[chapter 1] كتاب جالينوس فى الأسباب الماسكة
مخ ۵۲
١ إن أول من علمته قال سببا ماسكا من الفلاسفة أصحاب المظلة وذلك أنهم يرون أنه يتكون من الاسطقسات الأربعة الأجسام التى يلقبها ارسطوطاليس بالمتشابهة الأجزاء ويصفها فلاطن بالمتكونة بدءا وأن سائر الأجسام إنما تركب من هذه والاسطقسات أنفسها بعضها يسمونها هيولانية وبعضها يسمونها فعالة وذوات قوى ويقولون ان الاسطقسات الهيولانية متماسكة بالاسطقسات ذوات القوى فالنار والهواء عندهم ذوا قوة فعالان والأرض والماء هيولانيان ويقولون انه إذا وقع الامتزاج فإن ذوى القوى ينفذان بأسرهما فى الهيولانيين بأسرهما أى أن الهواء والنار ينفذان فى الماء والأرض وان الهواء بارد والنار حارة وان من شأن الجوهر أن يجتمع ويتكاثف عن طبيعة الهواء وأن ينبسط وينحل ويأخذ موضعا أوسع عن طبيعة النار وان الاسطقسين الفعالين لطيفا الأجزاء والاسطقسين الآخرين غليظا الأجزاء ويسمون كل جوهر لطيف الأجزاء روحا ويزعمون أن فعله أن يتماسك به الأجسام الطبيعية وأبدان الحيوان وأعنى بقولى الأجسام الطبيعية ما كان تكونه عن الطبيعة لا عن مهنة من مهن الناس مثل النحاس والحجارة والذهب والخشب ومن أعضاء بدن الحيوان الأعضاء التى يقال لها الأول المتشابهة الأجزاء أعنى العصبة والعرق الضارب وغير الضارب والغضروف والعظم وسائر ما يجرى هذا المجرى وكما أن الناس يصلون الخشب بعضه ببعض بالغراء والضبات والمسامير والطين والجبسين والكلس كذلك نجد الطبيعة توصل أعضاء البدن كلها حتى تتحد بالغضاريف والرباطات والأوتار ولك أن تسمى إن آثرت الأعضاء التى تفعل هذا الاتصال فى الأعضاء البسيطة أسبابا ماسكة للأعضاء المركبة وكذلك لك أن تسمى بمثل ذلك الطين والجبسين والكلس وسائر ما يقوم مقامها فى الأجرام التى من خارج التى يوصلها الناس بالمهنة لا الطبيعة إلا أن أصحاب المظلة ليس هذه هى التى يسمونها الأسباب الماسكة بل الجوهر اللطيف الأجزاء من الجوهر الهيولانى
[chapter 2]
مخ ۵۴
٢ فأما اثيناوس الذى من أهل اطاليا فإذ كان أول من أنشأ فى الطب الفرقة التى تعرف بفرقة أصحاب الروح فقد يشبه مذهبه أن يقول فى المرض سببا ماسكا إذ كان إنما يبنى على فرقة أصحاب المظلة وذلك أنه كان تلميذ بوسيدونيس وعنه أخذ وأما سائر الأطباء الذين يعتقدون آراء أخر فليس يليق بمذهبهم [أيضا] أن يطلبوا سببا ماسكا فى كل واحد من الأمراض ولا يليق بمذهبهم أيضا أن يطلبوا سببا ماسكا فى الأجسام المتشابهة الأجزاء التى هى على حالها الطبيعية ولا يجوز لهم أن يقولوا كما كان اثيناوس يقول ان أصناف الأسباب الأول التى لا أسباب أعلى منها فى الجنس ثلثة والأصناف الثلثة التى كان يقول بها اثيناوس هى هذه الأول منها صنف الأسباب الماسكة والثانى صنف الأسباب السابقة والثالث تستغرقه مادة الأسباب البادئة ويسمى بالأسباب البادئة ما كان خارجا من البدن ومن شأنه أن يغيره تغييرا ما أى تغيير كان ويسمى ما ولدته هذه الأسباب فى أبداننا مما هو من جنس ما يحدث مرضا ما دام لم يحدث بعد مرضا الأسباب السابقة ويقول ان الاستحالات التى تحدث عن هذه الأسباب وعن الأسباب التى من خارج فى الروح الغريزى حتى يرطب أو يجف أو يسخن أو يبرد هى أسباب ماسكة للأمراض وذلك أن الروح عنده لنفوذه فى الأعضاء المتشابهة الأجزاء يحيلها باستحالته ويشبهها بنفسه قال فربما كان حدوث الأسباب الماسكة عن الأسباب البادئة دفعة من غير متوسط وربما كان حدوثها بتوسط الأسباب السابقة قال فإن الانسان متى أصابه حر الشمس تغير الروح الغريزى فيه وصار أسخن مما كان ومتى أصابه البرد استحال إلى البرد ومتى كانت هذه الاستحالات يسيرة لم يكن المرض حل بالبدن بعد فمتى بلغ من خروج العضو عن مزاجه الطبيعى أن يضر ذلك بفعله فقد حل به حينئذ مرض من قبل سوء مزاج وسببه الماسك هو الروح إما لأنه سخن بأكثر من المقدار وإما لأنه برد وإما لأنه يبس وإما لأنه رطب وأصحاب هذه الفرقة يسمون بالأسباب السابقة الأخلاط المتولدة فى أبداننا متى سخنت أو بردت أو رطبت أو يبست بأكثر من المقدار وذلك أنهم يرون أن الأعضاء الأصلية تقبل الاستحالة منها على طول الزمان حتى تصير على مثل حالها ومن قبل ذلك يدخل أيضا على أفعالها الضرر ويرون أن مما يجرى هذا المجرى سموم ذوات السموم مثل سم الكلب الكلب وجميع الأدوية المضاد طبعها لطبع البدن من القتالة وغيرها قالوا وبعض هذه السموم والأدوية ليست تفعل فى أبدان الحيوان فعلا بين الرداءة إلا بعد زمان طويل جدا وذلك من قبل أن إحالتها ليست تكون دفعة بل قليلا قليلا قالوا وكثرة الدم أيضا ربما كانت سببا للأمراض
[chapter 3]
٣ وأما أنا فأقول ان الأجسام الطبيعية إنما تكونت من النار والأرض والماء والهواء فإن بقراط قد كان قبل جميع الناس أورد البرهان عليه ولا فرق بين أن تسمى الأسطقسات من قبل جواهرها كما سميتها فى هذا الموضع فتقال نار وماء وهواء وأرض وبين أن تسمى من قبل كيفياتها فتقال رطب ويابس وحار وبارد وأما أن الروح هو أولا يستحيل فى الأجسام الطبيعية ثم يحيل باستحالته سائر الأجسام معه فلست أراه صوابا وذلك أن الروح ليس يبقى أصلا على ما كان عليه منذ أول الأمر متى وقع المزاج بينه وبين سائر الأجسام عند امتزاج الاسطقسات الأربعة على الكلية بعضها ببعض بل يحدث عن الأربعة جسم واحد خامس هو غير كل واحد من تلك الأربعة ومثال ذلك المرهم المعروف بذى الأربعة الأدوية فإنا إذا عملنا هذا المرهم فخلطنا الشمع والزفت والراتينج والشحم فامتزجت بعضها ببعض على الكلية فليس يبقى حينئذ واحد من هذه الأدوية بعد الخلط على ما كان عليه قبله بل يحدث دواء واحد خامس غير كل واحد من الأدوية الأربعة وذلك أنه لا يكون عند الامتزاج ولا واحد منها خالصا على طبيعته حافظا لها وكذلك يجرى الأمر فى الأجرام الصلدة فإنك إن أخذت اقليميا وزاجا وزنجارا واسفيداجا فسحقتها سحقا ناعما حتى تصير فى حد الغبار وخلطتها بعضها ببعض لم يبق حينئذ كل واحد منها على ما كان عليه منذ أول الأمر
[chapter 4]
مخ ۵۶
٤ فلذلك متى أحدث سبب من الأسباب التى من خارج فى الأعضاء المتشابهة الأجزاء استحالة ما إما بإسخان وإما بتبريد وإما بتجفيف وإما بترطيب فإن التغيير منه يقع بالمركب بأسره إلا أن الأولى أن يكون الذى يستحيل أولا أرطب الأجسام كما نجد ذلك فى الأشياء التى من خارج متى وقع حمى الشمس على الماء وعلى الحجارة بالسواء وأسرع استحالة من الماء الهواء فكذلك قلت أنا فى كثير من كتبى ان القوة التى ترد على البدن من خارج من شأنها أن تحيل أولا الجوهر الذى يسمى جوهر الهواء والروح ثم تحيل ثانيا جوهر الرطوبات ثم حينئذ تصل إلى جوهر الأجسام الأصلية وتحيل أولا من هذا الجوهر أيضا السمين واللحم من بعد ذلك تحيل الأجسام التى من جنس الأغشية والعصب ثم من بعد هذه الغضاريف والعظام فإن فى الأفضية التى فى البدن جوهرا هوائيا كما فيه جوهر رطب إلا أنه ليس لقائل أن يقول ان الروح الذى فى الأجسام الأصلية يستحيل قبل الرطوبات وذلك أنه ليس يلبث ويبقى الروح نفسه ولو كان يلبث لكان لعمرى سيستحيل بسرعة إذ كان على غاية التهيؤ لقبول الاستحالة من الأشياء المسخنة والأشياء المبردة والأشياء المرطبة والأشياء المجففة كما نجد ذلك عيانا فى الهواء المحيط بنا فإنه قد يجب أن تكون الأجسام اللطيفة أول الأجسام استحالة وقد أصاب شيعة اثيناوس ذلك فى اعتقادهم فإنا نرى عيانا فى الحر الذى يكون عند طلوع الشعرى العبور أول ما يقبل حمى الشمس الهواء ثم بعد ذلك بقليل ما وقع عليه شعاع الشمس من الرطوبات ماء كان أو غيره ثم بأخرة الأجرام الصلدة وأيضا فإن الشمس إذا غربت فزال حميها كان الهواء أول ما يرجع إلى مزاجه الذى كان عليه منذ أول الأمر ثم يتلوه فى ذلك الماء ثم بأخرة الحجارة وذلك أن ما كان سريع الاستحالة كان تغيره إلى كل واحدة من الحالين المتضادتين سريعا وما كان بطىء الاستحالة فكما أن خروجه عن الأمر الطبيعى إنما يكون فى زمان طويل كذلك أيضا رجوعه إليه إنما يكون فى زمان طويل فالحال فى أبدان الحيوان كالحال فى الأجرام التى لا أنفس لها من أن الجوهر الهوائى فيها أسرع ما فيها تغيرا والجوهر الرطب أبطأ منه وأبطأها كلها جوهر الأعضاء الأصلية حتى أنه متى نال عضوا من الأعضاء حر أو برد فأول ما يستحيل فيه طبيعة الهواء المحتبسة فى الأفضية التى بين الأعضاء الأصلية وفى كثير من البطون التى فى هذه الأعضاء ثم بعدها طبيعة الرطوبة ثم من بعد ذلك طبيعة الأعضاء الأصلية أنفسها التى هى أعضاء أبداننا
[chapter 5]
مخ ۵۸
٥ فإن أنت توهمت أن هذه الجواهر الثلثة قد خالطت بعضها بعضا على الكلية فليس يجوز لك حينئذ أن تقول ان جوهر الهواء يستحيل أولا ثم جوهر الرطوبة ثانيا ثم جوهر الأرض ثالثا وذلك أن امتزاج الأشياء بأسرها إنما معناه أن كل واحد من الأشياء المختلطة قد استحال بأسره على الكلية من قبل أنه إن كان كل واحد منها باقيا بعد الاختلاط على ما كان عليه قبل الاختلاط فإن ذلك إنما هو تقارب منها فى الوضع بأجزاء صغار لا امتزاج على الكلية لكن هذا إنما هو من عقد ابنادقليس وذلك أنه كان يظن أن قوام الأجسام الطبيعية ليس هو بامتزاج من الاسطقسات الأربعة بل باختلاط منها ولذلك صار رأيه فى هذا موافقا لرأى شيعة افيقورس وديمقريطس فأما الفلاسفة أصحاب المظلة فليس يقولون بتقارب الوضع ولا ارسطوطاليس ولا من يقول بالروح من الأطباء إلا أن ما قلته من ذلك إنما قلته على طريق الاستظهار لأبين به أن ما يقوله أصحاب المظلة ينقض بعضه بعضا فإن القول بأن الاسطقسات يمازج بعضها بعضا على الكلية غير مطابق للقول بأن أول ما يقبل الاستحالة من الممتزج الروح لكنه قد يحصل للأطباء ما يحتاج إليه وإن لم يقل هذا القول وذلك أنا قلنا ان العضو عند قبوله التأثر يستحيل بأسره معا أو قلنا ان الذى يستحيل منه أولا الروح ثم بتوسط الروح يستحيل سائر ما فيه فقد يلزمنا ضرورة أن يكون العلاج الذى نستعمله فيه واحدا بعينه حتى يدنى من الأعضاء التى قد بردت ما يسخنها ويدنى من الأعضاء التى قد سخنت بأكثر من المقدار ما يبردها وكذلك يدنى من الأعضاء التى جفت ما يرطبها ومن الأعضاء التى رطبت ما يجففها
[chapter 6]
مخ ۶۰
٦ فأما من قال بأن المعرفة بالسطقسات ليس بالأطباء حاجة إليها أو قال بأنهم محتاجون إليها إلا أنه ممن يؤثر رأيا ما غير رأى أصحاب المظلة فليس يتهيأ أن يكون يعتقد أن لكل واحد من الأشياء الموجودة سببا ماسكا وقد نسمع كثيرا من الناس يقول ان من القضايا الواجب قبولها من ذاتها لا برهان يقام عليها أنه ليس يمكن أن يكون جسم من الأجسام التى هى بحال من الأحوال موجودا من غير أن يكون له سبب ماسك إلا أنهم يقولون ان السبب الماسك ليس هو موجودا فى الأجسام كلها لكن فى الأجسام التى جوهرها جوهر يعسر انحلاله وتفرقه دون غيرها ومما يجرى من الأجسام هذا المجرى حجر الصنام والصخر والعظام والحديد وسائر ما أشبهها وقولهم هذا متناقض وذلك أنه إن كان كل واحد من الأشياء الموجودة يحتاج إلى سبب يمسكه لا يمكن وجوده دونه فقد يجب لا محالة أن يكون لذلك السبب أيضا إذا كان من الأشياء الموجودة سبب آخر يمسكه وأن يكون لهذا أيضا سبب آخر يمسكه وأن يمر ذلك بلا نهاية إذ كان ليس يمكن الوقوف عند واحد منها وإن قالوا ان بعض الأشياء الموجودة متماسكة بذاتها وبعضها يحتاج فى ذلك إلى غيرها فقد يجب أن يكون ما كان جوهره سريعا إلى التفرق والانتشار حرى بأن يكون محتاجا إلى ما يمسكه ينبغى أن يفهم هذا الرد على من قال بأن السبب الماسك إنما هو الروح والروح عندهم جسم الناس فأما ما كان جوهره مستحصفا متماسكا تماسكا قويا فهو غير محتاج إلى شىء من ذلك ولذلك صار الناس يضعون الخشب والحجارة والفضة والذهب والحديد والنحاس وسائر ما أشبهها من غير شىء يحصرها ويمسكها فأما الماء والشراب والخل والعسل فيودعوها الحباب والخوابئ لأنها ليست متماسكة بأنفسها فليس منقاسا إذا أن يكون الجسم الصلد يحتاج إلى ما يتماسك به وذلك أنه إنما صار صلدا صلبا لهذا المعنى بعينه أعنى لأنه متماسك بنفسه وهذا أيضا مما يقدح فى رأى أصحاب المظلة أعنى أن جسما أرضيا مثل حجر الصنام والصخر يتماسك بجوهر من جنس الروح فإنا نجد طبيعة الروح سريعة إلى التهبى ونجد طبيعة الأرض بطئة الانحلال وليس يمكن عندهم أن يخطر بالبال جوهر ما ولو كان فى غاية الصغر مثل الهباء الذى يقول به ابيقورس متماسك بنفسه فضلا عن أن يكون موجودا وذلك أنه إما ألا يكون للاسطقس الأرضى وجود أصلا إذ كان ليس يمكن أن يكون جزء من الأرض ولو كان فى غاية الصغر موجودا خلوا من الجوهر الروحانى وإما أن يكون قد يوجد من الأرض أجزاء وإن كانت فى غاية الصغر مفردة بذاتها من غير أن تمازج الروح فهذه اثوما متماسكة لا محالة بذاتها إلا أن هذا القول إنما قلناه كما قلنا ذلك القول الذى قبله على طريق الاستظهار
[chapter 7]
مخ ۶۲
٧ وإنى لأعجب من الأطباء الذين يقولون ان المعرفة بالاسطقسات ليس يحتاج إليها فى صناعة الطب كيف يسمون أسبابا من الأسباب ماسكة فإنا لسنا نجد شيئا من الأشياء الموجودة يحتاج إلى أن يتماسك بجوهر آخر لكن كل واحد منها مكتف بنفسه غير محتاج إلى غيره فى الوجود وإن استقصى الإنسان النظر كأنه أن يجد كل سبب فليس إنما هو سبب لوجود ما أول بل لتكون والوجود قال حنين اليونانيون يسمون الجوهر والوجود باسم واحد المتكون ليس هو أولا وذلك أن التكون كأنه طريق ما يؤدى إلى الوجود ولذلك صارت الأشياء المتكونة فقط يوجد لها أسباب للتكون وإن كان شىء من الأشياء غير متكون فلا أسباب له وافلاطن أيضا يقول فى كتابه المنسوب إلى طيماوس حين قال وكل ما يتكون فواجب ضرورة أن يتكون عن سبب من الأسباب وذلك أنه محال من الجهات كلها أن يقع تكون بلا سبب لكن ما قد تكون وفرغ فواجب ضرورة أن يكون إنما تكون عن سبب موجود فأما ما هو موجود فليس يحتاج إلى سبب
[chapter 8]
مخ ۶۴
٨ فمن أين ترى دخل الغلط على بعض الناس حتى قالوا ان لكل واحد من الأشياء الموجودة سببا ماسكا أما أنا فأظن أن الغلط دخل عليهم من قبل أنهم لم يفرقوا بين الأشياء التى يقال فيها على الإطلاق والتحقيق انها موجودة وبين الأشياء التى ليس يقال ذلك فيها على التحقيق والإطلاق بل مع الاستثناء وذلك أن الأشياء التى لا تلبث أجزاؤها فليست تلك الأشياء موجودة على الإطلاق مثل الصوت والمشى وكل فعل وانفعال وبالجملة كل حركة بنقلة كانت أو باستحالة فإنه قد يظن أن لهذه أسبابا ما ماسكة من لم يكن له خبرة صحيحة بطبيعتها حتى يعلم أن وجودها انما هو فى التكون نفسه وليست موجودة على الإطلاق لأنه ليس يبقى جزء من أجزائها كما يبقى من كل واحد من الأشياء الموجودة وقد عرض مثل ذلك فى أمر النبض وذلك أنهم لما رأوه يكون فى مدة الحياة كلها فى العروق الضوارب والقلب ولا يفتر ظنوا أنه شىء من الأشياء الموجودة وليس النبض موجود كالعروق الضوارب والقلب وسائر أعضاء البدن وذلك أن وجوده إنما هو فى التكون إذ كان ليس لجزء من أجزائه ثبات وقد يظن قوم أن لأجزائه ثباتا من قبل أنهم لا يقدرون على أن يفرقوا بأذهانهم بين المتكون وبين الموجود فإن المتكون يشبه الماء الجارى وأما الموجود فيشبه الماء القائم وكذلك تجرى الأمر فى الأنهار وخاصة إذا نظر الإنسان إليها من بعد فإنه يتخيل له ماء النهر كأنه واقف وليس شىء من أجزائه بالحقيقة ثابتا لكن من قبل أن الصورة العامية للماء ثابتة دائما فى الماء الجارى كثيرا ما يتخيل لنا أن الماء واقف غير جار وكذلك أيضا النبض فإن ما منه قد تكون وفرغ فهو غير موجود وكذلك أيضا ما هو مزمع بالتكون والموجود منه إنما هو ما يقع تحت الأصابع ما دام يقع تحتها على أن هذا أيضا ليس هو موجودا على الإطلاق بل وجوده إنما هو فى التكون وذلك أنه ليس يلبث جزء من أجزائه إذ كان كل واحد منها يبطل إذا تكون بل الأحوط أن تقول حين يتكون فأما أسباب تكونه فقد بينا أنها ثلثة المنفعة التى بسببها احتيج إلى أن يكون والقوة الحيوانية التى عنها تكون وجرم العروق الضوارب والقلب الذى هو آلة له فإن آثرت أن تسمى هذه الأسباب الأسباب الماسكة لتكون النبض كما سميتها أنا فى مواضع كثيرة من كتابى فى النبض لا على التحقيق بل على طريق الاستعارة لإيضاح القول وإيجازه فما بئس ما تصنع فى اللقب وقد يجرى هذا المجرى الرصاص فى بعض الأصنام التى تميل إلى قدام فإن الصنم منها متى لم يلتحم بدنه برجليه سقط على وجهه فإذا ألحم بالرصاص وقف منتصبا فإن الميل فى الصنم من هذه بحسب طبيعته التى تخصه باق بعد اللحام على حاله إلا أن الرصاص يمنعه ويمسكه ويجذبه إلى ورائه فيجب من ذلك أن يكون الرصاص إنما هو سبب لتكون ما لا لوجود على الإطلاق لكن لما كان هذا المتكون يبقى ما بقى متشابه الحال صار يسبق إلى وهم من يراه أنه أمر واحد مشار إليه وليس ذلك أمرا مشارا إليه ولا هو وجود ما أصلا بل تكون فى مواد كثيرة مشار إليها عن سبب واحد ومثال ذلك ما يعرض لأصحاب التشنج وذلك أن الحال الفاعلة لهذا العرض إذا بقيت فإن المتكون هو التشنج والحال الباقية هى سبب ماسك لتكونه وكذلك أيضا للسهر واختلاط الذهن والسبات والسعال وسوء التنفس وظلمة البصر وثقل السمع أسباب موجودة فى البدن فاعلة لهذه العلل التى ذكرت وبعض الناس يسمى الحالات أنفسها أمراضا ويقول ان أصناف ضرر الفعل هى أعراض لاحقة لهذه الحالات وبعضهم يسمى أصناف ضرر الأفعال أمراضا ويقول ان أسبابها هى حالات الأبدان فأما أن منزلة الحالات بالقياس إلى أصناف الضرر منزلة الأسباب لها فأمر يقر به الجميع وكذلك أيضا قد يقرون بأن الغرض الأول المقصود إليه بالعلاج إنما هو الحالات لا أصناف الضرر وأما ما وقع فيه الاختلاف فإنما هو فى اللقب لكنه قد يلزم أهل الفرقة الأولى أعنى الذين يسمون حالات الأبدان أمراضا ألا يقولوا ان هاهنا سببا ماسكا فى الأمراض أصلا ويلزم أهل الفرقة الأخرى ما قلته قبيل أن يكونوا يستعملون على طريق الاستعارة اسم السبب الماسك على الحالات إذ كان ضرر الأفعال إنما يحدث عنها
[chapter 9]
مخ ۶۸
٩ فهذا هو القول على طريق الرسم فى الأسباب الماسكة فى الأبدان السقيمة وأما فى الأبدان السليمة فما قلته آنفا وهو أنه إن كان العضو متشابه الأجزاء فليس لنا أن نقول ان له سببا ماسكا وإن كان آليا مركبا فلنا أن نقول ذلك فى الأشياء التى تصل وتقرن الجواهر الأول البسيطة التى منها تركب وأما من كان من أصحاب المظلة فقد قلت انه يقول بأن لهذه أيضا الأجسام الأول المتشابهة الأجزاء سببا ماسكا وهو جوهر الروح إلا أنه قد يجب على جميع الناس فضلا عن أصحاب المظلة الإقرار بما قلته آنفا من أن الأجسام الثوانى المركبة تجرى مجرى الأجسام التى يؤلفها الصناع فى أن لها أسبابا ماسكة فكما أنا نجد تأليف الكراسى والأسرة والدرج والسفن والبيوت إنما يحفظه ويبقيه الطين والجبسين والكلس والضبات والمسامير والمداخلة وسائر ما أشبهها كذلك الذى يبقى تأليف البدن الرباطات والأوتار واللحم والغضاريف ومن العظام ما يعسر انحلال تركيبه لأسباب غير هذه مثل العظام التى قد نجدها قد ألف بعضها مع بعض على طريق المداخلة أو على طريق الغرز أو على طريق الشأن أو على طريق المطابقة وقد يقول بأن الأجسام أيضا المتشابهة الأجزاء أنفسها التى هى على طبيعتها الذاتية لها مركبة هذا التركيب الذين يقولون بالاسطقسات التى يلقبها اسقليبيادس بغير المؤتلفة ويلقبها غيره بالتى فى غاية الصغر ويلقبها شيعة ابيقورس خاصة بالأجزاء التى لا تتجزأ وذلك أنهم يرون أن الأجسام الطبيعية إنما تكون بأن هذه تختلط وتتركب ضربا من التركيب وأن الأجسام الأول البسيطة أنفسها التى هى اسطقسات الأجسام المحسوسة ليس لها سبب ماسك أصلا فأما ما تركب منها فإن التركيب نفسه الذى يكون منها عند اختلاطها هو سبب ماسك للمركب فأما من قال ان حمى الرأس من الشمس هو سبب ماسك للسخونة الحادثة فى الرأس وان الشق هو سبب ماسك للجرح فإنما أتى من قبل أنه لم يشعر بأنه فى هذا القول إنما هو ذا يعبر على معنى واحد بعينه بأسماء مختلفة وذلك أن حمى الرأس من الشمس ليس هو شيئا غير السخونة الحادثة فى الرأس عن شعاع الشمس وكذلك ليس الجرح شيئا سوى الشق الذى يكون فى اللحم فإن لفظة الشق تدل على معنى جنسى يحدث فى الأجسام المتصلة كلها وذلك أنا نسمى تفرق اتصال هذه الأجسام شقا وأما الجرح والكسر والفسخ والهتك فيشتمل كل واحد منها فى دلالته على معنيين أحدهما على الشق نفسه والآخر على الجسم الذى يحدث فيه وذلك أن الشق إن كان حدوثه فى الجلد أو فيه وفى اللحم الذى من ورائه سميت هذه العلة جرحا وإن كان حدوثه فى عضلة سمى ذلك فسخا وإن كان حدوثه فى عظم سمى ذلك المرض كسرا وإن كان حدوثه فى عضو عصبى سمى ذلك هتكا
[chapter 10]
مخ ۷۰
١٠ فأما هذه العلل فإن حالات الأعضاء فيها ظاهرة بينة وأما ذات الجنب وذات الرئة وزلق الأمعاء والسرسام البارد والسرسام الحار فإن حالات الأعضاء فيه خفية لكن الأعراض الحادثة عنها واضحة وذلك أنا نجد المرضى عيانا يعرض لهم فيها اختلاط الذهن والسهر والألم وسوء التنفس والسعال والنقص الخارج عن الطبيعة فمن قال ان حالات الأبدان هى أسباب ماسكة لحدوث هذه الأعراض كان قوله أحوط من قول من قال على الإطلاق ان حالات الأبدان هى أسباب ماسكة لهذه الأعراض من غير أن يستثنى فيقول لحدوث هذه الأعراض أو تكونها فإن قول من قال ان حالات الأبدان أسباب ماسكة لحدوث الأعراض أو تكونها قول لازم للقياس فأما القول بأنها أسباب للأعراض التى تحدث أنفسها فغير واجب اللهم إلا أن يشاء إنسان أن يستعمل هذه العبارة على طريق الاستعارة كما قلت وأما أصحاب التجربة فإنهم يسمون ما وصلوا إلى معرفته بالحواس من الأشياء التى تعرض لنا ونحن مرضى عوارض وأعراضا وذلك لازم لمذهبهم وما كان من ذلك قد رآه قوم بعد قوم منهم مرارا كثيرة يكون أول حدوثه وتزيده بعد ومنتهاه وانحطاطه معا سموه مرضا وعلة واقتران فإن اسم الاقتران يدل عندهم على اجتماع ما لأعراض يكون حدوثها وتزايدها وانحلالها معا ومن عادتهم أن يسموا ما كان كذلك من الأعراض دلائل أيضا وبالحقيقة أنها دلائل لهيآت البدن التى هى غير ظاهرة وهى التى يسمونها هم أسبابا للأعراض الظاهرة إلا أنهم ليس يعتقدون بالحقيقة أنها تدل على الحالات وذلك أنهم ليس يعترقون أصلا بالمعرفة التى تقع على طريق الاستدلال بالظاهر على الخفى ولست أدرى كيف صار الجميع بأخرة إلى أن يسموا هذه المعرفة إدراكا فإن القول المستفيض الذى إحدى قضيتيه وهى الأولى أنه متى كانت دلائل كذا فأسبابها كذا والقضية الثانية متى كانت أسباب كذا فالعلاج كذا ليس يهواه أصحاب التجربة لكنهم أخذوا ما اتفق عليه من ذلك أصحاب القياس وألزموا أنفسهم القول بالأسباب كأنه أمر مطابق لقولهم فأما أصحاب القياس فإنه وقع بينهم أنفسهم اختلاف لا يحصل منه انتفاع فى أعمال الطب فقال بعضهم كما قلت ان الأمراض هى حالات الأبدان وقال بعضهم ان الأمراض هى أصناف الضرر الحادثة عنها فى الأفعال وإذ كان الفريقان متفقين على أن العلاج إنما يستخرج من قبل الحالات على طريق الاستدلال فقد يسهل عليك أن تعلم أن هذا الخلاف إنما هو فى باب من أبواب المنطق وأنه ليس ينفعنا ولا يضرنا فى أعمال الطب وذلك أنك وإن سميت حالات البدن أمراضا فإنك تفعل مثل ما يفعل من يسميها أسبابا للأمراض من أنك إنما تستخرج العلاج منها على طريق الاستدلال كما يستخرجه ذاك وتعد منه مثل ما يعده وتستعمله كما يستعمله
ناپیژندل شوی مخ