إسماعيل وإسحاق
مدرسة النبوة
(لقد كان في قصصهم عبرة لاولي الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون ). ( يوسف / 111 )
( نحن نقض عليك احسن القصص ). ( يوسف / 3)
( ... فاقصص القصص لعلهم يتفكرون ). الأعراف / 176)
( ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبأ المرسلين.). (الأنعام / 34)
( ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما ). (النساء/ 164)
( وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين) . (هود / 120)
( أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده، قل لا اسالكم عليه اجرا ان هو ألا ذكرى للعالمين). (الأنعام/90)
القرآن بإعجازه البلاغي واسلوبه الفني البالغ الروعة والجمال والمحبك الأداء والتعبير ، يكون مدرسة أدبية خاصة ، ووحدة فنية مترابطة ، فما من فن من فنون التعبير والأداء اللغوي المتقن إلا واستخدمه القرآن لمخاطبة الإنسان ومناجاة المشاعر ومحاكمة العقل والوجدان ، فالحوار والمثل والقصة بعض ما استعمل القرآن من فنون وأساليب لإيصال الفكرة والإيحاء بالمفهوم ، وغرس الفحوى والمضمون في نفس القارئ والسامع .
والذي يهمنا في هذا البحث الموجز أن نتحدث عنه هو أن نعرف بشكل مختصر بقيمة القصة القرآنية ، وبالتحديد قصص الأنبياء لنساهم من خلال الدراسة بتشكيل محيط فكري يستلهم على ضوئه القارئ مضمون القصة ويتأثر بشكلها الجمالي الأخاذ .
إن الدراسة التحليلية لقصص الأنبياء في القرآن توصلنا إلى اكتشاف الأهداف والغايات الأساسية للقصة النبوية ، وللقيمة التربوية والعلمية للقصة في القرآن .
مخ ۱
لقد تحدث القرآن عن آدم ونوح وإدريس وصالح وهود وإبراهيم ولوط وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ويوسف وموسى وسليمان وداود وشعيب وأيوب ويونس ويحيى وزكريا وذي الكفل واليسع وإلياس وعيسى ومحمد (عليهم السلام) ، وكثيرا ما عرض لبعضهم قصة ورواية ، تشكل بحد ذاتها تجربة ومقطوعة تاريخية مليئة بالدروس والعبر ، ثم هي بعد ذلك بمجموعها وحدة تاريخية وتربوية متكاملة تستهدف بناء الإنسان وتربيته ومعالجة الثغرات ونقاط الضعف في نفسه ، فحياة كل نبي تعالج مشكلة في حياة الإنسان ، وتجربة كل واحد منهم تحل عقدة من عقد التاريخ ، فنرى قصص الأنبياء غنية بالدروس والعبر ، مليئة بالأحداث والمفاجآت ، زاخرة بالألم والانتصار والمعاناة .
إن محاولة تتبع القصص والأحداث النبوية في رحاب القرآن ونظمها ضمن وحدة قصصية وحدثية متكاملة؛ ثم دراستها دراسة تحليلية لاكتشاف العمق التاريخي والبعد الجهادي لأنبياء الله لتمدنا بفيض من الفكر والمعرفة والهداية وقيم الحياة التي صنعها أنبياء الله، رواد الحضارة ، وبناة الفصل المضيء في تاريخ الإنسان ، وصناع الخير في رحاب هذه الأرض .
ان القرآن يصور ملاحم الأنبياء التاريخية كحقيقة خارجة عن عنصر الزمن بقيمتها العملية ودورها الحضاري رغم ارتباط أحداثها ببعدي الزمان والمكان وتحيزها ضمن مرحلة متجسدة من مراحل تاريخ الإنسان .
إننا بحاجة إلى قراءة ثانية لتاريخ الإنسان لدراسته وتشخيص موقع الأنبياء ورسالات الله فيه كحقائق ووثائق علمية تساهم في رسم صورة التاريخ وتشخيص معالمه .
مخ ۲
لقد درج المنهج العلماني لدراسة التاريخ على استبعاد دور الأنبياء والرسل (عليهم السلام) ، بل عد الاعتماد على أخبار الرسل أساطير لا تملك قيمة الوثيقة العلمية في الدراسة والتوثيق، لذا نراه يستعرض الحضارات الجاهلية كحضارة بابل واور وسومر ومصر والشام والجزيرة العربية ... إلخ ، ويركز عليها ويحاول إبرازها وإعطاءها موقع الريادة التاريخية متجاهلا دور الرسالات والأنبياء والرسل وصراع الخير الذي قاده الأنبياء ضد الشر والجريمة لطمس معالم الأيمان ومحو دوره الحضاري والتاريخي من وعي الإنسان .
إن دراسة مثل هذه الحضارات البائدة دراسة موضوعية، ودراسة القرآن تظهر لنا بوضوح دور الأنبياء والمرسلين في الصراع من أجل الخير والهدى ونصرة المظلومين والمستضعفين .
إن العمق التاريخي للرسالات الإلهية ودور كل نبي ورسالة على امتداد مراحل التاريخ والحضارات والصراع يجب أن يبرز واضحا جليا ، وأن يشكل العمق والامتداد الحضاري والحركي لصراع الإنسان من أجل الخير والهدى ونصرة الإنسان المستضعف ، فنرى القرآن حينما نقرأ عرضه لقصص الأنبياء وللصراع ، يعرضه واضحا جليا ... يعرضه صراعا بين تيارين : تيار الأنبياء والرسل وأتباعهم من المستضعفين والمظلومين ، وتيار الطغاة والمستكبرين والمتسلطين ، أمثال فرعون ونمرود وأبي جهل . ولقد صاغ القرآن هذه الحقيقة وأوضحها بقوله :
(وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا * وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين وكفى بربك هاديا ونصيرا ).( الفرقان / 30 31 )
مخ ۳
(وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الانس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ، ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون ). ( الانعام / 112 ) إن من يكتبون في تاريخ الحضارات ، والتاريخ القديم ، وكذا أساتذة التاريخ والعلوم الإسلامية ، عليهم مسؤولية الكشف عن الحقيقة وإبراز دور الأنبياء والرسل والرسالات ، فنحن مثلا بدراستنا لتاريخ مصر وبابل والشام والجزيرة نشاهد دور نوح وإبراهيم ويونس وموسى وعيسى وهود وصالح ولوط ويحيى وشعيب ، واضحا وبارزا يتحدث عنه القرآن كما تحدثت التوراة والأنجيل غير المحرفتين ويعرض هذه الأحداث وهي تدور على محور النبوة ، يعرض صور الكفاح والظلم والاستكبار والاستضعاف والانحطاط الأخلاقي ويشخص أمراض الجاهلية الفكرية والنفسية والسلوكية .
فمثلا عرض لنا قصة إبراهيم وإسماعيل قطاعا متماسكا من الأحداث والصراع والمعاناة والمفاجآت والعطاء الحضاري البناء ، فبدأ بعرض الأحداث بصيغة تمور بالحركة والحيوية ، وتتحرك فيها الأحداث والشخصيات والمواقف حركة تنبئ وتكشف عن ثراء
الحدث والمضمون، وقدرة العنصر المتحرك فيها «إبراهيم وإسماعيل» على صنع وإدارة الأحداث وفق منطق حضاري ورسالي متكامل البنية والأهداف .
ونحن بالعودة إلى دراسة الآيات التي حللت الأهداف الأساسية لقصص الأنبياء نجدها تركز الهدف من خلال عرض تاريخ الأنبياء (عليهم السلام) وقصصهم (1) بما يأتي :
(عبرة لاولي الألباب ).
(نثبت به فؤادك ).
(وجاءك في هذه الحق ).
(وذكرى للمؤمنين ).
(لعلهم يتفكرون ).
(فصبروا على ما كذبوا واوذوا ).
(فبهداهم اقتده ).
وهكذا يستخلص القرآن الغاية من دراسة تاريخ الأنبياء وعرض وتتبع آثارهم ، (فليست القصص إلا تتبع الآثار وتقصيها ثم عرضها والأخبار عنها والتحدث بها ، لابلاغها إلى القارئ والسامع بغية نقل مضمونها والتأثير بأحداثها وشخوصها ) .
مخ ۴
وهكذا فعل القرآن حين حدد الأهداف بالعبرة والموعظة الحسنة والذكرى، للتفكر واستخلاص الدروس والعبر والاقتداء بمسير الأنبياء وخط سيرهم ، وإنقاذ الإنسان المخاطب نفسه من محنة الأمم الجاهلية وارتكاسها وسقوطها في هاوية الانحراف والتيه والدمار ، وتثبت موقفه في صراعه مع قوى الباطل والاستكبار والجاهلية في كل عصر ومصر وتعليمه وتربيته عن طريق عرض أحداث التاريخ الحية ، إلى جانب الفكر والعرض التوجيهي المجرد ... لاكتشاف قوانين التاريخ ومنطقه العام ، وتحديد سنن الحياة الاجتماعية :
(لعلهم يتفكرون ).
(وجاءك في هذه الحق ).
ويستخدم القرآن الفن القصصي في عرض الأحداث والشخصيات والوقائع التاريخية ليكسوها حلة جمالية ويفيض عليها روعة فنية تيسر تفاعل النفس معها والتأثر بها .
والذي يدرس القصة القرآنية ويتابع اسلوب العرض والأداء والحوار والإيحاء فيها يشاهد :
1 عرض المشاعر الإنسانية .. مشاعر الحزن والمأساة ، مشاعر الأمل والرجاء ، مشاعر اليأس والخوف ، مشاعر الحب والكراهية ، مشاعر الانتصار على المشكلة ... إلخ ، فهو يعرض جوانب الضعف ، والعناصر السلبية في الشخصية الإنسانية ، كما يعرض جوانب القوة وعناصر الايجاب فيها، ثم ينبري لعلاج الموقف وردم الثغرات، والخروج ببراعة فنية فائقة
وقدرة على العرض والمعالجة بشكل يذهل السامع والقارئ ويزرع في نفسه ما يريد من المتلقي استقباله والانفعال به .
2 إثارة الحس الجمالي والتذوق الفني من خلال صب الأحداث وصياغة المواقف وعرض الفكرة ، وهندسة الشكل وتنظيم المضمون .
مخ ۵
3 ويلحظ القرآن أهمية الماضي فيعرضه وحدة مترابطة بأحداثها وقوانينها مع الحاضر والمستقبل ، ويشكل العلاقة بين أوعية الزمن الحدثية الثلاثة، فيعرضها علاقة سبب وغاية وإيلاد وتأثير ، كما يلحظ الجانب النفسي عند الإنسان حينما يحدثه ويشوقه إلى الماضي ويكشف الستار عن ضمير الغيب ، فهو يخاطب في أعماق النفس الإنسانية حب الاستطلاع ، والتشوق لمعرفة الماضي المجهول ، فهو عندما يتحدث للإنسان ويرجع إلى ما قد مضى من وجودات الإنسان الغابر ، يستطيع وسط هذا الانفعال والتفاعل النفسي أن يترك الأثر في وعي الإنسان ومكامن النفس العميقة .
4 البراعة في تشكيل وحل العقدة القصصية ... والقرآن لم يقص على الإنسان قصصا من نسج الخيال ، ولم يكتب له رواية من إبداع الفنان والروائي الخصب التصور ، بل قص عليه أحداث الأمم ووقائع التاريخ وحياة الأنبياء ، كما تجسدت حقائق وصيغا متفاعلة مع عناصر التجسيد (الزمان والمكان) :
(وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين ). ( هود / 120 )
وحينما نتابع القرآن وهو يستهوي المتلقي وينقله إلى أجواء الحدث ومسارح القصة ، نرى الغموض وتلاشي إمكان حل العقدة القصصية في نفس المتلقي ، بل اليأس من إمكان الانتصار على الحدث والموقف الذي أصبح متوترا ومتأزما، ثم نراه يفاجئنا بالحل، ويأتي الحل خارج حدود المألوف التصوري في ذهن الإنسان ، نرى يد الغيب تتدخل سراعا قبل فوات الأوان ، وقدرة الله تتجلى لحسم الموقف وتوجيه الحادثة .
مخ ۶
إن القرآن حينما يعرض أشخاص القصة (الأنبياء (عليهم السلام) ) وقد أحاط بهم حلق المضيق ، وافتقد الأمل ، واستسلم الإنسان ، وخرج الموقف من يده ، ترى يد الغيب تتحرك في توجيه الحدث وحل العقدة والخروج من الأزمة ، فترى مثلا إبراهيم وقد أحاطت به النار والتهمه لهيبها وإسماعيل وقد هوت سكين القضاء على رقبته تفترس أوداجه الزكية ، ويوسف وقد هوى في غيابة الجب ، وحالت ظلمات البئر بينه وبين الحياة ، وانقطع عن الدنيا خبره ، والحوت قد التهم يونس (عليه السلام) وأطبق فكيه ، وموسى الطفل تتقاذفه الامواج الهائجة في يم مصر ، أو تراه واقفا على شاطئ البحر وجيش فرعون وكبرياؤه يحيطان به ولا يملك سوى الدعاء وعصاه ، وعيسى يحيط بجيده حبل المشنقة ، ومحمد قد أدركه طلب قريش وأحاط به خطرها ...
مخ ۷
وهكذا نرى القرآن يعرض هذه الأحداث والشخصيات والمواقف المثيرة ، ويتلقاها السامع وينفعل بها ، وتتراءى له المحنة وقد أصبحت قدرا لا يمكن تجاوزه ، ثم تراه ينسحب بوعي الإنسان ويميل به من أحداث الطبيعة وأقدار المادة إلى عالم الغيب والقدر القاهر لقوى الطواغيت وقوانين الطبيعة وأقدار المادة ، فيفتح للانسان أبواب الغيب ، فيطل من خلاله على عالم مذهل ، يستوي لديه البحر والسهل ، وبطن الحوت وأحضان البيت السعيد وغيابة الجب وسفح الجبل وحبل المشنقة وأطواق الياسمين ، ثم لا يترك العقدة بلا حل ، والرمز بلا تفسير أو الموقف بلا قرار ، وعندما ينتهي من معالجة الموقف يكون قد غرس في نفس المخاطب أهداف القصة ، وأوحى للانسان بعظمة الله وقدرته ، فيتصاغر أمامه مكر الطغاة ويزرع في نفسه الأمل والرجاء حينما يشتد الضيق وتتقارب حلقات المضيق ، ثم نرى من خلال ذلك هشيم الكبرياء وخواء الجاهلية الذي طالما بدا مرعبا متماسكا ، وقد تساقط من هول الحدث ، كما تتساقط الاوراق في فصل الخريف ليثبت في وعي الإنسان قانونا من قوانين التاريخ ، وحقيقة من حقائق الطبيعة الاجتماعية :
(فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الارض ).( الرعد / 17 )
مخ ۸
النبوة لطف
(لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس ).( الحديد / 25 )
(ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما * رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما ) .( النساء / 164 165 )
مخ ۸
(وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون ). ( المائدة / 48 ) ( ... قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير ، قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين * يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم ). ( المائدة / 15 16 )
(شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه ، كبر على المشركين ما تدعوهم إليه ، الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب ). ( الشورى / 13 )
(قولوا آمنا بالله وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والاسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم ، لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون ). ( البقرة / 136 )
(الم * كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد ) . ( إبراهيم / 1 )
مخ ۹
(يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون ) .( الانفال / 24 ) هبطت كلمة الله سبحانه على الإنسان لتكون هداية ورحمة .. هبطت فأفاضت عليه إحساسا بالعناية والرعاية ، وملأت دنياه بالنور والضياء .. هبطت فكانت له دليلا يقوده إلى شاطئ السلام ، وأملا ينتشله من اليأس والضياع ، ومنهجا يملأ حياته بالخير والبركات .. فمنذ أن خلق الله الإنسان على هذه الارض ، ومنذ أن حدثه ووعده وعد آدم (عليه السلام) بقوله :
(قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) . ( البقرة / 38 )
استمر الوحي وتتابعت الرسالات ، نبي يتلوه نبي ، ورسول يتلوه رسول :
(إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا وإن من أمة إلا خلا فيها نذير ) .( فاطر / 24 )
ليبلغوا الإنسان رسالات الله ، وليجللوه باللطف الإلهي ، فليس الإنسان بقادر على أن يحيا بعيدا عن الهداية وعن منهج الله ، وعن قيم الدين ، ليس الإنسان بقادر أن يصنع الحياة ويجسد الإنسانية بغير هداية الأنبياء ومنهج الرسل .
لقد وضح القرآن سر البعثة والنبوة وهدف الرسل والأنبياء، وخاطب الإنسان ليوضح له الطريق ويرسم له المسار، لينقذه من الفساد والانحراف الفكري والعقائدي ، من الجهل والخرافة ، ليوضح له عقيدة التوحيد ، الأيمان بالله ، وليعرفه بنفسه وربه وعالمه وحقيقة وجوده ومآله إلى عالم الآخرة ليوضح له نظام الحياة ، ومنهج تنظيمها .
حدد القرآن سر البعثة وأهداف النبوة بقوله :
(ليقوم الناس بالقسط ).
(مبشرين ومنذرين ).
(لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ).
مخ ۱۰
(فاحكم بينهم بما أنزل الله ).
(فاستبقوا الخيرات ).
(نور وكتاب مبين ).
(يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ).
(يخرجهم من الظلمات إلى النور ).
(استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم ).
ذلك منهج النبوة وتلك أهداف الدعوة الإلهية ، الدعوة الإسلامية ودعوات الأنبياء التي دعت إلى الإسلام لرب العالمين ، فهدف الأنبياء أن يقوم الناس بالقسط: أن يتحقق العدل وتنقشع ظلمات الجهل والظلم والفساد عن ربوع الارض ، وأن يحكم الكتاب (قوانين العدل الالهي) والميزان (قيم الأخلاق ومبادئ التقويم)، فلكل شيء في هذا الوجود قدر وقيمة سواء كان ماديا أو معنويا، وله ميزان ومقياس يوزن به ويقاس ، فللعلم والعمل وتحديد قيم الناس وقيمتهم قيم وأقدار ، وبانعدام الموازين والمقاييس يفقد الناس القاعدة التي يزنون بها أو يقومون ويفرزون الأشياء والأشخاص والقوانين والأعمال والقابليات والأثار على أساسها، فيقعون في متاهة الفوضى والعبث وانعدام الرؤية السليمة وغياب الحق والعدل ، وصدق الامام علي (عليه السلام) بقوله : «اعرفوا الحق تعرفوا أهله» .
فما لم تتشخص المبادئ والقيم لا يمكن أن تتميز الأعمال والأشخاص .
لقد تركز هدف الرسل ودعوتهم بمبدأ أساس هو : ( ليقوم الناس بالقسط ).
مخ ۱۱
والقسط هو العدل والاستقامة ، استقامة التفكير ، استقامة النفس ، بما فيها من نوازع ودوافع وميول ، استقامة السلوك الفردي والعلاقات الإنسانية في مجال التعامل الاجتماعي والقضائي والاقتصادي ومختلف شؤون الحياة الإنسانية ، ليخرج الإنسان من الظلمات إلى النور ، من ظلمات العداوة والفرقة والنزاع والتقاتل وسفك الدماء .. من الخوف والإرهاب ليهتدي إلى سبل السلام والحياة الآمنة المطمئنة ، فالله خلق الإنسان وعلمه ما يصلحه وينظم حياته ويقوم سلوكه : (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ). ( الملك / 14 )
لذلك أرسل الله الأنبياء ووضع القوانين والمناهج والتشريعات وموازين الحق والعدل وقيم الحياة لينقذ الإنسان من التخبط والضياع .. وحياة الأجيال الغابرة والتاريخ والحياة المعاصرة لبني الإنسان تشهد بمحنة الإنسان وما يلاقيه من ظلم وفساد ومعاناة .. حتى خسر قيمة الحياة وغابت عن دنياه معانيها الحقة ، لذا دعاه القرآن بقوله :
(... استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم ). ( الانفال / 24 )
فالحياة بمعناها الحق لا تكون إلا تحت ظلال رسالة الله .. تحت ظلال النور والاستقامة والسلام .. ليتسابق الناس إلى صنع الخير ، ويعيشوا في ظلال الخير ، فتزدهر رياض الحياة وتنمو قيم الإنسانية .
ويضيف القرآن سببا أساسيا آخر للبعثة والرسالة ، يرتبط بيوم الحساب والجزاء .. يرتبط بقاعدة العدل الالهي وهو : (قبح العقاب بلا بيان) .
فالله سبحانه لم يكن ليعاقب ويحاسب بدون بيان وتبليغ وتوضيح ، فما لم يوضح للانسان الطريق والمسؤولية والتكليف لا يمكن أن يحاسبه ويجازيه ، ولئلا يحتج الإنسان بعد المعرفة ، فيعتذر عن تقصيره وسوء تصرفه :
(لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ). ( النساء / 165 )
مخ ۱۲
(وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ). ( الاسراء / 15 ) لذلك شمل عدله ولطفه ورحمته الإنسان ، وكرمه وأعطاه حق الاحتجاج والدفاع عن نفسه فيما لم يبلغه .
إن القرآن حين يعرف النبوة والرسالة ويصف الحياة الجاهلية والطواغيت والضلال .. ويحلل أسباب المأساة والدمار الذي أصاب الشعوب والأمم الغابرة يربطها بالإعراض عن رسالة الله والتنكر لدعوة الأنبياء .
وفي دراستنا لحياة الأنبياء وللتاريخ الإنساني المعاصر لهم أو لما بعدهم ، نشاهد صدق هذه الدعوة ، وعمق هذا العامل ، ونستطيع أن نتبين ذلك بوضوح من خلال دراسة المساحة التاريخية المترابطة من حيث الزمان والمكان التي شغلها أبو الأنبياء إبراهيم الخليل (عليه السلام) وولداه إسماعيل وإسحاق، ونكتشف كم كان لهؤلاء الأنبياء من دور وأثر في تاريخ الإنسان الماضي والمعاصر ..
فوجود الأنبياء : أنبياء بني إسرائيل ورسول الإنسانية الخالد محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)
من ذرية إبراهيم يوضح كم كان لهم من أثر ودور في حضارة الإنسان وتاريخ حياته الماضية والمعاصرة .
ولئن تناولت هذه الدراسة المختصرة حياة إسماعيل (عليه السلام) فإنما هي حلقة في دراسة تاريخ الأنبياء التي تشكل المحور والاساس في تاريخ الإنسان ، وتشكل المعسكر الثاني (معسكر الهدى) مقابل (معسكر الجاهلية والضلال) على امتداد التاريخ .
إن دراسة تاريخ نبي من أنبياء الله معناه دراسة تاريخ رسالة وأمر إلهي جسده الإنسان ، وحدد الموقف بجانبيه (الطاعة والعصيان) ، ومعناه دراسة مقطع تاريخي من مقاطع تاريخ الإنسان ، وحقا إن في قصصهم لعبرة لاولي الألباب .
فلنتأمل حين ندرس حياة إسماعيل ، ونعرف كيف تكون الطاعة لله والصبر على القضاء والكفاح من أجل الرسالة :
(واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا * وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة وكان عند ربه مرضيا ) .( مريم / 54 55 )
مخ ۱۳
أسرة الخليل وميلاد إسماعيل (2)
أبو الأنبياء داعية التوحيد ، ورسول الحنيفية السمحاء ، إبراهيم (عليه السلام) وله بحب الله ، فتعشق تلك الحقيقة الكبرى ، فملكت عليه وعيه وروحه وإحساسه ، هام بها فراح يحملها رسالة وعقيدة وهدفا يجوب الآفاق ويقطع الفيافي والقفار ، رسولا وداعية وهاديا ، يصدع بدعوته ، ويهجر أهله ووطنه ودنياه من أجل تلك المبادئ والقيم التي آمن بها وحملها، فلم تكن حياة إبراهيم (عليه السلام) ملكا له ، ولم يكن النعيم والاستقرار وخصب الرافدين ليستهوي قلبه وعقله ، بل ظل ملكا لرسالته ، أمينا وفيا لمبادئه ، كان إبراهيم كما وصفه الحق سبحانه :
(إن إبراهيم كان امة قانتا لله حنيفا ). ( النحل / 120 )
(إنه كان صديقا نبيا ). ( مريم / 41 )
(واتخذ الله إبراهيم خليلا ). ( النساء / 125 )
(إن إبراهيم لحليم أواه منيب ). ( هود / 75 )
(ولقد آتينا إبراهيم رشده ). ( الأنبياء / 51 )
(سلام على إبراهيم ). ( الصافات / 109 )
(واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الايدي ).( ص / 45 )
(وإبراهيم الذي وفى ). ( النجم / 37 )
(لقد كان لكم اسوة حسنة في إبراهيم والذين معه ). ( الممتحنة / 4 )
هذا أبو الأنبياء إبراهيم بن تارخ شاء الله أن يولد وينمو ويترعرع في أرض الرافدين (أرض العراق) ، في ظل الوثنية والظلم وجبروت نمرود بن كوش (3)، ملك بابل وطاغيتها المستبد : «في قرية كوثي في اور الكلدانيين قرب الشاطئ الغربي للفرات ، وقيل أيضا أنه ولد ببابل» (4).
مخ ۱۴
بدأ الخليل دعوته ، ينادي بعقيدة التوحيد ويتحدى جبروت امبراطورية نمرود وكبرياءه الذي دعاه الظلمة إلى أن يأمر شعبه بعبادته وتأليهه، فواجه الخليل الموقف الصعب ، ليرسم الطريق لطلائع الهدى وقادة الأيمان ، واجه الظلم والكفر والطغيان بالقوة والصلابة، فضرب رأس الطاغوت وأثار في النفوس روح العزم والقوة، لاستئصال
الوهن والضعف وإذكاء جذوة الأيمان وروح التصدي للطغيان والفساد . وكعادة المسيرة البشرية فإن الطلائع الحدية ، والشخصيات القوية المتماسكة قليل أمثالها في التاريخ ، فكثيرون هم اولئك الذين يحسون بالظلم ويميزون ظلام الجاهلية ، ولكنهم ضعاف جبناء يحبذون العيش وسط أسراب القطيع ..
كان الخليل قد تحدى امبراطورية عاتية وسلطانا رهيبا ، ليصنع الدرس فيرويه لنا القرآن :
(إن إبراهيم كان امة ).
(لقد كان لكم اسوة حسنة في إبراهيم والذين معه ).
فأعرض الناس تحت ضغط الخوف والارهاب والجهل وسطوة نمرود، عن دعوة إبراهيم إلا قليل منهم ، وما أعرض عنها إلا من سفه نفسه ، فخف نفر ممن شرح الله صدورهم للايمان وآتاهم البصيرة النيرة والحس الروحي الشفاف لاستقبال الدعوة ، وحمل الامانة رغم إرهاب نمرود وجبروته الطاغي ، وكان ممن فتح الله قلبه للايمان لعقيدة الهدى ، وأيقظ حسه لاستقبال دعوة التوحيد ونفح فيه روح العزيمة والتحدي الشجاع زوجته سارة .
فكانت أول من آمن به(5)، وآمن له ابن أخيه لوط بن هاران ، فآمنا به وصدقاه واتبعاه وسارا معه حتى نهاية الشوط .
ولما احتدم الصراع بين الخليل ونمرود وأصر واستكبر وقرر حرق إبراهيم ومكافحة دعوته والوقوف بوجهه لم يبق أمام إبراهيم إلا الهجر والهجرة ، هجر الظالمين والمتواطئين، والهجرة إلى الله رافعا صوته بالقرار :
مخ ۱۵
(إني مهاجر إلى ربي ). ( العنكبوت / 26 ) هاجر الخليل أول ما هاجر إلى اور (6) ثم استقر فيها زمنا ، فلم ضالته، ولم يكن بإمكان يجد هذه البلدة أن تستوعب دعوته، وتتقبل رسالته.. فهجرها واتجه إلى فلسطين ، هو والذين آمنوا معه ، فصحبته سارة زوجته وابنة عمه وابنة خالته ، فتعلقت به رفيقة درب وشريكة مسير، وانضم إلى الرسول المهاجر لوط النبي ابن أخيه وزوجته . اتجه الجمع وراح يغذ السير ويقطع الفيافي والقفار عبر صحراء العراق متجها إلى أرض الشام ، أرض كنعان (فلسطين) الحبيبة ، فاستقر النبي فيها ، وحط رحاله هناك ليبدأ الفصل الجديد ، وليصنع أغنى فصول التاريخ في حياة الإنسان .
وبدأ الفصل الجديد ، بدأ في أرض فلسطين ، كفاح وهجرة وجدب ومعاناة ، فليست الهجرة إلا الهجر والمعاناة والاختبار ، وليست هي إلا التربية والاعداد والبناء الإنساني الذي يفك فيها الإنسان ارتباطه من الأهل والأحبة والوطن ، ويحكم علاقته وتعلقه بالله سبحانه ، فهي ليست التغرب وقطع المسافات ، والغياب عن الدار والبعد عن الأحبة وحسب ، ولكنها هجرة الروح والعقل والمشاعر .
فأبو الأنبياء طوى فيافي الارض ، وهجر أرض بابل ، ولم يصحبه من الاهل إلا سارة المؤمنة المهاجرة ، فكانت أول النساء المؤمنات افتتاحا لدرب الهجرة ، فما كان الخليل ملوما بحبه لها وتعلقه بها ، فهي ابنة عمه وبنت خالته ورفيقة جهاده وصاحبة هجرته .
استقر الخليل في أرض كنعان وشاء الله أن تمنع السماء قطرها وأن تجدب أرض كنعان ، فيتوارى من أرضها الخصب والرواء ، فيواصل الخليل الرحلة باتجاه مصر.. واصلها ليقطع الدرب الطويل ، فهو والقدر الموعود . ام إسماعيل، هاجر، على لقاء قد خط في لوح القدر ، واحتجب في ضمير الغيب .
مخ ۱۶
وطئ الخليل أرض مصر فوجد فيها ظالما ، كما ترك في أرض بابل الملك الظالم نمرود ، وقد شاء الله أن يطوي الخليل تلك الأيام في أرض النيل بعيدا عن أذى الطاغوت ، ثم يعود هو وسارة ومعهما جارية مصرية اسمها هاجر ، تملكها سارة ، ويعودون إلى الارض المباركة ويحطون رحالهم في الشام من جديد ، ويسكن هذه المرة في (بلدة السبع) (7) في فلسطين ، ويسرج مشعل النور ، ويرفع صوت التوحيد ، فيبني مسجدا للذكر والدعوة والعبادة هناك ، واتخذ فيها بئرا معينا للخصب والطهارة والحياة ، إلا أن أهل هذه البلدة لم يعرفوا قدر إبراهيم ، ولم يشكروا نعمة وجوده فيهم ، فآذوه وضيقوا عليه ، فتركهم ورحل ، ورحلت البركات وجفت البئر ، وواصل إبراهيم مسيره حتى وصل بلدة (القط أو القط) بين الرملة وإيليا في الشام ، ويعيش مع سارة وهاجر في بيت واحد .
وكان الشيب قد دب إلى إبراهيم ، وزحفت الشيخوخة نحو زوجه سارة ، وينظران في أرجاء البيت فيرانه أقفر مجدبا من زهرات العمر وابتسامات الطفولة .
ويقع في نفس سارة ما خط في لوح القدر ، فتعرض جاريتها وتهبها لسيدها إبراهيم ، عل الله أن يهب منها ذرية النبوة ، ويغمر أجواء البيت ببراءة الطفولة وحنان الابوة الرطيب ، فيتزوجها إبراهيم، والأمل الكبير يملأ قلبه ويراود نفسه ، الذرية الصالحة ، التي تحمل مشعل التوحيد ، وترفع راية الإسلام لله الواحد القهار ، فتزوج الخليل هاجر ، وهو يضرع إلى الله سبحانه وتعالى يرفع يديه بقلب خاشع ، ونفس مشوقة إلى الولد والذرية الصالحة التي تعمر الأرض بالتسبيح ، وتحييها بالتقديس والصلاح : (رب هب لي من الصالحين ). ( الصافات / 100 )
ويستجيب الله دعاءه ويهب له إسماعيل ، فيبشر بغلام حليم ، يحمل صفة أبيه ويكتسب منه فضيلة الحلم ، فيصفه القرآن بقوله : (وبشرناه بغلام حليم ). ( الصافات / 101 ) كما وصف أباه من قبل : (إن إبراهيم لحليم أواه منيب ). ( هود / 75 )
مخ ۱۷
وتحمل هاجر بالجنين ، الأمل والبشرى والوفاء ، وتمر الأيام على هاجر ، فينمو جنينها ، وينمو معه الحلم والامل ، تتنامى معه مشاعر البشر والانتظار في نفس الشيخ الخليل ، ويكبر الجنين وتظهر على هاجر علامات الحبالى ، فتخشى تحسس سيدتها الحدث الجديد ، وتخاف إثارة غيرتها ومشاعر الخيبة ومخاوف العقم في نفسها ، فتتخذ لنفسها منطقا (حزاما) تتمنطق به لتخفي أثر الجنين وتخفي معالم إسماعيل في رحاب مملكة الرحمة والحنان .
ومرت الأيام واكتمل الجنين ، وأذن الله سبحانه للوليد البشرى أن يطل على عالم الدنيا ، فيملأ صحراء الشام بنظراته وتأملاته النبوية الشفافة التي كانت تواصل رحلتها إلى أعماق الحقيقة ، وتستجلي آفاق الكون الفسيح وتقرأ في صفحاته نداء إبراهيم :
(يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون ) .( البقرة / 132 )
أبصر إسماعيل ضياء الشمس وعمر أبيه ست وثمانون سنة .
ولد إسماعيل في بادية الشام (8) فاحيط مولده بالآمال والآلام، آمال إبراهيم وهاجر ، وآلام سارة التي تملك الخوف قلبها ومشاعرها .
لقد أصبحت الجارية هاجر سيدة البيت ووارثة النبوة ومستودع الذرية .
ولم تكن مشاعر سارة ومخاوفها لتحتمل هذا الجو الجديد ، فراحت تقسو على إسماعيل وهاجر ، وتتعامل معهما بخشونة وجفوة .
مخ ۱۸
هجرة واغتراب
تغيرت أجواء البيت .. بيت الخليل، وخيمت عليه مشاعر الشحناء والاضطراب العائلي ، وأصبحت سارة لا تطيق هاجر ومولودها الجديد.. فما عسى أن يكون ، وما عسى أن يفعل رب اسرة تتعرض اسرته لمثل هذا الوضع ؟ إن قصارى ما يمكن أن يكون هو أن يفرد لزوجته بيتا إلى جوار بيته ، أو في منطقة قريبة من داره ، ولكن الذي حدث لم يخطر على بال أحد ، ولم يفكر به انسان .. يؤمر الخليل أن يحمل هاجر وإسماعيل إلى أرض الحجاز (9).
أصغى الخليل إلى كلمة الرحمن ، رغم ما في نفسه من لوعة الفراق وحرارة الغربة ، فقد كان مطمئنا إلى رعاية الله ، واثقا من عطفه وحنانه ، موقنا أن سيكون لهذا الرضيع شأن عظيم .
ويأتي إبراهيم إلى هاجر وإسماعيل يدعوهما إلى الهجرة والمسير ، وتستجيب هاجر ويحملان متاع السفر وليس بينهما سوى عيني إسماعيل ترنوان إلى الطريق وتشيعان أرض الشام برضى ووداعة ، وتستقبلان باحة البيت الحرام ، وقبلة الموحدين ، فقد شاء الله أن تكون تلك الأرض مدرج صباه ومرتع طفولته ، وموضع تأمله في الكون والوجود ، ومسرح تاريخه وميدان نبوته ودعوته ، وأرض مناسكه وعبادته.. سار الموكب المهاجر يطوي الارض، ويفتح صفحات جديدة في سجل التاريخ، حتى وافى مكة ، وصل المكان الموعود فتوقف فيه .. هنا .. انزلي هنا يا هاجر واسكني الارض الحرام أنت وولدك إسماعيل .. تلفتت هاجر .. سرحت بنظرها في صعيد الارض ، لم تر انسا ، ولم تسمع صوتا ، ولم تشاهد بشرا .. إذن كيف تتركنا يا إبراهيم .. ؟ مع من نقيم .. ؟ وكيف نحيا في هذا الوادي الجديب .. ؟
استولى الاحساس بالغربة والوحدة على هاجر ، وشعرت بقسوة الصحراء ، وجدب الوادي الغريب ، وأحست أن الوادي ينظرها بعين التساؤل والاستغراب .
مخ ۱۹