ركبا واحدا، وأنهم يخشى عليهم بالفرقة من العربان، وذهب مع سو نجبغا، شخص من مسلمة الفرنج، الذي بنواحي الأندلس، من مدينة يقال لها... سمي حين أسلم، إسماعيل، وقصته من أغرب القصص؛ وذلك أنه طلب علوم النصارى، فقرأ الكتب السماوية؛ الإنجيل وغيره، ففتح عليه، حتى صار يتكلم بلسان الوعظ، وزهد في الدنيا، وأحب العلم، فحصل له قبول عظيم، ورفعوا منزلته، حتى صار من أماثل قسيسيهم، فحمله ذلك على تطلب غرائب الكتب، لاسيما الكتب السماوية، فتكررت على مسامعه الآيات المبشرة بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم؛ ففاوض بعض من يعرف علمه وديانته في ذلك، فنهاه عن الفحص عنها، فألح عليه، فاعترف له بأن هذا المبشر به، هو محمد الذي يدين المسلمون بشريعته، فساله، عن سبب إخفائه لذلك، فأخبره أنه الخوف على نفسه، فاراد التثبت في ذلك؛ فارتحل إلى علمائهم، وتغلغل في بلادهم، حتى وصل إلى رومة المدائن، واجتمع برئيس جميع النصارى، الذي يقال له: البابا، فلزمه للتعلم والخدمة، حتى اختص به، وعظمت منزلته عنده، وهو مع ذلك ملازم للوعظ، والناس مقبلون عليه، حتى كثرت أتباعه، ثم سأل البابا عن تلك البشائر، فنهاه عن الخوض فيها، فالح عليه، إلى أن اعترف [13] له بما اعترف به الأول، من أن المراد بهذه البشائر، محمد العربي، وأن دينه هو الحق، وما عداه باطل، وأن المانع له من إظهاره، الخوف على نفسه، وأنه لا يموت إلا عليه، وأن البابا الذي كان قبل عليه مات، فاستشاره في اللحاق ببلاد الإسلام، فقال له: إن قدرت فافعل. فأخذ في الرجوع إلى بلاده، فعرض عليه من الدنيا، من الملوك، والعظماء، والتجار، ما يرجو عليه حسن الجزاء، في الآخرة، فأعرض عنه، ولم يقبل لأحد شيئا، وتبعه من النصارى خلائق، وهو مع ذلك ملازم للوعظ، والتذكير، وكلما وصل إلى بلد زادت أتباعه، وارتفعت بينهم رتبته، وزاد إلحاح الناس عليه بالدنيا، وهو يأبى ذلك فيزيد إعراضه الناس عليه إقبالا، حتى وصل إلى بلدة، ثم قصد ناحية الأندلس، حتى وصل إلى قرطبة، وهي الآن في مملكة..، فاجتمع به واستشاره في الدخول إلى بلاد الإسلام ليذكرهم بالله، ويبصرهم في الدين، ويفعل فعل الحواريين، فهو على إحدى الحسنيين، إما أن يهتدوا على يده، وإما أن يصلبوه، كما صلب غالب الحواريين، وكان من المقرر عند جهلة النصارى، أن المسلمين جهلة، لو حصل لهم من يذكرهم، ويحسن في ذلك، رجعوا عن الإسلام، فأذن له، فأراد أتباعه، وهم نحو عشرة آلاف رجل القدوم معه، فمنعهم، ومكن نحو خمسمائة رجل، ممن يثق بكمال محبته له، واعتقاده فيه، فوصل بهم إلى أول حصون المسلمين، من الأندلس، فلما قربوا من الحصن، استعد أهله للمحاربة، فأرسل واحدا من أتباعه، يطلب الاجتماع بأمير الحصن، فاجتمعا مفردين، فأعلمه بقصته، وشهد شهادة الحق، فأطلعه إلى الحصن، ثم أمر أصحابه أن يقفوا له تحت برج من أبراجه، بحيث يسمعون كلامه، فأطل عليهم، ووعظهم، وذكرهم، وسألهم كيف يعرفون حاله ونصحه؟ فاعترفوا بما يعرفون من ذلك، فقال: إني لم آت إلا هربا بنفسي من النار، فمن أراد الجنة فيطلع متابعا لي على ما أنا عليه، ومن أراد النار، فليرجع، فإن دين الإسلام هو الحق، وما عداه باطل. قال: فوجموا ساعة، ثم ذهب منهم نحو عشرين نفسا، راجعين إلى بلادهم، واستمر الباقون ساكتين، ثم قالوا: نحن لك تبع، فإنا قوم جهال، وقد رضيناك حجة فيما بيننا، وبين الله. فقال: أنا أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وأن ما سوى ذلك باطل، فقالوا: ونحن كذلك. ففتح لهم باب الحصن، وصعدوا رافعين أصابعهم شاهدين شهادة الحق، فكان يوما مشهودا، ثم إن صاحب ذلك الحصن، كتب بذلك الخبر إلى ملك الأندلس، ثم قدم إليه إسماعيل بمن معه، فسروا بلقائهم، غاية السرور، وعرض صاحب الأندلس على إسماعيل المقام عنده، وأن يرتب له ما أحب، من الدنيا؛ نقدا، وطعاما، وآلات. فقال: لا بد لي من الحج، وزيارة النبي، الذي تابعته، فجهزه إلى من يليه من الملوك، ومن يليه إلى من يليه، وكل ملك، قدم عليه، يبالغ في إكرامه، وملاقاته بجنده، إلى أن قدم إلى بجاية، فكتب معه والد الشيخ أبي الفضل، الإمام العلامة، الزاهد، أبو عبد الله محمد بن العلامة الزاهد أبي القاسم محمد المشدالي إلى من يقدم عليهم، من أكابر المسلمين، ما صورته...، فقدم بكتابه إلى تونس، فأكرم غاية الإكرام وكتب معه إلى صاحب مصر، الملك الظاهر جقمق، فحصلت له في الطريق، في بعض سواحل برقة، مصيبة أذهبت جميع ما جهزه به هؤلاء الملوك، وقدم إلى الإسكندرية، ليس معه شيء، ثم إلى مصر، فاجتمع بشيخنا، نادرة الدهر، وعلامة الأنام، أبي الفضل محمد بن الإمام أبي عبد الله محمد بن المشدالي البجائي، وحدثه بقصته، وأراه كتاب أبيه، وهو الذي حدثني حديثه، فقابله بما يليق به، من الإكرام، وذكره لكاتب السر، القاضي كمال الدين محمد بن الناصر محمد بن محمد بن البارزي الجهني الحموي الشافعي، فذكره للسلطان. وكان من مشكلات الدهر في أفعاله عطاء، ومنعا، وغير ذلك، فأمره بإقدامه عليه، ففعل فوقف له، وعانقه، وأوصله من الكلام، إلى أقصى ما يؤمل، ثم وقف به شيطان همته هنالك، فلم يأمر له بشيء من الدنيا، والحال أنه ربما أعطى بعض من لا نفع به في دين، ولا دنيا، من آحاد التركمان عشرة آلاف دينار، وأما إعطاؤه الألف وما قاربها، لمثل أولئك فكثير، فكساه كاتب السر، وأعطاه ما ينفقه وطيب خاطره، فحصل له قبل تجهز الركب مرض، فلما جاء وقت الرحيل عرض عليه أن يقيم خوفا من زيادة مرضه بحركة السفر، فأبى إلا السفر، وإن مات في الطريق، فجهزه القاضي، مع صهره، أمير الحاج، وأوصاه به، وأوصى زوجته، وهي أخت القاضي، وأكد عليها، وكذلك جماعتهم، فحملوه معهم، وأخبروه بسرورهم به، وأمروه بأن يرفع إليهم جميع ما يحتاجه، والله تعالى المسؤول، بأن يلطف به، ويحسن إليه.
مخ ۱۵۷