لم ينزل إلى جنبها إبراهيم ، ولم يمكث معها فترة يؤانسها ويبدد من حولها وحشة البعد والانفراد ، بل كان معها كصاحب طريق ، أو مودع يصحبها إلى ثنيات الوداع (10).
حطت هاجر رحالها ، واستقر بها النوى تحت شجرة في وادي البيت الحرام (بموضع زمزم) (11)، بصحبتها صغيرها الرضيع إسماعيل (عليه السلام) ، ولم يكن معها من متاع السفر غير قربة ماء وطعام مسافر وازار .. ألقت ازارها على شجرة من بين أشجار الوادي العقيمة فاستظلت تحته ، نظرها إبراهيم نظرات مودع ، ثم هم بالعودة .. أحست هاجر دنو الفراق ، وتصورت غياب الخليل وقد تركها وإسماعيل وحيدين يحوطهما بحر الرمال وحفيف الريح، وزئير الوادي الموحش الجديب ، فتوجهت إليه بالخطاب تناديه باسمه ، وتستثير في نفسه العطف والحنان ، فلم تكن تعلم أن الذي أقدم عليه إبراهيم أمر وقضاء رباني يسير نحو هدف وغاية خطت بعناية الرحمن ، نادته أن : (يا إبراهيم ! أتدعنا في موضع ليس فيه انس ولا ماء ولا زرع؟ ).. أحس إبراهيم في نفسه اللوعة وقرأ في عينيها قصيدة العتاب ، فأراد أن يطمئنها ، انه لم يقس عليها ، ولم يضعها رخيصة في هذا الوادي البعيد ، فيجيبها : «الله الذي أمرني أن أضعكم في هذا المكان هو يكفيكم» (12).
أراد أن يشعرها أن الذي حدث لم يكن خضوعا من إبراهيم لضغط سارة ، ولكنه كان ينفذ قصة محكمة من قصص التاريخ يجسدها على مسرح الشرق الكبير ، من بابل إلى اور إلى الشام إلى مصر ، ثم إلى الشام ثانية ، ثم إلى أرض الحجاز ليقيم في هذه الارض رمز التوحيد (الكعبة) ويرفع نداء الأيمان ، ويصنع امة مسلمة تدين لله وحده .
لقد كان الجواب مطمئنا والأمل في نفسها كبيرا ، أحست أن عناية خاصة تحوطها من لدن رب الرحمة والحنان ، فقالت معبرة عن ثقة وتوكل صادق عميق : «فإنه لن يضيعنا» (13).
مخ ۲۰