أقبل مقودا، يتحسس الأرض بطرف عصاه، قد انحسرت عمامته البالية عن جبين بارز، وغار جفناه في محجريهما. منحني الظهر من الكبر، تطوق جبته الباهتة المنجردة الأطراف جسدا مهزولا، وقالت له عيون بعد أن اتخذ مجلسه: هاك يدي ممدودة يا شيخ طه، ولكن لا تشد عليها فهي ضعيفة.
صافحها برقة وحنان وهو يقول: سلامتك يا ست عيون! - حمدا لله على سلامتك يا شيخ طه، متى رأيتك آخر مرة؟
هز رأسه يمنة ويسرة، وقال: يا له من عمر! - تلك الأيام الحلوة يا شيخ طه. - ربنا يجعل أيامك كلها حلوة. - ولكن كيف؟ إني طريحة الفراش، وحيدة تماما يا شيخ طه.
فأشار إلى فوق وتمتم: عنده الرحمة. - وكيف اهتديت إلى مسكني؟ - صادفني عم آدم بواب البيت القديم.
رنت بعينيها الكليلتين إلى أخاديد وجهه، وهو يقتعد الكرسي كتمثال للفاقة، كم كان قويا ممتلئا أيام كان مقرئ البيت القديم، يزورهم كل صباح، فيشرب القهوة، ويقرأ ما تيسر من القرآن، ويفتي أمها فيما تستفتيه فيه، وهو الذي قال لها ليلة دخلتها: «العز قدامك والسعد خدامك.» ومن حنايا الماضي تدفق شعور ودود أليف، ممزوجا بالحنين والدمع، وإذا به يسلت من قدميه الحذاء المتهرئ، فيتربع فوق الكرسي، ثم يتلو:
والضحى * والليل إذا سجى * ما ودعك ربك وما قلى .
ولما شرب القهوة وخلت لهما الحجرة، راحت تقول له: إني وحيدة يا شيخ طه.
فقال كالمحتج: لكن الله موجود يا عيون هانم. - دائما قلقة وخائفة. - الله موجود يا ست عيون. - ليتك تزورني بقدر ما تستطيع! - هي أمنية الأماني عندي. - وكيف تسير الأمور يا شيخ طه؟ - جرت مشيئة الله بأن يقطع الراديو أرزاقنا، ولكن الله لا ينسى عبده، المهم ألا تستسلمي للحزن ولا لليأس. - إنه القلق، لا أحد لي إلا عدلية، وإذا تخلت عني ... - لن يتخلى الله عنك. - ولكني وحيدة بكل معنى الكلمة.
فلوح بيده آسفا، وقال: يا للخسارة! - أأنا مخطئة يا شيخ طه؟ - كلا، ولكنك غير مؤمنة! - ولكني مؤمنة، لقد فقدت ابني وزوجي في عامين متعاقبين، ولكني ما زلت مؤمنة. - لست مؤمنة يا عيون هانم.
غلبها الكدر، فلاذت بالصمت، فعاد يقول: لا تغضبي، المؤمن حقا لا يعرف الخوف ولا القلق ولا اليأس قلبه. - إني مؤمنة، ولكني طريحة الفراش، وتحت رحمة عدلية. - المؤمن لا يكون تحت رحمة أحد إلا ربه. - ما أسهل الكلام، ولكن ما أصعب العمل.
ناپیژندل شوی مخ