٨ فمن أين ترى دخل الغلط على بعض الناس حتى قالوا ان لكل واحد من الأشياء الموجودة سببا ماسكا أما أنا فأظن أن الغلط دخل عليهم من قبل أنهم لم يفرقوا بين الأشياء التى يقال فيها على الإطلاق والتحقيق انها موجودة وبين الأشياء التى ليس يقال ذلك فيها على التحقيق والإطلاق بل مع الاستثناء وذلك أن الأشياء التى لا تلبث أجزاؤها فليست تلك الأشياء موجودة على الإطلاق مثل الصوت والمشى وكل فعل وانفعال وبالجملة كل حركة بنقلة كانت أو باستحالة فإنه قد يظن أن لهذه أسبابا ما ماسكة من لم يكن له خبرة صحيحة بطبيعتها حتى يعلم أن وجودها انما هو فى التكون نفسه وليست موجودة على الإطلاق لأنه ليس يبقى جزء من أجزائها كما يبقى من كل واحد من الأشياء الموجودة وقد عرض مثل ذلك فى أمر النبض وذلك أنهم لما رأوه يكون فى مدة الحياة كلها فى العروق الضوارب والقلب ولا يفتر ظنوا أنه شىء من الأشياء الموجودة وليس النبض موجود كالعروق الضوارب والقلب وسائر أعضاء البدن وذلك أن وجوده إنما هو فى التكون إذ كان ليس لجزء من أجزائه ثبات وقد يظن قوم أن لأجزائه ثباتا من قبل أنهم لا يقدرون على أن يفرقوا بأذهانهم بين المتكون وبين الموجود فإن المتكون يشبه الماء الجارى وأما الموجود فيشبه الماء القائم وكذلك تجرى الأمر فى الأنهار وخاصة إذا نظر الإنسان إليها من بعد فإنه يتخيل له ماء النهر كأنه واقف وليس شىء من أجزائه بالحقيقة ثابتا لكن من قبل أن الصورة العامية للماء ثابتة دائما فى الماء الجارى كثيرا ما يتخيل لنا أن الماء واقف غير جار وكذلك أيضا النبض فإن ما منه قد تكون وفرغ فهو غير موجود وكذلك أيضا ما هو مزمع بالتكون والموجود منه إنما هو ما يقع تحت الأصابع ما دام يقع تحتها على أن هذا أيضا ليس هو موجودا على الإطلاق بل وجوده إنما هو فى التكون وذلك أنه ليس يلبث جزء من أجزائه إذ كان كل واحد منها يبطل إذا تكون بل الأحوط أن تقول حين يتكون فأما أسباب تكونه فقد بينا أنها ثلثة المنفعة التى بسببها احتيج إلى أن يكون والقوة الحيوانية التى عنها تكون وجرم العروق الضوارب والقلب الذى هو آلة له فإن آثرت أن تسمى هذه الأسباب الأسباب الماسكة لتكون النبض كما سميتها أنا فى مواضع كثيرة من كتابى فى النبض لا على التحقيق بل على طريق الاستعارة لإيضاح القول وإيجازه فما بئس ما تصنع فى اللقب وقد يجرى هذا المجرى الرصاص فى بعض الأصنام التى تميل إلى قدام فإن الصنم منها متى لم يلتحم بدنه برجليه سقط على وجهه فإذا ألحم بالرصاص وقف منتصبا فإن الميل فى الصنم من هذه بحسب طبيعته التى تخصه باق بعد اللحام على حاله إلا أن الرصاص يمنعه ويمسكه ويجذبه إلى ورائه فيجب من ذلك أن يكون الرصاص إنما هو سبب لتكون ما لا لوجود على الإطلاق لكن لما كان هذا المتكون يبقى ما بقى متشابه الحال صار يسبق إلى وهم من يراه أنه أمر واحد مشار إليه وليس ذلك أمرا مشارا إليه ولا هو وجود ما أصلا بل تكون فى مواد كثيرة مشار إليها عن سبب واحد ومثال ذلك ما يعرض لأصحاب التشنج وذلك أن الحال الفاعلة لهذا العرض إذا بقيت فإن المتكون هو التشنج والحال الباقية هى سبب ماسك لتكونه وكذلك أيضا للسهر واختلاط الذهن والسبات والسعال وسوء التنفس وظلمة البصر وثقل السمع أسباب موجودة فى البدن فاعلة لهذه العلل التى ذكرت وبعض الناس يسمى الحالات أنفسها أمراضا ويقول ان أصناف ضرر الفعل هى أعراض لاحقة لهذه الحالات وبعضهم يسمى أصناف ضرر الأفعال أمراضا ويقول ان أسبابها هى حالات الأبدان فأما أن منزلة الحالات بالقياس إلى أصناف الضرر منزلة الأسباب لها فأمر يقر به الجميع وكذلك أيضا قد يقرون بأن الغرض الأول المقصود إليه بالعلاج إنما هو الحالات لا أصناف الضرر وأما ما وقع فيه الاختلاف فإنما هو فى اللقب لكنه قد يلزم أهل الفرقة الأولى أعنى الذين يسمون حالات الأبدان أمراضا ألا يقولوا ان هاهنا سببا ماسكا فى الأمراض أصلا ويلزم أهل الفرقة الأخرى ما قلته قبيل أن يكونوا يستعملون على طريق الاستعارة اسم السبب الماسك على الحالات إذ كان ضرر الأفعال إنما يحدث عنها
[chapter 9]
مخ ۶۸