(1) هول كارثة فلسطين وخطورتها
ألمت كارثة فلسطين بالأمة العربية فأصابتها في الصميم، وبلغت حدا أذهل الناس، فجعلتهم حيارى، لا يدرون تعليل هذه الهزيمة ولا السبب في هذا الخسران المخجل، فاندفعوا في حيرتهم يتخبطون، يحاولون أن يردوا النتائج إلى عللها، وتفرقوا في محاولتهم هذه شيعا وأحزابا، كل يرى الحق فيما ذهب إليه، والصواب كل الصواب فيما توصل إليه، فبعضهم عزا الهزيمة إلى مساعدة الدول الكبيرة للصهيونيين وتأييدها لهم، وآخرون رأوها فيما استطاع الصهيونيون أن يجمعوه من السلاح والذخيرة، والبعض رآها في التنظيم الصهيوني القائم على طرق علمية حديثة، وآخرون رأوها في استكانة منظمة الأمم وغيرها من الهيئات الدولية، وممالأتها لهم، وقوم آخرون يرون أن كل هذه الأسباب ما كانت لتؤدي إلى ما أدت إليه من الكوارث التي حاقت بالأمة العربية لولا ما أظهره بعض القائمين على شئونها من تخاذل وتنافر وخصام.
إن هذا الاختلاف في الوصول إلى أسباب الكارثة وعللها إن دل على شيء، فعلى عظم هذه الكارثة وهولها، وعلى أنها قد تخطت الظاهر من كيان الأمة وحلت في الصميم. وإنه لمن الخطأ أن نقارن هذه النكبة بغيرها من النكبات التي حلت بالقومية العربية في جهادها الطويل وحياتها المديدة؛ لأنها أعظم من كارثة الأندلس مع ما حفل به تاريخ الأندلس من مظاهر الحضارة البديعة ووجوهها الرائعة، كما أنه لا يمكن قياس قيام الدولة اليهودية في بلادنا بأية حركة استعمارية رأسمالية في التاريخ الحديث. فما أكثر ما قابلت الأمة العربية من عقبات في جهادها الطويل! وما أكثر ما اعترض سبيلها من الصعاب! فما كان طريق الجهاد في يوم من الأيام معبدا مأمونا، ولا كان السبيل إلى المجد مفروشا بالرياحين والورود، وإن من وطد العزم على السير بأمته نحو ما يصبو إليه الحر من عز وسؤدد لخليق به أن يهيئ النفس لمقارعة الخطوب ومجالدة العدى، واقتحام ما يقام أمامه من العراقيل، ولكن المحنة تشتد يوم تأتيك من حيث لا تحتسب، وإن الكارثة لتعظم ساعة تحل بك من حيث أمنت، وإن الهزيمة ليتضاعف نكرها إذا أوقعها بك من كنت لشأنه مستصغرا، ولقوته محتقرا، ممن كنت تعتقد أنه أضعف قوة وأقل عددا من أن يطاولك ويغالبك، فكيف به وقد طاولك وغلبك، ورحم الله من قال:
يا صلاح الدين قم وانظر إلى
حالة في القدس تستبكي العيون
أبدل العز الذي تعرفه
ذلة واستأسد المستضعفون
لقد كان ذلك شأن الأمة العربية مع الصهيونيين، كنا في غفلة من أمرنا، نمنا واستيقظ العدو، وركنا إلى الأوهام الكاذبة الخادعة، نبني عليها صرح آمالنا، وشمر العدو عن ساعده، وجد وعمل وعمد إلى الحقائق يقيم عليها صرح أطماعه، وينظر إليها بعين الخبرة والمعرفة، وسلط نور العقل على ما يعرض عليه من الشئون، ووزن الأمور بالموازين التي وضعت لها، لا يلهيه ما يرى من سند الدول الكبرى له وتأييدها إياه، فيركن إلى هذا السند وذاك التأييد ركونا مطلقا، ولا يفتنه ما يراه في نفسه من التقدم العلمي والازدهار المادي فيعتمد عليهما الاعتماد كله، بل يراهما فيقدرهما حق قدرهما، ولا يمنعه ذلك من أن يستثمر في عمله وأن يضاعف الجهد فيه. وبالرغم عن ذلك كله، كان زعماء اليهود يقولون: «إن المنظمات الصهيونية قد فهمت القول أكثر من فهمها العمل.» (2) نظرتنا إلى الصهيونية
وأما نحن، فقد كنا نساير هوانا في مكافحة هذا العدو ومقاومته، نستصغر من أمره ما أرضى استصغاره شهوتنا، ونحتقر من شأنه ما أقنع الاحتقار غرورنا، نحكم العاطفة حيث يجب أن يحكم العقل، ونعتمد على الأوهام حيث لا يجوز الاعتماد إلا على ما ثبت من الحقائق. نرى العدو يسعى جاهدا في إعلاء شأنه ودعم مركزه، فنعمد نحن إلى كتب التاريخ نقلب صفحاتها ونتخذ من ماضينا ما نخدر به أعصابنا، ألم نكن كلما حزبنا الأمر وتجسم لنا الهول نعيد الطمأنينة إلى نفوسنا، والسكينة إلى قلوبنا، بأن نذكر أن الله جلت حكمته كتب عليهم التشرد والتفكك والانحلال؟ كنا نفعل كل ذلك ونتناسى أمرا لا يجوز تناسيه في معرض هذه الذكرى، ألا وهو أن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، كنا ننسى أن الله جلت قدرته لن يدفع عنا الضر إلا إذا اتحدنا وتضافرنا في دفعه، وأنه سبحانه وتعالى لا يحب من عباده المتواكلين المتخاذلين الذين تفرق شملهم وذهبت ريحهم، فلا يهبون هبة رجل واحد ليدفعوا عن أنفسهم خطرا حاق بهم، وداهية تعصف بكيانهم، لقد كنا إذا ادلهم الخطب ورأينا النوائب تتجمع لتعصف بنا ننسى كل شيء إلا أننا أبناء الغطارفة الألى حملوا نبراس الحضارة عاليا، فتحوا الفتوح وأقاموا الممالك وهزموا الجيوش، وأسسوا لهم في التاريخ اسما لن تمحوه العصور، في وقت كان الجهل فيه فاشيا والتخاذل سائدا، فأما هؤلاء المشردون الذين ما سطر التاريخ لهم صفحة مجد، والذين أصبح اسمهم في العالم مرادفا للذلة والمسكنة، فهل كان هؤلاء إذا قيسوا بنا ذوي خطر وشأن يذكر؟ وماذا تستطيع هذه الحفنة الصغيرة من شذاذ الآفاق أن تفعل في خضم العالم العربي الذي لا ينقصه المجد التليد ولا السؤدد الماضي ولا العز القديم؛ إن من يرى في هذا النفر خطرا يهدد كياننا كان أحد رجلين، إما متشائم قد أغرق في التشاؤم حيث لا مجال لذلك، أو خائن قد اشتراه العدو ليشيع الوهن في صفوفنا ويبعث الشك في قلوبنا، ويجعلنا نكفر بأمجاد الماضي.
هكذا سرنا في غفلتنا وأمعنا في سباتنا، فصرنا كلما ارتفع فينا صوت يدعو إلى العمل نخمده ونكبته، أو نضيعه وسط صراخ المهوشين المشعوذين، حتى جاء وقت سكت فيه الكثيرون من عقلاء الأمة عن الجهر بالحقائق، خوفا من مهاجمة الجهال، وكم ذهبت نداءات المصلحين منا، ودعوات المخلصين من رجالنا صيحة في واد، فكأنما جعلنا تاريخنا مخدرا يسكن آلام الجرح ولا يبرئه، ويبعث فينا التخاذل والاستكانة، حتى إذا أيقظنا ضجيج الحوادث من غفلتنا فاستفقنا من سباتنا، وجدنا أن ما كنا نركن إليه وهم من الأوهام، وأننا كنا نبني في الهواء قصورا، بينما كان العدو يقيم بنيانه على رواسي الجبال بالأسس العلمية الصحيحة، فقد اتخذ من مآسيه وآلامه الماضية، ومما كابد من شظف العيش وذل الاضطهاد سببا يدعوه إلى التآخي والتكاتف وتوحيد الكلمة، والائتلاف والسير على المناهج القومية بالطرق الفنية الحديثة.
ناپیژندل شوی مخ