بسم الله الرحمن الرحيم
﴿وما توفيقي إلا بالله عليك توكلت وإليك أنيب﴾ الحمد لله الذي أمر بالعدل والإحسان، ونهى عن الفحشاء والمنكر والعصيان، قضى بنفع العبد وضره، وأمضى القدر بشره وخيره. كما حرك أهل عبادته إلى نصرة دينه وأزعج. وأوقد نيران غيرته في أفئدة أحبته وأجج. وهدى للقيام بأوامره ونواهيه أولي الألباب، وأوجب عليهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بنص الكتاب. فقال سبحانه خطابًا خاصًا لقوم يعقلون، وأمرًا عامًا لمن بعدهم يخلفون ﴿ولتكن منكم أمةٌ يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون﴾ أحمده تعالى على التوفيق للإسلام، وأشكره على إنعامه الخاص والعام، وأستعينه وأستمده، وأتوكل عليه وأسأله عملًا يقرب إليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إلهًا واحدًا صمدًا لم يتخذ صاحبة ولا ولدًا، ولا يشرك في حكمه أحدًا. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الذي بيَّن الدين ونوَّر، وأعلن التوحيد وأظهر، وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر، فظهر دينه على سائر الأديان، وعظم قدره بنزول القرآن، وأحلت له الغنائم ودفعت (بعلو) همته العظائم. صلى الله عليه وعلى آله المطهرين من الأدناس وأصحابه المعظمين الأكياس. صلاة توجب لنا ولهم جزيل الإنعام، بدار الجود والفضل والإكرام، أما بعد فقد قال الله تعالى في وصف عباده القائمين بنصرة دينه إلى يوم النشور: ﴿ولينصرنَّ الله من ينصره إن الله لقويٌ عزيزٌ الَّذين إن مَّكَّنَّهم في الأرض أقاموا الصَّلاة وآتوا الزَّكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور﴾. وروى الإمام الحافظ أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري- ﵀ في صحيحه من حديث أبي عتبة، عبد الرحمن بن يزيد بن جابر الأزدي أحد ثقات الشاميين وأعيانهم، عن أبي الوليد عمير بن هانئ العنسي
1 / 15
الدمشقي الداراني، أنه سمع معاوية بن أبي سفيان- ﵁ وهم بالشام يقول سمعت النبي- ﷺ يقول: "لا تزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتيهم أمر الله وهم على ذلك". قال عمير: فقال مالك بن يخامر: قال: معاذ بن جبل- ﵁ وهم بالشام فقال معاوية: هذا مالك يزعم أنه سمع معاذًا يقول وهم بالشام). ورواه مسلم في صحيحه دون قول مالك وكذلك ابن ماجه.
وفي رواية الصحيحين قال: قال رسول الله- ﷺ "من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين ولا تزال عصابة من المسلمين يقاتلون على الحق ظاهرين علة ما ناوأهم إلى يوم القيامة". ورواها الإمام أحمد في مسنده وفي الصحيحين- من حديث المغيرة بن شعبة- ﵁ قال: رسول الله- ﷺ "لا يزال ناس من أمتي ظاهرين" وفي رواية: "لا تزال طائفة من أمتي" وذكره. وفي رواية لهما لن يزال من أمتي ظاهرين على الناس. وذكره وفي مسند الإمام أحمد وجامع أبي عيسى الترمذي من حديث معاوية بن قرة المزني عن أبيه- ﵁ قال: قال رسول الله- ﷺ: (إذا فسد أهل الشام فلا خير فيكم ولا تزال طائفة من أمتي منصورين لا يضرهم من خذلهم حتى تقوم الساعة). قال الترمذي حديث حسن صحيح. ورواه ابن ماجة وليس عنده ذكر الشام وأورده أبو محمد البغوي عند تفسير قوله تعالى: ﴿وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون﴾ وفي صحيح مسلم، وسنن ابن ماجه من حديث ثوبان مولى النبي- ﷺ و- ﵁ قال: قال رسول الله- ﷺ: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك) وقد رواه الإمام أحمد، وأبو داود- في جملة حديث طويل- والله أعلم. وفي المعجم الأوسط لأبي القاسم الطبراني من حديث الوليد بن عبادة عن عامر بن عبد الواحد الأحول، عن أبي صالح الخولاني عن أبي هريرة- ﵁ عن رسول الله- ﷺ: "لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على أبواب دمشق وما حوله، وعلى أبواب بيت المقدس وما حوله، لا يضرهم خذلان من خذلهم ظاهرين على الحق إلى أن تقوم الساعة" وهذا من أفراد الوليد. وروى ابن ماجه نحوه من حديث أبي هريرة- أيضًا- ولفظه: "لا تزال طائفة من أمتي قوامة على أمر الله- ﷿ لا يضرها من خالفها".
1 / 16
وفي مسند الإمام أحمد من حديث أبي هريرة- أيضًا- ﵁ عن النبي- ﷺ أنه قال: (لا يزال هذا الأمر أو قال: على هذا الأمر عصابة على الحق لا يضرهم خلاف من خالفهم حتى يأتيهم أمر الله).
وفي المسند- أيضًا- من حديث أبي عبد الله الشامي قال: سمعت معاوية يقول: (يا أهل الشام حدثني الأنصاري قال شعبة يعني زيد بن أرقم- ﵁ أن رسول الله- ﷺ قال: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين. وإني لأرجو أن تكونوا (منهم) يا أهل الشام).
روى يوسف بن سعيد بن مسلم. قال: حدثنا ابن كثير هو محمد، عن الأوزاعي عن قتادة عن أنس- رضي الله (عنه) - قال: قال رسول الله- ﷺ: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة).
وأومأ بيده إلى الشام.
أنكره البخاري، أن يكون من حديث قتادة عن أنس وقال: إنما هو عن مطرف عن ابن عمر.
وفي مسند الإمام أحمد، وسنن أبي داود، من حديث عمران بن حصين- ﵁ أن النبي- ﷺ قال: (إذا فسد أهل الشام فلا خير فيكم لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين على من ناوأهم حتى يقاتل آخرهم المسيح الدَّجال).
قوله: (لا تزال) لا تبرح. أخبر- ﷺ أن خلاصة هذه الأمة لا تزال أبدًا على هذا الحال الذي أخبر.
و(الطائفة) الجماعة. وهم العصابة في الحديث الآخر.
وفي رواية (أمة) وهم الذين قال الله فيهم: ﴿وممن خلقنا أمةً يهدون بالحق وبه يعدلون﴾.
ففي هذه الأحاديث: دليل على ظهور الباطل وكثرته لأنه إذا لم يكن على الحق إلا
1 / 17
طائفة واحدة فالباقون على الضلالة. لقوله: (فماذا بعد الحق إلا الضلال) كما قال- تعالى- فيهم: ﴿وقليل ما هم﴾ وسيأتي- في الباب الثالث- قوله- ﷺ: (بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ).
قوله: (قائمة) قيل: يحتمل وجهين:
الأوَّل: أن يكون معناه موفيه، لأن العرب تقول: فلان قام بالأمر أي وفاة حقه.
الثاني: أن يكون معنى قائمة ثابتة. كما قال تعالى-: ﴿قائمة على أصولها﴾.
وقوله: (بأمر الله) الأمر- هنا- هو إتباع ما أمر. واجتناب ما نهى على واجبه ومندوبه.
وقوله: (منصورين) وفي رواية (ظاهرين) وهما بمعنى واحد.
وقوله: (ناوأهم) - هو بهمزة بعد الواو- أي عاداهم.
وقوله: (لا يضرهم من خذلهم) وفي رواية: (من خالفهم) قيل ثلاثة أوجه ذكرها الإمام عبد الله بن أبي جمرة وغيره:
الأول: أن يكون المراد به الأشخاص القائمون بالأمر لا يقدر أحد على ضرهم.
الثاني: الضرر لا يلحق فعلهم، ويقبل منهم، ولا ينقص لهم من أجورهم شيء وإن كانوا مجاورين للمخالفين لهم.
الثالث: أن يكون المراد لا يضرهم ولا يضر عملهم. ثن قال: وهذا أظهر الأوجه، بدليل قوله- تعالى-: ﴿وكان حقًّا علينا نصر المؤمنين﴾.
فللَّه سبحانه- وله الحمد- عناية بهذا الدين، لاسيما الأرض التي بارك فيها للعالمين وأظهر على الحق العصابة المنصورة الظاهرة، وأيقنت على النصر متمًا لنصر القلوب الزاكية الطاهرة وأرغم- بذلك- معاطس أهل الزيغ والنفاق، وجعله أميرًا للمؤمنين إلى يوم الحشر والتلاق ونسأله- تعالى- دوام هذه النعمة الجمة، وأن يجعلها متصلة.
وفي الحديث بشارة عظيمة لمن اتصف بالصفة المذكورة، أنه لا يخاف الضرر، وإن كثر أهل الفساد، فيكون أبدًا مطمئن النفس، منشرح الصدر، لأن المؤمنين الذين أوجب لهم النصر بمجرد الفضل هم الموصوفون في الحديث.
1 / 18
وقد قال بعض السلف، إذا وافقت الشريعة، ولاحظت الحقيقة فلا تبال وإن خالف رأيك جميع الخليقة.
قوله: (حتى يأتي أمر الله) المراد به قيام الساعة كما في بقية الروايات.
وقيل: الآيات الكبار كما في الرواية الأخرى: (حتى تقاتل آخرهم المسيح الدجال) وقال بعض علماء أهل التصوف: إن أمر الله عام، والمراد به الخصوص أي يختص كل أحد (بجدثه) وهو الموت. فيكون المراد بسياق الحديث: بأن يموتوا على الخبر فتنشرح صدورهم للموعد الجميل، لأن خيرهم متعد ولو لم يكن متعديًا انقطعت آثارهم ولكنهم يخلفون جيلًا جيلًا. والله أعلم.
(وقد نص الإمام أحمد على أن أصحاب الحديث هم الطائفة المذكورون في هذه الأحاديث المذكورة.
ونص- أيضًا- على أنهم الفرقة الناجية. في الحديث الآخر الذي رواه. وكذا قال يزيد بن هارون، وغيره).
قال أبو زكريا يحيى النووي: (يحتمل أن هذه الطائفة مفرقة بين أنواع المؤمنين فمنهم شجعان مقاتلون، ومنهم فقهاء، ومنهم محدثون، ومنهم زهاد، وآمرون بالمعروف وناهون عن المنكر، ومنهم أهل أنواع أخر من الخير. انتهى).
قال بعض العارفين: (جعل الله المسلمين على أنواع، فعوامهم كالرعية للملك، وكتبة الحديث كخزان الملك، وأهل القرآن كحفاظ الذخائر ونفائس الأموال، والفقهاء بمنزلة الوكلاء للملك، إذ الفقيه (يوقِّع) عن الله، وعلماء الأصول كالقواد وأمراء الجيوش، والأولياء كأركان الباب، وأرباب القلوب وأصحاب الصفاء كخواص الملك وجلسائه.
فشغل قومًا بحفظ أركان الشرع، وآخرين بإمضاء الأحكام، وآخرين بإمضاء الأحكام، وآخرين بالرد على المخالفين، وآخرين بالأمر المعروف والنهي عن المنكر).
وروى أبو بكر البزار من حديث أبي سعيد الخدري- ﵁ أن
1 / 19
النبي- ﷺ قال: (إني لأعرف ناسًا ما هم أنبياء ولا شهداء، يغبطهم الأنبياء والشهداء بمنزلتهم يوم القيامة، الذين يحبون الله تعالى، ويحببونه إلى خلقه، يأمرونهم بطاعة الله، فإذا أطاعوا الله أحبهم الله).
وروى الشيخ أبو الفتح نصر بن إبراهيم المقدسي- ﵀ في كتابه- الحجة على تارك المحجة نحوه من حديث يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك مرفوعًا: "ألا أخبركم بأقوام ليسوا بأنبياء ولا شهداء؟ يغبطهم يوم القيامة النبيون والشهداء بمنازلهم من الله- ﷿ على منابر من نور، يعرفون عليها قالوا: من هم يا رسول الله؟ قال: قومٌ يحببون عباد الله إلى الله- تعالى- ويحببون الله إلى عباده، يمشون (على) الأرض نصحًا فقال: هذا يحبب الله إلى عباده، فكيف يحببون عباد الله إلى الله- تعالى-؟ قال: يأمرونهم بما يحب الله- ﷿ وينهونهم عما يكره الله، فإذا أطاعوا أحببهم الله- ﷿ ومن هذه الطائفة التي بهذا الوصف تذكر، الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر فلا يزال في كل عصر طائفة قائمين لله بالحق داعين بهممهم الخلق، منحوا بحسن المتابعة رتبة الدعوة، وجعلوا للمتقين قدوة قد ظهرت في الخلق آثارهم، وأشرقت في الآفاق أنوارهم، من اقتدى بهم اهتدى، ومن خالفهم عن طريق الحق واعتدى، تالله ما اهتم بالخلاص، إلا أهل التقى والإخلاص. أيامهم بالأمر بالمعروف زاهرة، ودولتهم بالنهي عن المنكر قاهرة، قد باعوا عرض الدنيا بجوهر الآخرة، فأسبغ عليهم مولاهم نعمة باطنة وظاهرة".
قال الحافظ أبو العباس أحمد بن محمد البرتي: حدثنا أبو حذيفة هو موسى بن مسعود النهدي قال: حدثنا سفيان، عن عطاء بن السائب، عن عبد الرحمن (بن) الحضرمي قال: أخبرني من سمع النبي- ﷺ يقول: (إن في آخر أمتي قومًا يعطون من الأجر مثل ما لأولهم ينكرون المنكر) ورواه حجاج بن منهال عن حماد بن سلمة، عن عطاء بنحوه.
ورواه الشيخ أبو الفتح نصر- في كتاب الحجة- من حديث طاهر بن الفضل قال: حدثنا سفيان، عن عطاء بن السائب فذكره.
فمن أنكر منكرًا، وبذل فيه جهدًا، وأخلص لله- تعالى- قصده، كان من آخر الصدر الأول عارفًا- كما تقدم في الحديث- آنفًا.
1 / 20
وفي جامع الترمذي بعبارة مستعذبة المعاني وإشارة مستغربة المباني من حديث أنس- ﵁ قال: قال رسول الله- ﷺ: (مثل أمتي مثل المطر لا يدري آخره خير أم أوله).
ورواه أبو عبد الله محمد بن سلامة القضاعي- في مسند الشهاب- من حديث ابن عمر.
ورواه الإمام أحمد من حديث عمار بن ياسر مرفوعًا بتقديم (أوله) على (آخره) قال ذلك- ﷺ مبهمًا بقوله: (لا يدري). ثم صرح بذكر الأول والآخر، ولم يذكر الوسط.
قال بعض العلماء: فإن قيل: فما وجه كون الحديث مشعرًا بمشابهة آخر الأمة أولها في الخير، مع ما ثبت في الأحاديث المشهورة في تفضيل صدر هذه الأمة على من بعدهم كقوله: (خير الناس قرني ثم الذين يلونهم) وقوله: (فلو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبًا ما بلغ مد أحدهم ولا نصفيه).
ثم ما صرح به القرآن من تفضيلهم في غير ما آية كقوله تعالى: ﴿والسابقون الأولون .....﴾ الآية. وقوله: ﴿لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل ......﴾ الآية. إلى غير ذلك فالجواب أن الأحاديث كلها صحيحة مقبولة لا تناقض فيها، إذ كل منها ورد على حال خاصة ووصف خاص، وجملتها تدل على فضيلة هذه الأمة، وشرفها عند الله- ﷾.
أما قوله: (لا يدري آخره خير أم أوله) أبهم القول فيه، لعلمه بما يكون من الأخيار والسادات من الأبرار، في آخر الزمان من أمته، وأنه يكون فيهم من يلحق بأولها في فضله وفضيلته، من جهة من جهات أعماله ومجاهداته، وثوابه و(إن) لم يدرك ما فاته من فضيلة تقدمهم إياه، وسبقهم بصحبة المصطفى- ﷺ فقال: (لا يدري) أي بالرأي والاستنباط بل بما أخبر به من الغيب، ليشمر المشمرون في كل زمن إلى الجد، وطلب سنن من تقدم. والمعنى الآخر وهو أن لا ييأس أحد من توفيق الله وفضله، الذي لا يقف على زمن بعينه أن يوصل من شاء من متأخري هذه الأمة في آخر أمرها فضل من تقدمها.
وفي حديث عبد الرحمن بن سمرة، لما بعثه خالد بن الوليد بشيرًا إلى رسول الله- ﷺ يوم مؤتة في آخره (فبكى) أصحاب رسول الله- ﷺ وهم حوله. فقال
1 / 21
وما يبكيكم؟ قالوا: قتل خيارنا وأشرافنا فقال: (لا تبكوا فإنما مثل أمتي مثل حديقةٍ قام عليها صاحبها، فحلق سعفها، وهيأ مساكبها، فأطعمت عامًا فوجًا، وعامًا فوجًا، فلعل آخرها طعمًا يكون أجودها قنوانًا، وأطولها شمراخًا، والذي بعثني بالحق نبيًا ليجدن ابن مريم في أمتي خلفًا من حواريه).
وفي حديث جبير بن نفير الحضرمي- ﵁ أن رسول الله- ﷺ قال: (ليدركن المسيح من هذه الأمة أقوامًا إنهم لمثلكم أو خير منكم- ثلاث مرات- ولن يجزيّ الله أمةً أنا أولها والمسيح آخرها).
فظهر بما تقدم، أن الأخير قد يساوي الأول مع تجويز أن يفضل قوم من المتأخرين بقوله: (أو خير منكم).
وفي حديث أبي ثعلبة الخشني الآتي في الباب العاشر قوله- ﷺ: (إن من ورائكم أيامًا، الصبر فيهن مثل القبض على الجمر، للعامل أجر خمسين رجلًا يعلمون مثل عملكم) قال ابن المبارك: وزادني غير عتبة قيل: يا رسول الله أجر خمسين رجلًا منا أو منهم؟ قال: لا، بل أجر خمسين رجلًا منكم. رواه أصحاب السنن وغيرهم. فانظر وجه الجمع بين هذه المماثلة والتفضيل للمتأخرين في هذين الحديثين. وهي فضيلة القرن الأول، وأنه لا يدرك أحد مُدَّ أحدهم، وذلك أنَّ أصحابه- ﵃ سبقوا الخلق، وفضلوا من بعدهم، بسبقهم في الوجود في زمنه، وبصحبتهم إيَّاه، ورؤيته لا يلحقهم في هذا أحد بنفقةٍ ولا عمل، لقوله: ﴿والسابقون الأولون﴾.
كما روى مسلم، وغيره من حديث أبي هريرة مرفوعًا: (أنتم أصحابي وإخواننا الذين لم يأتوا بعد) يعني أن هذا أمر فرحتم بسبقه، فلم يعنه بقوله مما ذكر في الأحاديث الأخر من مساواة الآخرين لهم، أو فضلهم، بل أراد أن الآخرين يساوون الأولين في الأعمال وثواب الطاعات والمجاهدات (والأفعال) ألا تسمعه كيف قال: (ثواب العامل
1 / 22
منكم)؟ فبان أن الأولين فضلوا بالصحبة والسبق لكن يساويهم الآخرون، أو يفضلونهم في ثواب المعاملة الأجر.
أما وجه المساواة ففيما يأتي في الباب الثالث.
من قوله- ﷺ: (بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ). فكما أن الدين كان محتاجًا إلى أول الأمة في إبلاغه إلى من بعدهم، كذلك هو محتاج إلى القائمين به في أواخرها، وتثبيت الناس على السنة وإظهارها. لكن الفضل للمتقدم كالزرع الذي يحتاج إلى المطر الأول والمطر الثاني لكن العمدة الكبرى على الأوَّل.
قال بعض العلماء: فعمل المتأخرين في غربة الإسلام عملًا أخرًا يوازي عمل الأولين في غربة الإسلام أولًا لاستواء مجاهدتهم، وقلة عددهم ومساعديهم.
ووجه فضل المتأخرين في غربة الإسلام أخرًا على الأولين، في المجاهدة وأجر العمل والمكان، أن الأولين جاهدوا مع المصطفى- ﷺ (بالإضافة إلى) رؤيته ودعائه، (ومعونته) وتحريضه وشفقته- فكان لهم- بذلك- أقوى عدد ومدد لم يكن للمتأخرين وكانت مجاهدتهم أعظم، ومعاناتهم أتم وأبلغ فكان أجرهم أزيد وأكثر.
وقد روى الطبراني من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنه- ﷺ قال لأصحابه: (أيُّ الخلق أعجب إيمانًا! قالوا: الملائكة قال: وما لهم لا يؤمنون وهم عند ربهم، قالوا: فالأنبياء. قال: وما لهم لا يؤمنون والوحي ينزل عليهم قالوا: فنحن قال: وما لكم لا تؤمنون وأنا بين أظهركم؟ ! قالوا: فمن يا رسول الله؟ قال: قوم يأتون من بعدي يؤمنون بي ولم يروني).
وروى الإمام أحمد، وغيره من حديث أبي أمامة مرفوعًا. (طوبى لمن رآني وآمن بي وطوبى لمن آمن بي ولم يرني. ثلاث مرات).
وبسنده، عن أبي محيريز قال: قلت لأبي جمعة رجل من الصحابة: حدثنا حديثًا
1 / 23
سمعته من رسول الله- ﷺ قال نعم أحدثكم حديثًا جيدًا: تغذينا مع رسول الله- ﷺ ومعنا أبو عبيدة بن الجراح فقال يا رسول الله: هل أحد خير منا؟ أسلمنا معك، وجاهدنا معك قال: (نعم قوم من بعدكم يؤمنون بي ولم يروني).
يشير- في هذه الأحاديث- إلى فضل أيام المتأخرين مع قلة مددهم، فالآمر بالمعروف الناهي عن المنكر في زماننا، قائم بالركن الأعظم في الدين، والمهم الذي ابتعث الله به جميع المرسلين، لأن عليه مدار أمر الدين، وبأسبابه أنيطت منازل الكونين.
وقد روى الترمذي وغيره من حديث عمرو بن ميمون الأودي أنَّ رسول الله- ﷺ قال لبلال بن الحارث يومًا: (اعلم يا بلال، قال: ما أعلم؟ قال: اعلم أنَّ من (أحيا) سنةً من سنتي لأميتت بعدي كان له من الأجر مثل أجر من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيئًا).
وروى- أيضًا- بسنده عن أنس بن مالك- ﵁ أن رسول الله- ﷺ قال له: (يا بني إن قدرت أن تصبح وتمسي وليس في قلبك غش لأحد فافعل، ثم قال: يا بين وذلك من سنتي، ومن أحيا سنتي فقد أحياني ومن أحياني كان معي في الجنة).
وقال: حديث حسن غريب. فهذا أتم شرف وأكمل فضل أخبر به- ﷺ في حق من أحيا سنته.
وروى البيهقي في كتاب المدخل من حديث حمزة بن الحسن عن محمد بن عجلان القرشي عن أبيه عن أبي هريرة ﵁ قال: قال رسول الله- ﷺ: (القائم بسنتي عند فساد أمتي له أجر مائة شهيد).
وروى الشيخ أبو الفتح نصر المقدسي، من حديث عبد الحميد بن عبد العزيز بن أبي داود عن أبي جعفر رفعه قال: قال رسول الله- ﷺ: (من تمسك بسنتي عند فساد أمتي فله أجر مائة شهيد).
1 / 24
ورواه البيهقي من حديث ابن عباس، من رواية الحسن بن قتيبة.
ورواه الطبراني من حديث أبي هريرة- بإسناد لا بأس به- إلا أنه قال: (فله أجر شهيد) وسيأتي- في الباب الثالث- من رواية الترمذي، عن كثير بن عبد الله لن عمرة عوف، عن أبيه، عن جده مرفوعًا: "إن الدين بدأ غريبًا، ويرجع غريبًا، فطوبى للغرباء".
وهم الذين يصلحون ما أفسد الناس من سنتي إلى غير ذلك من الألفاظ. فلما ذكر ﷺ عود غربة الإسلام فضل أهلها بقوله: فسيعود غريبًا كما بدأ فطوبى للغرباء، فخص الآخرين من غرباء الإسلام بطوبى لصعوبة الأمر عليهم وشدة المعاناة في حفظ الدين لهم. كما قال: في آخر زمنهم: (.... المتمسك فيه بدينه كالقابض على الجمر ....).
والمقصود أنَّ الفساد في زماننا قد اتسع خرقه، وأظلم فقه بإفشائه وإشهاره، ومداهنة بعض الناس في إنكاره. وأطم المصائب، وأعظم المعائب، وأرذل الخصال، وأوضع المراتب أخذ المال السحت على الإقرار عليه، وحماية فاعله من أن يتوصل بالإنكار إليه، فلا حول ولا قوة إلا بالله ولا نعتمد في كراهة ذلك على سواه.
أي ركن وقد وهى؟ وأي نور للأمة قد ذهب واختفى، مذ رفع بساط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المألوف.
وقد قال أبو حامد الغزالي- ﵀: "ولو طوى بساط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأهمل عمله تعطلت النبوة، واضمحلت الديانة، وعمت الفتن، وفشت الضلالة وشاعت الجهالة، وانتشر الفساد، واتسع الخرق وخربت البلاد. وهلك الصالح بطالح العباد، وإن لم يشعروا به إلى يوم التناد. وقد كان الذي خفنا أن يكون. فإنا لله وإنا إليه راجعون، إذ (اندرس) من هذا القطب عمله وعلمه، وانمحقت- بالكلية- حقيقته ورسمه. واستولت على القلوب- مداهنة الخلق، وانمحقت عنها مراقبة الخالق. واسترسل الناس في إتباع الهوى والشهوات استرسال البهائم، وعز- على بساط الأرض- مؤمن صادق. لا تأخذه في الله لومة لائم".
فهذا قول- أبي حامد- في زمانه، وفيه؟؟؟؟؟ الغفير من أقرانه. فما الظن بهذا الزمان وقد تمكن من غالب أهله الشيطان، وفشت فيهم المنكرات الجليلات، وظهرت عليهم ملازمة الحفيرات، وصار تعاطي ذلك بينهم مألوفًا، وعدم الإنكار عليهم معروفًا، وعاد الإسلام غريبًا كما بدأ غريبًا. والمنكر للمنكر الآمر بالمعروف طريدًا، والساكت المتخلي
1 / 25
حبيبًا. وعظمت الخطوب والعظائم، ولم يبق إلا القليل ممن لا تأخذه في الله لومة لائم فظل- بذلك- علم الدِّين مندرسًا، ومنار الهدى- في أقطار الأرض- منطمسًا، وأصبح بين الخلق مطويًا، وبات نسيًا منسيًا. فما أقرب الساكتين عن المنكر من فاعليه وما أبعدهم من ذوق حلاوة الإيمان وما فيه، وما أحقهم بلزوم هذه الآية الشريفة الشريفة التي تظهر للناس سريرتهم قوله- تعالى-: ﴿لا تجد قومًا يؤمنون بالله واليوم الآخر يوأدُّون من حادَّ الله ورسوله ول كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم﴾ فمن سعى في تلافي هذه الفتن المستمرة، وسد تلك الثلمة المستقرة، فقد جدد السنة الفاخرة، ناهضًا بإحياء معالمها الداثرة، (لأن معظم مصالح الدنيا ومفاسدها معروف بالعقل والتجارب ومعظم الشرائع، إذا لا يخفى على عاقل قبل ورود الشرع أن تحصيل المصالح المحضة ودرء المفاسد المحضة عن نفس الإنسان، وعن غيره محمود حسن، وأن تقديم أرجح المصالح فأرجحها محمود حسن، وأن (درء) أفسد المفاسد فأفسدها مقصود حسن. وأن تقديم المصالح الراجحة على المفاسد المرجوحة محمود حسن. وأن درء المفاسد الراجحة عن المصالح المرجوحة محمود حسن.
واتفق العلماء على ذلك. كما قال الإمام الحبر عز الدين بن عبد السلام. ثم قال: واعلم أن أكساب العباد ضربان.
أحدهما: ما هو سبب المصالح وهو أنواع: أحدها ما هو سبب لمصالح دنيوية والثاني ما هو سبب لمصالح أخروية والثالث ما هو سبب لمصالح دنيوية وأخروية. وكل هذه الأكساب مأمور بها، ويتأكد الأمر بها على قدر مراتبها في الحسن والرشاد.
الضرب الثاني: من الإكساب: ما هو سبب المفاسد وهو أنواع أحدها: ما هو سبب لمفاسد دنيوية، الثاني: ما هو سبب لمفاسد أخروية. الثالث: ما هو سبب لمفاسد دنيوية وأخروية وكل هذه الأكساب منهي عنها، ويتأكد النهي عنها على قدر مراتبها في القبح والفساد) انتهى. والله أعلم.
فلما شاهدت نقص الدين بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ملمًا، قصدت جمع كتاب- يفصل ذلك والتحريض عليه- مهمًا. وذلك بعد استخارة الله وسؤاله أن يصحبني توفيقًا، ويفتح- لي إلى ذلك المنهج- طريقًا، لأن أولى ما انصرفت إليه عناية ذوي الهمم، وأحق ما اهتدى بأنواره في غياهب الظُّلم، وأنفع ما استدرت به صنوف النعم. وأمتع ما
1 / 26
استدرئت به صروف النقم ما أمر الله- تعالى- به في كتابه العظيم، وفيه رغب رسوله الكريم، وجنح إليه المرسلون والأنبياء، وعول عليه الصالحون والأولياء، فهممت بتلخيصه للنفع العاجل، والأجر المدخل الآجل.
وحركت الإدارة الرحمانية العزمة الصارمة المحمدية، لأن من علم شرف المطلوب جد وعزم، وإنما يكون الاجتهاد على قدر الهمم، فشرعت في ذلك طلبًا لما هناك، معرضًا على الإطالة، خوف السآمة والملالة.
وسميته "بالكنز الأكبر في الأمر المعروف والنهي عن المنكر". وجعلته عشرة أبواب معتمدًا في إنجازه على الكريم الوهاب.
الباب الأول: في فضل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبيان فرضيتهما، وبيان ذم تارك ذلك، وتأكيد الإثم على من صد عنه.
الباب الثاني: في بيان أركان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وشروطه، ودرجاته، ومراتبه.
الباب الثالث: في بيان طبقات الناس من الآمرين والمأمورين والمتخلفين، وأن القائمين- بذلك- بين أهل الفساد- من الغرباء المكروهين.
الباب الرابع: في بيان ما يستحب من الأفعال والأقوال والأحوال في (الأمر) بالمعروف والنهي عن المنكر.
الباب الخامس: في بيان ما يكره من الأقوال والأفعال والأحوال في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الباب السادس: في بيان ما يسقط به وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وما يندب من التخلي عن ذلك في غالب الأحيان وأكثر الأزمان.
الباب السابع: في عد الاشتراط للآمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يكون سليمًا من المعصية، وأن ذلك غير مختص بولاة الأمور. وفيه فصل ذكر شيء من المنكرات المألوفة من الناس.
الباب الثامن: في الحث على إقامة الحدود، وبيان تحريم تعطيلها بشفاعة وغيرها إذا اتصلت بولي الأمر.
الباب التاسع: في فضل الإصلاح بين الناس، واستجاب معونتهم على البر والتقوى.
1 / 27
الباب العاشر: في خاتمة الكتاب، ويشتمل على أربعة فصول معرفات تزيل الاكتئاب وبها يتم قصدته من جمعه، وأردته من تهذيبه ووضعه- والله الموفق لإتمامه وإكمال أمره وإبرامه.
وسيأتي فصول منكرات في بعض الأبواب، تمكن من نيل المقصود من فحوى الخطاب. على سبيل الاختصار، وسلوك طريق الإنجاز والاقتصاد، لأن الإطناب يوجب الضجر، والاختصار يبعث القرائح والفكر، فليس للناظر فيه أن يفهمه بما عداه، أو يعارضه بشيء المراد منه سواه، بل يمعن النظر في ذلك بعقل مجرد عن الأهواء، وقلب مشحون بالبر، فرب كنز ناله فقير، وكم من فضل فاز به صغير. والعبد معترف بالتقصير عن هذه المنزلة الشريفة، والعجز التام عن إدراك تلك المرتبة المنفية خائف أن لا يقوم بالقصد المطلوب، ولا يأتي بالمطلب المرغوب، لكن المرجو من فضل الرحمن تيسير ذلك بإخلاص، وجزيل النفع للعام والخاص، جبرًا منه لعبده، وإحسانًا بكرمه ورفده، إنه سميع الدعاء، واسع العطاء، قد عمر بره وعمر خيره- تبارك اسمه، وتعالى جده، ولا إله غيره.
1 / 28
الباب الأول: في فضل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبيان فرضيتهما وذم تارك ذلك وتأكيد الإثم على من صد عنه. قال الله تعالى وجل ذكره وتقدست أسماؤه التي عجز عن حصرها العالمون ﴿ولتكن منكم أمَّةٌ يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون﴾. وقال تعالى إخبارًا عن هذه الأمة المحمدية بأنهم خير الأمم ﴿كنتم خير أمَّةٍ أخرجت للنَّاس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله﴾. وقال عز من قائل: ﴿ليسوا سواء من أهل الكتاب أمَّةٌ قائمةٌ يتلون آيات الله أنآء الَّليل وهم يسجدون يؤمنون بالله واليوم الأخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسرعون في الخيرات وأولئك من الصَّالحين﴾. وقال تعالى: ﴿لا خير في كثير من نَّجواهم إلَّا من أمر بصدقةٍ أو معروفٍ أو إصلاح بين النَّاس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجرًا عظيمًا﴾. وقال ﷾: ﴿يا أيُّها الَّذين آمنوا كونوا قوَّامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين﴾. وقال جلت عظمته: ﴿يا أيُّها الَّذين آمنوا كونوا قوَّامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنَّكم شنئان قومٍ على ألاَّ تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتَّقوا الله إنَّ الله خبير بما تعملون﴾.
وقال أصدق قائل: ﴿لولا ينهاهم الربَّانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون﴾.
وقال سبحانه- واصفًا لعباده القائمين لنصرة دينه، ومثنيًا عليهم بكل خير جسيم: ﴿يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم﴾.
1 / 29
وقال تعالى- توبيخًا لقوم يجهلون، وتقريعًا لمن بعدهم يخلفون: ﴿لعن الَّذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون﴾.
وقال- عز من قائل- مخاطبًا كليمه موسى بن عمران، واصفًا لحبيبه المبعوث من عدنان حيث نوه بذكر صفاته الظاهرات: ﴿الَّذين يتَّبعون الرَّسول النَّبي الأمّيَّ الَّذي يجدونه مكتوبًا عندهم في التَّوّراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحلُّ لهم الطيِّبات﴾. وقال تعالى: ﴿ومن قوم موسى أمَّةٌ يهدون بالحق﴾.
وقال- سبحانه- منوهًا بنجاة الناهين عن المنكر من العذاب لعلهم يستبقون ﴿وإذ قالت أمَّةٌ منهم لم تعظون قومًا الله مهلكهم أو معذبهم عذابًا شديدًا قالوا معذرةً إلى ربِّكم ولعلَّهم يتَّقون فلمَّا نسوا ما ذكروا به أنجينا الَّذين ينهون عن السُّوء وأخذنا الَّذين ظلموا بعذاب بئس بما كانوا يفسقون﴾.
وقال- تعالى- مبينًا صفات المنافقين، ومعرفًا أخلاق الفاسقين، أنهم ينهون عن المعروف ويأمرون بالمنكر المألوف، فأراد- سبحانه- بذلك أن يخزيهم بقوله: ﴿المنافقون والمنافقات بعضهم مِّن بعضٍ يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم نسوا الله فنسيهم﴾.
ثم (جلَّى) - تعالى- أوصاف عباده المؤمنين والمؤمنات، وأوردها بأكمل المعاني، وأحسن العبارات، حيث افتتحها بالأمر بالمعروف، إذ كان المؤمن بها أجمل منعوت وموصوف. فقال من لا إله سواه: ﴿والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعضٍ يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله﴾.
وقال- ﵎ في السورة التي ذكرنا فيها فضله ومنَّه: ﴿إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأنَّ لهم الجنَّة﴾.
ثم ذكر- سبحانه- أوصاف هؤلاء السادة، ليبادر الفائزون إلى التحلي بها فينالوا مراده. فقال- وهو خير المحسنين-: ﴿التَّائبون العابدون الحامدون السَّائحون
1 / 30
الرَّاكعون السَّاجدون الآمرون بالمعروف والنَّاهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين﴾.
وقال- ﷿: ﴿فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقيَّة ينهون عن الفساد في الأرض إلَّا قليلًا ممَّن أنجينا منهم واتَّبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين﴾.
ثم تولى الله- سبحانه- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بنفسه الشريفة، ونظم ذلك منبهًا عليه فذ هذه الآية اللطيفة فقال- مفهِّمًا ومعلِّمًا لقوم يعقلون-: ﴿- إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهي عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلَّكم تذكَّرون﴾.
ووعد- تعالى- عباده القائمين بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بتأييدهم ونصرتهم على أهل الفساد بعد تعظيم الأجور فقال: ﴿ولولا دفع النَّاس بعضهم ببعض لهَّدِّمت صوامع وبيعٌ وصلواتٌ ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرًا ولينصرنَّ الله من ينصره إنَّ الله لقويٌ عزيزٌ الذَّين إن مَّكَّنَّهم في الأرض أقاموا الصَّلاة وآتوا الزَّكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور﴾.
وقال- تعالى-: ﴿وجاهدوا في الله حقَّ جهاده هو اجتباكم﴾.
ثم أمر- سبحانه- بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ثم بالصبر عليه على لسان عبده لقمان الحكيم حين وصى لابنه دلالة على استباق الخيرات والأجر الموفور.
حيث قال: ﴿يا بني أقم الصلاة أمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إنَّ ذلك من عزم الأمور﴾.
وقال- تعالى-: ﴿والعصر إنَّ الإنسان لفي خسرٍ إلَّا الذَّين آمنوا وعملوا الصَّالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصَّبر﴾.
1 / 31
فصل- ١ -: حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض عين أم فرض كفاية
أما قوله- ﷾: ﴿ولتكن منكم أمَّةٌ يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون﴾.
فقال جماعةٌ من أهل التفسير: الأمر متوجه إلى من توجه الخطاب عليهم وهم الأوس والخزرج وأمره- سبحانه- لهم بذلك أمر لجميع الأمة ومن تابعهم إلى يوم القيامة، فهو من الخطاب الخاص الذي يراد به العام.
واللام في قوله (ولتكن) لام الأمر. و(من) - هنا- صلةٌ ليست للتبعيض.
كقوله- تعالى-: ﴿فاجتنبوا الرجس من الأوثان﴾.
وقال أبو إسحاق الزجاج: (من) هنا- لبيان الجنس فيكون متعلق الأمر- أيضًا- جميع الأمة، يدعون جميع العالم إلى الخير- الكفار إلى الإسلام، والعصاة إلى الطاعة- فظاهر هذا يشعر بأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض عين فيكون معنى الآية: كونوا كلكم أمةً يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.
وقال جماعةٌ: معنى قوله: (أمة) أي أئمة فتكون (من) هنا للتبعيض أي أئمة منتصبة للقيام بأمر الله في الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأن الدعاء إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يصلح إلا لمن (علم) المعروف والمنكر وكيف يرتب الأمر في إقامته. وكيف يباشر ذلك الأمر.
(لأن) الجاهل ربما أمر بمنكر ونهي عن المعروف. وقد يغلظ في موضع اللين، أو يلين في موضع التغليظ، فعلى هذا يكون متعلق الأمر ببعض الأئمة وهم الذين يصلحون لذلك وهذا يدل على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية. وهو قول الجمهور كما سيأتي:
قوله: ﴿يدعون إلى الخير﴾ هو عام في جميع التكاليف، فدخل فيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغيره من الطاعات. ثم جيء بالخاص، إعلامًا بفضله وشرفه. فقال: ﴿ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر﴾ كقول الله- تعالى-: ﴿وجبريل وميكال﴾ وقوله:
1 / 32
﴿والصَّلاة الوسطى﴾ وقوله: ﴿فيهما فاكهةٌ ونخلٌ ورمانٌ﴾ وقوله في الحديث: (كان- ﷺ يحب الحلوى والعسل وما يشابه ذلك).
وقوله: ﴿ويأمرون بالمعروف﴾ فالأمر ضد النهي. المره منه (أمره) بالفتح، والجمع (أوامر) يقال: (أمور) بكذا على فعول. والنهي خلافه.
يقال: (نهاه) (ينهاه) (نهيًا) (فانتهى) و(تناهى) أي كف. وهو (نهوٌّ) و(النُّهية) الاسم منه. و(تناهوا) أي نهي بعضهم بعضًا.
و(المعروف) طاعة الله قاله أبو سليمان الداراني.
وقال الراغب: المعروف كل ما يستحسنه العقل. وأما المنكر فهو: معصية الله. وقيل: كل ما يستقبحه العقل وينكره. وقبل: المعروف خدمة الحق، والمنكر صحبة النفس. وقيل: المعروف إيثار حق الحق، والمنكر اختيار حظ النفس. وقيل: المعروف ما يزلفك إليه، والمنكر ما حجبك عنه.
وقوله: ﴿وأولئك هم المفلحون﴾ جعل سبحانه- الفلاح منوطًا بذلك يعني المتصفين بما تقدَّم هم الناجون الفائزون فازوا بالجنة ونجوا من النار.
وقيل: الذين أدركوا ما طلبوا ونجوا من شر ما منه هربوا. قاله ابن عباس. وقيل: الفلاح بمعنى البقاء أي الباقون في النعيم المقيم المقطوع لهم بالخير في الدنيا والآخرة.
فمن اتصف من الأمة بهذه الصفات دخل معهم في الثناء والمدح لهم.
كما قال قتادة: بلغنا أن عمر بن الخطاب في حجة حجها رأى من الناس نزغة فقرأ هذه الآية: ﴿كنتم خير أمَّةٍ أخرجت للنَّاس﴾ قال: من سره أن يكون من تلك الأمة فليؤد شرط الله فيها. رواه محمد بن جرير.
ومن لم يتصف بذلك أشبه أهل الكتاب الذين ذمهم الله بقوله: ﴿كانوا لا يتناهون عن مُّنكرٍ فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون﴾.
1 / 33
في الآية إشارة إلى (أقوام) قاموا بالله لله، لا تأخذهم لومة لائم، وقفوا على دلالات أمره، واستغرقوا أعمارهم في تحصيا رضاه، عملوا لله، ونصحوا لدين الله، ودعوا خلق الله إلى الله. فربحت تجارتهم، وما خسرت صفقتهم.
ثم قال- تعالى- بعد ذلك: ﴿ولا تكونوا كالَّذين تفرَّقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيمٌ﴾ نهى سبحانه هذه الأمة أن تكون كالأمم الماضين في تفرقهم واختلافهم، وتركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فهؤلاء أقوام أظهر- سبحانه- عليهم في الابتداء رقوم الطلب ثم وسمهم في الانتهاء بكيِّ الفرقة، فباتوا في سلك الأحباب، وأصبحوا في زمرة الأجانب. والله أعلم.
فصل- ٢ -: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض عين أم فرض كفاية
وأما قوله- تعالى-: ﴿كنتم خير أمَّةٍ أخرجت للنَّاس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله﴾.
(فقال عكرمة، ومقاتل: نزلت في ابن مسعود، وأبي بن كعب، ومعاذ بن جبل وسالم مولى أبي حذيفة.
وذلك أن مالك بن الصيف، ووهب بن يهوذا اليهوديين.
قالا: نحن أفضل منكم، وديننا خير مما تدعونا إليه فأنزل الله هذه الآية).
[وقال ابن عباس: هم الذين هاجروا مع النبي- ﷺ إلى المدينة وقال الضحاك: هم أصحاب محمد- ﷺ خاصة الرواة الدعاة، الذين أمر الله المسلمين بطاعتهم.
وقال الحسن البصري، ومجاهد، وجماعةٌ: الخطاب لجميع الأمة بأنهم خير الأمم- ويؤيد ذلك كونهم شهداء على الناس. وقوله- ﷺ: (نحن الآخرون السابقون .....) الحديث].
1 / 34