د فلسفیانو ریښې لپاره بنائیت
الجذور الفلسفية للبنائية
ژانرونه
ولنذكر أنه كان في هذا الصدد يفرق بين العلوم الإنسانية، التي تستهدف الفهم النظري وحده، ولا تفترق مهمتها عن مهمة العلوم الطبيعية أو العلوم المنضبطة، وبين العلوم الاجتماعية، التي يمكن أن يكون لها دور عملي؛ لأن هدفها هو التغيير، وهو شيء لم يحاول ليفي ستروس أن يحققه في كتاباته، بل حرص على أن يظل بعيدا عن الميدان العملي وعن محاولات التغيير؛ فهو يسعى إلى الفهم فحسب. وقد عبر عن هذه التفرقة بقوله: «لقد استعارت العلوم الإنسانية من العلوم المنضبطة والطبيعية درسا هو ضرورة التخلي عن المظاهر
apparences
إذا أراد المرء فهم العالم، على حين أن العلوم الاجتماعية قد استخلصت درسا موازيا، هو ضرورة قبول المرء للعالم إذا أراد تغييره.» وربما بدا المصطلح الذي يستخدمه ستروس في هذا الصدد غريبا إلى حد ما؛ إذ إن من الشائع أن يستخدم لفظ «العلوم الإنسانية» لمجموعة العلوم التي تقبل مظهر العالم وتعترف بالظواهر الإنسانية على ما هي عليه. على حين أن لفظ «العلوم الاجتماعية» أكثر انطباقا على تلك العلوم الهادفة إلى الانضباط والدقة، والتي تسعى إلى الاقتراب من مناهج العلوم الطبيعية، ومن ثم ترفض الشكل الظاهري للموضوعات التي تبحثها، وتسعى إلى حقيقة خافية من وراء المظاهر، تعبر عنها - في الغالب - بقوانين رياضية. ولكن ستروس آثر أن يعكس الآية، ويجعل الانضباط في جانب العلوم الإنسانية. وعلى أية حال فالمسألة تسمية فحسب، ومن المعروف أن تعبيري «العلوم الاجتماعية» و «العلوم الإنسانية» ما زالا موضوع خلاف بين المشتغلين في هذا الميدان، ولم يستقر الرأي نهائيا على مسميات ثابتة تحدد نطاق كل منهما حتى اليوم.
والذي يهمنا في هذا الأمر هو أن ستروس بالرغم من تأكيده هدف «الانضباط» في العلوم الإنسانية، كان فيلسوفا في رفضه للطابع الذي تتبدى عليه الأشياء، وسعيه إلى حقيقة أعمق من هذا المظهر . ولنذكر في هذا الصدد أن «كانت» بدوره كان يضع نصب عينيه هدف العلم «المنضبط»، ويستهدف تحقيقه في مجال الفلسفة ذاتها، التي أراد منها أن تبحث عن عوامل الانضباط في علمي الطبيعة والرياضة وتطبقها في ميدانها الخاص. وهكذا يمكن القول إن «كانت» أراد أن يجعل من الفلسفة «علما إنسانيا» بالمعنى الذي حدده ستروس.
بل إن تفاصيل الانتقال من مظهر العالم إلى الحقيقة العلمية متشابهة فيما بين «كانت» وستروس؛ ذلك لأن ستروس بدوره يرى أن ما نعرفه عن العالم الخارجي ندركه من خلال حواسنا، أي إننا نضفي على الظواهر التي ندركها سمات معينة، ترجع إلى الطريقة التي تعمل بها حواسنا، وإلى الترتيب الخاص الذي يرتب به ذهننا المنبهات الحسية ويفسرها. ومن أهم سمات عملية الترتيب هذه تفتيت المتصل الزماني والمكاني المحيط بنا إلى قطاعات منفصلة، بحيث نرى في الطبيعة أشياء مصنفة في فئات، ونجعل الزمان مؤلفا من حوادث منفصلة متعاقبة. وما يحدث في حياتنا الاجتماعية، وفي ثقافتنا، هو انعكاس لما يحدث في إدراكنا للعالم المحسوس؛ إذ إننا نجزئ نواتج ثقافتنا ونرتبها بنفس الطريقة التي نجزئ بها نواتج الطبيعة ونرتبها، ونكون منها «بناء» مماثلا للبناء الذي ننظم به إدراكنا للعالم. وكما تحدث كانت عن مقولات ذهنية تكون قوالب لا بد أن يصاغ فيها كل ما ندركه عن العالم، ثم طبق هذه المقولات، في الجزء الخاص ب «جدل العقل الخالص» من كتابه المشهور «نقد العقل الخالص»، على نواتج الفكر الميتافيزيقي والتأملي البحت، فجعل منها ما يشبه «البناءات» التي تنقل من مجالها الأصلي إلى مجال مغاير، فكذلك فعل ليفي ستروس حين أكد أننا عندما نضع نظما اجتماعية أو نقوم بشعائر، نحاكي طريقة إدراكنا للطبيعة، ونحول النموذج الذي ندرك عليه الطبيعة إلى المجال الثقافي، بحيث يكون بناؤهما مشتركا. وهذا أمر مفهوم؛ لأن الذهن البشري هو الفعال في الحالتين، ولا بد من وجود نقاط تشابه أساسية في طريقة ممارسته نشاطه في كل مجال من المجالات.
ولكن، مثلما أن تأكيد «كانت» لفاعلية الذهن البشري لم يؤد به إلى أن يكون مثاليا على طريقة باركلي، فكذلك كان ستروس بعيدا كل البعد عن هذا النوع من المثالية؛ فهو يعترف بأن للطبيعة وجودا حقيقيا خارج الذهن البشري، ولا يجعل وجودها متوقفا على إدراكنا الذهني لها. «ولكن فهمنا للطبيعة تتحكم فيه كثيرا طبيعة ذلك الجهاز الذي نفهمها به. وهكذا فإن فكرة ستروس هي أننا إذا لاحظنا الطريقة التي نفهم بها الطبيعة، وتأملنا خصائص التصنيفات، التي نستخدمها وطريقة تعاملنا مع المقولات الناتجة عن هذه التصنيفات، أمكننا أن نستدل على حقائق أساسية عن آلية التفكير.»
3
وإذا عرفنا آلية التفكير البشري، أمكننا أن ندرك نواحي التشابه الأساسية في الثقافات المختلفة التي تشترك في أنها كلها نواتج لذهن يعمل بطريقة واحدة.
وإذن، فلم يكن ليفي ستروس مثاليا بنفس الطريقة التي كان بها باركلي مثاليا، ولكن مثاليته «كانتية» إلى حد بعيد، فهو بدوره يؤكد تدخل الذهن في كل شيء، ويتمسك بفكرة الترابط الوثيق بين كل الظواهر، التي تجمع بينها آلية ذهنية واحدة. وتنفذ هذه النظرة الكانتية إلى صميم عمله الأنثروبولوجي، فيسعى إلى كشف العلاقات الباطنة بين مختلف مظاهر الحياة في المجتمع البدائي. ويرى أن السلوك اليومي للناس في هذا المجتمع، وطريقة تشييدهم لمساكنهم، وأداءهم لشعائرهم وطقوسهم الروحية، وتنظيمهم لعلاقات القرابة بينهم، كل هذه تكشف عن بناء واحد قد يجد العالم الأنثروبولوجي صعوبة كبرى في الوصول إليه؛ لأنه بناء لا شعوري، لا يدرك عن وعي ولا يوجد على السطح الظاهر، ولكنه لن يعجز عن ذلك إذا كان مسلحا بالمنهج السليم.
أما هذا المنهج السليم فأهم ما فيه هو تأكيد أولوية البناء على مظاهره الخارجية، أو ما يمكن أن يسمى - بلغة كانت - بالقبلية
ناپیژندل شوی مخ