمة، ويظل صائما وتظل مفطرة، فقال لها العابد: أما لك عمل غير ما رأيت؟ فقالت الراعية: ليس لي والله إلا ما رأيت. فألح العابد عليها في أن تتذكر ما لها من سجايا وخصال، فقالت المرأة: لي خصيلة واحدة، هي أني إن كنت في شدة لم أتمن أن أكون في رخاء، وإن كنت في مرض لم أتمن أن أكون في صحة، وإن كنت في شمس لم أتمن أن أكون في الظل، فوضع العابد يده على رأسه عندئذ وقال: هذه والله خصلة يعجز عنها أكبر العباد. •••
وصفوة القول أنه إذا كان من حق الإنسان أن يضجر بما هو واقع، ويعبس ويثور مما يؤلمه من الحياة ويؤذيه، وإذا كان من حقه كذلك أن يكون طموحا إلى ما ينبغي أن يكون، غير قنوع بما هو كائن، فإن من واجبه أيضا أن يبتسم للعيش، ويعرف البشر والرضا، في حوادث الدنيا وأمور القضاء.
عام 27
القاهرة في أول يناير سنة 1927 ... وأنت يا عام تقبل على الدنيا، ثم تنطوي عنها. وقد انطوت من قبلك أعوام، وتقدمت من قبلك أيام! فماذا تراك شاهدا من الوجود؟
شيء يحول، وشيء يزول.
زهر يتفتق، وأمل يتحقق.
عين تفيض، وأخرى تغيض.
طير يغرد ويحن، وطير ينوح ويئن.
نبت يتطلع للنماء، وشجر يرشحه الذبول للفناء.
كل ذلك، وأكثر من ذلك يا عام، سوف تشهده! ثم قد تقبض من جعبتك قبضة تلقيها في الكون مصادفة، وتنثرها نثرا من غير ترتيب، فبعضهم يصب من نثرتك ابتسامات مشرقة، وبعضهم يصيب منها دموعا مترقرقة. ومنهم من يصيب إقبالا، ومنهم من يصيب إقلالا. ومن يصيب السلام، ومن يصيب الخصام. وقد تأتي يا عام بالعجائب، وقد تظهر فيك يا عام الغرائب، وقد تجرى في مجراك المتناقضات، والمتشابهات!! •••
فما أنت إذن أيها القادم، الذي يدرج إلى الوجود في منتصف ليلة السبت من آخر العام المنصرم؟
بل ما أنت أيها الجديد الذي تتسع للقائه أذرع المتفائلين بالترحيب، وتوسد له صدور الشباب الوثاب للحب والأمل؟
بل ما أنت أيها الكائن الذي يستقبله الناسكون في مناسكهم بألوان الصلوات، وأنواع العبادات؟
بل ما أنت يا هذا الذي تحتشد له أقوام من الفرنجة في بيعهم، فيهللون له تهليلا، ويرتلون له بكرة وأصيلا.
بل ما أنت يا هذا الذي تحتشد لطلعته.
هواة متاع العيش في زمن الصبا
ومختلسو اللذات قبل فواتها
فيشرب شاربهم، ويطرب من يطرب.
بل ما أنت أيها المتمثل في جنح الليل، بمسوحك السوداء لثكلي مسهدة، تذكر عزيزا غاب محياه في الثرى.
ما أنت، ما أنت؟
ما أنت إلا أحدى دورات الفلك الدوار، وكم للفلك من دورة، وما أكثر ما يدور الفلك!
دورة يجعلها الناس مقياسا لبرهة من زمن بعيد المدى. دورة لا قيمة لها في ذاتها، وما أصغرها إذا قورنت بالدهر، والدهر ممدود غير محدود. إنك لصغير صغير! ضئيل ضئيل! •••
على أنك يا عام قد يأخذك الغرور، إذ تذكر لنفسك أنك بعض الزمن الذي يعمل في تتابع الحادثات، وتوالي النازلات.
ويشقق الأرض صدوعا، ويهبط الجبال خشوعا. ويزلزل الأرض زلزالها، ويخرج من الأرض أثقالها. ويدك العروش العالية، ويجدد الآمال البالية.
قد يأخذك الغرور وتتولاك العظمة! ولكن لا عظمة لك حقا مهما تعاليت إلا بسرين، يخلعهما عليك ابن آدم من أسرار نفسه: الاستكانة للعظمة المطلقة، وقوة الرجاء في المال.
فأما الأول فإنك تخر خاشعا عندما يهتف لك من أعماق الأبدية صوت يصيح: ما المبدأ وما المصير؟
فنقول لله الأمر جميعا.
وأما الثاني فالرجاء الذي تفيضه الإنسانية من ضميرها لتلقيه في طياتك وتوجهك في سبيل الخير، في سبيل الكمال.
الإيثار
القاهرة في 6 من فبراير سنة 1927
في مثل هذا اليوم، من الأسبوع الفائت، أشرت على صفحة هذه الجريدة، إلى أن المنقب في أطلال القديم يجد بين الترب تبرا، وفى مبعثر الحصا ذهبا. وكنت أحقق لنفسي ما أشرت إليه، فأخرجت من خزانة كتبي بعض الأسفار ذات الورق الأصفر. ذات الطبع الكريه، ذات الهوامش والحواشي، وكلها، أو أكثرها مما وضع المتقدمون عليهم الرحمة ولهم الفضل. وكلما فسحت لي مشاغل الحاضر، تناولت هذه الأسفار لأسمع منها بعض نغمات الغابر، واليوم أحببت أن أشرك معي القراء في بعض ما سمعت. •••
قرأت للغزالي ما يأتي: «قال حذيفة العدوي: انطلقت يوم اليرموك، أطلب ابن عم لي، ومعي شيء من ماء، وأنا أقول: إن كان به رمق سقيته، ومسحت به وجهه، فإذا أنا به، فقلت أسقيك؟ فأشار إلي أن نعم، فإذا رجل يقول آه، فأشار ابن عمي أن انطلق بالماء إليه. قال: فجئته، فإذا هو هشام بن العاص، فقلت: أسقيك؟ فسمع به آخر، فقال آه. فأشار هشام أن انطلق به إليه. فجئته، فإذا هو قد مات، فرجعت إلى هشام فإذا هو قد مات، فرجعت إلى ابن عمي فإذا هو قد مات. رحمة الله عليهم أجمعين».
ثم قرأت ما يلي: «قيل: خرج عبد الله بن جعفر إلى ضيعة له، فنزل على نخيل قوم فيه غلام أسود يعمل به، فإذا أتى الغلام بقوته دخل الحائط كلب، ودنا من الغلام، فرمى إليه الغلام بقرص فأكله، ثم رمى إليه الثاني والثالث فأكلهما، وعبد الله ينظر إليه. فقال: يا غلام كم قوتك كل يوم؟ قال: ما رأيت. قال: فلم آثرت به هذا الكلب؟ قال: ما هي بأرض كلاب، أنه جاء من مسافة بعيدة جائعا، فكرهت أن أشبع وهو جائع». •••
وإن الفكر لتسوق الفكر، كما أن الذكريات تبعث الذكريات، فرحم الله ذلك الزمن الذي يروي لنا أن من أهله من كان يؤثر حياة غيره على حياة نفسه، فبمثل هؤلاء سادت الشعوب. ورحم الله ذلك الزمن الذي كان يعتقد الناس فيه بالفضائل، ويؤمنون بأن الله يبوئ جنته من ينكرون الأثرة، ويعملون للإيثار؛ بل رحم الله ذلك الزمن الذي فيه كان يرى بعض أهله، أن الجدير بأمر من الأمور أولى به أن ينزل عليه هذا الأمر، وأن الأحق بشيء أولى به أن يصيب ذلك الشيء؛ لأنه حقه. رحم الله ذلك الزمن الذي قدر فيه الإيثار قدره.
والآن نجد الأثرة تسمع صوتها، فيخفت صوت الإيثار. يزاحم عديم الكفاءة الكفء ليقصيه بمختلف الحيل الدنيئة عن منصبه، وينزل بالفارس المغوار بأحط الأساليب عن مركبه. لا يقنع الغني الميسور بيسره، فيتلمس بناء ثروة من مال الفقير ويزيده عسرا على عسره. وأين ذلك الزمن الفائت وأين فضائله أين؟ •••
بمثل أساليب الغابر الفاضلة، تعتز الدول وتسمو الأمم، وبمثل الأثرة والأنانية الحاضرة تذل الحكومات، وتضمخل الشعور، ولو فشا في الناس خلق الإيثار لما تنازعوا في وزارة، ولا تنافسوا في إمارة!!
الدس والحسد
القاهرة في 17 من فبراير سنة 1927
تفشى الناس خلق ممقوت، صورته مزعجة ومنظره دميم. يتزين هذا الخلق أحيانا بزي زاهي اللون، فيخفي جمال لونه أكثر دمامته، وينتحل لنفسه أحيانا اسما غير اسمه المنكر، فيلقاه الناس بالصدر الرحيب، كأنه العزيز الحبيب. لكنهم وا أسفا مخدوعون عن أمره، غافلون عن مخبره، مغترون بمظهره.
ذلك الخلق هو خلق الدس والمكر السيئ. •••
تشاكل أحيانا صورة هذا الخلق صورة القدرة والمهارة، فيخيل للناس أن صاحبه ماهر؛ لأنه أوقع غيره في مكيدة يعسر على هذا الغير أن يخلص من شرها المستطير، أو يبدو للناس أن صاحبه قادر؛ لأنه يهم الواضح وعقد المحلول، وتارة يقال لصاحبه داهية؛ لأنه يستخدم شتى الأساليب وأنواع الحيل ليظفر بغرضه الباطل، وتارة يسند لصاحبه الذكاء؛ لأنه يتخذ مختلفة الوسائل، ويعمل بشتى الأسباب للوصول إلى ما يريده من السوء، وتارة يوصف صاحبه بالسياسة، لأنه يسوس الأمور بلباقة وكياسة ليصل إلى ما تقنع به شهوته وترضى به أنانيته.
لو أنصف الناس حقا لضنوا بهذه العبارات على غير معانيها التي رسمت لها، وحبست عليها، ولا حرفوا تلك الصفات، وجعلوها لغير حقيقة موصوفها. وقصارى القول أنه لو أنصف الناس لسموا الأشياء بأسمائها، واستعملوا كلمة الدس لهؤلاء الذين يتسترون بثياب مستعارة، من الدهاء والحذق والمهارة، ليسيئوا إلى هؤلاء الذين لا يؤذون أحدا، وليمنعوا الخير عمن يستحقونه، وليدفعوا الشر إلى الذين طابت نفوسهم، الذين لا يحذرون كيد الغادرين، والذين يستأمنون الناس؛ لأنهم غير ماكرين. ومما يذكر لهذه المناسبة ما قرأته في كتاب من كتب الأدب. ••• «قيل إن رجلا من العرب دخل على المعتصم فقربه، وأدناه، وجعله نديمه، وصار يدخل على حريمه من غير استئذان. وكان له وزير كثير الحسد، فغار من البدوي وحسده، وقال في نفسه لا بد من مكيدة لهذا البدوي، فإنه قد أخذ بقلب أمير المؤمنين، وأبعدني منه، فصار يتلطف بالبدوي حتى أتى به إلى منزله، وصنع له طعاما وأكثر فيه من الثوم، فلما أكل البدوي قال له احذر أن تقرب من الأمير فيشم منك رائحة الثوم، ثم ذهب الوزير إلى أمير المؤمنين، فخلا به وقال: إن البدوي يقول عنك للناس: إن أمير المؤمنين أبخر. فلما أتى البدوي طلبه المعتصم، فلما قرب منه جعل كمه على فمه مخافة أن يشم الأمير منه رائحة الثوم، فلما رآه أمير المؤمنين وهو يستر فمه بكمه قال: إن الذي قاله الوزير عن البدوي صحيح، فكتب المعتصم كتابا إلى بعض عماله يقول فيه: إذا وصل إليك كتابي هذا فاضرب عنق حامله، ثم دعا البدوي، ودفع إليه الكتاب، وقال له: امض به إلى فلان، وجئ سريعا بالجواب، فامتثل البدوي ما رسم به المعتصم، وأخذ الكتاب، وخرج به من عنده، فبينما هو بالباب إذ لقيه الوزير فقال له: أين تريد؟ قال أتوجه بكتاب أمير المؤمنين إلى عامله فلان، فقال الوزير في نفسه أن هذا البدوي ينال من التقليد مالا جزيلا. فقال له ما تقول فيمن يريحك من هذا التعب الذي يلحقك في سفرك ويعطيك ألفي دينار؟ فقال له: أنت الكبير وأنت الحاكم، ومهما رأيته من الرأي أفعل. فقال: هات الكتاب، فدفعه إليه، وأعطاه الوزير ألفي دينار، فركب الوزير، وسار بالكتاب إلى المكان الذي هو قاصده. فلما قرأ العامل الكتاب أمر بضرب عنق حامله.
وبعد أيام تذكر الخليفة أمر البدوي، وسأل عن الوزير، فأخبر بأن له أياما ما ظهر، وأن البدوي بالمدينة مقيم، فتعجب المعتصم من ذلك، وأمر بإحضار البدوي، وسأله عن حاله، فأخبره بالقصة التي اتفقت له مع الوزير ...
فقال المعتصم: قاتل الله الحسد بدأ بصاحبه فقتله، ثم خلع على البدوي، واتخذه مكانه وزيرا». •••
والخلاصة أن الدس والحسد طالما أوقعا في الندامة، وأبعدا عن مواطن السلامة. فهل لأربابهما من عظة إذا هم قرؤوا ما تقدم، ثم قرأوا:
ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله
وهو حكم جاء به الكتاب الأكرم، وجرى به في شؤون الخلق القانون الأعظم.
نصف شعبان
القاهرة في 20 من فبراير سنة 1927
في هذا الشهر، في ليلة الخميس الفائتة مثلت لفئة من الناس ليلة لها ميزة عندهم على ما تقدمتها من ليال وعلى ما يعقبها من ليال، تلك ليلة النصف من شهر شعبان.
لكن شعبان قد حل على كثير من الناس دون أن يتنبهوا لمقدمه، ودون أن يحفلوا بمجيئه، وقد أرخت لياليه سدولها على جهات من المدينة دون أن يظهر في هذه الليالي أثر من آثاره. وقد بلل طل شعبان حدائق بعض القصور دون أن يشعر أهلها بأن هذا الطل والندى يغاير كل طل وندى. وقد غمرت أضواء بدره كثيرا من المساكن دون أن يكون في ضياء البدر ما ينبئ بشيء خاص عن شهر شعبان؛ وذلك لأن الحياة الاجتماعية وأحوالها أنست الناس شهورا بشهور، وبدلت التواريخ بتواريخ، وأظهرت أياما ومسخت أياما. وهذا من شؤون الحياة، والحياة تظهر وتخفي، وتمسح وتثبت، وللحياة الاجتماعية سلطان قادر، وحكم قاهر.
وبينما كنت أسير في ناحية من المدينة طبع عليها مظهر الحياة الغربية، إذا أقبل علي رجل معمم رث البزة سقيم المنظر، وفى يد الرجل صحف فيها دعاء نصف شعبان، وألح علي أن أبتاع من بضاعته. ولست أدري ما الذي حمله على أن يتوجه ببضاعته ناحيتي، دون جماعة من المطربشين، كانوا على مقربة مني ومنه، لولا أن رآني أسير بجانب شيخ صديق، ينبعث من وجهه نور الإيمان، وتبدو تقوى الله على محياه . •••
شريت من الرجل صحيفة من صحفه وطويتها بجيبي، ثم مضيت في سبيلي، ومضى الرجل في سبيله في هذا الحي الأوروبي، على أنني تذكرت عندئذ أننا الآن في شهر شعبان، وخيل إلي أن بائع هذه الدعوات رسول غريب من قرية بعيدة نائية إلى هذه الجهة التي كان يسعى فيها بصحفه، ويعرض على الناس بها بضاعته؛ بل خيل إلي أنه رسول الغابر إلى الحاضر؛ ليذكر أن بين الغابر والحاضر رابطة لا تنقطع وحبلا موصولا؛ بل خيل إلي أن الرجل وما يحمل كأنه صورة من تلك الصور التي تبعث إلى النفس التأمل، فتحرك فيها المستقر من الخواطر. •••
الناس لاهون بأعمالهم في الحي الفرنجي من المدينة عن شعبان. والقهوات غاصة في ليلته بمن هم في شغل عن دعواته. وأهل السمر يسمرون في نواديهم. وأهل الخلاعة يقطعون الليل، أو شطرا من الليل في ملاهيهم. ومع ذلك فالرجل الذي جاء من حي وطني في بعض منازله، يقرأ القرآن احتفاء بليلة شعبان، ويصلي المصلون، ويبتهل المبتهلون، كأنه يقول لهذا الحي الأوروبي من المدينة ولمن من أهله لا يدرون ما شعبان وما ليلته. أن الناس جميعا يتشابهون عند الشدائد، وتدق قلوبهم على وتيرة واحدة في المحن، مهما اختلفت سحنهم، وتغيرت شهورهم، وتعددت طقوسهم، وأنه عند دقات قلوبهم المتشابة في الخوف والرجاء يهتفون لله بمعنى واحد، لا يخرج عما في صحيفة دعاء نصف شعبان: اللهم أنك ظهر اللاجئين، وأمان الخائفين، وجار المستجيرين.
العفر الطاهر
الأحد في 20 من مارس سنة 1927
متجملة أكثر مما هي جميلة، متطرفة أكثر مما هي ظريفة. دون الطويلة على أنها ليست بالقصيرة. كانت ترتدي جلبابا من الحرير السماوي الشفاف، وقد شمرت عن بعض ساقيها الدقيقتين، إذ جوربتهما بجورب يروح لونه بين صفرة بعض المرمر وحمرة بعض الورود ... ارتفع كم جلبابها ليكشف عن معصمها المبيض، وكانت مشيتها بطيئة في شيء من التثاقل والعجب والعظمة، وليس يحول صدرها المرتفع دون تموج الجسم وتثني الخصر، وحيث كانت تسير تضوع منها شذى المسك والياسمين. أما عيناها فكانتا مكتحلتين بالسواد المصنوع الذي تعدى بعضه باطن الجفنين، ومآقي العينين. وتعلو بشرة وجهها طبقة من المسحوق الأبيض الذي يمازجه آخر أحمر، وعلى رأسها قبعة عليها طاقة من الزهر المصنوع.
أما صاحبها فكان رداؤه أسود أنيقا وقبعته من النوع الرخي السخي. حليق اللحية، أزالت الموسى طرفي شاربيه، وشذب المقص ما بقي منهما، ولم يذر إلا ما هو دون فتحات الأنف. منديله الأبيض يطل مشرئبا على صدره بطرفين يشرفان إلى العلو، وفي فتحة من فتحات معطفه زهرات باسمة، وفي يسراه عصا كأنها تعتمد على عنايته في صيانتها أكثر مما يعتمد عليها في صيانته. •••
السيد والسيدة كانا ينتظران القطار على إفريز إحدى محطات الضواحي ويسيران، ثم متبخترين مقبلين مدبرين.
وقبل وصول القطار بدقائق قليلة أقبل من خلف الإفريز فاعل من الفعلة، كأنه نبت من الأرض طفرة واحدة. وكان حافي القدمين، مفتول العضل، يرخي لحية سوداء قصيرة مغيرة، عليه سروال يظهر ساقه داكنة، وفوق قامته قميص استحال بياضه إلى لون التراب، وعلى رأسه شبه عمامة، وقد أرسل على كتفه جلبابا أسود يظهر فيه مزيج من الجير والرمل والحمرة. هو من هؤلاء العمال الذين يعلمون في تشييد المنازل، أو حفر الجنادل. وكأنه حين رأيته كان قد فرغ من عمله لساعته؛ لأن آثار الجهد تبدو عليه. ويظهر أن الرجل المكدود كان مستغرقا في فكره، أو أوصابه، فلا يلفته ما أمامه ولا ما حوله.
خطا الفاعل خطوتين، أو ثلاثا أمام السيد الأنيق والسيدة المتأنقة، ثم قبل أن يرتدي رداءه المسدل على كتفه أخذ ينفضه مما علق به من العفر. وما كاد يلوح به مرة، أو اثنتين في الهواء حتى لحقه السيد الأنيق صائحا، متوعدا، مهددا، رافعا عصاه اللينة ليهوى بها على المنكبين الصلبين الشديدين، ولكن الفاعل - وقد أخذه نوع من الذعر - لم يفه إلا بعبارة واحدة:
هذا تراب طاهر. أنه لتراب طاهر!
حقا لم يكن صاحبنا الفاعل ليعلم أن وراءه المتأنقة المعفرة بالمسحوق الأبيض؛ ليتقي الشر ممن أزعجه اليسير من عفر العمل. وحقا لم يكن صاحبنا السيد ليتذكر وقتئذ أن أمثال القصر الأنيق الذي يسكن إلى صاحبته فيه، قد ترك تشييده في ثوب العامل ما من أجله أهين وانتهر.
ألا فأرخ بربك ساعديك أيها الملوح بعصاه، المشمئز من تراب العامل. وأطرق إجلالا، فإن الغبرة التي تجلل ثوب هذا المنتج الكادح، وتغمر وجهه أطهر وأكرم عند الله من تلك المساحيق التي ذرتها صاحبتك على وجهها؛ لتجعل منها عليه وجها آخر.
التصنع والتواضع
القاهرة في 27 من مارس سنة 1927
صاحبي مفرط الشغف في أن يعد من أهل الحسب، وله ولع بأن يسند إلى أهل النسب دون أن يكون من النبلاء في أرومته، ودون أن يتفضل الله عليه ببعض تلك الملامح التي قد يتميز بها أهل الأنساب، ليس بذي القوام السمهري الرشيق، وليس بذي الأنف الأقنى، أو الأشم. وليس بذي الراحتين الرخصتين الصغيرتين، وليس في طبيعة صوته غنة، وليس فيها صحل. ليس بذي الملامح التي تنم عن وراثة في النعمة وسالف الطمأنينة، لكن صاحبي مع ذلك يتألق في لبسته، ويتعالى في مشيته، كأنه يتطلع إلى أن ينطبق عليه قول ابن الأعرابي:
شبهت «مشيته» بمشية ظافر
يختال بين أسنة وسيوف
هو يشمخ بأنفه، وأنفه أدنى إلى أن يكون غليظا أفطس، وهو يجمل يده بتقليم الأظافر وطلائها، مع أن أظافره تنبت في أصابع دق أسفلها، وغلظ عاليها. تتفرع من يده الرحوية الشكل. وصاحبي إذا أراد أن يتكلم يبحث عن غنة الصوت، فينزل صوته إلى الخنف، ويبحث عن الصحل، فينقلب صوته إلى النعير. أما إذا ذهب إلى قهوة فهو لا يذهب إلا إلى حيث يرابط أبناء الذوات، ويتعفف عن أن يجلس في القهوات التي يؤمها أهل الحرف، وأهل التجارة وسادتنا من أرباب المعاش وصغار الموظفين. وإذا ذهب إلى عزاء فإنه لا يهدأ باله إلا إذا استطاع أن يتخطى الصفوف ويضع نفسه حيث يتقدم مع المتقدمين. كل ذلك وصاحبي ينسى أن الناس لا يجهلون منزلته، فلا يغنيه أن يتقدم في الصفوف ولا يغنيه أن يحط في أكبر القهوات، وليس يضيع معالم حقيقته تشامخ الأنف والتهادي في المشية وتصنيع الصوت والتجبر في معاملته مع صغار المرتزقة، وتنكر ذويه ممن لا ترتفع بهم سمعته، ولا تروج بذكرهم بضاعته. •••
لأمثال صاحبي الذين يعولون على التصنع والتجمل والتطرف في تغيير رأى الناس فيهم، أريد أن أذكرهم بقول، وأن أروي لهم قصة. فأما القول فلابن الخطاب - رضي الله عنه - حين نظر إلى صفوان مبتذلا لأصحابه فقال: هذا رجل يفر من الشرف والشرف يتبعه. وعلى هذا فالشرف كما أنه يتبع الرفيع، فهو يفر عن الوضيع مهما تشارف وترافع.
وأما القصة فيروى أن عمر بن عبد العزيز أتاه ليلة ضيف، وكان يكتب، فكاد السراج يطفأ. فقال الضيف: أأقوم إلى المصباح فأصلحه. فقال عمر: ليس من كرم الرجل أن يستخدم ضيفه. قال الضيف: أفأنبه الغلام؟ فقال عمر: هي أول نومة نامها، ثم قام عمر، وأخذ البطة، وملأ المصباح زيتا. فقال الضيف: أقمت أنت بنفسك يا أمير المؤمنين. فقال عمر: ذهبت وأنا عمر، ورجعت وأنا عمر ما نقص مني شيء، وخير الناس من كان عند الله متواضعا.
أيام العيد
القاهرة في 10 من إبريل سنة 1927
أيام الأعياد هي دورات للفلك كغيرها من دورات الفلك. لا يتغير فيها نظام السماء في شيء، ولا تتغير حركة الأرض قيد شعرة عن مجراها. الكواكب تسير في الأفق الأعلى وفق قانونها، كما شاء الله أن تسير، والأرض كما كان الأمر منذ الأبد، ما برحت تستقبل الجديدين، فتعبس تارة لوجه الليل، وتبتسم أخرى لوجه النهار. وما زالت الشمس كما يتصورها الناس، تبرز من خلف ستارة الأفق من فجر كل يوم، ثم تسبح لتتوسط السماء، ثم تنحدر رويدا رويدا حتى تغوص وتغيب، ثم تعود، فتطفو مرة أخرى؛ لتري الناس وجهها كأنه أصفر رهبة من عمق الفضاء وملكوت الله لا يذرع ولا يحد. •••
لكن إذا كان عالم الأفلاك لم يتخلف عن نواميسه في أيام العيد، فهناك عالم آخر ظهر فيه التغير واضحا جليا. ذلك هو عالم النفوس.
توافق الناس في أيام العيد أن تهتز نفوسهم هزات شديدة، اصطلحوا على تسميتها بالسرور أو الفرح . ومن شأن تلك الهزات أن تحدث في أمور الناس غير ما ألف الناس في كل يوم. تحدث في المدن والقرى حركة أشد، وتحدث في لباس الكثيرين أناقة وكياسة، وتحدث في وجوههم زهاء وبشرا، وتجري على ألسنتهم دعوات وشكرا. •••
في مسافة من الطريق لا تزيد عن الميلين شهدت أكثر مظاهر العيد. رأيت بعض الأصدقاء يقبلون على بيت صديق لهم. وجميعهم يحملون على ألسنتهم دعوة لأعزب الدار، أن يهيئ له الله ما تصبو إليه نفسه من عروس صالحة، ولتلميذ الدار أن يعينه الله على أداة الامتحان ونيل الشهادة، ولشيخ الدار أن يتقبل الله منه تقواه، ويمتعه بزيارة حبيبه الرسول، ولعريس الدار أن يرزقه الله بخير الخلف.
الناس جميعا يعلمون أمر الدعوات في كل يوم من أيام العام؛ لكنهم قد توافقوا أن يرسلوها في العيد حارة صادقة، كأن الله قد خصص ذلك اليوم لدعوات عباده ليتقبل منها ما يتقبل، وكأن الناس ينتظرون في هذا اليوم أكثر منه في كل يوم رحمة الله عليهم ورأفته بهم.
ثم رأيت بعد ذلك عربة فيها صبية يصيحون ويصخبون، ويضجون، وكل دلائل السرور بادية عليهم. أوردتهم بالدماء مترعة، وأنفاسهم مسرعة، وحركاتهم كثيرة ومنوعة وضحكاتهم غزيرة، ووجوههم مشرقة مستديرة، وكل ذلك من آثار الفرح. والناس تعلم حقا في كل يوم من أيام العام، ما السرور والفرح، لكنهم توافقوا في أيام العيد على أن يستعينوا بمظاهر الفرح على خلق الفرح.
ثم رأيت بعد ذلك عائلة تتكون من أب يسير آخذا بيد طفله يجري وراءه، ووراءهما أم يتقدمها ابنتان لابستان جلبابيهما الحمراوين الجديدين، وفي أيديهما بعض ما يبيع المرتزقة من حلوى ولعب. وما كان أشد هذا المنظر وقعا في نفسي، إذ بدت لي عين الأم الرءوم لا ترى في هذه الطرقات الهائجة المائجة إلا غبطة أبنائها في ثيابهم الجديدة فرحين مستبشرين. آه لو علم الذين يخلعون كل يوم ثيابهم الغالية ليستبدلوها بغيرها من الثياب الجديدة الغالية قيمة الثوب الجديد عند من يجددونه لأبنائهم مرة في كل عام!!
ثم رأيت كذلك عربة يركبها شباب من المستهترين يرقصون، ويطربون، ويشربون، ويتمايلون ويترنحون، وفي القول يبتذلون، والناس حقا يعلمون في كل يوم من أيام العام رذيلة الاستهتار؛ لكنهم توافقوا إكراما للعيد أن يتسامحوا في بعض مظاهر الاستهتار. •••
أيام العيد إذن تتجلى في عالم النفس في نزعات مشتركة، وتوافق بين الناس على أن يبتهلوا ويفرحوا ويوسعوا على أنفسهم ويتسامحوا.
والناس يهيئون أعيادهم لأنفسهم بأنفسهم دون أن تتغير الأرض والسماء بما يعملون، ففي الكون تظل مواطن اللذة، وفيه تظل مواطن الألم. وأنك حيث ترى في يوم العيد الموسر يتبختر في جديد كسائه مطمئنا في فرحه وغبطته، قد ترى المعسر الكادح في ثيابه البالية لا يفكر إلا في عسره وشقوته!
وإنك في النهج الذي يجتمع فيه المجتمعون، ويعيد فيه المعيدون، قد تجد مكانا يفترق فيه المفترقون، ويشيع فيه المشيعون!!
إن أشد الناس استفادة من الحياة من استطاع أن يجعل جلبة آمالها وأفراحها، تستر ضجيج آلامها وأتراحها.
الإغراق في المجاملة
القاهرة في 17 من إبريل سنة 1927
من الناس من تفيض الطبيعة على نفوسهم، وتلامس فعالهم مظاهر الظرف والحياء، فيكرمون من ليس بكرمهم جدير، ويتلطفون مع من ليس بلطفهم أهلا، فإذا كان من قواعد الظرف والكرم أن يتلطف المرء بمن لم يجعل نفسه موضعا للكرامة والإحسان، فمن العدل أن نكافئ أهل الخير بوفرة الإقبال عليهم، وأهل الشر بمظاهر الانصراف عنهم.
قال المتوكل لأبي العيناء: إلى كم تمدح الناس وتذمهم؟ فقال: ما أحسنوا وأساؤا.
ولقد يكون في الإقبال على من لا يستحق الإقبال والمجاملة تفريط في حق الجماعة وفي حق من يجامل. أما في حق الجماعة فإن وضع الدنيء الوضيع في حسن المعاملة مكان الرفيع، فمن شأنه أن يعمل في تقديم الأشرار وتأخير الأخيار. ومن حق الأمم أن يتقدم أخيارها، ويتوارى أشرارها.
وأما في حق الشخص الذي يجامل؛ فذلك لأن صاحب العيب إذا لم يشعر بعيبه ربما زادت نفسه مع الزمن سوءا. وإذا لم يذكر الكريم بمحامده ربما ضعفت في نفسه محامده.
قال خالد بن سالم: دخلت على أسامة بن زيد فأثنى علي ثناء حسنا، ثم قال لي: إنما حملني على أن امتدحك في وجهك أني سمعت النبي يقول: إذا مدح الإنسان في وجهه ربا الإيمان في قلبه، ولقد قيل في الحديث: اذكروا الفاسق بما فيه. ولم يكن ذلك من الاغتياب. •••
ولربما كان من أجمل ما اعتمد عليه الدين المحمدي في إصلاح الجماعة، أنه جاء بقاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى كان في الإسلام بذلك نظام الحسبة، واشترط بعضهم في المحتسب الذي يحق له أن يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر أن يكون مأذونا في ذلك من الحاكم، ورأى بعض العلماء فساد هذا الشرط، فاثبتوا لآحاد الرعية من عقلائها حق الحسبة من تعنيف الغير في سبيل المصلحة، ومن كسر الملاهي ومن إراقة الخمور وما إلى ذلك مما كان السلف الصالح يستبيحون عمله للخير والمصلحة. •••
روي عن حيان بن عبد الله قال: تنزه هرون الرشيد بالدوين ومعه سليمان بن أبي جعفر فقال له هرون: قد كانت لك جارية تغني فتحسن، فجئنا بها. قال: فجاءت الجارية فغنت، ولكن الخليفة لم يحمد غناءها. فقال الخليفة ما شأنك يا جارية؟ فقالت الجارية: ليس هذا عودي، فقال هرون: للخادم جئنا بعودها. قال: فجاء الخادم بالعود، ولكنه وجد في طريقة شيخا يلقط النوى، فصاح الخادم به ليفسح له الطريق، فرفع الشيخ رأسه فرأى العود، فأخذه من الخادم، فضرب به الأرض فكسره. حينئذ أخذ خادم الخليفة الشيخ إلى صاحب الشرطة، وطلب إليه أن يحتفظ به؛ لأنه طلبة أمير المؤمنين، ثم ذهب إلى مولاه الخليفة، وقص عليه الخبر، فاستشاط الخليفة وغضب، واحمرت عيناه فقال له سليمان ابن أبي جعفر: خفف عنك الغضب يا أمير المؤمنين، وابعث إلى صاحب الشرطة بضرب عنق الشيخ فقال الأمير: لا، ولكن نبعث إليه ونناظره، فلما أحضر الشيخ أمام الخليفة قال له: يا شيخ، ما الذي حملك على ما صنعت؟ فقال الشيخ: إني سمعت آباءك وأجدادك يقرأون هذه الآية على المنبر:
إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي
وأنا رأيت منكرا فغيرته ... فلم يكن من الخليفة الكريم بعد ذلك إلا أن أمر له بجائزة. •••
إذا لم نستطع وفقا لآداب عصرنا وعرفنا أن نكون في شجاعة الشيخ المحتسب لنجهر للعائب بعيبه، فلا أقل من ألا نسوي في مظاهر المجاملة بين الأخيار وبين الأشرار.
القانون الخلقي وجلاله
الأحد في 26 من يونيه سنة 1927
كثيرا ما يقطع الغافلون من الناس أطوال الأرض وأعراضها، ويسلكون مسالكها، ويذرعون سبلها، وتمر أمام أعينهم مختلف المشاهد وأجناس الناس - وكم في نفوس الناس من فصول نقرأ منها رواية الحياة العظيمة - لكن دون أن يتنبهوا لأمر دقيق من دقائق هذه الحياة. ودون أن يصيبوا موعظة مما يشاهدون.
وكثيرا ما تتجلى للناظر المتبصر صور من الحياة ظاهرة جلية في مجلس ضيق محدود يغشونه، أو من حيث تسترق أسماعهم قولا لطيفا، أو حديثا طريفا، وقد ينزع اليقظون مما يحيط بهم زبدة من زبد الحياة، أو عبرة من عبرها تخلص لهم، كما يخلص المعنى الجامع من القول الطويل عند السامع اليقظ.
وإليك صورة تجلت لي، وظهر لي معها جلال القانون الخلقي:
فى عربة من عربات الترام، الذي أكاد أركبه كل يوم لأذهب إلى عملي، اجتمعت فئة من الراكبين، فيهم أم مصرية وبجانبها طفلها الصغير، وفيهم بعض رجال من أعمار مختلفة، وفيهم سيدة خليعة، وفيهم عامل الترامواى.
أما الأم فكانت مثلا في الاحتشام توجه إلى صبيها نظرات الحنون، وكانت تارة تصلح له من ملبسه، وتارة أخرى تحدثه في وداعة ورحمة. بالاختصار كانت كأنها ترعى فيه أملها المرتجى، وسعادتها النابتة، ونعمتها السابغة، فلا تكاد نفسها وحركاتها تتوجه إلا إليه وإلى ما يهمه.
وأما الرجال الجالسون، فكان بعضهم مكبا على المطالعة في الصحف، وبعضهم يتحدثون فيما بينهم في شؤون لهم، والبعض يرعى شيئا في نفسه من فكرة عارضة تشغل الرأس، أو أمر ذي بال.
أما الخليعة المكحلة، فكانت تتلوى في حركات مصنوعة لتلفت النظر إلى نفسها، وكانت تارة تشمر الأزار عن بعض ساقيها، وتارة أخرى تكشف الثوب عن بعض ذراعيها، ومرة تبدي زينتها، ومرة أخرى تحاول أن تتحدث مع العامل، أو مع من حولها من غير حاجة ماسة لمثل هذا الحديث.
أما عامل الترام فكان في ثوب عمله الأصفر، مأخوذا في واجبه ذاهلا بذلك عما عداه. •••
سار بنا الترام شوطا، ثم أخذت الخليعة تستوقفه بصوت وعبارات وإشارات كان من شأنها أن تلفت نظر الجالسين، ولكن بامتهان واحتقار. فلما شرعت في النزول التفت البعض إلى البعض، ثم التفتوا إليها التفاتا يدل على امتعاضهم من تلك الصورة المخجلة، ثم قطع الترامواى بعد ذلك شوطين، وقامت السيدة المحترمة أم الصبي لتتأهب للنزول، فأخذ الجالسون في عونها وعون ولدها في صورة من التقدير والإجلال لاحتشامها. •••
في الصورة التي مثلتها السيدة الخليعة، والصورة التي مثلتها السيدة الجليلة، وفى موقف الناس حيال الصورتين ظهر لي القانون الخلقي في هيبته الصامتة، حين يعاقب من يستحقون العقاب بما تحفظه صدور الناس للناس من احتقار حقيق بأهل الاحتقار، وحين يثيب من يستحقون المثوبة، بما تكنه صدور الناس للناس من احترام حقيق بمن يستحقون الاحترام من أهل الكرامة. وإن عقاب القانون الخلقي عند من يشعرون بعقابه لمؤلم حديد، وإن ثوابه عند من يعرفون ثوابه لقوي شديد.
أنت أنت الله
الإسكندرية في 18 من سبتمبر سنة 1927
إذا ما اتجه الفكر في السموات حيث انتشرت النجوم في الليل، وإذا ما كل البصر فيما لا نهاية له من الآفاق المظلمة، وإذا ما خشعت النفس خشعتها من رهبة السكون الشامل، فإنك تشرف بوجهك الكريم من خلال هذه الآفاق، وتسمع صوتك في ذلك السكون، وتمس بعظمتك النفس الخاشعة المطمئنة. حينئذ تبدو الآفاق المظلمة كأنها باسمة مشرقة، ويتحول السكون إلى نبرات مطربة، تنبعث من كل صوت، وحينئذ تتغنى النفس الخاشعة لتقول أنت أنت الله. •••
وإذا ما كان المتأمل على شاطئ البحر الخضم، وأرسل الطرف بعيدا بعيدا حيث تختلط زرقة السماء بزرقة الماء، وحيث تنحدر شمس الأصيل رويدا رويدا كأنها الإبريز المسحور؛ لتغيب في هذا المتسع الملح الأجاج، وحيث تتهادى الفلك ذات الشراع الأبيض في حدود الأفق الملون بألوان الشفق، كأنها طائر يسبح في النعيم. إذ ذاك يشعر المتأمل بعظمة واسعة دونها عظمة البحر الواسع، وإذ ذاك تقر العين باطمئنان الفلك الجاري على أديم الماء الممهد، وفى رعاية الله الصمد حيث تكون مظهر العظمة، وحيث تطمئن النفس لرؤية ما تطمئن إليه في منظر جميل، إذ ذاك يدق الفؤاد بدقات صداها في النفس: أنت أنت الله. •••
وإذا ما انطلقت السفينة بعيدا بعيدا في البحر اللجي وهبت الزوابع، وتسابقت الرياح، وتلبد بالسحب الفضاء، واكفهر وجه السماء، وأبرق البرق، وأرعد الرعد، وكانت ظلمات بعضها فوق بعض، ولعبت بالسفينة الأمواج، وأجهد البحار جهده، وأفرغ الربان حيلته، وأشرقت السفينة على الغرق، وتربص الموت من كل صوب وحدق، إذ ذاك يشق ضياؤك هذه الظلمات والمسالك، وتحوط رأفتك حول هذه الأخطار والمهالك، وتصل بحبال نجدتك المكروبين البائسين، وإذ ذاك يردد القلب واللسان: أنت أنت الله. •••
وإذا ما اشتد السقم بمن أحاطته عناية الأطباء، وسهر الأوفياء، ونام بين آمال المخلصين ودعوات المحبين، ثم ضعفت حيلة الطبيب، ولم ينفع وفاء الحبيب، واستحال الرجاء إلى بلاء، إذ ذاك تظهر جالسا على عرش عظمتك، والنواصي خاشعة، والنفوس جازعة، والأيدي راجفة، والقلوب واجفة لتقول: أنا قضيت، ويقول الطبيب والقريب والحبيب: لك الأمر أنت أنت الله. •••
وإذا ما باين الدنيا إنسان وباينته، إذ ينظر إلى المال فيلقاه فانيا، وإلى الجاه فيلقاه فانيا وإلى الأماني فيلقاها زائلة، وإلى الآمال فيجدها باطلة، وإلى الشهوات فيلقاها خادعة كاذبة، وإلى المسرات فيجدها آفلة غاربة، إذ ذاك يستغنى عن الجاه والمال، ويشل في نفسه حركة الآمال. وبين جاه يدول وأمل يزول، لا يملأ فراغ النفس إلا ذكرك أنت أنت الله. •••
وإذا ما وقعت العين على زهرة تتفتق في الأكمام، أو تلاقت العين بعين يملأها الحسن والابتسام، وإذا ما أعجب المعجبون بجمال الفجر المتنفس، وتغريد الطير المتربص، وعاود الصدر انشراحه، وملأ القلب ارتياحه. إذ ذاك يشرق جبينك النوراني الجميل، فنراك أنت أنت الله. •••
فبينما يمس النفس من مظاهر العظمة ومظاهر الوسعة ومظاهر الرحمة ومظاهر القدرة والقضاء، ومظاهر الدوام والبقاء ومظاهر الجمال، والجلال ، اعتاد الناس أن يصفوك بالعظيم، والواسع، والرحيم، والقادر، والدايم، والجميل، والجليل، وأوتار القلوب تردد أنت أنت الله أنت أنت الله.
عام 1930
القاهرة في الأول من يناير سنة 1930
اليوم! ... تنفصل عن العمر لبنة من لبنات الأعمار، ويمتد إلى النفس مجرى من مجاري الحياة والأقدار، فشيء يبيد، وشيء يزيد.
ولماذا أخاطبك أيها العام، وبماذا أتحدث إليك، ولقد كان لي مع سابقيك قول وخطاب. ولقد كان لي في مثل هذا اليوم مع نفسي، وبيني وبين مستهلات بعض السنين تذاكر وحساب. وهاأنذا أنتظر القول فلا يدنو إلي، وأهم بالحديث فيلتوي علي، واليوم هو أحق الأيام لتحصى النفوس على وضح الحقيقة ما كسبت وما اكتسبت، وما كان لها وما عليها، وما فرطت فيه، وما تطمح إليه. وإن هذه الليلة لهي أولى الليالي التي يحسن فيها بالمرء أن ينفرد وقتا ما بنفسه تحت جناح الهدآت والسكون، ليستعرض شخصيته الدانية، ويستبين آثار ما تدرج إليها من نتائج التجارب، وما اندس فيها من معاملة الناس، حتى إذا دنت منه شخصيته الصحيحة وبرزت إليه، على ما هي عليه، أخذ حينئذ في أن يوجه إليها نظرات نفسه الخفية، ونقدات بصيرته الفطرية النقية، ليحاول تطهيرها من الذنب والدنس، وتخليصها مما لحق بها من سوء، وإبرائها مما أصابها من ضعف ووهن ... ثم يعمل على تزويدها بالنصح، وتقويتها بالصبر والاحتمال، وإنعاشها بالإيمان والأمل. بذلك كله تعد النفوس؛ لترقى مما هي عليه إلى ما ينبغي أن تصير إليه وهى شاخصة إلى ما يتألق أمامها من مثل الخير النيرة. وبذلك كله نستطيع أن نقول لنفوسنا استقبلي العام الوليد، وسيرى على بركة الله في المجرى الجديد.
لكن ... لكن مهما يكن الأمر من تجهيز النفس وإعدادها، فهل سنلقي في عامنا اللاحق، غير ما لقينا في عامنا السابق؟
أحسبني لا أخطئ إذا قلت كلا. وأخالني لا أتجاوز الصواب. إذ أرى الحياة تتشابه في مجاميع ما تسوق، وفى كليات ما ترسل، وفى مجردات ما تنتهي إليه من الأمور.
ماذا؟؟؟ نواح مستنيرة بيضاء، وأخرى مظلمة سوداء، وأخرى تمتزج فيها الظلمة بالضياء.
ثم ماذا ؟؟ ألسنا نجد في بعض هذه النواحي اليسر والفرح والرخاء، وفى بعض آخر نجد العسر والكآبة والشقاء، وفى آخر يكون العدل والجود والتفريط والإفراط والكد والرخاء؟
ثم ماذا؟ ألسنا نجد في ناحية من النواحي الفوز، والسبق، والانتهاز والغلبة، وفى أخرى الانكسار والاندحار، وفي أخرى ما هو معروف من اليقين، أو الارتياب، أو ما هو مألوف من السكون، أو الاضطراب، أو ما هو معلوم من خسة، ودناءة، وخديعة ومكر؛ وغفلة وحذر؛ وإساءة وإحسان، ونكران وعرفان، وغير ذلك مما تنطوي أشباحه في صور الخير والشر. وقد يصيب الناس رشاش من بعض هذا، أو من كل هذا في عامهم الجديد، كما أصيبوا به في عامهم المنصرم. وقد تتصل الحياة بكل هذه النواحي، أو ببعض هذه النواحي فيصيبها شيء من ظلماتها، أو أضوائها! وكذلك الحال في حياة الأمم والجماعات كما هو في حياة الأفراد فقد تتحقق لها آمال، وقد تجد يسرا، وقد تصادف عسرا.
مهما يكن الأمر فيما وجدنا وفيما سنجد، فخير موقف نقفه عند استقبال عام ووداع آخر يجود بالنفس الأخير، أن نرفع وجوهنا إلى السماء عند دقة الساعة، وفى مفترق العامين، ونقول عندما نتمثل صور الألم والمتألمين، رضاء وصبرا ... وعندما نتمثل الإساءة تقع من أنفسنا ومن غيرنا، نرجو من الله ومن الناس مغفرة وعذرا ... وعندما نتمثل أمتنا في نهوضها وشبابنا في آماله، نسأل الله توفيقا وخيرا ... وعندما نتمثل شؤوننا وشؤون الناس نرسل إليك اللهم حمدا وشكرا، ويطيب للنفس أن تتغنى بالثناء، وللسان أن يردد: حمدا لله وشكرا ... حمدا لله وشكرا ...
ناپیژندل شوی مخ