اسلام او بشري تمدن

عباس محمود العقاد d. 1383 AH
64

اسلام او بشري تمدن

الإسلام والحضارة الإنسانية

ژانرونه

ويقول الرحالة: إن المسلم الصومالي ينتمي - عادة - إلى إحدى الطرق الصوفية، ويرعى فيها النظام الدقيق الذي يمتاز به الصوماليون في اجتماعاتهم العامة، سواء منها اجتماعات القبيلة لتدبير المصالح المشتركة أو اجتماع أبناء الطريق لإقامة الشعائر والعبادات. ولكن الصومالي قد يجمع بين طريقتين في وقت واحد، ويؤدي شعائره في كلتا الطريقتين؛ لأنهما تتفقان في اتباع السنة وقضاء الفرائض المرعية في أحكام القرآن، وقد يقع الخلاف بين الطريقتين إذا اشتبكت أسبابه بأسباب الخلاف على مسائل المجتمع أو مسائل القبيلة «الرعاوية»، ولكنه خلاف قليل الحوادث إذا قيس بالخلاف على المذاهب في غير هذه الديار.

ومما يجد من أضرار هذا الخلاف أن مشايخ الطرق مسئولون في العرف العام عن التوفيق بين الخصوم والإصلاح بين القبائل وولاة الأمور فيها أو في البلاد الحضرية التي انفصلت بعض الانفصال عن تقاليد الريف والبادية، وليس لأحد من وجوه القوم مكانة تعلو مكانة رجل الدين بين قبائل الصوماليين، ولكن العرف الصومالي يدين بتقسيم «السلطات» بين مكانة الشيخ ومكانة رئيس العشيرة أو سلطان الإمارة، فإذا استجاب المتخاصمون إلى وساطة الإمام الديني فالعهود التي تبرم بينهم إنما يتم إبرامها على أيدي الرؤساء والسلاطين، ويتولى الإشراف على تنفيذها وكلاؤهم وأعوانهم الاجتماعيون، إلا أن يصل الأمر إلى التحكيم على وجه من وجوه الخلاف المتفق عليها فلا يرى الجميع بدا من قبول الاحتكام إلى أئمة الدين.

ويحترم الصوماليون ذكرى الآباء والأجداد، ويقيمون الأضرحة والمزارات لكل جد عظيم من جدود القبيلة المذكورين، ويتفق في هذه الحالة أن يكون مزار الجد العظيم كمزار الولي الديني في القداسة والتوقير وإقامة الموالد إلى جواره مع التصدق بالذبائح والقرابين في كل موسم مشهود، يحضره أبناء ذلك الجد كما يحضره غيرهم من المقيمين إلى جوار المزار. ولعل هذا الاشتراك بين شعائر القداسة وشعائر الولاء قائم على اشتهار أولئك الأجداد بفتح البلاد للدعوة الإسلامية واستحقاقهم للذكرى بفضل الغيرة على الدين والقدرة على تمكين السلطان السياسي لعشيرة من العشائر الوطنية أو عشائر المهاجرين الأولين.

ويدل اسم الكتاب «ديمقراطية رعاوية»

A Pastoral Democracy

على الغرض الأول من تأليفه، فهو وصف النظام الديمقراطي الفطري في بلاد القبائل الراعية، أو قبائل الرعاة التي تحسب فيها الثروة بعدد ما تملكه من الأنعام والماشية وقطعان الحيوان على الإجمال. وقد يصف المؤلف مجالس الحكم والمشاورة في هذه القبائل كما يصف علاقات الحكم بالمحكومين وعلاقات القبائل المتعددة بعضها ببعض في السلم والحرب وأيام الرخاء وأيام الجدب والشدة، فيخلص من مشاهداته الكثيرة إلى الإيمان بصدق العنوان «الديمقراطي» حين يطلق على سياسة القبائل وآدابها الاجتماعية، وإن تكن «ديمقراطية» فطرية تدين بالعرف المأثور قبل أن تدين بالنص المكتوب.

ويقول المؤلف: إن مصالح القبيلة «الرعاوية» لها اعتبارها الأول عند تطبيق الأحكام والحقوق وبخاصة في مسائل الدية والثأر ومسائل التوريث والتمليك، ويحرص أبناء الصومال على تطبيق أحكام الميراث كما شرعها الإسلام، فتعطي المرأة حقوقها على حسب هذه الأحكام، ولكنها لا تتولى رعاية الإبل ولا حيازة الأرض المخصصة للرعي والسقاية، وقد تملك الماشية وتملك الدار والمسكن من مخلفات الآباء والأزواج، ولكنها - هي باختيارها - لا تطالب بولاية أمر الإبل والمراعي والسقايات، ولعلها تؤثر ذلك لأن الملكية هنا تستتبع الحماية بالسلاح والاستعداد لدفع الغارة وصد العدوان والانتقال من حوزة إلى حوزة كلما وجبت الرحلة من حمى إلى حمى آخر، تبعا لأحوال الخصب والجدب أو أحوال الري والجفاف.

ومما يجعل للملكية في هذه الحالة حكما خاصا لا تنهض المرأة بأعبائه أن تدبير الغارة موكول إلى نظام صارم لا يعفى منه أحد من القادرين على حمل السلاح، فإذا وجب القتال، وتخلف عنه أحد من شبان القبيلة فهو عرضة لاستباحة ملكه من الأنعام والماشية، وإذا اجترأ جماعة من القبيلة على شن الغارة على قبيلة أخرى بغير إذن الزعيم حق له أن يعاقبهم ويحرمهم غنيمتهم، إلا إذا تقدموا بأنفسهم مختارين لقسمة الغنيمة بينهم وبين إخوانهم الذين خالفوهم ولم يشتركوا في اغتنامها، فقد يشفع لهم ذلك في رفع العقاب وتخفيف التعويض المفروض.

وقد تحول الصوماليون من سكان بقاع الشمال من نظام المراعي إلى نظام الأرض الزراعية، فكان لذلك أثره في تعديل أطوار المعيشة وأحكام الديمقراطية الرعوية، ولكنه تعديل ظاهر لم يتعمق إلى أصول العادات والأخلاق.

ويستطرد المؤلف في حديثه عن العرف الاجتماعي إلى الحديث عن الشعر الصومالي ووظيفة الشاعر الاجتماعية بين البادية والحاضرة، فإذا هي صورة أخرى من صور الحياة العربية في عصورها الأولى؛ لأن الشاعر يثير النخوة للقتال ويستفز الغضب للأخذ بالثأر ورد العدوان بالعدوان، وقد يلجأ إليه أحيانا في تهدئة الثوائر الجامحة وتزيين الصلح والمسالمة كلما جنح الحكماء ورؤساء الدين إلى علاج المشكلة بالتوفيق والترضية، ولا يندر في أغراض الشعر عند الصوماليين نظم القصائد حمدا للأولياء وترتيلا لأناشيد الدعاء والثناء على عباد الله الصالحين. ومن أمتع فصول الكتاب تلك الصفحات التي يروي فيها المؤلف طرفا من سير الشيوخ والنساك الذين قادوا الثورة على الحكم الأجنبي كما قادوا الثورة على فساد الأخلاق ومساوئ التفرنج بين أناس من الصوماليين بعد احتكاكهم بالجاليات الأوروبية، فإن أحاديث المؤلف عن أولئك الشيوخ والنساك تصحح التاريخ المفترى عليهم، وتدفع شبهة الهوس التي علقت بهم من روايات الصحفيين عنهم، وأولهم «الملا محمد عبد الحسن» الذي لقبوه بالملا المجنون، وما كان به من جنون إلا أن يكون الجنون عندهم فرط الغيرة على الصلاح وفرط الغضب من دسائس التبشير والاستعمار.

ناپیژندل شوی مخ