وجففت عينيها بمنديلها الصغير وواصلت: اضحكوا، جفت الدموع، ولكن لنا الضحك، الضحك أقوى من البكاء وأسلم عاقبة، اضحكوا من صميم القلوب، اضحكوا حتى يسمعنا أصحاب الحوانيت بشارعنا السعيد.
وسكتت دقيقة ثم استأنفت: هل نحزن لأمور تقع بانتظام مثل الشروق والغروب؟ ... سوف يعودون، وسيجلسون بيننا كالأشباح، وعهد الله أن أسمي المقهى وقتذاك «مقهى الأشباح».
ثم نظرت إلى عارف سليمان وقالت آمرة: قدم كأسا لكل زبون من زبائننا الكرام لنشرب نخب الغائبين!
وانطوت السهرة في كآبة شاملة.
على أننا سرعان ما نسينا همومنا القريبة التي تعد شخصية بالقياس إلى الأحداث الكبيرة التي اجتاحت الوطن؛ فقد تطايرت الشائعات وما ندري إلا والجيش المصري ينطلق بكل ثقله إلى سيناء، فاشتعلت المنطقة كلها بنذر الحرب، ولم يداخلنا شك في قوتنا ولكن ... - أمريكا، هي العدو الحقيقي. - إذا هجم الجيش انهالت علينا الإنذارات. - سيتحرك الأسطول السادس. - ستنطلق الصواريخ نحو الدلتا. - ألا يصبح استقلالنا نفسه في خطر؟
الحق أننا لم نشك في قوتنا. تداعت كثير من القيم أمام أعيننا، وتلوثت أيد لا حصر لها، ولكننا لم نشك في قوتنا، وإنه لتفكير لا يخلو من سذاجة، ولكن عذرنا أننا كنا مسحورين ومصرين على الأمل، وبدا أنه فوق طاقتنا أن نكفر بأول تجربة وطنية خالصة جاءت في ختام سلسلة من عصور الذل والاستعباد. ولبثنا متلهفين حتى استيقظنا على أعنف مطرقة صكت رءوسنا الثملة بنشوات العظمة. ولن أنسى ما زفره طه الغريب، وهو أطعننا سنا؛ فقد تجلى الأسى في عينيه وقال: ها أنا ذا على حافة القبر، وسيجيء الأجل بعد أسبوع أو شهر، فيا ربي لم لم تعجل به قبل أن يدركني هذا اليوم الأسود!
وأحرق الحزن قلوب الشعب البريء، ولم يعد له من أمل في الحياة، إلا أن يرد الضربة ويسترد الأرض، ولكني أنصت هنا وهناك إلى قلوب تخفق بالشماتة والفرح، وبدأت أدرك أن الصراع ليس صراعا وطنيا خالصا، وأن الوطن ينزوي حتى في أشد أحوال المحن في خضم صراع آخر يحتدم حول المصالح والعقائد، وجعلت أراقب هذه الفكرة فيما تلا ذلك من أيام وأعوام حتى وضحت جوانبها وتعرت جذورها، فإذا بيوم 5 يونيو يستوي في التاريخ هزيمة لقوم من العرب ونصر لقوم آخرين منهم أيضا، وأنه جاء ليهتك الستر عن حقائق ضارية، وليعلن حربا طويلة المدى بين العرب أنفسهم لا بينهم وبين إسرائيل فحسب. •••
وعقب وقوع الهزيمة بأسابيع عاد الغائبون أو بالأحرى عاد إسماعيل الشيخ وزينب دياب وآخران. وجدنا في عودتهم فرحة عابرة وسط الأحزان وتعانقنا طويلا.
وهتف إسماعيل الشيخ بصوت مضطرب: ها نحن أولاء نعود.
ثم بنبرة أعلى: وقد قبض على خالد صفوان!
ناپیژندل شوی مخ