مقدمة
1 - مولد الفلسفة الإسلامية1
2 - المسلمون والمؤتمر الإسلامي1
3 - براهين الإيمان عن طريق براهين الشكوك1
4 - هذه هي الأغلال1
5 - دور من أدوار التاريخ في الكتابة عن الأندلس الإسلامية1
6 - الاختراعات بين العلم والدين
7 - الموفق الموفق1
8 - المادية تنهدم1
9 - إفلاس مذهب لا طاقة «للمادية الشيوعية» بالبقاء1
10 - تحدي الإله ومعناه1
11 - رماد ولا نار1
12 - الإنسانية من ماضيها إلى مصيرها1
13 - العالم العربي اليوم1
14 - ديمقراطية رعاوية في شمال الصومال1
15 - إسبانيا المغربية1
16 - في مطالع الأعوام: نظرة إلى التنجيم في العالم المتمدن1
17 - الحج قبل الإسلام وبعده1
18 - أفغانستان وانتشار الإسلام في الهند
19 - العلية الجديدة في نيجيريا1
20 - مراكش مستقلة1
21 - الدعوات الإسلامية والإسلام ووحدة الجماعة1
22 - أطلس العالم العربي والشرق الأوسط1
23 - خاتم الأنبياء
24 - ديانات العالم السبع العظمى1
25 - كلام عن الإسلام والعرب في كتابين حديثين1
26 - الصحافة في الإسلام1
27 - الاقتصاد السياسي في الإسلام (1)1
28 - الاقتصاد السياسي في الإسلام (2)1
29 - الأزهر أحوج إلى اختيار مدرسيه منه إلى مال يواسيه1
30 - الجامعة المصرية والأزهر الشريف لا يهمهما لمن يكون الغلب
31 - كتاب جديد عن الرسول1
32 - الثقافتان1
33 - عود إلى الثقافتين1
34 - الروحانية بين الأنبياء الثلاثة1
35 - الإسلام والحضارة الإنسانية
مقدمة
1 - مولد الفلسفة الإسلامية1
2 - المسلمون والمؤتمر الإسلامي1
3 - براهين الإيمان عن طريق براهين الشكوك1
4 - هذه هي الأغلال1
5 - دور من أدوار التاريخ في الكتابة عن الأندلس الإسلامية1
6 - الاختراعات بين العلم والدين
7 - الموفق الموفق1
8 - المادية تنهدم1
9 - إفلاس مذهب لا طاقة «للمادية الشيوعية» بالبقاء1
10 - تحدي الإله ومعناه1
11 - رماد ولا نار1
12 - الإنسانية من ماضيها إلى مصيرها1
13 - العالم العربي اليوم1
14 - ديمقراطية رعاوية في شمال الصومال1
15 - إسبانيا المغربية1
16 - في مطالع الأعوام: نظرة إلى التنجيم في العالم المتمدن1
17 - الحج قبل الإسلام وبعده1
18 - أفغانستان وانتشار الإسلام في الهند
19 - العلية الجديدة في نيجيريا1
20 - مراكش مستقلة1
21 - الدعوات الإسلامية والإسلام ووحدة الجماعة1
22 - أطلس العالم العربي والشرق الأوسط1
23 - خاتم الأنبياء
24 - ديانات العالم السبع العظمى1
25 - كلام عن الإسلام والعرب في كتابين حديثين1
26 - الصحافة في الإسلام1
27 - الاقتصاد السياسي في الإسلام (1)1
28 - الاقتصاد السياسي في الإسلام (2)1
29 - الأزهر أحوج إلى اختيار مدرسيه منه إلى مال يواسيه1
30 - الجامعة المصرية والأزهر الشريف لا يهمهما لمن يكون الغلب
31 - كتاب جديد عن الرسول1
32 - الثقافتان1
33 - عود إلى الثقافتين1
34 - الروحانية بين الأنبياء الثلاثة1
35 - الإسلام والحضارة الإنسانية
الإسلام والحضارة الإنسانية
الإسلام والحضارة الإنسانية
تأليف
عباس محمود العقاد
مقدمة
لئن كان الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده - رحمه الله - أكبر من حملوا لواء الدفاع عن الإسلام في عصره، فإن المرحوم الأستاذ عباس محمود العقاد يعتبر بحق في طليعة المنافحين عن الإسلام في هذا الجيل.
ونظرة شاملة إلى إنتاجه الأدبي، الواسع الأفق ، المتعدد النواحي والأغراض، تريك مدى اهتمامه بالشئون الإسلامية. فمن تحليل لنفسيات عباقرة الإسلام، وتبيان لمآثرهم الخالدة، إلى جلاء لوقائع التاريخ الإسلامي، إلى تصحيح وتصويب، وأحيانا تأييد وتثبيت لما كتبه الغربيون عامة، والمستشرقون خاصة، عن الإسلام ونبيه، وتناولوا فيه مختلف القضايا والمبادئ الإسلامية.
وهذا الكتاب ثمرة من ثمرات إنتاجه الأدبي الإسلامي، يجمع بعض ما تناثر من مقالاته في بطون الصحف والمجلات. وفيه يبرز العقاد منافحا مكافحا في ثلاث جبهات:
جبهة الغرب؛ حيث يقف بالمرصاد لكل ما تخرجه المطابع من كتب تتحدث عن الإسلام وتاريخه وحضارته، فيرد الشارد، ويعري ذوي النوايا السيئة، والأغراض الخفية، غير مقصر عن الثناء على أرباب النزاهة ورواد الحقيقة.
وجبهة الجدال والمنطق والبحث العلمي الدقيق؛ حيث يرشد الضال ويهدي المتجافي عن الحق، ويقوم غير المستقيم في نظرته إلى الإسلام وحضارته.
وجبهة المترددين الشاكين، والمنكرين لمزايا الروح؛ حيث يقلب الشك إلى يقين، والتردد إلى قرار.
ولنا ملء الثقة في أن يجد فيه القراء بعامة، والمهتمون بالشئون الإسلامية بخاصة ما ترتاح إليه نفوسهم، وتطمئن به ضمائرهم.
الفصل الأول
مولد الفلسفة الإسلامية1
لتتبعن سنن الذين من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا في حجر ضب لاتبعتموهم ...
حديث شريف
صدق الرسول الكريم.
فإن تاريخ المذاهب والفرق في الإسلام قريب الشبه بتاريخها في المسيحية، وقريب الشبه بتاريخها قبل ذلك في الإسرائيلية، بل هو قريب الشبه بتاريخ كل عقيدة دينية انتقلت من دور الإيمان إلى دور الشرح والتفسير أو دور التوفيق بين النصوص وما يستلزمه العقل من معاني النصوص، لا فرق في هذا التطور بين دين ودين إلا من حيث السرعة أو تراخي الزمن قبل ظهور الأطوار المتعاقبة، فهي في الإسلام أسرع، وهي في المسيحية أقل من ذلك سرعة، وهي في اليهودية أبطأ من كلتا الديانتين الكتابيتين، لأسباب معقولة تقتضي ذلك التفاوت في سرعة الانتقال من دور الإيمان إلى دور الشرح والتفسير.
فالتأويلات الفلسفية لم تظهر في الديانة اليهودية قبل «فيلو» الإسكندري المعاصر للسيد المسيح، أما الخلاف على نصوص التوراة بين السامريين وغيرهم فقد ظهر في أواخر القرن الخامس قبل الميلاد، ثم انقضت تسعة قرون بعد الميلاد حتى اتسعت فجوة الخلاف بين القرائين والربانيين؛ أي القائلين بالتزام الحرف وهم القراءون، والقائلين بجواز التفسير وهم الربانيون، وكان الخلاف بينهم في مسائل العقيدة الكبرى مناسبا لكل خلاف بين المتشددين والمتجاوزين، فكان القراءون يقولون بالجبر، والربانيون يقولون بالاختيار، ويقاس على ذلك كل ما بين الفريقين من وجوه الخلاف.
ولم يكن «فيلو» من الفلاسفة المنقطعين للفلسفة أو المتفرغين للمنطق والعلوم العقلية، بل كان يمزج بين الدين والفلسفة، ويزعم أن الفلسفة كلها مأخوذة من نصوص التوراة، ولكنه يجتهد في تأويل تلك النصوص؛ بحيث تتسع للمعاني الفلسفية التي تعلمها واطمأن إليها بعقله، ويجعل الكلمات رموزا وإشارات إلى القضايا المنطقية والمعاني المجردة، فهو مؤمن بالتوراة ومؤمن بالمنطق الذي تستلزمه المدارك الإنسانية، ولا محيص له بين الإيمانين من تحويل الكلمات إلى رموز وإشارات؛ لئلا يكفر بالعقل أو يكفر بالدين.
وقد نظر «فيلو» إلى الأوصاف الحسية التي وصف بها الإله في كتب التوراة، فلم يقبلها على ظاهرها، ولم يستطع أن يرفضها؛ لاطمئنانه الموروث إلى دين آبائه وأجداده، فقال: إنها رموز ومجازات تقرب المعاني إلى الذين يفهمون بالحس ولا يدركون المعاني المجردة بالرياضة والتفكير، وانفتح له باب التأويل، فذهب في التجريد إلى أبعد مداه، وأنكر الصفات الإلهية؛ لأن الصفة حد والله منزه عن الحدود، بل نزه الله عن التأثير في مادة الكون؛ لأن المعنى الإلهي أشرف من جميع الأجساد المادية، فإذا أثر فيها فإنما يكون هذا التأثير بالواسطة التي يودعها الله في بعض القوى الإلهية، واحتال على تأويل الصفات بأنها نفي للنقص الذي لا يتصوره العقل في حق الخالق العظيم، فهو قادر لأنه ليس بعاجز، وعالم لأنه ليس بجاهل، وغني بنفسه؛ لأنه ليس بمفتقر إلى أحد، وهو في قدرته وعلمه وغناه مقام فوق كل مقام يتخيله العقل من صفات الإنسان، وكل ما يستطيعه العقل الإنساني من القربى إلى الله أن يدركه بالرياضة، ثم يدركه بالعلم، ثم لا يغنيه كلاهما عن الإلهام الذي يختص به سبحانه وتعالى من يشاء من عباده الخلص المقربين. •••
وكان أوريجين
Origenes
أكبر المجتهدين السابقين من أصحاب القول بالتفسير والتأويل في الديانة المسيحية، ولم تظهر دعوته مع ذلك قبل القرن الثالث للميلاد.
شغل أوريجين كما شغل فيلو بمسألة النصوص والتوفيق بينها وبين المعقولات، ومن عجيب الأمر أن هذا المجتهد الجريء على النصوص قد بلغ من الإيمان بالنص الحرفي في كلمة من الإنجيل مبلغا لم يبلغه - قبله ولا بعده - أشد المؤمنين بالنصوص الحرفية في دين من الأديان، فخصى نفسه لأنه قرأ في إنجيل متى أنه «يوجد خصيان ولدوا هكذا من بطون أمهاتهم، ويوجد خصيان خصاهم الناس، ويوجد خصيان خصوا أنفسهم لأجل ملكوت السماوات، من استطاع أن يتبتل فليفعل.»
ومن ثم يرى أن أوريجين لم يكن من الفلاسفة المنقطعين للفلسفة، بل كان من المؤمنين المتبتلين الغلاة في النسك والعبادة، ولكنه تعلم الفلسفة وأدرك البداءة العقلية، فاضطره فرط الإيمان إلى التوفيق بينها وبين نصوص الكتب الدينية، ولا سيما النصوص التي تشير إلى بنوة السيد المسيح ودلالة الثالوث والتوحيد. فقال: إن البنوة كناية عن القربى، وفهم معنى الكلمة التي كانت في البدء فهم الرجل الذي اطلع على مذهب هيرقليطس ومذهب أفلاطون؛ لأن الأول يقول: إن الدنيا تتغير أبدا فليس لها وجود حقيقي وراء هذه الظواهر غير وجود الكلمة المجردة أو العقل المجرد الذي لا ينقطع عن تدبيرها، ولأن أفلاطون يقول بسبق الصور المعقولة على الأجسام المحسوسة، فجاء أوريجين بعدهما ليقول: إن السيد المسيح هو مظهر العقل الخالد تجسم بالناسوت، وإن ظهوره في الدنيا حادث طبيعي من الحوادث التي يتجلى بها الإله في خلقه، واجتهد في تأويل النصوص، فجعل للكتب الدينية تفسيرين: أحدهما صوفي للخاصة، والآخر حرفي لسائر الناس، وبشر بخلاص خلق الله جميعا في نهاية الأمر حتى الشياطين، ولم يكن ينكر الشياطين أو ينكر قدرة السحرة على تسخيرها في الإضرار بالناس، ولكنه - من عجب التناقض في الطبع الإنساني - كان يرى أن الأسماء العبرية - دون غيرها - هي الأسماء التي تجدي في الاستدعاء والتسخير، وينسى أنه جعل للأسماء والحروف هنا سلطانا على الكون يقصر عنه سلطان المعاني والمسميات.
وخلف أوريجين تلميذان قويان، هما آريوس في الإسكندرية، ونسطور في سورية، فمضيا في التأويل والتوفيق بين النصوص والمعاني، ولكنهما اختلفا بينهما أشد الاختلاف يخلقه اللدد والشحناء، وتراميا كما ترامى أتباعهما زمنا بتهمة الكفر والجحود؛ لأن آريوس كان يقول بأن المسيح إنسان حادث، ونسطور كان يؤمن بالطبيعة الإلهية في المسيح، ويأبى التسوية بينه وبين الله في الدرجة والقدم، ودخلت العوامل السياسية في هذا الخلاف فدفعت به إلى أقصى مداه.
وهذه كلها - كما رأينا - مذاهب في الدين تصطبغ بالصبغة الفكرية، ويمتزج فيها الإيمان بالتفكير. أما مذاهب الفلسفة المسيحية التي تصدى لها المفكرون من غير رجال الدين، فلم تظهر في العالم المسيحي قبل انقضاء عدة قرون، وتأخر ظهورها إلى ما بعد ظهور الفلسفة الإسلامية في أوروبا الغربية. •••
على أن الفرق والمذاهب لم يتراخ بها الزمن في الإسلام كما تراخى بها في اليهودية والمسيحية، ولم ينقض جيل النبي نفسه حتى ظهرت مسألة النص والتفسير، ولحقت بها المسائل التي اقترنت بها في كل عقيدة دينية، كمسألة القضاء والقدر، ومسألة الظاهر والباطن، ومسألة الصفات الإلهية، وما ينبغي للروح من الصفات بمعزل عن عالم المادة أو عالم الأجساد.
ويتوقف فهم الحقائق في هذه الحركة كلها على فهم البواعث التي أوجبت السرعة هنا، وسمحت بالإبطاء والإرجاء هناك.
فاليهودية عند نشأتها لم تنهض لها ضرورة قاضية بالتعجل في التفسير والتأويل؛ لأن اليهودية نفسها كانت بمثابة فلسفة تجريدية بالقياس إلى العقائد الوثنية والأديان المجسمة التي نشأت بينها؛ إذ كانت تدعو إلى التوحيد وعبادة الإله المجرد في السماء بين أناس يعبدون الأوثان ويجسمون الأرباب.
وكان أنبياء اليهود يتلاحقون واحدا بعد واحد، فيشغل النبي الأمة بأقواله عن تفسير أقوال الذين سبقوه إلى استنزال الوحي من الله.
وينبغي أن نذكر هنا أن الدينين الكتابيين العظيمين اللذين ظهرا بعد اليهودية؛ إنما كانا تعديلين في نصوص الدين اليهودي ومعانيه، فهما خليقان أن يشغلا كل فراغ كان متسعا لتفسير النصوص ومحاولة التوفيق بين المنقول والمعقول .
وقد تلاحقت الهجرة والتشتيت على الأمة اليهودية منذ أيامها الأولى، وأصابتها المحن من ذوي قرباها، ونزل بها الحيف من الدول القوية المسلطة عليها، فاشتدت في نفوسها العصبية القوية، ونفرت كل النفور من البدع الأجنبية، وتحصنت دونها بحصن منيع من العزلة الروحية والفكرية؛ فأحجمت عن الفلسفة التي تطرقت إليها من جانب الإغريق وجانب المشارقة الفارسيين والهنديين، ولم تكن هذه الفلسفة على هذا قد تكاملت في بلاد الإغريق أو تفرقت منها بين الأقطار الشرقية؛ لأنها لبثت في دور التكون والتكامل والتعليق والتذييل إلى ما بعد ميلاد المسيح.
أما المسيحية قد تأخر تدوين كتبها إلى أواخر القرن الثاني للميلاد، وكان معظم هذه الكتب مسطورا باللغة الإغريقية، فلا يطلع عليها سواد المسيحيين. وقد كانت جمهرة المسيحيين في أوائل الأمر من عامة الناس الذين يقنعون بالإيمان اليسير، ولا يتعمقون في النصوص ولا في التأويلات، فلما آمن المتعلمون بالدين الجديد، كان اختلافهم مقصورا على بيئات الدرس والثقافة، إلى أن قام في العالم المسيحي ملوك يجلسون على العروش، فخرج الخلاف المدرسي إلى معترك السياسة الزبون، ونجمت الفرق والمذاهب، وهي في أحضان الدولة تعتمد على بأس الملوك والأمراء من أحد الطرفين أو من كلا الطرفين، أو من جميع الأطراف في بعض الأحوال.
أما الإسلام فقد كان الاستعداد فيه لظهور الفرق والمذاهب على غير ما رأينا في اليهودية والمسيحية من جميع الوجوه. كانت الأسباب مهيأة لظهورها منذ الجيل الأول سواء من جانب الفلسفة أو من جانب المشكلات اللاهوتية التي شغلت عقول الباحثين بين اليهود والمسيحيين.
كان الإسلام خلوا من الكهانة التي تستأثر بالدرس والتأويل، وكان القرآن صريحا في الأمر المتكرر بالنظر والتفكير ، وكان القرآن كتابا محفوظا في حياة النبي
صلى الله عليه وسلم ، فلم يطل العهد بالمسلمين في انتظار التدوين والاتفاق على نصوص الكتاب. وكان المسلمون يؤمنون بأن محمدا
صلى الله عليه وسلم
خاتم النبيين، فلا ينتظرون نبيا آخر يتم الرسالة أو يغنيهم عن الاجتهاد في معاني الكتاب أو معاني الأحاديث النبوية.
ولم يجهر محمد
صلى الله عليه وسلم
بالدعوة الإسلامية حتى كانت مشكلات المذاهب المتقدمة قد ملأت آفاق الشرق العربي، وانعقدت عليها الأقوال من طوائف المختلفين هنا وهناك، وتسرب الكثير منها إلى الجزيرة العربية قبل الدعوة الإسلامية، سواء منها أقوال الفلاسفة وأقوال رجال الدين من جميع النحل والأجناس، وأشار القرآن الكريم إلى الخلاف بين الأديان المتعددة، فجاء فيه من سورة الحج:
إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيء شهيد . وأشار إلى الدهريين، فجاء فيه من سورة الأنعام:
وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين ، وجاء فيه من سورة الجاثية:
وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون . بل أشار في سورة آل عمران إلى تأويل المتشابه من الكتاب، فقال:
هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله .
وكان بعض المسلمين يسمعون بالتوراة، ولم يطلعوا عليها، ولكنهم سمعوا أنها أنبأت بظهور النبي وبغير ذلك من أحداث آخر الزمان، وأن الأحبار يخفون هذه النبوءات إمعانا منهم في الكفر والضلالة وحب الرئاسة في الدنيا، وقال لهم كعب الأحبار: «ما من الأرض شبر إلا مكتوب في التوراة التي أنزل الله على موسى ما يكون عليه وما يخرج منه إلى يوم القيامة.»
وفهم المسلمون أن هذه الأسرار لا يعقل أن تودع في التوراة ولا تودع في القرآن؛ لأن الله لم يفرط في الكتاب من شيء، وإنما تبذل هذه الأسرار لأهلها، وإنما سبيلهم في معرفتها أن يتوسلوا بالتقوى، ويستعينوا بمن سبقهم من أحبار الأمم الأولى، ويستدرجوهم بالمحاسنة والنصيحة إلى الكشف عنها، فلم يكن لطلاب المعرفة بد من الدخول في معترك الفرق الدينية بين من يزعم أنه على الحق، ومن يقال إنه على الضلال.
ولما انتشر الإسلام كان انتشاره في الرقعة التي جمعت كل هذه الفرق والمذاهب، وشهدت بينها مجالس المناظرة ومصارع النزاع والقتال، وكانت الفلسفة الإغريقية قد بلغت أوجها في آسيا الغربية، ومدرسة الإسكندرية، وترددت أقاويلها ومناقضاتها ما بين مصر وسورية والعراق وأطراف البلاد الفارسية، حيث يتصدى للتعليم أطباء النساطرة ومعهم كتب الإغريق في الحكمة والتصوف والمنطق والجدل وأشباه هذه الموضوعات، فلم يبق سبب من الأسباب التي تنشئ الفرق والمذاهب إلا وقد تهيأ للظهور من جميع نواحيه عند قيام الإسلام.
على أن السبب الذي طوى كل هذه الأسباب جميعا هو قيام الدولة مع قيام الدين الإسلامي في وقت واحد، وهو ما لم يحدث في بني إسرائيل ولا في عالم المسيحية، وعليه تدور الخلافات بين الفرق جميعا من قريب أو بعيد.
فالنزاع على الدولة بين علي ومعاوية مرتبط بنشوء الخوارج ونشوء الشيعة، ومرتبط كذلك بنشوء القدرية والمرجئة، والقائلين بالرجعة وتناسخ الأرواح، ومذهب أهل الحقيقة وأهل الشريعة، وما استتبعه من فرق الباطنية وأصحاب الرموز والأسرار، على تفاوت نصيبهم من الحكمة الدينية، أو الحكمة الفلسفية.
ويستطاع رد الخلاف هنا إلى محور واحد، وهو الخلاف بين أنصار الواقع وأنصار التغيير، أو بين أنصار المحافظة وأنصار التجديد حيث كان.
روي عن يزيد بن معاوية وقد حمل إليه رأس الحسين أنه سأل من حوله وهو يشير إلى الرأس الشريف: «أتدرون من أين أتي هذا؟ إنه قال: أبي علي خير من أبيه، وأمي فاطمة خير من أمه، وجدي رسول الله خير من جده، وأنا خير منه، وأحق بهذا الأمر، فأما أبوه فقد تحاج أبي وأبوه إلى الله، وعلم الناس أيهما حكم له، وأما أمه فلعمري فاطمة بنت رسول الله خير من أمي ، وأما جده فلعمري ما أحد يؤمن بالله واليوم الآخر يرى لرسول الله فينا عدلا ولا ندا، ولكنه أتي من قبل فقهه، ولم يقرأ:
قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء [آل عمران: 26].»
فمن خدمه الواقع هذه الخدمة الجلى لا جرم يؤمن بأن «الواقع» هو قدر الله وقضاؤه الذي يدان به العباد.
ومن خالفه في ذلك لا جرم يعتصم بالرأي والتفسير؛ ليفهم القدر الإلهي على الوجه الذي ينهض به دليله، ويسقط به دليل خصمه.
ومن ثم تنفرج الطريق بين طلاب الواقع وطلاب التغيير في كل مجال.
فطلاب الواقع يقولون بطاعة السلطان القائم، وطلاب التغيير يقولون بطاعة الإمام المستتر، ويقولون بعلم الظاهر وعلم الباطن، أو بعلم الحقيقة وعلم الشريعة، أو بالفرق بين الكلام الواضح الذي يفهمه الدهماء والكلام الخفي الذي يفطن له ذوو البصر والاطلاع.
ويروى عن الإمام الباقر أنه قال: «إن اسم الله الأعظم ثلاثة وتسعون حرفا يعرف منها سليمان حرفا واحدا، تكلم به فأتي إليه بعرش مملكة. ونحن عندنا منها اثنان وسبعون حرفا، وحرف عند الله استأثر به في عالم الغيب وحده.»
ويدور على هذا المحور من جانب آخر خلاف القائلين بإسلام بني أمية والقائلين بتكفيرهم والقائلين بإرجاء الحكم عليهم إلى يوم القيامة، وهم أصحاب الفرقة التي اشتهرت باسم المرجئة من أوائل فرق الإسلام.
ويغلو من هنا فريق كالخوارج، فيكفرون عليا ومن والاه، ومن هنا فريق كالسبائية، فيؤلهون عليا، وينكرون القول بموته، وإنما شبه للناس؛ فقتل ابن ملجم شيطانا تصور بصورته، وصعد علي إلى السحاب، فالرعد صوته، والبرق سوطه، وموعده يوم يرجع فيه إلى الأرض فيملؤها عدلا ويقضي على الظالمين. أو يقولون كما يقول البنانية أتباع بنان بن سمعان: إن روح الله حلت في علي، ثم في ابنه محمد بن الحنفية، ثم في ابنه أبي هاشم ثم في بنان، أو يقولون بتناسخ الأرواح من آدم إلى علي وأولاده الثلاثة، أو يقولون - كما قالت الإمامية - إن الله قد حل في إمام بعد إمام إلى أبي مسلم الخراساني صاحب الدعوة العباسية، وإنه لم يقتل، ولا يجوز عليه الموت، وفيه روح الله.
ويكثر الكلام بين هذه الفروض والظنون على ماهية الروح وماهية الحقيقة الإلهية وما ينبغي لله جل وعلا من التنزيه وما يمتنع في حقه من التجسيم والتشبيه، وتمتزج النوازع الذهنية بنوازع المصلحة والسياسة والعواطف المكبوتة، فيستمد كل منها عونا من الآخر على الإقناع واستجلاب الأنصار والأشياع.
ومن البديه أن دعاة التغيير يتقون - جهدهم - سلطان الواقع حيث هو قائم عزيز الجانب مبثوث العيون، فابتعدوا من دمشق الشام، واتخذوا لهم ملاذا مأمونا عند أطراف الدولة الشرقية فيما وراء النهر خاصة، كما كانت تسمى في تلك الأيام.
هنالك لم يكن أحد من المتعلمين يشتغل بالأمور العامة دون أن يعرض له البحث في الشريعة والحقيقة، والظاهر والباطن، وأقوال المختلفين على القضاء والقدر وعلى صفات الله وحرية الإنسان وماهية النفوس والأرواح، وما يصح أن يفرض عليها من العقاب أو تجزى به من الثواب، وكل أولئك هو موضوع الفلسفة الأصيل، وقد تسرب إلى خراسان من مراكز الدولة الإسلامية ومن تراث الأمم الخالية، ثم أعانه جوار الهند بمورد آخر من موارد الحكمة والعلم التي لا تزال مشغولة بأشباه هذه البحوث.
ولما ذهبت الدولة الأموية وقامت الدولة العباسية لم تتبدل الحال في تلك الأرجاء؛ لأن العلويين والعباسيين على السواء خبراء بالمذاهب والتفسيرات، وكلهم من أنصار النظر والاستدلال. وقد قامت الدعوة في الشرق باسم آل النبي، قبل أن تقوم صريحة باسم بني العباس، ثم زيد على الأطراف التي تتطلع إلى التغيير طرف آخر في أفريقيا الغربية بعد قيام الدولة العباسية، فقامت هنالك دعوة الفاطميين، وعرفت سبيلها إلى أقصى المشرق حيث كان الناس يؤثرون العلويين على العباسيين، ولا سيما بعد تشريد أبناء علي وحرمانهم واضطهادهم في أيام بني العباس.
فأصبحت الأطراف الشرقية وكرا يسمع فيه كل صوت من أصوات البحث والنظر والاستدلال.
الفصل الثاني
المسلمون والمؤتمر الإسلامي1
أمام الإسلام اليوم مطلبان ضروريان لا يحتملان التسويف والتهاون، وهما «حماية الذات» أمام المطامع الأجنبية، والتعاون على تحصيل وسائل التقدم والارتقاء.
وربما كان المطلب الثاني فرعا من المطلب الأول؛ لأن الأمة التي تهمل وسائل التقدم والارتقاء في العصر الحاضر تحتاج إلى حماية ذاتها ولا تجد وسيلة الحماية.
أما المطامع الأجنبية التي تواجه الشعوب الإسلامية، فهي درجات في القوة وفي الخطر.
فمنها ما هو مقصور على السيادة السياسية، وما يتصل بها من السيطرة على موارد البلاد ومرافقها الزراعية والصناعية والتجارية، وسائر هذه المرافق الاقتصادية على الإجمال.
ومنها ما يتجاوز السيادة السياسية وتوابعها إلى السيطرة على العقائد والأخلاق والعادات والنظم الاجتماعية، وهو شر ضروب الاستعمار كافة.
ومنها ما يصيب جالية أو جاليات متنقلة إلى بلاد أخرى، ولا تتعرض له الأمة برمتها في داخل بلادها.
وكل هذه الأخطار تحتاج إلى التعاون بين الأمم الإسلامية، وقد يكون التعاون فيها لازما مع شعوب غير إسلامية، ولكنها معرضة لمطامع الدول الواقعة في طريق المستعمرين السياسيين وغير السياسيين.
والأمم الإسلامية فيها «شبه حصانة» أمام السيطرة الأجنبية بأنواعها، سواء منها ما كان مقصورا على السيادة السياسية أو ما كان عاما شاملا للعقائد والأخلاق والعادات والنظم الاجتماعية.
كتب جون جنتر
John Gunther
كتابا عن «داخل أفريقيا» على مثال كتبه عن داخل أوروبا، وداخل آسيا وداخل أمريكا اللاتينية وداخل الولايات المتحدة، وتكلم عن أفريقيا الاستوائية التابعة لفرنسا، فقال: إن شعوبها لا تطلب الآن على الأقل أن تنفصل من فرنسا، بل لعلها تتطلب زيادة الاتصال بها؛ لأنها معدودة من الفرنسيين، ولها حقوق انتخابية تخولها أن ترسل المندوبين عنها إلى برلمان باريس، ثم قال: إن هذه الشعوب تخالف الشعوب الأفريقية في الشمال؛ لأن هذه تطلب الانفصال، ولا ترضى بالاندماج في بنية الشعب الفرنسي، ولا بالسياسة التي سماها تدريب الأفريقيين على أن «يصبحوا فرنسيين!»
ما الفارق بين الشعوب الاستوائية والشعوب الإفريقية التي تقيم على شواطئ البحر الأبيض المتوسط أو على مقربة منها؟
الفارق هو الحضارة الإسلامية العريقة، فهذه الحضارة قد حفظت لكل أمة تحضرت بها «كيانا» قويا لا يسهل هضمه وإدماجه في كيان آخر أجنبي عنه، وهذا الكيان القوي هو الذي وقف في وجه الاستعمار حيث كان، واستفاد منه المسلمون وغير المسلمين؛ لأن الاستعمار خطر على الأمم الشرقية جميعا من كل نحلة وبغير فارق بين الأديان والأجناس.
وهذه المقاومة القوية هي التي يسميها المستعمرون جمودا من المسلمين في وجه التقدم والارتقاء، وليست هي في الواقع جمودا من هذا القبيل، ولكنها محافظة على «الكيان القومي» يحميه أن يقع فريسة سهلة بين براثن المستعمرين، ويستفيد منه ضحايا الاستعمار في مختلف الأقوام والأديان.
ولكن الاستعمار السياسي - على خطره - لا يصيب الأمم في مقاتلها كما يصيبها الاستعمار الذي يشمل العقائد والأخلاق والعادات والنظم الاجتماعية، فإن هذا الاستعمار يصيب الأمة في كيانها الصميم، ولا يبقى لها بعد ذلك «شخصية» تذود بها خطرا يهددها في حاضرها أو مستقبلها. •••
والأمم الإسلامية أشد الأمم تعرضا لعداوة هذا الاستعمار الذي يعادي جميع الأديان في الواقع، ولكنه يعادي الدين الإسلامي بصفة خاصة؛ لأنه نظام اجتماعي وآداب معيشية في وقت واحد، وله مبادئ فكرية كالمبادئ التي يسمونها في العصر الحاضر بالأيديولوجي
Ideology
تقوم عليها الآداب والعلاقات كما تقوم عليها عقائد الدين ووجهات النظر إلى أصول الحياة.
لهذا كانت كراهة الاستعمار الشيوعي للأمم الإسلامية كراهة مضاعفة؛ لأنه يجد فيها عقبات في وجه السيادة الأجنبية وعقبات أخرى في وجه العقائد والآداب التي يفرضها عليها مخالفة للدين، ويحاول أن يلغي مبادئها الفكرية والخلقية بمبادئ أخرى تناقضها، وتهدمها، ولا تبقى بقية منها صالحة لمقاومة أو متشبثة بكيان.
وهناك ضروب من الاضطهاد يلقاها المسلمون جاليات متفرقة في البلاد الأخرى، كالجالية الآسيوية الإسلامية التي يزيد عددها على سبعين ألفا في أفريقيا الجنوبية، وتحرم حقوق الانتخاب باسم الفوارق العنصرية التي لا تلاحظ في معاملة اليهود، وهم أصل الفوارق العنصرية التي ابتدعت من أجلها كلمة
Anti-semitism «عداوة الساميين».
وصف روبرت جون هذه الجالية في كتابه «خلال أفريقية مالان» يعني «مالان» رئيس الوزراء السابق، فقال: إنهم على فقرهم غاية في الأمانة وإنه زار مسجدا من مساجدهم، فسقطت منه ورقة وهو يلبس حذاءه، ومضى في طريقه مسافة غير قصيرة، وإذا ببنت صغيرة تعدو وراءه لتعيد إليه الورقة التي لم يلتفت إليها.
وعلى هذا الفارق في الأخلاق تحسب على القوم فوارق اللون أو العقيدة، ولا يسمح لهم بحق واحد من الحقوق السياسية التي يشاركون بها بعض المشاركة في حكومة البلاد، وربما كان آباؤهم فيها قبل أن يعرفها أحد من البوير أجداد «مالان».
فالعالم الإسلامي في العصر الحاضر أمام أخطار مشتركة تتطلب منه أن يشترك في مقاومتها واتخاذ الحيطة منها، وهذه الأخطار هي:
أولا:
خطر الاستعمار الذي يهدد كيان الأمة في سيادتها وعقيدتها وأخلاقها وآدابها.
وثانيا:
خطر الاستعمار الذي يهدد سيادة الأمة السياسية ويسيطر من ثم على مواردها ومرافقها.
وثالثا:
خطر الاستعمار الذي ليس له سيادة فعلية على البلاد ولكنه يرمي إلى توجيه سياستها بالوسائل الاقتصادية أو وسائل النفوذ الدولي على اختلافها.
ورابعا:
خطر التفرقة العنصرية بين الجاليات الإسلامية وغيرها من الجاليات في البلاد الأخرى.
واشتراك الأمم الإسلامية في هذه الأخطار يوجب عليها الاشتراك والتعاون في دراستها والاتفاق على الوسائل المستطاعة لاجتنابها والتغلب عليها. •••
ولهذا يجيء المؤتمر الإسلامي في أوانه، وربما صح أن يقال: إن المؤتمر الإسلامي يتجدد الآن في الوقت الملائم؛ لأن الإسلام قد فرض على المسلمين في موسم الحج مؤتمرا عاما تشترك فيه جميع الأمم، وقد أفاد هذا المؤتمر فوائده التي لا تنكر، ولكنه لم يأت بجميع فوائده في بعض العصور؛ لأن السيطرة «المستبدة» كانت تصيب الأمم الإسلامية أحيانا من سادتها المسلمين، وكان الإمام الإسلامي «عبد الرحمن الكواكبي» يتخيل هذا المؤتمر تخيلا في موسم الحج؛ لأن تحقيقه في الواقع لم يكن من المستطاع، وليس كتابه «أم القرى» إلا مؤتمرا من هذا القبيل.
ثم سعى المسلم الروسي الكبير «إسماعيل غصر نسكي» في عقد المؤتمر الإسلامي العام عند أوائل هذا القرن، وساعده السادة العثمانيون؛ لأنه يحارب الدولة الروسية، ولم يتنكر له المستعمرون الإنجليز؛ لأن محاربة النفوذ الروسي في آسيا توافق سياستهم، ولبثت الفكرة منسية أو مهملة حتى جددتها قضية فلسطين فاجتمع المؤتمر الإسلامي للدفاع عن فلسطين عدة مرات.
أما المؤتمر الإسلامي القادم فشأنه غير شئون المؤتمرات السابقة؛ إذ هو المؤتمر العام الأول الذي تشترك فيه الأمم الإسلامية بمحض اختيارها بعد استقلال الكثير منها وثبوت المكانة السياسية لها في محيط السياسة العالمية على اتساعها، ومهمته في مكافحة الاستعمار بأنواعه لا تقل عن مهمته في مكافحة الضعف والجمود والأخذ بوسائل التقدم والارتقاء، فليس في العصر الحاضر من يحمي نفسه وهو متخلف في ميدان المعرفة والقوة.
الفصل الثالث
براهين الإيمان عن طريق براهين الشكوك1
ترد إلي على الدوام رسائل صريحة من الشباب المثقف الحائر في شئون العقيدة. وموضع الصراحة في هذه الرسائل أن أصحابها يعربون في غير مواربة عن شكوكهم في مسائل الدين: من الإيمان بالله إلى صلاح بعض الفرائض والعبادات.
ولست أتشاءم بهذه الصراحة؛ لأنها دالة على أمور كثيرة تدعو إلى التفاؤل وحسن الأمل في الضمائر المتفتحة للمعرفة وسلامة الإدراك.
تلك صراحة تدل على تعقل شبابنا لعقائدهم الروحية، وعلى استعدادهم للانتقال فيها من حالة التقليد إلى حالة التبصر والاجتهاد.
وتدل - مع هذا - على امتعاض نفوسهم من حالة الشك والحيرة، بدلا من التذرع بها إلى الهجوم على «الإباحية الأخلاقية» واستحلال ما لا يحل في الدين ولا في عرف التدين الذي تقوم عليه أسس الآداب الإنسانية.
وتدل، بعد هذا وذاك، على أدب في الطبع يعصمه من داء الغرور، ويلهمه أن يطلب المزيد من العلم حيثما تطلع إليه، ويندر في المصابين بداء الغرور من يحسب أنه بحاجة إلى علم في مسائل الحياة الكبرى غير الذي يهجس بخاطره ويقع منه موقع القبول، بغير بحث ولا محاولة للمزيد من الفهم والإيضاح.
وبين الرسائل التي وردتني أخيرا من هذا القبيل رسالتان: إحداهما بتوقيع «م. ا. زيدان»، والأخرى يرجو صاحبها أن أرمز إليه بحرفي «س. ع» إذا استجبت لرجائه وكتبت في مجلة «الأزهر» عن موضوع سؤاله.
يقول صاحب الرسالة الأولى: «تقدمت للالتحاق بكلية الطيران؛ لأحقق أمنيتي في أن أكون أحد أفراد القوات المسلحة، ونجحت في الكشف الطبي مع القلائل الذين ينجون منه في قومسيون القوات الجوية، ثم رسبت أخيرا في كشف الهيئة التي لم يرسب فيها أحد إلا أنا . أتدري لماذا؟ لأن قلبي على اليمين!»
ويختم صاحب الرسالة كلامه متسائلا: ألست معي أن الله يتسبب في عذاب البشر؟ أستحلفكم بالله أن تقنعوني بالآية التي تقول:
وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم [البقرة: 216].
أما صاحب الرسالة الثانية «س. ع» فسؤاله عن «معرفة المؤمنين بالله، لم لا يدركونها بظهور الله لهم علانية بدلا من هذا التخبط من قديم الزمن في ظلمات الجهل ومنازعات الغضب والتعصب بين المنكرين والمؤمنين، وبين المؤمنين أنفسهم من أنصار كل دين، بل من أنصار الدين الواحد على اختلاف المذاهب والتفاسير ...»
ولقد كشفت لي تجاربي في دراسة الشكوك الدينية عن طريق قريب إلى أن الإيمان لا يطول النظر فيه كما يطول النظر في البراهين الفلسفية التي يقوم عليها العلم بوجود الله.
كشفت لي هذه التجارب عن يقين لا أرتاب فيه، وهو اليقين بسهولة الخلاص، من براهين الشكوك الدينية أو براهين الإلحاد؛ لأن ظهور البطلان في هذه البراهين أيسر من البحث في براهين الفلاسفة على تحقيق وجود الله: وهي براهين المنطق التي لا تصبر عليها جميع العقول.
فمن اليسير أن نفهم - بعد قليل من البحث - أن إنكار وجود الخالق لشيوع النقص والعذاب في عالم المخلوقات هو إنكار ضعيف السند، غير قابل للتصور الصحيح عند إمعان النظر فيه.
وأيسر من ذلك إظهار البطلان في تحقيق معرفة الله برؤية العيان، أو ما هو من قبيل رؤية العيان.
فإذا كان وجود الخالق يستلزم خلو الخلق من النقص والعذاب فلنجتهد في تصور العالم على هذه الصورة، فلا نلبث أن نفهم أنها هي المستحيل بعينه على كل فرض من الفروض.
أولا: كيف يمكن أن يكون المخلوق كاملا كمال الخالق الذي لا يعوزه شيء من الأشياء؟
ذلك هو المستحيل الذي لا تتعلق به إرادة الله، ولا يجوز لنا أن نتطلبه من قدرة الله؛ لأن قدرة الله التي لا نهاية لها هي التي توجب أن يكون المخلوق المحدود بزمانه ومكانه دون ذلك، وتمنع أن يوجد في التصور إله كامل مخلوق إلى جانب الإله الكامل الخالق لجميع الأشياء.
ولنتعسف التصور - إن استطعنا - فنقدر أن المخلوقات يمكن أن توجد ناقصة، وأن تكون مع نقصها سعيدة لا ترجو شيئا، ولا يفوتها رجاء ترجوه إذا جاز هذا في حق الكائن السعيد الظافر بكل ما يريد.
فهل توجد هذه المخلوقات السعيدة دفعة واحدة بلا ولادة ولا نمو ولا وقوف بالنمو عند حد محدود؟
وإذا وجدت هذه المخلوقات السعيدة، فهل تكون سعادتها من نوع واحد لا فرق فيه بين هذا المخلوق وذلك المخلوق، كأنها نسخة مكررة في جميع الصفات والأحوال؟ وهل تتم لها سعادتها بغير مجهود منها وغير سبب من بواعث نفوسها وبغير فرق بين من ولد بالأمس ومن يتبعه في الميلاد؟
وهل يتبعه ذلك التابع في الميلاد صغيرا يشعر بالنقص أو لا يشعر به ولا يشعر بما عداه؟
أما إذا تفرقت هذه المخلوقات في أنواع السعادة، فكيف تتفرق دون أن يكون هذا المخلوق مستمتعا بمزية ليست للآخرين من المخلوقات؟
وهل تكون المخلوقات جيلا واحدا، ثم يكون هذا الانفراد بالخلق إنصافا للأجيال التي تظهر بعد العدم على سنة التتابع بين الوالدين والمولودين؟
إن خطأ الشك الذي يقوم على افتراض العالم على صورة من هذه الصور هو أظهر الأخطاء بعد النظر اليسير.
فكمال المخلوقات لا يدل على وجود المنفرد بالكمال المطلق الذي لا يتكرر ولا يقبل التكرار.
بل نقص المخلوقات هو الذي يدل على ذلك الكمال على كل وجه قابل للتصور والتقدير.
وإذا تصورنا الخلق بهذه الصورة التي لا صورة غيرها في الإمكان، فمن اليسير أن نفهم كيف نرجو شيئا لا يتحقق، وكيف نجهل ما نرجوه، ولا ندري بكل ما يضمره الغيب لنا من عواقب هذا الرجاء.
ويستحلفني السيد «م. ا. زيدان» أن أقنعه بالآية التي تقول:
وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم [البقرة: 216].
فلا أراني بحاجة إلى مثل بعيد عني، ولا عن الواقعة التي رواها صاحب الرسالة عن نفسه، وكانت سببا لشكواه من المقادير.
لقد أردت في مطلع شبابي كما أراد السيد زيدان أن أنجح في امتحان كامتحانه لإتمام الدراسة بالديار الأوروبية، وكانت الجامعة المصرية في نشأتها الأولى هي التي نظمت ذلك الامتحان على يد رئيسها سعد زغلول لتخريج الأساتذة المرشحين للتدريس فيها بعد عودتهم من الجامعات الفرنسية والإنجليزية، وقد فاتني النجاح في الامتحان لسبب من الأسباب الشكلية كما فات السيد زيدان، فأظلمت الدنيا في عيني يوم ذاك، ونعيت على الدنيا كلها خيبة الرجاء، وظننت أنه هو الرجاء الأول والأخير في الحياة، ولكنني اليوم - بحمد الله - غير نادم على ما فات وغير عاتب على المقادير. بل قد علمت بعد قليل أنني لم أعتب على سعد زغلول، ولم أحمله جريرة الخيبة فيما رجوت، وكنت في مقدمة المدافعين عن عمله بالجامعة المصرية يوم أنكره عليه المنكرون غير منصفين ولا متحرجين.
أما الشك في وجود الله لأنه لا يظهر لنا عيانا، فهو أضعف الشكوك التي تساور العقول في أمر الأديان السماوية وفي أمر كل دين يؤمن فيه المعتقد برب معبود.
هل تريدها معرفة إنسانية أو تريدها معرفة من طبيعة غير طبيعة الإنسان فيما يعرفه ويتعرف عليه من الأشياء؟
إننا لا نعرف أوضح شيء في عالم المحسوس؛ لأنه يرينا نفسه جليا واضحا للعيان.
وهذه الشمس لا ترى العين شيئا أوضح منها ولا يزال التعرف عليها حتى اليوم مبدئيا من أوله كأننا نراها لأول مرة في عصر العلوم والكشوف.
وليس بالمعقول - إنسانيا - أن تكون حقيقة الحقائق الكبرى أقل أسرارا أمام العارفين والمتعرفين من أقرب المحسوسات إلى الوضوح بغير أسرار ولا بقية للتعرف عليها بعد نظر العيان.
ولكننا نعتسف التصور مرة أخرى ونحاول أن نتصور كيف تتأتى المعرفة بالله عيانا لجميع المخلوقات في جميع الأوقات.
فهل يتجلى الله لعباده مرة في القدم، ثم ينتقل هذا التجلي بالرواية والحكاية إلى الخلفاء والأعقاب؟
وهل ينقله من رأى الله عيانا إلى خلفائهم وأعقابهم نقلا يتساوى فيه الخبر ويتساوى فيه اليقين بالرواية على مثال لا يتطرق إليه الشك والخلاف؟ وإذا حدث هذا، فمن أين لنا أن الخلفاء والأعقاب تقبل هذه المعرفة على صورتها المثلى ولا تشك فيها كما يشك المنكرون للأنبياء والمرسلين؟
فإن لم يستقم هذا التصور في العقول، فهل يستقيم فيها أن يتجلى الله لكل جيل في زمان بعد زمان! وهل يغني التجلي في الجيل بعد الجيل عن التجلي مرة بعد مرة، بعد ألف مرة، لكل مولود جديد في كل جيل جديد؟
وإذا تكرر هذا التجلي خاصا بكل مولود، فهل تتساوى المخلوقات في كنه الإيمان وفي درجة الإيمان ، بل في كنه العيان ودرجة العيان؟
وإذا أمكن أن يتكرر العلم بحقيقة الحقائق على السواء وعلى هذا المثال، فماذا بقي للنفوس والضمائر من الفارق بينها وبين الآلات الصماء في تعليق الصور وإدراك المعرفة واجتهاد الضمائر والعقول؟
إن إيمانا كهذا لا تختلف خصائصه عن خصائص الأجسام المادية التي لا معنى فيها لعقيدة من العقائد ولا لاتفاق أو اختلاف على هذا الدين أو ذاك.
ونكتفي بما تقدم لتقرير الفكرة التي أردنا أن نقررها بهذا المقال، ومجمل الرأي فيها أن الشك في براهين الإلحاد أيسر أمام العقل من براهين الشك في الإيمان.
فهاتان حجتان من أشيع الحجج التي نسمعها من المتشككين اعتراضا على الدين: حجة الألم في الدنيا، وحجة الاستدلال على وجود الله برؤية العيان، نوازن بينهما وبين ما يقابلهما، فلا نطلب من المعترضين أن يذهبوا بعيدا في التفكير إذا وقفوا عند القول بأن العالم كما يريده المعترضون أصعب تصورا وأشد ظلما للمخلوقات من العالم كما يتصوره المتدينون المؤمنون بوجود الله على غاية ما ينتهي إليه تصور العقل البشري من الحكمة والقدرة.
ونحن أوثق ما نكون يقينا بأن سائر البراهين التي تخطر للمعترضين تجري هذا المجرى، وتنتهي عند القياس إلى مثل هذه النهاية، وكلها كافية للاقتناع بأن براهين الشك والإلحاد أظهر خطأ من براهين اليقين والإيمان.
الفصل الرابع
هذه هي الأغلال1
المسلمون في حاجة إلى جرعات قوية من قبيل هذه الجرعات التي ناولهم إياها صاحب الفضيلة الأستاذ عبد الله علي القصيمي في كتابه «هذه هي الغلال»؛ لأن الذين يحجمون عن مساعي الحياة اعتقادا منهم بتحريمها إنما يخرجهم في هذا الوهم عاملان ضروريان، وهما عظة الحوادث وعظة المرشدين، وأحق الناس بإسداء هذه العظة إليهم من يصححون لهم الوهم بإسناد من الكتاب والسنة النبوية، ومن يرشدونهم لأنهم متدينون يفهمون الدين على وجهه المستقيم، لا لأنهم ينكرون الأديان، فلا يلتقون بهم في أصل من أصولهم التي يتقبلون منها الحجة والدليل.
والكتاب بحق كما وصفه مؤلفه الفاضل «ثورة في فهم العقل والدين والحياة»؛ لأنه يهجم على سلطان غشوم هو سلطان الجهل، ومعقل حصين هو معقل العادة، وجحفل مجر هو جحفل الغوغاء وأشباه الغوغاء. فيرفع السيف والمعول بغير رهبة ولا هوادة، ويعتمد سيفا واحدا ومعولا واحدا في هذه الثورة الجريئة، وهما سيف اليقين ومعول البرهان.
فهو يشن الغارة الشعواء على من يقدسون البلاهة، ويوجبون على الناس الكسل باسم الاتكال على الله، ويحرمون تعليم المرأة وتدريبها على فرائض الأمومة والرعاية الاجتماعية، ويوهنون ثقة الإنسان بنفسه، وينكرون الحكمة القديمة والعلم الحديث، ويزعمون أن الزمن يتأخر ولا يرجى فيه من أبناء اليوم والغد رجاء يضيفونه إلى تراث السلف ومآثر المتقدمين.
وقد استند في كثير من معارض النقد على آيات من الكتاب، وأمثلة من سير الأنبياء، وأسانيد من المنطق السليم، ولم يبال بالسمعة الموروثة ولا بالأنصاب المرفوعة ولا بالأكاذيب المتواترة، فهاجم أناسا يحسبون من الأئمة المقدسين عند العامة وأشباه العامة، وذب عن فلاسفة غير مسلمين لم يشهدوا عهد الأديان الكتابية مثل أرسطو وأفلاطون.
فلما روى هذه الأبيات:
من أنت يا رسطو ومن
أفلاط قبلك «يا مبلد»
ما أنتمو إلا الفرا
ش رأى السراج وقد توقد
2
فدنا فأحرق نفسه
ولو اهتدى رشدا لأبعد
مهد لها قائلا: إنهم «قالوها في مذمة أولئك الرجال الذين حاولوا في عصور سحيقة أن يضعوا اللبنات الأولى في بنيان هذه الحضارة ...» وعقب عليها مستنكرا أن يكون هؤلاء الرجال الباحثون «حكمهم حينما أرادوا الدنو من المعرفة ومن العلم؛ حكم الفراش الذي يرى النور المتوقد فيثب عليه».
ثم استطرد بعد صفحات فقال: «ومن البلاء حقا أنهم لم يقصروا عند امتداح الجهالة بل قاموا - ببلاهة كثيفة - يمتدحون الجنون والبله والبله والمجانين ... وهنالك قسم كبير من الأولياء كتبوا في الطبقات يسمون بالمجاذيب أو بالأولياء المجاذيب، وقد أورد الشعراني في كتابه طبقات الأولياء الكبرى أسماء طوائف كثيرة من هؤلاء المجذوبين، وكذلك صنع غيره.»
أما الفصل الذي تناول فيه موضوع المرأة بعنوان: إنسان هي أم سلعة؛ فقد قابل به بين أقوال المتطرفين في الحجر عليها وأقوال المتطرفين في تخويلها حقوق العمل والحرية، ووقف بين الطرفين وسطا يعدل بين هؤلاء وهؤلاء، ولكني أحسبه لو خير بينهما لآثر الإطلاق على التكبيل بقيود الحجر والجمود.
ونحن نوافق الأستاذ القصيمي على الهدف الذي يرمي إليه، وعلى الآفة التي يشكو منها، ولكننا نخالفه في بعض الآراء كما نخالفه في بعض العبارات، ولا نخص منها بالذكر هنا إلا جانبا واحدا يلتبس فيه الرأي، ويبدو فيه الظاهر على وجه غير وجهه الباطن، أو وجهه الذي نطلع عليه بعد المراجعة والموازنة بين الحقائق المتقابلة. فرب حقيقة تقابلها حقيقة أكبر منها، ورب ناحية نراها وحدها فإذا هي مستنكرة، ونراها في مكانها من مجموعة النواحي المختلة، فإذا هي لازمة لا غناء عنها.
هذا الجانب الذي نخصه بالذكر في هذا المقام هو كلام الأستاذ على فلسفة التصوف؛ إذ يقول: «إن وجه الخطأ في هذه الفلسفة أنهم اعتقدوا أن الروح والجسد عالمان مستقلان متعاديان، وأن كلا منهما حرب للآخر، وأن كلا منهما أيضا إنما ينمو ويزكو على حساب الآخر، فإذا أهين أحدهما وعذب نما الآخر وترعرع، وقام بوظيفته خير قيام، وإذا أكرم وأريح وأجم أصاب الآخر بالعكس ... وهذه فلسفة عقيمة لا تقف أمام الحقائق. فإن الروح مهما اختلف في حقيقتها وفي تفسيرها تزكو وتقوى وتقدر على أداء وظيفتها إذا صح الجسم وقوي واستراح، وتضعف وتخبو وتعجز عن القيام بعملها إذا مرض الجسم أو تعب أو عجز ... وهذه حقيقة هي اليوم فوق مذاهب الشك، وفي استطاعة الرجل العادي أن يعلم صدق هذا بالملاحظة والاستقراء.»
ونحن نقول: إن هذه حقيقة لا شك فيها.
ولكننا نقول: إنها ليست كل الحقيقة، أو ليست بالحقيقة التي تستغني عن الرجوع بها إلى جملة الحقائق في الملكات الروحية والجسدية.
ولعلنا نستعجل الغاية التي نرمي إليها بالإشارة إلى حقيقة أخرى مجسمة لا شك فيها. فما القول مثلا في الإنسان الذي يقبل على الجسد وحده فيجعله أصلب من الفولاذ وأقدر على حمل الأثقال وجرها من الفرس والبعير؟ أيقال إن هذا الإنسان قد زاد قوة الروح بزيادة قوة الجسد؟ أيقال إنه مثل يحتذيه كل إنسان ولا يصيب الأمة نقص في الملكات إذا اقتدى به كل فرد من أبنائنا؟
لا يقال ذلك، ولا يقال مع ذلك أنه مثل ضار وخيم العاقبة على أبناء الأمة، بل يقال إنه لازم ومطلوب ومعقول، وإن «القصد الحيوي» في تربية الإنسانية يسمح للرياضة البدنية أن تصطفي لها أفرادا من هذا الطراز، ويسمح للرياضة الروحية أن تصطفي لها أفرادا من طراز آخر، ولا تسمح لهذه ولا لتلك بتعميم حكمها على جميع الآحاد.
هذا «القصد الحيوي» هو الحقيقة الكبرى التي تقابل تلك الحقيقة المبسوطة في كتاب الأستاذ.
فالملكات الإنسانية أكثر وأكبر من أن ينالها إنسان واحد.
ولكنها ينبغي أن تنال. فكيف يمكن أن تنال؟
إنها لا تنال إلا بالتخصص والتوزيع، ولا يتأتى هذا التخصص أو هذا التوزيع إذا سوينا بينها جميعا في التحصيل، وألزمنا كل واحد أن تكون له أقساط منها جميعا على حد سواء.
ولا يقتصر القول هنا على الملكات العقلية أو الروحية التي لا يسهل إحصاؤها ولا تحصيلها، ولكننا نعم به هذه الملكات ومعها ملكات الحس والجسد، وهي محدودة متقاربة في جميع الناس.
فهذه الملكات الجسدية - فضلا عن الملكات العقلية والروحية - قابلة للنمو والمضاعفة إلى الحد الذي لا يخطر لنا على بال ولا نصدقه إلا إذا شهدناه.
وقد رأينا ورأى معنا ألوف من أبناء هذا البلد رجلا أكتع يستخدم أصابع قدمه في أشياء يعجز الكثيرون عن صنعها بأصابع اليدين: يكتب بها ويشعل عيدان الثقاب ويصنع القهوة ويصبها في الأقداح ويشربها ويديرها على الحاضرين، ويسلك الخيط في سم الإبرة ويخيط الثوب الممزق، ويوشك أن يصنع بالقدم كل ما يصنع باليمين أو باليسار.
ورأينا ورأى معنا ألوف من هذا البلد لاعبي البليارد في المسابقات العامة يتسلمون العصا ثم لا يتركونها إلا بعد مائة وخمسين إصابة أو تزيد، ولعلهم لا يتركونها إلا من تعب أو مجاملة للاعبين الآخرين، وهم يوجهون بها الأكر إلى حيث يريدون، ويرسلونها بين خطوط مرسومة لا تدخل الأكر في بعضها، ولا تحسب اللعبة إذا لم تدخل في بعضها الآخر، بحيث لو قال لك قائل: إن هؤلاء اللاعبين يجرون الأكر بسلك خفي لجاز لك أن تصدق ما يقول.
ورأينا من يقذف بالحربة على مسافات فتقع حيث شاء، ورأينا من ينظر في آثار الأقدام فيخرج منها أثرا واحدا بين عشرات ولو تعدد وضعه بين المئات. ورأينا من يرمى بالأنشوطة في الحبل الطويل فيطوق بها عنق الإنسان أو الحيوان على مسافة أمتار.
هذه هي الملكات الجسدية المحدودة، وهذه هي آماد الكمال الذي تبلغ إليه بالتخصص والمرانة والتوزيع.
فما القول إذا حكمنا على الناس جميعا أن يكسبوا أعضاءهم ملكة من هذه الملكات؟
إننا نخطئ بهذا أيما خطأ، ونعطلهم به عن العمل المفيد.
ولكننا نخطئ كذلك كل الخطأ إذا عاقبنا إنسانا لأنه أتقن ملكة من هذه الملكات الجسدية، ولو جار في نفسه على ملكات أخرى يتقنها الآخرون.
فإذا كنا جاوزنا بالقوى الجسدية حدودها المعهودة بالمرانة والتخصيص، فما الظن بالقوى الروحية أو العقلية وهي لا تتقارب في الناس ولا تعرف الحدود.
وإذا كان طالب القوة الروحية يجور على جسده فلماذا نلومه وننحي عليه ونحن لا نعاقب اللاعب إذا جار على روحه أو عقله في سبيل إتقان لعبة أو تدريب عضو أو تزجية فراغ؟
إذا لمنا من يجور على جسده لأنه يضر الناس إذا اقتدوا به أجمعين، فمن واجبنا أن نلوم كل ذي ملكة وكل ذي عمل وكل ذي فن وكل ذي رأي من الآراء، فما من واحد بين هؤلاء إلا وهو يضر الناس إذا اقتدوا به أجمعين.
ومما لا جدال فيه أن نوازع الجسد تحجب الفكر عن بعض الحقائق الاجتماعية؛ فضلا عن الحقائق الكونية المصفاة.
ومما لا جدال فيه أن شواغل العيش وهموم الأسرة عائق عن بعض مطالب الإصلاح في الحياة اليومية، فضلا عن الحياة الإنسانية الباقية على مر الدهور.
ومما لا جدال فيه أن طالب القوة الروحية كطالب القوة البدنية له حق كحق المصارع، والملاكم، وحامل الأثقال في استكمال ما يشاء من ملكات الإنسان، ولسنا على حق إذا أخذنا عليه أنه جار على جسده أو لذات عيشه؛ لأننا لا نلوم المصارع إذا نقصت فيه ملكة الفن أو ملكة العلم أو ملكة الروح.
ولو أصبح كل الناس مصارعين لفسد كل الناس.
ولكن لا بد من المصارعة مع هذا، ولا بد من المتفرغين لها إذا أردنا لها البقاء.
ولو أصبح الناس كلهم متصوفين معرضين عن شواغل الدنيا لفسدت الدنيا، وبطل معنى الحياة ومعنى الزهد في الحياة.
ولكن لا بد من هذه النزعة في بعض النفوس، وإلا قصرنا عن الشأو الأعلى في مطالب الروح، وفقدنا ثمرة «التخصص» أو ثمرة «القصد الحيوي» الذي ينظم لنا ثروة الأرواح وثروة العقول وثروة الأبدان.
فنحن لا نفند الحقيقة التي بسطها الأستاذ القصيمي في كتابه الجريء على الباطل.
ولكننا نقابل حقيقته بالحقيقة التي توازنها وتتمم لها موازينها، ونقول: إن الإفراط في العناية الروحية كالإفراط في العناية الجسدية بلاء إذا عم جميع الناس، ولكن البلاء الذي هو أعظم منه وأقسى على الناس جميعا أن يبطل فيهم «الاختصاص» ولو كان الإفراط من مستلزماته؛ لأن «الإنسانية» كلها تستفيد من زيادة ملكاتها، وهي لا تزيد إلا بنقص في بعض الآحاد المعدودين.
الفصل الخامس
دور من أدوار التاريخ في الكتابة عن الأندلس الإسلامية1
أعجب من زوال دولة الإسلام في الأندلس بقاء آثارها سارية حتى اليوم في كل ناحية من نواحي الحضارة الأوروبية، ويكفي أن نذكر من آثارها قيام دعوة الإنسانيين منذ القرن الثاني عشر للميلاد، ثم قيام دعوة النهضة ودعوة الإصلاح الديني وما يليها من الثورات الاجتماعية والسياسية، لنعلم بعد هذا الإجمال السريع أن آثار الإسلام في الأندلس قد أحاط بأصول كل حركة من حركات الثقافة الغربية الحديثة.
وقد كان للمؤرخين الأوروبيين مواقف مختلفة، متناقضة، في تقدير تلك الآثار بين الإنكار والاعتراف، وبين التهوين والإكبار.
كان موقف العداء والمحاربة أسبق تلك المواقف في عصر «التعصب الديني» من بقايا القرون الوسطى. فكان القائمون على ثقافة الغرب يتبعون خطة «الإخفاء والطمس» لمصادرة العلوم الإسلامية، ويتعمدون مطاردتها وإبعادها، وإن شهدوا بفضلها واعترفوا بمحاسنها؛ لأنها مصدر قوة للإسلام وآية من آيات «سحره» الذي يجتذب إليه قلوب المتعلمين من غير المسلمين.
ومضت القرون الوسطى ببقاياها فجاء بعدها عصر الكشف والتنقيب عن المجهولات في كل باب من أبواب المعرفة الإنسانية. فانكشفت في هذا العصر مفاخر الحضارة الإسلامية في الشرق والغرب، وكان للحضارة الأندلسية نصيبها الأوفر من عناية القوم لاتصالها بمواطنهم في صميم القارة الأوروبية، وهنا تفرقت مواقف المؤرخين والنقاد من الغربيين مع تفرق المقاصد والمصالح أو تفرق النظرات والآراء.
فمنهم من كان ينظر إلى موضوعه من خلال النزاع بين الكنيسة والمنشقين عليها، فينتصر لمن حرمتهم الكنيسة واضطهدتهم، وفي مقدمتهم أحرار الفكر المتأثرون بالثقافة الإسلامية، ولا بد - مع الدفاع عن هؤلاء - من الدفاع عن فلاسفة الإسلام وعلمائه وقادة الفكر والمعرفة في بلاده.
ومنهم من كان ينظر إلى هذا الموضوع التاريخي من خلال النزاع على حقوق السلطة القائمة فيتخذ من المواقف ما يناسب هواه: إن كان من أعوان السلطة فهو من المحافظين الجامدين، وإن كان من أعوان الحرية فهو في الجانب المقابل للمحافظة والجمود.
ومنهم من كان يعمل لحساب الاستعمار السياسي، فهو ينكر فضائل الإسلام أو يشهد لها الشهادة التي تقف عند حدود الماضي ولا تتعداها إلى الحاضر الذي غلبت فيه سيادة المستعمرين. فلا حرج عنده من الشهادة للإسلام بالعظمة التي صلحت في زمانها لتعظيم قومها، ولكنها ذهبت مع زمانها فهي الآن في خبر كان.
منذ الحرب العالمية الثانية تغيرت هذه المواقف جميعا، وخلفتها مواقف أخرى أقرب إلى الإنصاف والاستقلال النظري؛ لأنها تصدر من بواعث «عامة» يقل فيها التوجيه والإملاء ويستلم أصحابها مطالب النشر ورغبات القراء، ويجرون مع العصر في مجراه الغالب عليه، وهو «النزعة العالمية» التي تؤثر الاطلاع على شئون العالم قديمها وحديثها وتتوسع في طلب الأخبار والمعلومات من جميع المصادر والجهات.
فالذين يكتبون اليوم عن الأندلس الإسلامية يجمعون بين النزعة العالمية ونزعة «الهواية الشخصية»، ولا ينسون مطالب النشر التي تتحرى ميول القراء ولا تقوم على التوجيه والإملاء من جانب الدول، أو جانب الهيئات التي تشبهها في اصطناع الدعاية. •••
من أحدث المؤلفات التي ظهرت في هذا الدور - سنة 1958م - كتاب «الأندلس» أو «إسبانيا في ظل المسلمين» لمؤلفه الأستاذ أدوين هول
Edwin Hole
المستشرق المعروف.
عمل هذا المؤلف بمصر وسوريا وتركيا والبلقان، ثم اغتنم فرصة العمل في وكالة «ملقة» القنصلية، فعكف على دراسة الحضارة الأندلسية من قريب، وقضى في هذه الدراسة زهاء خمس سنوات، خرج منها بهذا الكتاب الموجز الذي يقع في نحو مائتي صفحة، ويشتمل على أحداث الأقوال والآراء في تاريخ هذه الحضارة. وجملة ما يقال عن أقواله وآرائه أن الرجل أنصف حضارة الأندلس الإسلامية فيما فهمه وتأتى له أن يحكم عليه، ولكنه جهل منها بعض جوانبها - ولا سيما جانب الشعر والأدب - فأحال فيه التبعة على غيره، وبلغ بذلك غاية ما يستطيعه جاهل الشيء من إنصافه وتقديره.
يكاد المؤلف أن يقول عن جانب الثقافة من حضارة الإسلام في الأندلس إن الدولة الإسلامية قد صنعت الخوارق في ترقية العقول والأذواق، وإن ولاة الأمر فيها كانوا يعدون عدو الجياد حيث سار اللاحقون بهم في خطوهم الهزيل، فيتعثرون وهم يدرجون.
ففي كلمة «الكتاب» تتلخص المعجزة التي صنعتها الدول الإسلامية في القارة الأوروبية. قال المؤلف عن مكتبة الخليفة «الحكم»: إن عدد كتبها ومجاميعها قدر بنحو أربعمائة ألف كتاب ومجموعة. وقد حاول الملك الفرنسي شارل الملقب بالحكيم بعد الحكم بأربعة قرون أن ينشئ مكتبته، فلم يستطع أن يجمع فيها أكثر من تسعمائة كتاب، ستمائة منها تبحث في اللاهوت.
وقد تجاوبت آفاق القارة الأوروبية من مشرقها إلى مغربها بسمعة الخلفاء المسلمين في طلب العلم والتحصيل والحرص على اقتناء الكتب النفيسة والمدونات النادرة، فكان «الكتاب» أعز الهدايا التي يخطب بها ود الخليفة بين ملوك القارة وأمرائها، وكانت السفارة الناجحة في بلاط قرطبة سفارة الملك الذي يزود رسوله بتحفة من تحف العلم والحكمة، ويقول المؤلف في سياق كلامه عن الكتب: «إن الرغبة في المعرفة كانت مستفيضة لا حدود لها، وقد حدث أن الإمبراطور البيزنطي أرسل إلى عبد الرحمن الثالث كتاب «ديو سقريدس، في العقاقير»، فعهد إلى جامعة الطب بترجمته وحل رموزه، وكان الحكم بن عبد الرحمن نفسه من كبار العلماء يشترك في البحث بالوفود إلى أطراف البلاد لشراء المخطوطات ودعوة العلماء إلى بلاطه؛ حيث يعاملون معاملة السخاء والحفاوة، فأصبحت إسبانيا قطبا قويا يجذب أساطين العلم من كل مكان.»
وظل الكتاب في المغرب الإسلامي ذخيرة مضنونا بها على الضياع حتى في أيام الإدبار والأفول بعد زوال الدولة في شبه الجزيرة الأندلسية. فلما استولى الإفرنج على سفينة محملة بالكتب والأمتعة لمولاي زيدان المراكشي في القرن السابع عشر، أرسل الأمير يطلب الكتب، ولم يحفل بما عداها من حمولة السفينة، ويقول المؤلف: إن المسألة أحيلت على محكمة التفتيش، وأرادت هذه المحكمة أن تبدي بعض السماحة في جوابها على الأمير المغربي، فقررت أن ترد إليه كتب العلم والجغرافيا وما إليها، وأن تحجز الكتب الدينية التي قد تعزز سطوة الإسلام، ورفع الأمر إلى مجلس الوزراء فرفض أكثر أعضائه اقتراح محكمة التفتيش، وأشاروا بإحراق الكتب العلمية والدينية على السواء، وتوسط النبيل المستنير المركيز دي فيلادا
De Velada
عند الملك؛ لإنقاذ هذه الذخيرة، فأمر الملك بحبسها وإغلاق الأبواب عليها في مكان حصين.
ويفيض المؤلف في استقصاء أخبار المكتبة الأندلسية من مصادرها، ولكنه يعنى في شرحه لآثارها وتعاليمها بجانب يقل المعنيون به من المؤرخين الغربيين، فلا يدع القارئ يفهم من الإفاضة في ذكر الكتب والمطلعين عليها أن المدرسة الأندلسية مدرسة معقولات ومحفوظات، قصاراها أن تخرج الفقهاء والحكماء وتحشو أذهانهم بمسائل العلم والأدب أو بمسائل الطب والهندسة وصناعات المرافق النافعة، ولا يدع القارئ يفهم أن المقبلين على المطالعة في إبان الدولة كانوا من تلك الزمرة التي يطلق عليها الأوروبيون اسم «ديدان الأوراق»، بل المفهوم من نوادر الكتاب وطرائفه أن الاطلاع على تلك الأوراق قد كان زادا من أزواد المعيشة الصالحة، والحياة الإنسانية: حياة الحس والعاطفة، وحياة السلوك المهذب والكياسة العلمية وما توحيه من آداب المعاشرة الطيبة في البيئة الإسلامية وغيرها من البيئات الأوروبية، ولعل السياسة التي اشتغل بها المؤلف في مهام القناصل والرسل المحنكين الذين يتولون أعمالهم بين الأعداء والأصدقاء في أيام الحروب والقلاقل التي اتجهت به إلى البحث عن نصيب «الأندلسي المثقف» من مهام «الدبلوماسية» في تلك العصور المحفوفة بالظلمات والأخطار.
نقل المؤلف عن مخطوطة وجدت بمدينة فاس مما اطلع عليه المستشرق ليفي بروفنسال أخبار أول سفارة تبودلت بين الإمبراطور البيزنطي تيوفيلوس والخليفة عبد الرحمن الثاني، فقال في فصل العلاقات الخارجية:
أراد تيوفيلوس أن يثير حفيظة عبد الرحمن الثاني فذكره بذبح العباسيين لآبائه وأحب أن يرضيه بالزراية من خلفاء بغداد، فلم يسمهم بالأسماء التي اشتهروا بها كالمأمون والمعتصم، بل نسبهم إلى أمهاتهم من جواري القصور، ولكن الزناد لم ينقدح؛ لأن آباء عبد الرحمن نفسه لم يكونوا ممن ينكرون التسري بالإماء، فأجابه جوابا مفرغا في قالب المجاملة مع التحفظ والاحتجاز، ووكل أمر السفارة إلى الشاعر النابه يحيى بن الحكم البكري الذي كان لرشاقته وجماله يلقب بالغزال ...
قال المؤلف:
وقوبل الوفد في القسطنطينية بالحفاوة الملكية، ولكن الإمبراطور أضمر في نيته أن يضطر الغزال إلى الانحناء بين يديه على الرغم مما هو معلوم من تعذر ذلك. فأمر بفتح باب صغير في غرفة العرش لا يدخله القادم قائما. فلما أقبل الغزال جلس عند الباب وتقدم زاحفا حتى بلغ ساحة العرش فنهض على قدميه، وكان الإمبراطور قد أحاط نفسه بعرض حافل بالأسلحة والنفائس يريد أن يروع السفير ويهوله، ولكنه لم يرع ولم يستهول ما رآه بل مضى على أثر وقوفه في إلقاء رسالته، وسلم الإمبراطور خطاب مولاه وودائع التحف والهدايا من المصنوعات والآنية الفاخرة، فكان لها أجمل الوقع في نفس الإمبراطور وكفلت للوفد الأندلسي طيب المقام وحسن الخدمة.
واهتم السفير اهتمامه الخاص بأهل البلد فحير علماءهم بالمشكلات الفكرية والمناقشات الذكية، وكال الضربات الموفقة لقادتهم وفرسانهم، وشاع خبره حتى انتهى إلى مسامع الملكة فأرسلت تستدعيه إلى حضرتها ومثل أمامها فسلم منحنيا وأمعن النظر إليها كالمشدوه، فأمرت الترجمان أن يسأله: أتراه يمعن النظر إليها لجمالها أو لغرابة مرآها؟ فكان جوابه الحاضر: أنه قد رأى الحسان حافات بمليكه فلم ير منهن من تضارعها في جمالها، ودار الحديث بعد ذلك على هذه النغمة المحبوبة، واستجابت الملكة لرجاء الغزال أن تسمح له برؤية الحسان من خواتين المملكة، فجعل ينظر إليهن من الفروع إلى الأقدام، ثم قال ليلقي بحكمه المنتظر: إنهن في الحق لجميلات، ولكن لا وجه للمقارنة بينهن وبين الملكة التي تتنزه محاسنها وشمائلها عن النظيرات، ولا يحسن وصفها غير المجيدين من الشعراء، وعرض عليها أن ينظم هذا الوصف في قصيد من شعره يتغنى به الأندلسيون، فوثبت الملكة فرحا ومنحته هدية نفيسة من حلاها، فأبى أن يأخذها وقال: إنه على نفاستها وعلى اعتزازه بما تمنحه الملكة من هدية كائنة ما كانت، يحسب أنها قد وفته فوق حقه من النعمة، ومنحته غاية ما في الوسع أن تمنحه بسماحها له أن يتملى النظر إلى طلعتها، وأنها شاءت أن تضاعف له العطاء فحسبها أن تزيده حظا من النظر إليها. ولم تكن الملكة تنتظر ما هو أحب إليها من ذلك، فلم تزل تدعوه إلى مجلسها كل يوم لتسأله عن مشاهداته ورحلاته وما وعاه من التواريخ والقصص، ثم تبعث إليه بعد انصرافه بالتحف الثمينة من الأنسجة والعطور ... •••
وليس في كتاب «الأندلس في ظل الإسلام» غير القليل مما لم يرد في المطولات من أخبار الترف والبذخ وظواهر الرغد والرخاء التي اشتهر بها في ذلك الفردوس المفقود، ولكن هذا الكتاب الحديث يورد أنباء البذخ والترف، ويتخللها هنا وهناك بنادرة أو عبرة تنم على إدراك لمعنى الحياة، موكل بالصفو الرفيع من لذات الروح وأشواق العاطفة الإنسانية، يتفقده الأندلسي المثقف ولو خلصت له متعة الجاه والثراء، ومسرة الملك والسطوة. فكان عبد الرحمن الناصر «يقيم نفسه مقام الحكم المطاع بين ملوك المسيحية، ويستقبل في عزته وعليائه وفودهم المتنازعة، كما يستقبل الملوك أنفسهم أحيانا وقد حنوا أعناقهم العصية لمراسم الاستقبال في بلاط الخلافة. ولكنهم وجدوا بين أوراقه بعد وفاته أنه لا يذكر من أيام حكمه الطويل - نحو خمسين سنة - غير أربعة عشر يوما يعدها من أيام الصفو التي لا تشوبها سحابة». •••
كانت حضارة متاع ونعمة، وكانت حضارة عقل وفهم وعاطفة.
كانت حضارة «إنسانية» كاملة، تلك الحضارة التي وصفها صاحب كتاب «الأندلس في ظل الإسلام» متوخيا لها الإنصاف غاية ما يستطيعه الكاتب الأوروبي المعتز بحضارته العصرية في القرن العشرين.
أما الذي فاته أن ينصفه من تلك الحضارة فهو الذي فاته أن يفهمه من خيرة المأثورات عنها، وهو بلاغتها الشعرية الشائقة: بلاغة الموشحات والألحان.
يقول صاحب الكتاب في الفصل الذي خصصه للكلام على الشعر الأندلسي: «إن أكثر هذه المنظومات مما لا يطيقه العقل الغربي، وهو رأي يصرح به الخبراء بتلك المنظومات، ولا نعرف من هو أحق بالحكم عليها من جارسيا جوميز
Garcia Gomez
الذي يجمع بين الأستاذية في العلم والذوق عقده للكلام على ابن قزمان أحد الشعراء المتأخرين: إن الصناعة اللفظية هي موضع العناية الكبرى في الأدب العربي، بين نثر مقيد بالأسجاع وبين ألوان من المجازات والأشباه والطلاوات واللوازم، تعوزها الحرارة والشعور، وكأنما هي كلها عرض من العروض المقنعة بالبراقع، حيث البسمات لآلئ والعيون أزهار بنفسجيات والرياحين جواهر والجداول سيوف. وإن القارئ ليجتهد اجتهاده بين ترجمات بير
أو شاك
Schack
فينوء ذهنه بما يطبق عليه من النسق المتفق المتواتر! خصور كالأغصان تنبثق من آكام الرمال، أو شاعر يشبه نفسه بالطير الذي أثقل ندى الممدوح جناحيه فأعياه أن يطير، أو برق يومض بين الغمام كأنه ضرام العشق في قلب الشاعر يتوهج من خلل دموعه، ونصفها - أو أكثر من نصفها - قوالب منقولة يحكيها النظامون من وحي الذاكرة.»
وهذا الخطأ الذريع في الحكم على الشعر العربي شائع غالب على أقوال المستشرقين، نفهمه ولا نرى صعوبة في فهمه إذا ذكرنا أن الغالب على هؤلاء المستشرقين أنهم من زمرة الحفاظ يشغلون بجانب «الحفظ» من الأدب ولا يشتغلون بلباب الأدب في لغاتهم ولا في لغات غيرهم من المشارقة أو المغاربة. فهم لا يحسنون الحكم على شاعر من أبناء جلدتهم، وأحرى بهم ألا يحسنوا الحكم على الشعراء من أبناء اللغات التي تخالف لغاتهم في تراكيبها ومصطلحاتها، ومن أبناء الأمم التي تخالف أممهم في أمزجتها وعاداتها، وقد ينظر الكثيرون منهم إلى القصيدة الرائعة فيقفون عند مجازاتها ويشعرون ب «الربكة» التي يشعر بها عندنا من يقول مثلا: هات الأسطوانة! فيحضر له السامع قرصا من أقراص الغناء المسجل، فيختلط عليه الأمر بين ما توقعه من لفظ الكلمة وما رآه بعد ذلك من حقيقة المسمى.
وكذلك يشعر المستشرق بالربكة؛ حين يتوقف بذهنه عند مجازات التشبيه فيحسبها مقصودة لذاتها ويتقيد بقشورها اللفظية دون ثمراتها وبذورها، فلا يدري كيف يطرب العربي لهذا الشعر ولا يحاول أن يرجع بالعجب إلى نفسه قبل أن يتهم أمة كاملة بضلال الحس وسوء التعبير، وهي - فيما يعلم - من الأمم التي تفخر بلسانها وتنكر العجمة من ألفاظها ومعانيها.
ولقد كان من أقرب التفسيرات إلينا أن نرجع بأخطاء المستشرقين في فهم الشعر العربي إلى الفارق الأبدي «المزعوم» بين أذواق الشعراء في لغاتنا وأذواق الشعراء في لغاتهم على تباينها، وكنا نستقرب ذلك التفسير لولا أننا نعلم أن قراءنا يتذوقون شعرهم كما يتذوقون شعرنا، وأن الفوارق الكلامية لا تحول دون ظهور المعاني الإنسانية لمن يلتمسها في مواطنها ويتحرى أن يزنها بموازينها، وأن ينفذ إلى بواطنها. فليس بين الأذواق الإنسانية من فاصل في تمييز فنون البلاغة الخالدة، وإنما هو الفاصل بين «الحفظ» والذوق يحول دون الفهم الصحيح في اللغة الواحدة، فضلا عن اللغات المتعددة، وهذا هو الفاصل بين المستشرقين «الحفاظ» وبين محاسن الشعر العربي في ظواهره وخفاياه.
على أن العذر ممهد لمن لا يستحسن؛ لأنه يجهل ولا يدعي أنه يعلم، وإنما اللوم على من يسيء النية قبل أن يسيء الفهم، فلا يرجى منه إنصاف.
الفصل السادس
الاختراعات بين العلم والدين
الإنسان يحب الجديد؛ لأنه إزاءه بين فرجة تشرح الصدر وتسر الخاطر، ولكنه في أحوال كثيرة ينفر من الجديد ، بل يبلغ من نفوره أن يرتاع منه ويرتاب بظواهره وخوافيه، وينظر إليه كأنه طامع مقتحم يريد أن ينتزع منه ذخيرة يحرص عليها.
هل في ذلك تناقض؟ نعم فيه تناقض، ولكن في الظاهر دون الحقيقة، وما أكثر ما تقلب الإنسان في شعوره وهواه، ولكنه في موقفه أمام الجديد يحبه لأسباب وينفر منه لأسباب أخرى سواها، فهو في الحقيقة بين حبه ونفوره؛ لأن أسباب الحب غير أسباب النفور.
إننا إذا رجعنا إلى أنفسنا وجدنا أننا نحب الجديد ونقبل عليه في معظم أحوالنا، فإذا نفرنا منه وحذرناه فلا بد أن يكون فيه شيء يمس ذات المعيشة أو يمس المصالح والأرزاق، أو يمس العقائد الدينية والأوهام التي يدخلها بعض الناس في عداد المعتقدات، فإذا كان في الجديد مساس لعذابنا في المعيشة أقلقنا وطرد النوم من عيوننا، ونقول إنه يطرد النوم من عيوننا حقا وفعلا، ولا نقوله من جانب التعبير بالمجاز، فإن الكثيرين منا إذا غيروا سكنهم نفر النوم من أعينهم وإن كان المسكن الجديد أدعى إلى الراحة من مسكنهم الذي ألفوه، وربما حالت العادات بين الإنسان وبين منفعته عند الصدمة الأولى من صدمات التغيير.
ومن الأمثلة الكثيرة على ذلك أننا في مصر تعودنا أن نزرع القطن ونفضله في مناطقه على محاصيل الحبوب، واتفق في أيام الحرب العالمية أن كسدت سوق القطن، وبارت تجارته، وقلت محاصيله، وأن زراعة القمح أصبحت من الضرورات وزادت منافعها على منافع الزراعة القطنية، وأصبح شراؤه مضمونا بالثمن المطلوب؛ لأن الدولة تشتريه وتشجع زراعته. ولكن الزراع الذين طال عهدهم بزراعة القطن ترددوا كثيرا قبل أن يقتنعوا بتغيير ما ألفوه، وفضل أناس منهم أن يجازفوا بزراعة القطن؛ لأنهم ألفوه وتعودوا أن يستعدوا له في موسمه على أن يزرعوا القمح المضمون؛ لأنه يكلفهم تغيير العادات المألوفة.
أما الجديد الذي يهدد الناس في مصالحهم وأرزاقهم فلا غرابة في نفورهم منه قبل اطمئنانهم إليه. ونحن اليوم يخيل إلينا أن أمم العالم وقفت في التاريخ تدق الطبول فرحا واستبشارا باختراع البخار، ولكن الواقع أن الملاحين حطموا أول سفينة سارت بالبخار، ولما ساد البخار وكثرت الآلات التي تدار به لم يعد فيه جديد، ودخل في عداد المألوفات، وتبين يومئذ أن البخار لا يعرقل الأيدي العاملة كما خطر للمتخوفين منه عند ظهوره، وأن الأيدي التي تعمل فيه أضعاف الأيدي التي كانت تعمل في السفن والمركبات.
إلا أن المخترعات الجديدة قد تمس هذا النفر فتكون ثورتهم عليها أشد من ثورتهم على تغيير عادات المعيشة وتهديد المصالح والأرزاق، والمشاهد بالتكرار أن المخترعات الجديدة ليست كلها مما يثير الأوهام أو يرى فيه الجهلاء مساسا بالعقائد ومناقضة لأحكام الدين، لكن الغالب على العقول أنها تهاب كل ما يتعلق بتكوين الإنسان، أو يتعلق بنظام الأفلاك، أو نظام السماء؛ لأن خلق الإنسان وتسيير الفلك من أمر الله.
في القرون الوسطى كان الموت عقابا عاجلا لكل من يحاول أن يشرح جسم الإنسان؛ لأنهم اعتقدوا في تلك العصور أن المشرحين يختلسون سر الحياة وينازعون الله جل وعلا في أمر الروح. وفي العصور الحديثة، فزع الجهلاء من سماع صوت الإنسان خارجا من آلات الحديد والخشب، وحدث في بعض قرى الريف عند ظهور الجراموفون أن دعيا من أدعياء الدين حطم الجراموفون وأوشك أن يبطش بسامعيه؛ لأنهم يستمعون إلى الشيطان.
وفي بعض البلدان ذهب فريق من الفضوليين إلى دار الإذاعة، وحاولوا إغراء المذيع ليطلعهم على المكان الذي يخبئ فيه الشياطين وينقل منه أصواتهم من وراء الستار، وكان ولي الأمر حكيما عاقلا فأراد أن يقضي على هذا الوهم بدليل محسوس لا يمتري فيه السامعون، قال: «هل يقرأ الشيطان آيات الله؟»
قالوا: «كلا». فأسمعهم من المذياع القرآن الكريم ومحا بذلك ظنونهم في خديعة الإذاعة الأثيرية، فهي على التحقيق ليست من عمل الشياطين.
ومسألة النفس وتنشيط الصدر باستنشاق الهواء وتنبيه القلب بالنبض بعد فتوره، وفتح الدماغ لتصحيح عيوبه وأمراضه؛ كل أولئك كان في عصر الجهلاء افتراء على قدرة الله أو ادعاء للقدرة الإلهية، ثم تعلموا بالخبرة وفهموا حقيقة هذه التجارب العلمية، ففهموا أنها من علم الله وأن الله هو الذي علم الإنسان ما لم يعلم، فلا يكون علم الإنسان إلا دليلا على قدرة الله.
وفي الأيام الأخيرة يتحدث الناس بالأقمار الصناعية، فكان من الممكن أن تسمى بغير هذا الاسم، فيقال عنها كما يقال في لغة الفلك إنها توابع صناعية للأرض، وتنتهي المشكلة باختلاف الأسماء، ولكن تسمية الجسم الطائر في الفضاء باسم القمر أوهمت فئة من الجهلاء أن هذا الاختراع ادعاء لقدرة الله ومشاركة له سبحانه وتعالى في ملك السماء.
ويسرنا أن نقول: إن هؤلاء المتوهمين قليلون، بل جد قليلين، فلا نظن أنهم يبلغون عشر أمثالهم قبل مائة سنة أو قبل مائتين، لو أن هذا الجسم المسمى بالقمر ظهر في تلك الأيام، وهذه علامة من علامات التقدم في مدى جيلين أو ثلاثة أجيال. •••
سألت بائعا في دكان بدال، هل رأيت القمر الذي تحدثوا عنه في الصحف؟
قال في غضب: «لم أره، ولن أراه، ولا أريد أن أراه».
قلت: ولم يا صاح؟
قال: «يشاركون الله في سمائه ثم أنظر بعيني إلى فعلتهم!»
قلت: هل يستطيع أحد أن يشارك الله في سمائه؟
فصاح: «كلا! كلا!»
وبدا عليه كأنه تنبه من غفوة أو غفلة، ثم قال: «ولكن ما لهم وللسماء يتطلعون إليها، ألا يكفيهم ما في الأرض حتى يتطلعوا إلى سماء الله؟!»
قلت: مهلا يا صاح، فإن الأرض لله والسماء لله، وليس الفضاء الذي وصل إليه القمر الصناعي إلا قيراطا من ألوف القراريط، فهو من الأرض وإليها، وقد وسعت الأرض مخترعات الإنسان، فلماذا يضيق بها الفضاء؟ وأين يأمن الإنسان من قدرة الله، وهو أقرب إليه من حبل الوريد.
فهدأت غضبة الرجل وقال: جزاك الله خيرا، فقد أرحتني وما كنت أظن إلا أن القيامة قائمة بين يوم وليلة، وأن الصواعق ستنقض علينا من كل مكان. فالحمد لله ولا حول ولا قوة إلا بالله.
إن هذا الرجل البريء ومن على شاكلته معذورون فيما يتوهمون؛ لأنهم يجهلون معنى السماء ولا يدرون معنى مشاركة الله في سمائه. ولكن اللوم حق اللوم على من يعرف طرفا من العلم ثم يتوهم أن الأقمار والصواريخ تهدم عقيدة من عقائد الدين، أو تكشف عن رأي جديد يزعزع الإيمان ويلقي الشك على قواعد الأديان.
فالأقمار الصناعية وما إليها جديدة في الصناعة وليست جديدة في النظريات العلمية، وما من نظرية علمية يقوم عليها هذا الاختراع كانت مجهولة عند أحد من العارفين بقوانين الحركة وعوامل الطاقة المادية، ولو كانت الشركات أو المصانع التجارية تشتغل بأمثال هذه المخترعات لظهرت الأقمار الصناعية قبل هذه السنة بسنوات كثيرة، ولكن الشركات والمصانع التجارية تنفق أموال حملة الأسهم فيما يعود بالكسب المالي، وإنما تتصدى لهذه المخترعات غير التجارية أمم كبيرة تستطيع أن تنفق مئات الملايين في التجارب والمحاولات؛ ولا تتصدى جميع الدول لذلك، ولو كان لديها أقدر العلماء وأبرع المخترعين؛ ولهذا كانت هذه التجارب والمحاولات محصورة في دولتين اثنتين، ولم تكن عامة حيث وجد العلماء والمخترعون.
ولقد شهدت أمم العالم في القرن الأخير مئات من المخترعات بعضها أغرب في نظرياته وتطبيقاته من الصواريخ والأقمار الصناعية. ولم يقل أحد إنها بدعة في الدين، أو إنها تزعزع ركنا من أركان العقيدة في دين من الأديان.
هذه المستحدثات لا اعتراض عليها من جانب الإيمان، وإنما يأتي الاعتراض عليها وعلى التوسع فيها من جانب المفكرين في الحرب والسلام، وكل من أصحاب الآراء يبيحها ويرحب بها، أو يخشاها ويتشاءم منها على حسب ما يراه، فمنهم من يرحب بها لأنها معرفة جديدة، ولا يجوز للإنسان أن يغلق أبواب المعرفة بها. ومنهم من يخشى أن يستخدمها المحاربون في القتال فلا تبقي ولا تذر، ولا ينتهي القتال بها إلا بنهاية الحضارة الإنسانية وانتكاس بني آدم إلى عهود الهمجية والجهالة العمياء.
والذين يتفاءلون ويتشاءمون يعتقدون بحق أن خطر الأسلحة الميكروبية أعظم جدا من أخطار الصواريخ والأقمار الصناعية؛ لأن سلاح الميكروبات مستطاع لأكثر دول الأرض، لا يتوقف على ضخامة المعامل ولا على وفرة الأموال، فإذا انطلقت القذائف الميكروبية بجراثيم الطواعين والأوبئة فشت في الأرض وفتكت بالمحاربين والمسالمين ولم تمنعها الحواجز والحدود، فهي موفورة لكل أمة ذات صناعة أو غير ذات صناعة، وهي خطر أعظم من خطر القذائف الذرية. فمن دواعي التفاؤل، بل من دواعي الأمل، أن يكون الإنسان قادرا على تقييدها واتقاء دورها في الحرب الماضية، فهو في المستقبل أحرى أن يقيد الأسلحة الذرية، وأن يستخدم الطاقة الذرية سلاحا لمكافحة الفقر والقحط ونقص المواد الغذائية، وربما كانت هذه الأقمار مفيدة في يوم قريب في تنظيم المد والجزر أو تنظيم ذوبان الجليد في المناطق القطبية أو تنظيم السحب والأمطار ووسائل الري في الصحاري المهجورة والسهول القاحلة.
الفصل السابع
الموفق الموفق1
الإمام المصلح الشيخ محمود شلتوت
في كتابات الإمام الفقيد - الشيخ محمود شلتوت - كلمات لها طابعها الذي تتميز به بين أمثالها من الكلمات في كتابات غيره، ممن ينهضون بأمانة الدراسة الدينية.
ولعل أبرز هذه الكلمات في كتاباته وفي أحاديثه «كلمة الشخصية».
يلحقها بوصف العقيدة، ووصف الفرائض المقدسة، بل يجعل العقيدة - كما يجعل الفريضة - معلما من معالم شخصية الأمة، وشخصية الإنسان في حياته الباطنة وحياته الظاهرة.
قال رحمه الله في مفتتح مقاله عن رسالة الأزهر: «إن للإنسان في هذه الحياة - فردا كان أم جماعة - شخصيتين، حسية ومعنوية، ولا يحظى بالوجود الكامل إلا إذا نال حظه من الشخصيتين. وشخصية الفرد الحسية يكونها اللون والطول والعرض، وشخصيته المعنوية يكونها إيمانه ومبدؤه وهدفه في الحياة، وما له من عقل وتدبير وثبات ومثابرة في سبيل مبدئه وهدفه.»
ثم قال عن شخصية الأمة الحسية: «إنها ترجع إلى إقامتها في الإقليم الذي نشأت فيه وإلى الأصل الذي تنتسب إليه» ... «أما شخصيتها المعنوية فهي ترجع إلى روابطها القلبية والعقلية والشعورية، وعلى قدر ما يكون لها من التأثر بتلك الروابط المتفاعلة والحرص عليها وعلى معارفها التي تكونها، وعلى الإيمان بمصدر تلك المعارف، يكون لها بين الأمم من آثار الوجود المعنوي.»
وكتب عن الصلاة في فصل من فصول «الإسلام عقيدة وشريعة»، فقال عنها: «إنها العنصر الثاني من عناصر الشخصية الإيمانية.»
وعلى هذه الوتيرة كانت كلمة «الشخصية» تتردد في أحاديثه للدلالة على قوام كل «وجود» حق يتميز به عقل الإنسان وضميره في حياته الروحية، وهي لمحة من لمحات التعبير الباطني تدل على معناها، وتدل مع هذا المعنى على مقدار شعوره بكرامة الشخصية واقترانها بحق الإنسان وواجبه وبالتبعة التي تناط بها الحقوق والواجبات، وتقرر له موقفه من الشخصيات الإنسانية الأخرى في إبداء الرأي والاضطلاع بأعباء الدعوة والإقناع.
هذه واحدة من خصال العقل المجتهد، بل هي أولى تلك الخصال في كل ترتيب لكفايات المجتهدين. من كان له رأي وعلم ولم يكن له نصيبه الأوفى من هذه الخصلة فلا سبيل له إلى الاجتهاد؛ لأنه يلقى العائق الأول عن أداء وظيفة الاجتهاد من قبل نفسه، ويحجم عن العمل في سبيله قبل أن يصده غيره عن تلك السبيل.
وتلك هي الخصلة التي توافرت للأئمة الأسبقين من أصحاب الرأي والقياس في الشريعة، وبفضل الثقة التي كانت تملأ نفوسهم من هذه الخصلة كانوا يقولون لمن يستكثر عليهم التعقيب على أهل العلم من الصحابة والتابعين: إنهم رجال ونحن رجال.
وإذا اجتمع الاجتهاد في كلمات معدودات صح أن يقال إنه هو القدرة على الرجوع إلى روح القرآن الكريم، أو إنه بعبارة أخرى تفسير المذاهب بمعاني القرآن الكريم، وليس هو تفسير القرآن الكريم بمعاني المذاهب أو بنصوصها أو بأقوال الرواة فيها.
ولقد كان هذا هو إيمان الإمام الفقيد بالكتاب المبين، وكان هذا هو منهجه في الاحتكام بالمذاهب إلى آياته وأحكامه، مستقلة عما يضاف إليها من شروح المختلفين وتأويلات أصحاب الرأي وأصحاب اللغة من المفسرين.
وقد لخص العالم الفاضل الدكتور محمد البهي هذا المنهج في تقديمه لتفسير الإمام الفقيد، فقال: «التفسير الذي نقدمه اليوم للمسلمين هو تفسير للمسلمين أجمعين، لا لمذهب معين من المذاهب الفقهية، ولا للون من ألوان العقيدة الكلامية، ولا لاتجاه خاص من اتجاهات أهل الظاهر أو أهل الباطن.»
ثم تعرض للمنهج الذي اختاره الأستاذ المفسر واقتدى فيه بالمعلم المصلح العظيم محمد عبده، فقال: إنه منهج «جعل السورة وحدة واحدة، يوضح مراميها وأهدافها وما فيها من عبر ومبادئ إنسانية عامة»، وإنه لا يقحم فيه على القرآن من رأي خارج عنه، أو مصطلح انتزع من مصدر آخر، فجعل كلمات القرآن يفسر بعضها بعضا، كما أطلق الحرية للقرآن في أن يدلي بما يريد دون أن يحمل على ما يراد.
وبهذه المثابة يصبح تفسير القرآن للمسلمين جميعا، وعليه يقام أساس التوفيق بين المسلمين أجمعين، وهي أمانة لا يضطلع بها غير أهلها من القادرين على الاستقلال بالفهم وعلى مواجهة الخلاف بما ينبغي للمجتهد من الشجاعة الصادقة ووسائل الإقناع بإحسان، وما ينبغي للمجتهد المعلم خاصة من الصمود إلى غاية التعليم، وغاية المعهد العلمي الذي يتولاه.
وصف الإمام الفقيد رسالة الجامع الأزهر معهد العلم الإسلامي الأكبر فقال في بضع كلمات: «إنه معهد الدين وحصن اللغة المكين.»
ومن أراد هذه الرسالة للجامع الأزهر فقد عرف من قبل رسالة القرآن الكريم، بل عرف المعجزة الكبرى لهذا الكتاب في ناحية إعجازه التي لا مراء فيها، وهي معجزة الأثر الخالد التي نستطيع نحن - أبناء هذا العصر - أن ندركها وأن يكون إدراكنا لها أقوى وأوضح ممن سبقونا إلى العلم بمعجزة الكتاب المبين.
معجزة الأثر في ألف وأربعمائة سنة أقوى وأوضح من معجزته التي شهدها أبناء القرن الأول، ثم شهدها أبناء القرون الأولى بعد عصر الدعوة. فإننا اليوم نستطيع أن ندرك تلك المعجزة التي لا نظير لها، والتي تقاصرت عنها الهمم ووقفت دونها دعوات الأفراد والأمم، وتم بها ما يتم بعمل إله وقول إله، وهيهات أن يتم بجهد الإنسان بغير معونة الله:
أربعمائة مليون من بني آدم فرقتهم الأجناس واللغات والبقاع والأزمان، وجمعتهم كلمات القرآن.
وكلمات حفظت اللغة التي نزلت بها وليست هذه اللغة هي التي حفظتها، ولم يتفق قط للغة من اللغات أن عاشت بكتاب واحد مدى هذه السنين، فلم تعش لغة اليونان خمسمائة سنة بكتاب هوميروس، ولم تعش لغة اللاتين بعض هذه السنين بلغة فرجيل وهوراس، وذهبت لغة فارس ولغة الهند وفيها من الكتب ما لا يقرؤه اليوم غير كهان المحاريب، وماتت لغات أخرى كانت تعيش قبل الإسلام، وبقيت لغة القرآن حية في عالم الديانة وفي عالم الكتابة وفي عالم الثقافة، وستحيا غدا كما حييت بالأمس إلى ما شاء الله، وصح فيها قول الأستاذ الفقيه: «إنها ليست في هذا المقام عربية الإقليم والجو ولا عربية النسب إلى أصل ينتسب إليه الجنس ... وصارت عربية الشخصية المعنوية المكونة من عنصري العروبة والإسلام ...»
ولما تكلم عن غايته من التعليم في المعهد الأكبر الذي تولاه قال: «نريد تخريج تبريز لأئمة في اللغة وفروعها وأئمة في الفقه وأصوله، نريده تخريجا أساسه النظر العميق والاجتهاد العلمي الذي يكون الشخصية الفقهية والشخصية اللغوية العربية، لا نريده تخريجا نلتزم فيه مخلفات الماضي من آراء ومذاهب، بل يجب أن نجتهد وأن نؤمن بأن حاجة اليوم في الفقه واللغة وعقائد الدين غيرها بالأمس، وأن نؤمن بأن فضل الله في كل ذلك لم يكن وقفا على الأولين.»
ونستعير من أسلوب الفقيد فنقول: إن الاجتهاد كما أراده هو الاجتهاد بعناصر «شخصيته» على تمامها كما ينبغي أن يضطلع به المجتهد في جميع العصور، وهو أتم من ذلك بالنسبة إلى عصرنا هذا الذي نعيش فيه، وبالنسبة إلى العصر المقبل الذي يواجهه المجتهدون عما قريب.
فما من عنصر من عناصر الاجتهاد إلا قد ظهر له في هذا العصر باعث يستدعيه لم يكن ظاهرا بهذا الجلاء وهذه الضرورة في عصر من عصوره الماضية.
فها هنا عنصر النظرة الموحدة إلى الكتاب المبين في العصر الذي ارتفعت فيه حواجز الاستعمار الأجنبي، ووجب أن تحل في مكانها روابط القربى بين أمم الإسلام على تباعد الديار وتباعد الشيع والمذاهب التي لا بقاء لها، مع توحيد النظرة إلى كتاب المسلمين أجمعين.
وها هنا عنصر اللغة في عصر النهضة العربية، وقوامها كله نهضة الثقافة العربية التي تتحد بها ثقافة الإسلام في جميع اللغات.
وها هنا عصر «الاستقلال» في عصر الحرية الفكرية أو عصر «الإنسان» الحر في الجماعة الحرة، وقد مضت الجماعات في طريقها إلى الخلاص من طغيان الاستبداد وطغيان الاستقلال.
وها هنا العصر الذي أصبح فيه معهد الإسلام الأكبر كما قال الشيخ - رحمه الله: «يضم السوداني، والمغربي، والحبشي، واليمني، والشامي، والفلسطيني، والإندونيسي، والتركستاني، والسعودي، والأفغاني، والتركي ، والروسي، واليوناني، واليوغسلافي، والكردي، والعراقي، والإيراني، والسيامي، والباكستاني، والفلبيني، والملاوي، والبرمي، والأردني، واللبناني، والزنجباري، والأوغندي، والليبي، والتونسي، والجزائري، والمراكشي، والإريتري، والسنغالي، والصومالي، والنيجيري». إلى غير هؤلاء ممن وفدوا إليه أو يتوافدون مع الأيام بلا انقطاع. لا جرم كان من بشائر الأمل - كما أسلفنا في غير هذا الموضع - أن ينهض الشيخ شلتوت بمشيخة الأزهر في الزمن الذي تفتحت فيه الطرق بين البلاد الإسلامية بعد أن تحررت من الطغيان الأجنبي عليها وبين هذا المعهد الذي لا معهد في العالم الإسلامي أولى منه بضم الشمل، وتقريب مسافة الخلف بين المسلم والمسلم حيثما كان في أقاصي البلدان.
ومن عرف الإمام الفقيد عرف أنه قد تزود لهذه الرسالة بزاد غير علمه الغزير وشجاعته الصادقة، وهو زاد القلب الطيب والسجية الكريمة تجمع الخصوم على الألفة والثقة كما تجمع الأصحاب والأنصار.
ولقد عرفنا الشيخ الأكبر سنوات في مجمع اللغة العربية، فتعودنا أن نعرفه «قرآنيا» في دراسته لأسرار اللغة، قبل أن نعرفه «لغويا» في دراسته لأسرار القرآن، وكنا نسمعه يقول: إن القرآن معجز بما هو به قرآن، ويعني بذلك نسقه الذي ينتظم ألفاظه ويوحي من معانيها بما ليس في مفردات الكلم ولا في أجزائه التي يقتضيها الإعراب في كل عبارة. فليست الكلمة الواحدة هي محل الإعجاز، وليس محل الإعجاز هو الكلمتين أو الكلمات الثلاث التي تتم بها جملة الفعل والفاعل أو المبتدأ والخبر والجار والمجرور أو المضاف والمضاف إليه، ولكنه نسق دقيق يتخطى لوازم العلاقة بين الألفاظ في النحو والصرف إلى لوازم العلاقة بين المعنى والوجدان، وبين الوحي والبصيرة، مما لا تدركه ولا تبلغ إليه بلاغة الإنسان. وبهذه البصيرة المتفتحة تسنى له أن يفهم القرآن كتابا للمسلمين جميعا يرجعون إليه فيرجعون إلى مصدر واحد يبطل فيه الخلاف، أو يختلف فيه المختلفون، ولكن كما يختلف العقل الواحد بينه وبين نفسه في وجهات نظره بين حين وحين، وبين اعتبار واعتبار.
وبهذه النظرة «القرآنية» عمل الشيخ الأكبر في تنظيمه للدروس بمعاهد التعليم، كما عمل على هذه الهداية في علاقته بالأمم الإسلامية وعلاقته ببلاد العرب أجمعين. والجديد في خطته على هذه الجادة القديمة أنه فهم أن اللغة العربية، أو اللغة القرآنية، شيء يتعلمه العربي المسلم كما يتعلمه المسلم غير العربي، فلم يكن على المسلمين غضاضة في هذه المساواة الشاملة، ولم يكن للعربي إيثار على غيره؛ لأن عروبته في هذا المنهج هي عروبة القرآن الذي يتساوى فيه المسلم والمسلم من كل جنس، وبكل لسان.
ولئن مضى الإمام المجتهد ولم يعقب برنامجه المفضل للتطبيق الشامل «العملي» في المستقبل الذي سيواجهنا عما قريب؛ لقد عمل وعلم وأعقب المثال الذي يهتدي به من عمل معه ومن تعلم على يديه، ومن يقدر على مجاراته في اجتهاده والزيادة عليه بما يتهيأ لهم من وسائلهم ولم يتهيأ له في حياته، وإنهم لكثيرون بعون الله يجزيهم الله وإياه.
الفصل الثامن
المادية تنهدم1
سئل رهط من علماء الغرب عن مصير الإنسان، فقال العالم المشهور «سير جوليان هكسلي» ما فحواه: إن أدوار التطور الكبرى قد انتهت بالنسبة إلى النوع الإنساني، إلا ما يكون منها خاصا بالدماغ والفكر، فإن النوع الإنساني لا يزال قابلا في هذه الوجهة للمزيد من التقدم والنماء، وليس المنظور أن يكون هذا التطور «عضويا حيويا» في بنية الدماغ، فإن حكم الدماغ من حيث النماء الجسدي كحكم سائر الوظائف الحيوية ... ولكن الأفكار التي تتولد من مباحث العلم والفن على الأجيال المتعاقبة تزيد محصول الإنسان من المعرفة فتزداد قدرته على التفكير الصحيح تبعا لذلك، ويحدث التجاوب بين العارفين في البيئة الواحدة فيصحح بعضهم تفكير بعض، ويأتي من تجمع الأفكار وتصحيحها ما هو منتظر للنوع الإنساني في مجموعه من تطور العقل وصحة التفكير.
والذين خالفوا السير جوليان هكسلي في تطور الدماغ من البنية الجسدية لم يخالفوه في اعتقاده أن التقدم سيأتي من معالجة التفكير، وأن مرانة الذهن على التفكير في مصاعب الحياة هي التي يرتبط بها النماء في حجم الدماغ وفي قدرته على الفهم والإدراك، ثم في تعوده أن يعمل بداهة وارتجالا ما يعمله اليوم بعد التنبه والاجتهاد.
وقرر هكسلي وموافقوه من العلماء والمفكرين الذين سئلوا عن مصير الإنسان أن هذه الآراء جميعا أبعد ما تكون عن «المادية» أو عن تلك الفلسفة التي تربط مصير الإنسان بجسده، وبالمعيشة المادية التي تعيشها الجماعة وتفرضها على عقول أفرادها.
فلا عمل للمادية في توجيه مستقبل الإنسان، وإنما هي الأفكار والعلوم مناط التقدم كله، ومناط الاتجاه - من ثم - إلى أطوار من الرقي والنماء تعلو على أطواره اليوم.
وعقب المفكرون الدينيون على هذه الآراء فوافقها الكثيرون منهم، ولكنهم قالوا: إن نجاة النوع الإنساني مما يهدده غدا لن يكون معلقا بأفكاره العلمية ولا بمباحثه في شئون الفلسفة الطبيعية؛ لأن هذا النوع الإنساني إنما يأتيه خطر الفناء من جانبين اثنين: أحدهما كوارث الكون الكبرى ولا حيلة له في دفعها بعلومه وفلسفاته، والجانب الآخر كارثة الحرب الذرية، وهي بعض آثار التقدم العلمي، ولن يكون خلاص النوع الإنساني منها على يد العلم المتقدم؛ لأنه هو مصدر الخطر ووسيلة الكارثة المرهوبة، وسلاح الحرب الشعواء التي تودي بحياة هذا النوع أو تبقي ما بقي منه في حالة كحالات الهمجية الأولى. وقد سئل أينشتين مرة: ماذا يكون سلاح الحرب العالمية الرابعة إذا كانت الذرة هي سلاح الثالثة؟ فقال جادا غاية الجد وساخرا غاية السخرية: تكون سلاحها الحجارة! يشير بذلك إلى رجعة الإنسان كرة أخرى إلى العصر الذي سبق عصر القوس والسيف، فضلا عن عصر الطيارة والصاروخ.
قال أولئك المفكرون: إن الخطر إذا كان من نفس الإنسان فلا نجاة له بعلوم العقل ومخترعات الصناعة، وإنما تكون نجاته بعلم من عالم الروح تنتفع به الضمائر والعقول.
إنما تكون نجاته بالدين، وبالإيمان الديني والعقيدة الإلهية، ولا نجاة له في غير هذا الطريق.
وكل هذه الآراء من أقوال كبار المفكرين إنما تهدم المادية باسم الفكر والمعرفة، وتعتمد على الفارق بين جانب الإنسان العقلي وجانبه الجسدي لترجيح القول باعتماده في تقدمه بعد اليوم على الناحية الفكرية منه، أو على الناحية التي تأتي من تجمع المعلومات والانتفاع بها في حياته العلمية.
ولكن الفلسفة المادية - فيما نرى - لن تنهدم من ناحية التفكير وحده، ولا من ناحية الدماغ المفكر دون النظر إلى مادة بدنه ومادة الكائنات الطبيعية من حوله، بل تنهدم الفلسفة المادية لا محالة من كل نظرة واقعية ننظرها إلى حقيقة تركيبها مستقلة عن الفكر، بل عن الدماغ وهو محمول على المادة من بعض نواحيه.
إن المادة نفسها ليس لها قوام أصيل يقاس بغير مقاييس الفكر المحض، كما تقاس الفكرة عن الروح وعن عالم التجريد والمجردات.
فقد كان العلماء وغير العلماء يقيسون المادة بالشبر أو بالشعرة وبالقصبة أو القيراط وبالمتر أو جزء من ألف من المتر، وكان هذا كله مما يوصف بالامتداد ويدخل في العقل الإنساني بقياس الامتداد في الفضاء أو الامتداد في الزمان، ولكن هذا الامتداد من ناحيته الزمنية أو المكانية يزول اليوم أمام المقاييس التي تقاس بها ذرات المادة وخلايا الحياة في تركيباتها الجسدية، ويوشك أن يعود العلم بالمقاييس جميعا إلى شيء لا امتداد له كالنقطة الهندسية التي يعرفها الرياضيون بأنها شيء لا طول له ولا عرض ولا عمق ولا اتساع ولا امتداد على الإجمال وأنها مع ذلك أساس جميع الأبعاد.
لقد وصلنا اليوم إلى القياس بوحدة الأنجستروم
Angstrom ، وهو قياس واحد على عشرة آلاف من الميكرون
Micron .
وما الميكرون بالنسبة إلى المقاييس التي تفهم بالامتداد؟
الميكرون هو جزء واحد من ألف ألف جزء من المتر الواحد.
فهناك إذن أشياء يبلغ من دقتها أن تقاس أو تحسب بحساب جزء من عشرة آلاف مليون من أجزاء المتر الواحد ...
فما الفرق في التصور بين هذا الجزء وبين المعاني الذهنية التي تدرك بالتقدير الرياضي أو التقدير الفلسفي المجرد من كل مادة محسوسة؟ إن هذا الفرق ينتهي بما نسميه «المادة» إلى نهاية لا تدرك بغير التقدير والتفكير، بل يسهل تقدير الروح والتفكير فيها بمقياس المعاني الذهنية، ويظل إدراكنا لوحدة الأنجستروم صعبا عسيرا لاختلاطه اللاحق به من عالم المحسوسات.
ويقال أيضا في الكلام عن تفجر الذرة: إن هذه الشرارة تنقدح في جزء من عدة آلاف جزء من الدقيقة، وإنها تصل بالإشعاع إلى جزء من عدة آلاف جزء من السنتيمتر بسرعة الشعاع.
فكيف يدرك هذا الجزء بحساب الامتداد الزمني أو حساب الامتداد في الفضاء؟
إن دقة واحدة تستنفد الثانية، ونحن نقسم الثواني إلى ثوالث، فلا نتصور كيف تكون الدقة بعد انقسامها إلى ستين ثالثة، فكيف نتصور الجزء من الآلاف الكثيرة بحساب هذا الامتداد؟!
وماذا بقي من الفارق بين حقيقة المادة وحقيقة الروح؟ وماذا بقي من الفرق بين نهاية عالم الخفاء ونهاية عالم الشهود على يد التجارب العلمية ولا نقول على يد السبحات الصوفية أو التجليات الروحية؟
على أن هذه الأجزاء المادية التي تحسب بالملايين لا تدرك بالبصر الإنساني حين تتجمع تحت المنظار الكبير، وإنما تدرك إذا عولجت بالأصباغ الكيمية، ثم ظهرت لونا تلمحه العين ولم تظهر بغير هذه الصورة إلا مقدورة مفروضة بعلم الحساب.
وكذلك تدرك الناسلات وتدرك الصبغيات التي سميت بهذا الاسم؛ لأن الصبغة هي الوسيلة الوحيدة التي تقرب الملايين منها إلى عالم الإدراك أو عالم المحسوسات.
وإلى هنا يمكن أن يقال: إن العالم المحسوس يشملها ما دامت الصبغة تظهر منها الملايين أو أضعاف الملايين.
ويصح هذا القول إذا كانت الصبغة تظهر لنا الخصائص التي تحتويها الناسلة الواحدة من جملة هذه الملايين.
والناسلة الواحدة لا تظهر منها خاصة واحدة للصبغة ولا للحساب؛ لأن هذه الخاصة لا تنتقل دفعة واحدة من الخلية إلى مكانها المقدور في تكوين جسم الإنسان، بل تنتقل ثم تنقسم مرة ثم تنقسم ألوف المرات، ثم تخرج منها في كل مرة صورة بعد صورة بعد مئات الصور يتولد منها في النهاية كل ما احتوته واشتملت عليه قبل هذه التقسيمات.
فالناسلة التي يتولد منها الجنين وتنشئ في النهاية لون العين أو لون الشعر أو لون البشرة، لا تنتقل بهذه الخاصة مباشرة أو على صورة واحدة، ولكنها تخرج منها خاصة بعد خاصة بعد أخرى على الترتيب الذي لا يختلف في حالة من الحالات، وتمضي الناسلات بخواصها المختلفة في حيزها الصغير فلا يختلط بينها عمل واحدة بعمل الأخرى، ولا يتيسر للنظر ولا للصبغة ولا للحساب أن يفصل في لمحة واحدة بين هذه الأحوال.
فإذا كانت الصبغة تدخل عشرات الملايين من هذه الجزيئات في عالم الحس بالمنظار الكبير، فأين من عالم الحس تلك الخاصة التي تفرقت في كل جزء من هاتيك الجزيئات التي لا ترى بالصبغة ولا بغير الصبغة!
كل ما يلزمنا لإدراك المعاني المجردة يلزمنا هنا لإدراك الناسلة بخاصتها التي كمنت فيها وراء العين ووراء الحدس ووراء الحساب.
وعلى هذه الوتيرة تنتهي المادة على أيدي الماديين في صميم علومهم التي عزلوها قديما عزل الأبد عن عالم المعنى وعالم الروح وعالم الخفاء.
ولقد صح عند الذين استخدموا المادة لنكران كل عالم غير العالم المحسوس، أن القرن التاسع عشر كان عصر الكفر بما وراء الطبيعة أو بما وراء المادة، وعصر الإيمان بالمادة دون سواها ودون ما وراءها، وأصح من ذلك أن القرن العشرين هو عصر الكفر بالمادة وعصر العودة إلى ما وراءها، وعلى أساس المقررات المادية يجوز للباحث «الطبيعي» أن يقول: لعل القرن الحادي والعشرين سينفذ بالعقول والضمائر إلى عالم الروح من خلال الذرة على شعاع من نور.
الفصل التاسع
إفلاس مذهب لا طاقة «للمادية الشيوعية» بالبقاء1
قام المذهب الشيوعي في روسيا قبل نهاية الحرب العالمية الأولى منذ اثنتين وأربعين سنة.
فكل من في روسيا اليوم من رجال ونساء ولدوا في ظل هذا المذهب، وتربوا على عقائده وآدابه، وانعزلوا منذ طفولتهم إلى أن جاوزوا سن الرشد عن كل مذهب يعارضه أو يصده عن طريقه، لا يستثنى منهم أحد غير الشيوخ الذين ناهزوا الستين وما بعدها.
فالذين بلغوا الأربعين من الرجال والنساء ولدوا بعد إعلان المذاهب بسنتين، فلم يعرفوا مذهبا غيره منذ تعلموا النطق بالحروف.
والذين بلغوا الخمسين كانوا عند قيام المذهب في الثامنة من العمر، فتعلموا القراءة في مدارسه ولم يتعلموا شيئا قبل أن يتعلموه ويعيشوا عليه.
والذين ناهزوا الستين كانوا في نحو الثامنة عشرة يوم قام المذهب الشيوعي في بلادهم، مضى عليهم ثلاث سنوات منها في الحرب العالمية، وبلغوا الأربعين فالخمسين فما فوقها وهم شيوعيون ظاهرا وباطنا، أو شيوعيون بالتعليم والتربية والمعيشة، لا يعرفون مذهبا يخالف الشيوعية ويدعو إلى عمل ينقضها.
أمة كل من فيها من رجال ونساء وشيوخ وشبان وأطفال تخضع للدعوة الشيوعية وللتربية الشيوعية، ولا تسمع شيئا يعارض الشيوعية.
فإذا قلنا: إن الثورة الشيوعية أبقت على أحد من غير أنصارها فالذين أبقت عليهم هم الآحاد المتفرقون أبناء الستين وما فوقها، لا يقدرون على مناهضة المذهب بدعوة ولا نفوذ ولا وسيلة عملية أو أدبية يحسب لها حساب.
والفرض مع هذا بعيد الاحتمال. فإن الثورة الشيوعية أعلنت منذ قيامها «أن من ليس معها فهو عليها»، وأبادت كل من توقف عن تأييدها وإن لم يكن له عمل في مقاومتها. ولكنه سواء كان فرضا بعيد الاحتمال أو مقبولا في الحسبان لا ينتهي إلى نتيجة ذات بال، وكل ما ينتهي إليه أن يكون عدد المخالفين للشيوعية في قلوبهم بضعة ألوف معزولين عن وسائل النفوذ بين الملايين من الرجال والنساء الأشداء يقودون أزمة الأعمال والآراء.
مائة وخمسون مليونا، أو يزيدون، كلهم مولودون في ظل المذهب منقطعون عن مذاهب العالم، عائشون في جوه نيفا وأربعين سنة.
تلك «وحدة مذهبية» لم يعرف لها نظير في تواريخ الأمم منذ كانت، وتلك فرصة أتيحت للثورة الشيوعية لم تتهيأ قط لحركة من حركات المبادئ والدعوات الاجتماعية، فلو كان في هذا المذهب الشيوعي صلاح للاستقرار على دعائم الحرية وضمان الحقوق، لوجب الآن أن يكون على غاية من الاستقرار والطمأنينة، وأن يكون ولاته جميعا من الكفاة القادرين على تدبيره، المخلصين في تنفيذه، الصادقين في الإيمان به والقيام على شئونه، وإلا فكم من الزمن يكفي لتخريج الكفاة المخلصين الصادقين، ومن أي المذاهب تستعيرهم الشيوعية، إن كانت لا تستطيع أن تنشئهم في مهادها بين أبناء العشرين إلى أبناء الستين؟
نعم، يجب أن تكون للمذهب اليوم حكومته الحرة المطمئنة وحكامه الكفاة المخلصون!
فهل هذا هو الواقع المشاهد في البلاد الروسية؟ هل هذا هو الواقع المشاهد في أقوال الروس أنفسهم، بل في أقوال حكام الروس أنفسهم، فضلا عن أقوال الأعداء والمعارضين؟
كلا، ليس هذا هو الواقع المشاهد كما يصفه حكام الروس، ولا يفرغون من وصفه وإعادة وصفه منذ عهد ستالين إلى عهد خروشيف الأول والأخير.
ستالين قضى على المئات والألوف بتهمة الخيانة والغدر بالشعب والعدوان على مصالحه وشريعة حكمه، وخليفته خروشيف يقول إنه كان ظالما عاتيا سفاحا يخوض في دماء الأبرياء ويفتري الكذب على خدام الأمة الأمناء، ولكن خليفته هذا لم يلبث أن صنع بشركائه في الحكم مثل صنيع ستالين، ولم يزل يقتل وينفي ويعزل ويلقي تهم الخيانة على زملائه وأعوانه قبل أن يفرغ من حملته على السياسة التي سماها سياسة البغي والإجرام والتلفيق والافتراء.
أعادل زعيمه ستالين أم ظالم؟ وصادق خليفته أم كاذب؟
كلا الأمرين سواء.
إن كان ستالين عادلا، فهناك ألوف من رؤساء الشيوعية خونة أنذال مفسدون.
وإن كان ستالين ظالما، فهناك حكومة تتولى أمور البلاد على سنة الإرهاب والغش والتضليل.
أما خروشيف فصدقه طامة وكذبه طامتان، ومحاكاته لستالين بعد الحملة عليه دليل عجيب في تأصل الشر على أركان الدولة إلى أعمق الجذور.
إن صدق هذا الرجل يدمغ المذهب الشيوعي في أساس تكوينه؛ لأنه يرينا أن الحكم الشيوعي يخول الحاكم المستبد طغيانا لم يخوله أعتى القياصرة في أظلم عصور الظلم والاستغلال.
وأشد من ذلك أن يكون كاذبا على زعيم وعلى أمة وعلى حكومة كاملة ولا يفتضح له كذب ولا يمتنع عليه بعد ذلك أن يتمادى في السياسة التي أنكرها كاذبا على جميع هؤلاء.
وعلى أي وجه من الوجوه لا مفر من الجزم بأن الشيوعية أفلست في سياسة مجتمعها غاية الإفلاس الذي يصاب به مذهب مجعول لسياسة المجتمعات، وأن الشيوعيين في بلاد كلها شيوعيون لا يقدرون بعد أربعين سنة أن يجدوا للحكم إلا باغيا كاذبا سفاحا، بين قائم منهم بالأمر أو معزول، وأن نظام الشيوعية من أساسه شر من كل نظام عرف في ظل الاستبداد ورأس المال؛ لأنه لا يأبى أن تتولاه أداة حكومية قائمة على الإرهاب والتضليل، يتأتى فيها للحاكم الفرد ما ليس يتأتى من قبل لأمثال نيرون وجنكيزخان.
هذا هو الواقع الذي تبديه لنا أعمال الحاكمين في روسيا وأقوالهم، ولا حاجة به إلى رأي يقول به عدو أو ناقد من بعيد.
مذهب قامت على قواعده أمة كاملة من الرضيع إلى الشيخ الذي جاوز الخمسين، ولم يزل حكامه بين خونة وظلمة، ولم يزل في وسع الإرهاب والتضليل أن يتيح لحاكمه المطلق أن يجني على الأرواح والأعراض والأرزاق كما يشاء.
ومن الواضح أن التضليل هنا يستند إلى الإرهاب ولا يقوم على براعة الحيلة التي تجوز على غير المضطر للخضوع. فإن دعواهم - ظالمين ومظلومين - على السواء أظهر من أن يقبلها سامع بريء من الخوف أو التغفيل.
وليس هذا هو الواقع الذي تنكشف عنه نتائج الحكم في صميم البلاد الروسية وحدها، بل هو الواقع في كل مكان بسطت عليه روسيا شيئا من نفوذها وحسبته بين ملحقاتها. ونظرة عاجلة على المستعمرات الروسية، وأشباه المستعمرات الروسية ترينا أنهم لا يبسطون نفوذهم على بلد يفصلهم منه حاجز من الحواجز الجغرافية. فكل مستعمراتهم وأشباه مستعمراتهم؛ آسيا وأوروبا، تقع من بلادهم على مد الذراع من قوة الإرهاب المسلح، ولم يستطيعوا بالتضليل وحده أن يستغنوا عن الإرهاب المسلح أو الجاسوسية المسلحة؛ ولهذا تمكن «تيتو» في يوغسلافيا من الخروج عليهم والاستخفاف بأنظمتهم وتعليماتهم، فتحداهم وأفلح في تحديهم، وهو يدين مع هذا بمذهب من المذاهب الاشتراكية!
وكلما استطاع هؤلاء الشيوعيون أعداء الاستعمار والاستغلال - كما يقولون - أن يخضعوا بلدا غريبا بقوة السلاح، حكموا فيه القمع والإرهاب تحكيما لا يستبيحه شر المستعمرين في القرون الغابرة ولا في هذا القرن العشرين، فالبلاد التي دخلها المستعمرون تعاني من عسفهم ما يثيرها عليهم للمقاومة والانتقاض، ولكنها على أية حال تقاوم ويسمع لها صوت وتذاع لها في العالم قضية. أما حيث نزل الروس فلا بقية بعد السيف للمقاومة والانتقاض، وخطتهم هنالك للمحق والإبادة لن تكون أرحم من خطتهم في صميم بلادهم. أين بلجانين؟ أين بريا؟ أين ملنكوف؟ أين مولوتوف؟ أين قبل هؤلاء مئات ومئات من الأنداد والنظراء، وممن تخشى محاسبتهم أو مقاومتهم في وقت من الأوقات؟ إن الحاكم الذي يزيل هؤلاء عن طريقه في وضح النهار لن يترك في بلاد المغلوبين رأسا يرتفع للحساب والمقاومة، ولن يدع فيها أحدا يهم بالحركة أو يقدر عليها إن هم بها.
غول من الوحشية والشيطانية تبلى به الأمم في هذا الزمن، ولا سلامة لها منه إلا بالقضاء عليه، وتلك هي «تصفية الختام» للمذهب الذي ملك أمة فلم يقدر على حكمها بغير الإرهاب والتضليل، ويريد أن يحكم الأمم جميعا - والعياذ بالله - على هذا المنوال.
الفصل العاشر
تحدي الإله ومعناه1
من أنباء الملاحدة الماركسيين أن أحدهم وقف في إحدى محطات الإذاعة فنادى «الله»: إنه ليتحداه إن كان موجودا لينسفن هذا البلد وليمحون تلك الدولة، أو فليعلم الناس جميعا أنه خرافة ليس لها وجود.
إن هذا الملحد المتحدي لا يفهم ما يفهمه الناس من كلامه بغير حاجة إلى التأويل الطويل.
إنهم يفهمون منه مبلغ ما يدركه الملحد الماركسي من معنى الربوبية ومعنى القدرة ومعنى «السلطة» على التعميم.
فهو لا يفهم من تحديه الإله على هذا الوجه إلا أن الإلهية سلطة غاشمة يثيرها التحدي، فلا يسعها إلا أن تظهر قدرتها أو تنزل عن كل حق في إثبات وجودها.
فهذا الملحد الماركسي لا يعقل أن يوجد الإله ويقدر على كل شيء ثم يترك من يتحداه سليما بعد ذلك طرفة عين، دون أن ينكل به ويعجل برد تحديه إليه.
وما الذي يمنع السلطة الغاشمة أن تبطش بمن ينكرها؟
لا يمنعها عنده إلا مانع واحد، وهو أنها كما قال ذلك الملحد الماركسي خرافة ليس لها وجود.
هذا هو الفهم الوحيد الذي يفهمه لمعنى الإلهية من يفوه بذلك التحدي على مسمع من العالم، وهو يحسب أنه قد أفحم به من يؤمنون بالله.
وإلا فكيف يفوه بذلك التحدي عاقل يفهم أن الإلهية «سلطة» لها نظام ولها حكمة ولها مشيئة تتبعها ولا تنحرف عنها لاستثارة أو استرضاء؟
من كان يؤمن بأن الإلهية سلطة لها نظامها وحكمتها فمن اليسير عليه أن يعلم أنه لا يهزها بتحديه فيخرجها من ذلك النظام ويذهلها عن تلك الحكمة.
وقد يسع الطفل الصغير أن يكف عن مثل هذا التحدي لأبيه إذا عرف له صفة من صفات العقل والحكمة، فليس بالطفل الذكي من يقول لأبيه: إن كان لك قدرة اضرب فلانا حتى يهلك أو انهض بهذا الحمل حتى آذن لك بإلقائه!
فمن اليسير على الطفل الذكي أن يدرك أن أباه خليق ألا يجيب هذا التحدي على هواه، ولا ينفي ذلك عنه أنه ذو قدوة وأنه يستطيع أن يهلك فلانا وأن ينهض بالحمل المقصود إذا أراد.
فالملحد الماركسي أسخف من الطفل حين يخطر له أن يتحدى إلها حكيما يضع الأشياء في مواضعها كما يقدرها، فيزعم أنه «غير موجود»؛ لأنه لو كان موجودا لأبطل تلك الحكمة وأوقع الخلل في ملكه، خوفا من الريب في وجوده، وفرارا من الملحدين أو المؤمنين أن يظنوا به الظنون.
ومن كان يفهم الإلهية على أنها سلطة رشيدة فلن يتحداها أن تفعل غير ما أرادت أن تفعله منذ الأزل، وغير ما تريد أن تفعله إلى آخر الزمان؛ لأنه إذا استطاع بكلمة من كلمات التحدي والاستثارة أن يغير ما تأبى تغييره، فذلك هو البرهان الذي ينفي وجودها أو ينفي حكمتها على أقرب الفروض.
فلو شاء الله أن ينكشف وجوده للفكر والضمير كما تنكشف الأشياء لجميع الأبصار، لفعل ذلك بإرادته منذ وجدت الأفكار والضمائر والأبصار، ولم ينتظر حتى يفعله منقادا للخوف من الاتهام أو طمعا في التملق والثناء.
ولقد يحق للملحد الماركسي أن يسأل في هذا المقام: ولم لا يشاء؟ ولم يترك الناس ينكرون ويثبتون أو يبحثون ويرتابون؟ ولم لا يكشف لنا جميعا حقيقة وجوده على نحو يبطل فيه الخلاف وتزول الفوارق ويمتنع الشك والضلال؟
إن هذه الأسئلة أقرب إلى العقل من ذلك التحدي الأحمق الذي يثبت حماقة صاحبه ولا ينفي حكمة الإله.
ولكنها أسئلة لا تحتمل اللجاجة فيها بعد قليل من التبصر والروية، بل بعد قليل من التصور إذا استطاع السائلون أن يتصوروا كيف يكون هذا الإيمان، وكيف تكون الضمائر التي تهتدي إليه.
إنها لا تكون إلا كما تكون الآلات أو كما تكون العجماوات.
إن العلم بوجود الله كما نعلم بوجود المنظورات بالعين يلغي الضمائر والعقول، ويبطل جهود النفس الإنسانية في امتحان الخير والشر والهداية والضلال.
والمعرفة بحاسة البصر معرفة يتساوى فيها الإدراك كما يتساوى إدراك الآلة وإدراك الحيوان، فهل هذه هي المعرفة التي تليق بالإنسان المسئول عن ضميره، الباحث عن هدايته المترقي بسعيه واجتهاده؟ وهل يطلبون أن يتساوى الناس في مدركات الضمير وحدها ، أو يطلبون أن يتساووا في مدركات الحواس وملكات الأجسام والأفهام ومقادير الأعمار والأيام؟ وهل هذا العالم الإنساني الذي يتألف من نسخة واحدة متكررة هو عندهم عالم المثال المنشود، وهو العالم الذي تثبت به حكمة الله ووجوده ويستقيم عليه أمر الوجود؟
إن أهون ذرة من التراب لا تعطينا حقيقتها الكاملة في لمحة عين، ولا نستغني في عرفانها والانتفاع بها عن جهود العمل والتفكير والتحليل لندرك منها بعض ما يدرك ولا نقول كل ما يدرك؛ لأننا نجهل كنه الذرة الترابية وغير الترابية حتى الآن، ولعلنا سنجهل هذا الكنه في قراره ومداه إلى أن يشاء الله.
ويحدث هذا ولا يرى فيه الملحدون الماركسيون عجبا منكرا ولا شذوذا عن الوضع الصحيح والرأي السديد، بل يقيسون التقدم الذي يدعونه بمقدار ما حصلوه ويحصلونه من هذه الحقائق ولو كانت معلقة بأهون الأشياء.
وإن الشمس على جلائها لتخفى عليهم الآن بعد أن خفيت على الأقدمين دهورا بعد دهور، ولقد كانوا يحسبونها كقرص الغربال فأصبحوا يعرفون اليوم أنها أكبر من الأرض والقمر والسيارات، وكانوا يحسبونها تدور فأصبحوا يعلمون أن الأرض هي التي تدور، وكانوا يجهلون سرعتها ومسافاتها فأصبحوا يعلمون الآن كم هي بالدقائق وكم هي بالأميال.
إلا أنهم لا يزالون يجهلون منها أضعاف ما عرفوه، ولا يزالون يبحثون عن مصدر حرارتها فيخلطون بين النقيضين ويزعمون مرة أنه من تكوين العناصر، ومرة أخرى أنه من تفتيت العناصر وانشقاقها، ولا يدرون على التحقيق هل يندفع اللهب من باطنها إلى ظاهرها أو يرتد من ظاهرها إلى جوفها، ولا يستغربون من نظام الكون أن تكون شمسه الساطعة بهذا الخفاء، وأن تحار فيها العقول هذه الحيرة، وهي أم الضياء!
فما بالهم يريدون من الحقيقة الإلهية أن تكون أقرب منالا من حقائق هذه الكائنات التي لا يدعون لها عظمة الربوبية ولا جلالة الأبدية!
وما بالهم ينتظرون من حقيقة الحقائق أن تحيط بها لمحة عين، ويستنكرون السعي إلى غاية الحقائق من متناول السماع والأبصار!
إن العلم بوجود الله مطلوب، ولكنه علم لا قيمة له إذا كان يلغي العقول ويعطل الضمائر ويبذل لمخلوق لا فضل له في إدراك أقرب الحقائق وأبعدها على الآلة والحيوان.
وقبل أن ينتقد الناقد ما ينتقده من هذه العظائم الجلى، عليه أن يتعلم كيف يقترح وكيف يصحح ما ينتقده ولا يرتضيه.
إن بحث العقول والضمائر عن الله منتقد عندهم وغير مفهوم.
فلنقل ما يقولون هنيهة نسألهم: وما هو المفهوم المنزه عن الانتقاد؟ أهو إدراك الله بغير بحث؟ أو الاستغناء عن البحث في أمر الله وحده أو في جميع الأمور؟ وهل عندهم أن الإله الموجود الحكيم هو الإله الذي تقاد مخلوقاته الكبرى أو الصغرى بحبال الغريزة على غير فهم ولا محاولة ولا تمييز بين ما يظهر وما يخفى، وبين ما يكبر وما يصغر، وبين ما تتصرف فيه المدارك وما يسلبها التصرف والاختيار؟
أهذا عندهم هو الإله الموجود الحكيم؟ تعالى الله عما يصفون!
فما من شيء هو أثبت لوجود الله من تنزيه مخلوقاته عن هذا العطل في العقول والضمائر، وما نتحداهم أن يؤمنوا وهم غير أهل للإيمان، وإنما نتحداهم أن يتصوروا إلها حقيقا بالعبادة على الصورة المرتضاة لديهم، فإنهم ليعلمون إذن راغمين أن الإله الذي لا يستحق البحث هو الإله الذي يأباه العقل السليم، وأن الإله الذي نبحث عنه لهو الإله الموجود.
الفصل الحادي عشر
رماد ولا نار1
يقول الشيوعيون: إنهم كفروا بالأديان لأنهم درسوا التاريخ وفسروه، ودرسوا الأديان وعرفوا خباياها.
فإذا ثبت من كلامهم أنهم لم يدرسوا التاريخ ولم يدرسوا الأديان، فالأمر الذي لا شك فيه إذن أنهم أناس مأجورون مسخرون، وأنهم من أخس طغام الأجراء؛ لأنهم لا يبالون قداسة الدين ولا شناعة الكفر في سبيل المال الحرام.
وقد نشر بعض اللصقاء بالإسلام في العراق رسالتهم التي سموها «بالرسالة الرمادية» وترجموها - أو ترجمت لهم - من لغة أجنبية، فثبت منها أنهم أجهل خلق الله بتاريخ بلادهم وما جاورها فضلا عن تواريخ الأمم الأخرى، وثبت منها إلى جانب هذا أنهم لا يعرفون شيئا عن تاريخ مكة وتاريخ النبي عليه السلام؛ لأنهم يذكرون «اللخميديين» ولا يعرفون أنهم اللخميون أقرب العرب الأقدمين إلى وادي النهرين، ويذكرون قبيلة «السقيف» وهي ثقيف قبيلة الحجاج الثقفي أشهر من حكم العراق، ويذكرون القريشيين ولا يوجد إنسان على شيء من الاطلاع على تاريخ مكة وتاريخ بيت النبي فيها يجهل من هم القرشيون أو ينسبهم تلك النسبة التي تنم عن جهل باللغة كالجهل بالتاريخ.
أهؤلاء مسلمون درسوا تاريخ دينهم فأنكروه وبعد أن عرفوا خباياه، أم هم أذناب فتنة مسخرون يهرفون بما لا يعرفون، ويقترفون الكفر البواح وهم لا يبالون ما يفعلون؟
لا حاجة إلى البحث عن التاريخ للعلم بحقيقة هذا الكفر وحقيقة هذه الدعوة، فإن الحقيقة التي ينطق بها كل حرف من حروف الرسالة «الرمادية» أنهم «كفار للبيع» ... دراهم معدودات من كل باذل مال، ولا بد أن يكون بيعا رخيصا وصفقة خاسرة؛ لأنها صفقة جهل يصطفق عليها جهلاء.
وفيما يلي أمثلة شتى تدل على أن هؤلاء «الباحثين العلميين التقدميين العارفين بالتاريخ والدين» لم يطلعوا على كتاب الإسلام، ولم يكلفوا أنفسهم مداراة جهلهم بالرجوع إليه بعد وصول الرسالة الرمادية إلى أيديهم، لأن المهم في الأمر أن تصل النقود إلى تلك الأيدي وعلى الدين والدنيا بعدها العفاء!
يقول الرماديون: «واحتفظ الإسلام أيضا بعبادة الأرواح والجن في حين أن أسماء الآلهة القديمة أصبحت نعوتا لله. وهكذا أصبح اسم الإله رحمانا الذي كانت تمارس طقوسه قبل أن ينشر مسيلمة تعاليم الحنفيين في مكة ويثرب واليمن.»
هكذا يقال بكل ثقة الجاهل المكابر، ولو كلف أصحاب هذا المقال أنفسهم نظرة فيما جاء من القرآن الكريم عن الجن لقرءوا فيه من سورة الأنعام:
وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون ، وقرءوا فيه من سورة الصافات:
وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون * سبحان الله عما يصفون .
ولم يقرءوا فيه كلمة واحدة عن الجن توجب لهم عبادة أو رعاية في أعناق المسلمين.
أما تعاليم «الحنفيين» كما قالوا فمتى نشرها مسيلمة في مكة والمدينة؟ ومتى دان المكيون باسم الرحمان وقد اعترضوا في صلح الحديبية على ابتداء الكلام باسمه، ولم يقبلوا البسملة في مفتتح الكلام؟
ومن هو هذا الإله صاحب الطقوس والشعائر التي استعارها النبي
صلى الله عليه وسلم
من اليمانيين؟ أكانت هذه الطقوس والشعائر عبادة وحدانية كالتي جاء بها الإسلام؟ فمن هو النبي الذي جاء بها إلى أهل اليمن، ولماذا أحجم هؤلاء عن الدعوة الإسلامية التي استعيرت منهم وجاءتهم باسم ربهم المعبود فيهم؟
أم ترى كان «الرحمان» صفة مستعارة من اليمن، فمن أين يا ترى استعيرت صفات الله التي جاوزت التسعين؟
كل ما في هذه الأسطورة أنها تخريفة من تخريفات اثنين من المستشرقين موردتمان ومولر
Mordtman and Muller
يفهمان الأسماء العربية كما فهم بعضهم اسم أبي بكر رضي الله عنه فقال: إنه سمي بذلك لأنه كان والد الفتاة البكر التي بنى بها النبي
صلى الله عليه وسلم ! أو كما فهم بعضهم اسم الصعيد فقال إنه سمي بذلك لأنه مصر «السعيدة»؛ أي
Egypt Felix ، أو كما فهم بعضهم معنى القصيدة فقال: إنها سميت بذلك لأنها معنى مقصود!
هذان المخرفان خلطا في قصة سخيفة عن البسملة، يدعي رودويل
Rodwel
مترجم القرآن أنه فهمها من دراسته للكتاب وفهم - من ثم - لماذا بدئت السور ب «بسم الله الرحمن الرحيم»، ثم عدل النبي عن ابتداء السور بها في أخريات أيامه، فقال رودويل هذا في هامش الصفحة الحادية والسبعين بعد المائة من ترجمته: «إن الكفار سمعوا محمدا يبتهل قائلا: يا الله يا رحمن. فحسبوا أنه يدعو إلهين اثنين، ولما سقط هذا الابتداء من سور القرآن الأخيرة أصبح مفهوما أن محمدا كان يريد أن يقرن اسم الرحمن باسم الله، ثم خشي أن يحسبهما الناس إلهين اثنين فأمسك بعد ذلك عن ذكر الرحمن.»
ثم قال رودويل: «إن الحميريين كانوا يصفون أربابهم بهذا الاسم، ولكن جذور هذه الكلمة غير موجودة في اللغة الحبشية.»
أرأيت دراسة التاريخ؟ أرأيت دراسة الدين؟ أرأيت التحقيق العلمي التقدمي الذي يخرج المؤمن من دينيه ويذهل الموقن عن يقينه؟
إن محمدا قد ترك البسملة وأسقطها من السور الأخيرة لأنه خاف من اسم الرحمن المستعار أن يشارك اسم الله في عبادات المسلمين، فما هي السور الأخيرة التي سقط منها اسم الرحمن؟ وكم سورة هي؟ ولماذا لم يحذف هذا الاسم من بقية السور التي بدئت بالبسملة، ولم تزل مقروءة محفوظة في حياة النبي وبعد وفاته صلوات الله عليه؟
إن العلامة اللبيب مترجم القرآن ودارس اللغات العاربة والمستعربة قد فهم كل هذا من ورود سورة واحدة هي سورة التوبة بغير بسملة، وسببه كما يعلم كل مطلع على الكتاب أن النبي
صلى الله عليه وسلم
لم يأمر بها، وقال ابن عباس رضي الله عنه: «إن البسملة فيها رحمة وأمان، وهذه نزلت لرفع الرحمة والأمان عن المشركين.» فلما نزلت ولم يسمع المسلمون البسملة في مستهلها تحرجوا من وضعها، وحسب بعضهم أنها مكملة لسورة الأنفال كما هو معلوم.
ومثل هذا التحرج البالغ في إثبات كلمات الكتاب المبين خليق أن يعلم المفترين أنه كتاب لا يزاد فيه حرف لم يسمع في موضعه، ولو سمع مثله في كل سورة، ولكن الافتراء أسهل شيء على هؤلاء الجهلاء المضللين، فلا حرج عندهم بعد علمهم بهذه الأمانة الإسلامية في نقل القرآن أن يهذروا في كراستهم الرمادية قائلين: «إن هذا الكتاب يحتوي على 114 فصلا بأطوال مختلفة، ألف في عهد الخلفاء، فقد وجدت حتى في القرن التاسع أو العاشر نسخ من هذا الكتاب تختلف عن النسخة الشرعية ... ولم يستطع مؤلفو القرآن إخفاء تلك الاعتراضات بل اكتفوا بحذف بعض الكلمات غير المقبولة.»
ولا أدل على سهولة التهجم عند هؤلاء الناس من علمهم بهذا الحذر الشديد في جمع آيات القرآن، ثم ادعائهم أن الخلفاء يجترئون على تأليفه وأن المسلمين ظلوا إلى القرن العاشر للهجرة ينقحونه ويحذفون منه ويضيفون إليه، فلو كان لهم ذرة من التحقيق التاريخي الذي يزعمونه لما أقدموا على هذه الدعوى بغير سند من الواقع يثبتونه ويثبتون حجته والبينة عليه، وأقل ما ينبغي من السند الصحيح في مثل هذه الدعوى أن يكونوا على علم باسم الخليفة الذي اشترك في التأليف المزعوم، وعلى علم بنص الآية التي مسها التنقيح مع موجباته ودواعيه، أو مع بيان الوسائل التي استطاع بها الخليفة «المؤلف» أن يخفي الأمر على قراء الكتاب المتداول في أيدي الملايين والمحفوظ في صدور الألوف. فأين هو هذا السند؟ وأي سند أقل منه يكفي للاجتراء على تلك الفرية بتلك الثقة؟
ومن سوء النية والإصرار على الاتهام والتخبط في التهم بين المتناقضات أن هؤلاء الناس الرماديين يعلنون أن القرآن الكريم غير قاطع في تحريم الربا ولا يسألون أنفسهم ولا يخطر لهم أن أحدا سيسألهم: وكيف يكون النص على تحريم أمر من الأمور إذا كانت نصوص القرآن في أمر الربا غير قاطعة في تحريمه؟
فالآيات القرآنية التي يعلقون عليها تقول:
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين * فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون .
فكيف تراهم يكتبون نص التحريم ليكون النص قاطعا فيه؟
إنهم يقولون في كراستهم: «إن بعض آيات القرآن تحرم المراباة حماية للفقراء والمحتاجين، وكان ذلك جزءا من سياسة الأنبياء لجلب رضى الفقراء. وتعتبر السياسة ناقصة، فما الفائدة من تحريم المراباة عند وجود الآية:
وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون [البقرة: 279].»
وتعجب حين تقرأ هذا التعليق فلا تدري ماذا فهموا منه؟ هل يفهم منه أحد أن القرآن يبيح الربا لأنه يزجر من يأخذه ولا يبيح له غير أخذ الدين من مدينه بغير زيادة؟ أهذا هو النص الذي يبطل فائدة التحريم؟ فما هو النص الذي يفيد فيه؟
ولا يخفى تخبط القوم في الاتهام بكل وسيلة، بل في الاتهام بالحجة ونقيضها في وقت واحد.
فهل جاء الإسلام من إقطاعيين يحافظون على مصالح الاستغلال والمراباة بالأموال؟
هل جاء الإسلام من هؤلاء أو هو قد جاء من الفقراء والمحتاجين ليرضيهم ويغضب المرابين والمستغلين؟
ينبغي أن يكون قد جاء من هؤلاء ومن هؤلاء في وقت واحد، وأن يكون الاتهام قائما على كل حال، ولا لزوم للدليل في أية حال، بل لا لزوم للالتفاف إلى التناقض بين الدليلين، لأن الالتفاف إلى تناقضهما يسقط الاتهام، وماذا يصنع القوم بغير اتهام كيفما كان، ببرهان أو بلا برهان؟
ويوشك القوم أن يلحقوا بالقرآن كل خبر من أخبار الدول الإسلامية يدخل في شعائر الدين أو ينسب إلى ذي شأن أو غير ذي شأن من المسلمين.
قالوا عن ثروة الخلفاء: «إنها لم تقتصر على المال فحسب، بل شملت بعض المخلفات الثمينة كالسيف والعصا والعباءة التي قيل إنها كانت تعود إلى النبي محمد. وقد أثبت تحقيق علماء البرجوازيين أن تلك المخلفات كانت مزورة. فقد ذكر «بيريت» في كتابه «الإسلام» في صحيفة 14 مجلد 17 نشر في برلين سنة 1928 بأن الأدلة تجعلنا نشك في صحة الأسطورة القائلة بإعطاء الرسول لعباءته إلى الشاعر كياجو بن ذكير، والتي كانت الأساس لاعتبار الإسلام لتلك العباءة إحدى الذخائر، ولا يوجد في أي من المراجع القديمة حتى في كتاب ابن هشام كلمة واحدة عن إعطاء العباءة أو تقديسها، ولم تذكر هنا شيئا عن المضاربات التي دارت حول هذه الذخيرة. فقد بيعت عباءة الرسول عدة مرات بربح، وعرضت للجمهور بعد احتراقها في بغداد على يد المغول سنة 1258م في مسجد العبادة المقدسة في إسطنبول، وليست أسطورة هذه العباءة بفريدة بين غيرها من الطلاسم والدكاكير في الإسلام وفي غيره من الأديان الأخرى.»
فالذين نشروا هذه الكراسة الرمادية من اللصقاء بالإسلام في العراق يجهلون اسم كعب بن زهير الشاعر المشهور، وينقلونه في مصادرهم المحققة باسم «كياجو بن ذكير» ويدلون بذلك حقا على أنهم غربلوا التاريخ، وفسروه، ونفذوا إلى أسراره ومضامينه، ولم ينكروا الدين إلا لأنهم فهموه حق فهمه من هذه الدراسة التاريخية على أوفاها!
وهؤلاء هم الذين عرفوا تاريخ النبي
صلى الله عليه وسلم
وعرفوا كل ما روي عنه من الحقائق والأباطيل، فعرفوا من بينها شاعرا لم يخلقه الله يسمى كياجو بن ذكير، وعرفوا بعلمهم الزاخر أنه اسم عربي يتسمى به العرب في صدر الإسلام.
وهؤلاء هم أصحاب الإلحاد المفسرون الماديون للتاريخ ولا شيء عندهم غير المادة والتاريخ.
فإذا صح كل ما قالوه ونشروه عن هذا «الكياجو» العربي فما هو ذنب الإسلام؟ وما هو ذنب النبي
صلى الله عليه وسلم ؟ وما هو ذنب المؤرخين أو ذنب، مؤرخ النبي، ابن هشام؟
بردة قيل إن النبي خلعها على شاعر معلوم أو مجهول، ولم يقدسها النبي ولا جاء في كتب دينية أنها من المقدسات أو المحفوظات للتقديس والتبريك. فماذا في وجود هذه البردة من مطعن في الكتاب أو في السنة أو في شرائع المسلمين؟
وإذا ظهر أحد - مثلا - بخطاب صحيح أو مدسوس على كارل ماركس فتغالى به أتباعه وتوارثته المتاحف بأثمانه وما فوق أثمانه، فماذا في ذلك من التنفنيد للمادية والماديين ومن البرهان المتين على بطلان هذا الدين؟ وما الذي يوجب على المؤمنين بالمادية الاقتصادية أن يدحضوا هذه الإشاعة الشيوعية أو البرجوازية؟
كان للنبي
صلى الله عليه وسلم
بردة خلعها على شاعر. لم يكن للنبي
صلى الله عليه وسلم
بردة خلعها على شاعر.
كان بعض الناس يصدقون في هذه الرواية أو يكذبون فيها، وكانوا يستغلونها على الحالين فيحسنون أو يسيئون استغلالها.
على كل فرض من هذه الفروض، وماذا فيها جميعا من النقد العلمي الذي يتحراه طلاب الحقيقة عن دعوة الإسلام؟ بل ماذا يصنع الشيوعيون اليوم في متاحفهم التاريخية إذا عرض عليهم أثر من تلك الآثار النبوية للشراء؟ أليس في متاحفهم ما يشترى لقيمته الأثرية بالمال الطائل والجهد الجهيد؟ أليس الضريح الذي شيدوه للزعيم لينين تراثا له تكاليفه وله حجاجه وطلاب البركة لديه؟ أليس في متاحف العلوم المادية حول الكرة الأرضية مخلفات وموروثات تحسب أثمانها بالألوف والمئات، وتفتح أبوابها كل يوم للزائرين والزائرات والمعجبين والمعجبات؟ فلماذا يضنون بشرف كهذا الشرف أو بخير كهذا الخير على المسكين «كياجو بن ذكير»؟
أما إنه لشاعر بليغ هذا الكياجو الذي لا هو في الأحياء ولا في الأموات.
إنه لشاعر يكفي اسمه المختلق لتمزيق الكراسة الرمادية على رءوس ناشريها، وإظهارهم بحقيقتهم التي يكتمونها وإن لم يجهلوها.
حقيقتهم أنهم تجار في سوق الجهل والضلال يبيعون جهلهم لمن هو أجهل منهم، لأنه يشتريه بالمال، وهو عندهم رب الأرباب وموئل الآمال.
الفصل الثاني عشر
الإنسانية من ماضيها إلى مصيرها1
ماضي الإنسانية مسافة شاسعة، بعيدة الآماد والأطراف، سواء حسبناها بالأيام، أو بالأماكن، أو بالأنفس، أو بالأوراق المكتوبة عنها، لن يكون الحساب إلا بالملايين وأضعاف الملايين.
ولكننا نحسب مع هذا أنها، على اتساعها وامتدادها، قابلة للتلخيص في سطرين، إذا كان لها معنى.
فإذا كانت حياة الإنسانية عبثا، ولم يكن لها وجهة ولا نظام، فذلك مما يقال في سطر واحد.
وإذا كانت ذات وجهة منتظمة فهذه الوجهة تتلخص في فكرة كبيرة، وهذه الفكرة الكبيرة توضع في كلمات معدودات، ولو بالعنوان.
هذه المحاولة هي التي حاولها عالم من أكبر علماء التاريخ في زماننا، إن لم يكن من أكبر علمائه في جميع الأزمنة، وهو الأستاذ «أرنولدتوينبي» صاحب الكتاب المشهور ب «دراسة في التاريخ».
بدأ المؤلف العلامة تأليف هذا الكتاب في سنة ألف وتسعمائة وإحدى وعشرين، بعد نشوب الحرب العالمية الأولى بسنتين، وأتمه وأصدر آخر أجزائه قبل ختام السنة الماضية، فانقضى عليه في تأليفه ثلث قرن كامل، وتم الكتاب كله في عشرة أجزاء لا تقل صفحاتها عن سبعة آلاف صفحة، ولم ينته من أجزائه الأخيرة حتى بدا له أن يعيد النظر في بعض الآراء التي ظهرت في الأجزاء الأولى، ولكن المهمة شاقة والتكاليف كثيرة. فتبرع له بعض المعاهد العلمية بالنفقة اللازمة للسياحة في مواطن الحضارات الدائرة والإقامة حيث تلزم الإقامة زمنا بين آثار المكسيك والشرقين الأقصى والأدنى، ولا تنتهي هذه السياحات التاريخية قبل سنتين من ظهور آخر جزء في الكتاب.
مجهود من مجهودات الجبابرة، وعلم واسع يؤهل صاحبه للحكم على دلالة التاريخ الإنساني من مبتدئه إلى عصره الحاضر، أو يؤهله لاستخراج الوجهة المرتسمة من حوادث التاريخ، ثم استخراج الفكرة التي تتجلى فيه عصرا بعد عصر وحضارة بعد حضارة ونزاعا بعد نزاع وسلاما بعد سلام، وهذا هو الذي سميناه تلخيص التاريخ الإنساني في سطر أو سطرين. فما هي الفكرة التي يلخصها السطر والسطران في رأي هذا المؤرخ الكبير؟ ما هو الرأي الذي يراه في تاريخ الإنسانية أحق علماء التاريخ بإبداء هذا الرأي في القرن العشرين؟
خلاصة هذا الرأي سطر واحد وهو «أن التاريخ هو طريق الإنسانية إلى الله».
هذا هو الإجمال الذي شرحه المؤرخ الكبير في سبعة آلاف صفحة، وقرر في ذلك الشرح أن تواريخ الأمم والحضارات والعقائد والأخلاق لا معنى لها إن لم يكن معناها هداية النفس الإنسانية إلى حرية الضمير برعاية الإله.
فكل أمة، وكل حضارة، وكل عقيدة فإنما تأتي لترفع في الطريق مصباحا صغيرا أو كبيرا ينير الطريق وينير ساحة الكون كله للعلم بحقائق الوجود، أو للعلم بحقيقة الحقائق وهي مصدر الخلق والتدبير في الوجود.
ومن تقريرات المؤرخ الكبير أن الإنسان قد يصطنع الأعمال والحرف ويخلق العلوم والمعارف، ولكنه لا يخلق عقيدته الدينية بل تأتيه العقيدة مفروضة على سريرته وشعوره، قابلة للبحث في بعض جوانبها غير قابلة لشيء سوى التسليم في جوانبها الكبرى، ولهذا تسخره العقيدة ولا يسخرها كما يهوى، وإن خيل إليه أنه يعمل في تسخيرها بهواه.
وضرب المثل لذلك بعقيدة الإسلام: أراد الفرس الذين دخلوا الإسلام أن يستخدموها في إحياء القومية الفارسية، فاستخدمتهم هي في توطيدها ودراسة معارفها، وجاء المغول إلى بلادها من أقصى الشرق ليقيموا «سلطتهم» على أركانها، فأصبحوا حراسا لتلك الأركان، ولا يتأتى تسخير عقيدة ما إلا إذا غلبتها عقيدة أقوى منها وأحق بالعمل في تاريخ الإنسانية، فليس أقوى من الإيمان على تسيير الإنسان والارتقاء به على معارج الحضارة في طريقه إلى الله.
وعند العلامة «توينبي» أن هذه «المهمة» الأبدية مهمة «تعاون» بين الحضارات والعقائد، يؤدي كل منها بعض الواجب لتحقيق الواجب كله في النهاية، ولكن هذا الواجب يكبر مع الزمن كلما كبر الإنسان، فلا يزال الإنسان في سعي متواصل، ولا يزال متطلعا إلى الكمال.
وستأتي القرون بعد القرن العشرين فلا تذكر منه أنه قرن الصناعة الكبرى، ولا أنه قرن الطيارة وعجائب المخترعات، كلا، بل لا تذكر منه أنه قرن الذرة والقذيفة الذرية، وإنما تذكر منه أنه القرن الذي أصبحت فيه الدعوة إلى «الأخوة الإنسانية » موضوعا من موضوعات العلم والعمل، وبرنامجا من البرامج الواقعية التي يتعاون عليها الأقوياء والضعفاء، ولا يستغني فيها قوي عن ضعيف.
هذه هي أمانة الماضي لدى القرن العشرين في رأي مؤرخ القرون والأجيال، فما هي أمانة القرن العشرين يا ترى لدى القرن الحادي والعشرين أو الثاني والعشرين أو ما يلي من القرون؟
هل جاء القرن العشرون يا ترى ليحمل لها الهلاك والدمار في قذائفه الذرية؟ أم جاء لها بمصير أكرم وأسلم من هذا المصير؟
وهنا ننتقل من ماضي الإنسانية إلى مصيرها.
ننتقل إلى المصير بمثل السرعة التي انتقلنا بها - مع العلامة توينبي - من مواضي الإنسانية جميعا إلى وجهتها المرسومة.
ولكننا لا ننتقل في صحبة توينبي ودراسته التاريخية، بل ننتقل بين الحاضر والمصير في صحبة المئات من المتسائلين الحائرين، وإن العلماء بين الحائرين لأكثر من الجهلاء، وإن الحكماء لأكثر من الحمقى.
مئات من الناس يتساءلون اليوم: ما مصير الإنسانية؟!
وكلما حدث حادث في كتلة الشرق أو كتلة الغرب عادوا إلى السؤال المتكرر المتحير: ما مصير الإنسانية؟ ما مصير الإنسانية؟
هل تنفجر براكين الحرب العالمية؟
وإذا انفجرت هذه البراكين فهل يستخدمون فيها القذائف الذرية؟
وإذا استخدموا فيها القذائف الجهنمية فما نتيجتها بالنظر إلى المنهزمين؟ وما نتيجتها بالنظر إلى المنتصرين؟ وما نتيجتها بالنظر إلى سائر الأمم التي لا تحسب مع هؤلاء ولا مع هؤلاء؟
بل يتساءل المتسائلون المتحيرون: هل يكون في تلك الحرب المرهوبة منتصر ومنهزم؟ وهل تبقى من الدنيا بقية تساوي ثمن النصر وتكافئ وبال الهزيمة؟
ويحق للمتسائل العالم قبل الجاهل، والحكيم قبل الأحمق ، أن يحار في العاقبة وأن يفزع من المصير.
فمن المتفق عليه أن قذيفة «هيروشيما» تعد سلاحا مأمونا بالقياس إلى القذائف المجهزة للاستعمال في الوقت الحاضر. فإن لم تكن هذه القذائف مجهزة فعلا ففي الإمكان أن تجهز القذيفة التي تساوي في قوتها خمسة وعشرين ألف ضعف وزيادة من قذيفة هيروشيما.
ومن المتفق عليه أن أخطار القذيفة الجهنمية لا تنحصر في موضعها، ولا في المقصودين بها، لأنها ترسل في الهواء ذرات من القوة الإشعاعية تعود فتنحدر إلى الأرض غبارا صاعقا لا يبقي ولا يذر.
ومن المتفق عليه أن مجال الاختراع متسع متجدد، وأن القذيفة الهيدروجينية ستتبعها أنواع شتى من القذائف، وأن استخدام العناصر الأخرى في توليد الطاقة الذرية قد يتيسر غدا لأمم كثيرة، ولن يكون استخدام هذه الطاقة مقصورا على عنصرين أو ثلاثة. ويومئذ تقل تكاليف القذائف، وتتسع ميادينها، وتتفاقم أخطارها، وتصبح القذيفة الموجودة اليوم كأنها سلاح الأمس بالنسبة إلى أسلحة القرن العشرين.
فما مصير الإنسانية بعد هذه النذر والأراجيف؟
لا فائدة من منع السلاح، بل الفائدة المرجوة كلها معلقة - في رأي الخبراء - على منع الحرب بأنواعها، أو منع الحرب العالمية بكل ما يستطاع.
فهل منع الحرب العالمية مما يستطاع؟
وإذا لم يكن مستطاعا فهل يستطاع منع السلاح الذري وتحريم القذائف الذرية في جميع الميادين؟
إن سوابق الدول في الحروب لا تبشر بالخير، ولكن سابقة واحدة يرجى أن تبعث التفاؤل في نفوس طلاب الخير، وهي تحريم الغازات السامة وإجماع الدول على اجتنابها في الحرب الأخيرة، فإذا كانت الدول المتقاتلة قد فهمت أن الغازات الخانقة خطر لا يؤمن، فهي أحرى أن تفهم الخطر الأكبر، وأن تحرص على اجتنابه حرصا أشد وأبقى من حرصها على اجتناب تلك الغازات.
وعبرة أخرى قد تميل بالدول إلى الحذر من الحروب، وهي خسارة المنتصرين في الحروب واضطرارهم إلى معونة المنهزمين والمنكوبين، في عالم متشابك متضامن، لا ينفرد فيه بالضرر صاحب قوة أو صاحب مال.
ونكاد نقول: إن ساسة الدول يدفعون بالأمم إلى الانتحار إذا أقدموا على الحرب العالمية ، واستخدموا فيها القذائف الذرية. ومتى استطاع ساسة الأمم أن يدفعوا إلى الانتحار، فهم والأمم التي تطيعهم أهل للهلاك والدمار.
إن الصورة التي تتمثل لنا أبشع من أن نتصورها قياسا على ما عرفناه من كوارث الماضي والحاضر، وتكاد تخرج بنا من حيز الواقع إلى حيز الخيال المستحيل، ولو أن صورة تستحيل في العقل لفرط بشاعتها لاستحالت هذه الصورة المنكرة، ولكن البشاعة المفرطة لا تمنع شيئا أن يكون إذا كان وقوعه من الممكنات، وكل ما لدينا من أسباب الطمأنينة أن نقارن بين المصيرين أيهما أقرب إلى الإمكان: مصير الإنسانية إلى الانتحار أو مصيرها إلى التغلب على قوة السلاح بقوة الحكمة وقوة الأخلاق مجتمعين. ومن حسن الرجاء وحسن التقدير معا أن نرجح المصير المأمون على المصير المحذور.
إن المادة الصماء لن تخلق الإنسان؛ لأن الشيء لا يخلق ما هو أحسن منه وأكمل. فلنعد إلى خلاصة التاريخ الإنساني متفائلين: إن التاريخ الإنساني - كما قال أكبر المؤرخين العصريين - إنما هو طريق الإنسانية إلى الله. وفي هذا الطريق يستطيع العقل أن يخلق اختراعا من جنس القذيفة الذرية يقاومها ويكبح شرورها يستبقي منافعها، ويستطيع العقل أن يأخذ بزمام المادة وعناصرها ليقترب بها إلى الله.
الفصل الثالث عشر
العالم العربي اليوم1
«العالم العربي اليوم»
2
اسم كتاب بالإنجليزية ألفه الأستاذ مورو بيرجر
Morroe Berger
أستاذ علم الاجتماع بجامعة برنستون والمشرف على برنامج دراسات الشرق الأوسط في تلك الجامعة.
ويقع كتابه هذا في قرابة خمسمائة صفحة حافلة بالمعلومات الواقعية عن العالم العربي، مستمدة من مراجع الإحصاء والمشاهدة، معروضة على أسلوب النظر العلمي في جملتها، ولكنها تنظر من وجهة نظر غربية كلما رجع الأمر إلى اختلاف التقدير.
والكتاب مفتتح بفصول متعددة عن القومية العربية في الزمن القديم، والقومية العربية في الزمن الحديث، وعن العلاقة بين هذه القومية وبين الإسلام بعد بعثة محمد
صلى الله عليه وسلم ، وموجز ما يقال فيها:
إن الإسلام تقبل كثيرا من شعائر اليهودية والمسيحية، ولكنه نقلها إلى العالم العربي، ثم استبدل أواصر العقيدة بأواصر النسب والعصبية التي كانت تجمع قبائل العرب كما كانت تفرق بينها.
والمؤلف يصف الديانة الإسلامية بأنها ديانة «مستقيمة بسيطة» أو بعبارة أخرى «مباشرة في اتجاهها غير معقدة» وأنها لاستقامتها وبساطتها لا تزال إلى الآن سهلة الاتجاه إلى «الجاهليين» في القارة الأفريقية، ولكنه يعود فيقول: إن تقدمها بين هؤلاء الجاهليين، لا يرجع إلى مجهود مقصود من جانب الإسلام باعتباره قوة عالمية مركزة؛ كما يرجع إلى القدوة المباشرة التي تأتي من اتصال المسلمين بغير المسلمين في أرجاء القارة الأفريقية.
والموضوع المهم في الكتاب كله هو موضوع الدين الإسلامي والحركات التي يسميها الغربيون بالعلمانية أو الدنيوية
Secular
وتسمى أحيانا «باللادينية» عند المقابلة بين سلطة الكهنوت ورجال اللاهوت وسلطة الدولة والحكومة.
ويقرر المؤلف أن الإسلام لم يواجه الخرافات «اللادينية» للمرة الأولى.
فقبل احتكاك المسلمين بالعالم الغربي في القرن العشرين كانت لهم صلات كثيرة بالأمم التي خالفتهم في العقيدة وفي آداب الحضارة، وآخر هذه الصلات من وجهة المبادئ الاجتماعية الفكرية ودساتير السياسة والحكم صلة الإعجاب بالثورة الفرنسية، وما نجم عنها بين المسلمين من التنبه لحقوق الفرد وحقوق حرية التفكير ودعوات التجديد والتخلص من القديم.
إلا أن الجديد في الحركة اللادينية الأخيرة أنها «داخلية» في العالم العربي الإسلامي وليست بالخارجية الطارئة عليه من غير قومه وبلاده.
فقد كان المسلم يواجه ثقافة اليونان وثقافة الدول الأوروبية وثقافة الثورة الفرنسية وهو يستعد لها بالمقاومة على سنة الأمم مع الطارئ الغريب، أو الطارئ الذي يستدعي المقاومة لأنه يتغلب عليها، ثم يخضعها لسيطرته على غير إرادة منها.
أما «اللادينية» بعد جلاء الحكام الأجانب عن البلاد فمصدرها من الداخل لا من الخارج كما كان منذ أوائل القرن الثاني عشر إلى أوائل القرن العشرين، وليس لها من يقاومها غير المحافظين الذين يكرهون الجديد أو المحافظين الذين يقربون بين القديم والجديد، ويسميهم الغربيون بالمستحدثين أو «المودرنيست»
Modernist .
ومن أهم فصول الكتاب فصل عقده المؤلف للبحث عن الإسلام في ناحية التشريع هل هو عقيدة دينية دنيوية أو هو كغيره من الديانات التي تنفصل فيها عقائد الإيمان عن شئون الحياة ومزاولات المعيشة ولا سيما شئون الحكم والسياسة؟
وربما ورد السؤال على صورة أخرى فيقال: هل أحكام التشريع في القرآن مسألة نظام وإدارة حكومية؟ أو هي مسألة أخلاق وسلوك ديني يستحق به المسلم حسن الجزاء في الآخرة؟
قال المؤلف في الصفحة الحادية والأربعين: «إن الصلة المكينة بين الإسلام والمجتمع العربي نشأت كما رأينا منذ قام محمد - صلوات الله عليه - بخلق دولة تنتظم العقائد الدينية والمعاملات التي في الأصل عليها العرب، وقد شمل الإسلام على الدوام كل جوانب الحياة الاجتماعية باعتباره قسطاس أخلاق وآداب، ولكنه لم ينجح قط في تقرير شريعة متناسقة من العلاقات بين الناس في مجتمعات المسلمين المختلفة. وقد نبه يوسف شاخت - وهو الباحث الحجة في هذا المطلب - إلى رأي يقول: إن النبي لم يحاول تبديل العرف القانوني عند العرب، بل أراد أن يعلم الناس كيف يعملون في الحياة الدنيا لكي يظفروا برجحان الكفة في حساب الآخرة.»
قال مؤلف الكتاب ما فحواه: إن الإسلام لا يكون على هذا الاعتبار دينا دنيويا، أو شريعة اعتقاد معيشة «علمانية» في وقت واحد؛ لأن المعاملات كما يوجبها على المسلم هي فرائض أخلاق وعبادة لا يلزم من اتباعها أن تكون دستورا للإرادة العلمية في نظم الحكومات.
ولكن الكثيرين من الغربيين يحسبون أنه قانون عملي، لأنه يوصي بما يوصي به من الأحكام والآداب التي تتناولها القوانين.
والمشكلة «العلمانية» في العصر الحاضر كما يراها المؤلف هي محاولة المسلم المستنير أن يدرك الحقيقة ويحسن تطبيقها عملا في هذا الموضوع.
فهل يعتبر هذا المسلم أن دينه تكفل للمسلمين بنظام المعيشة والحياة العملية، كما تكفل لهم بشئون الإيمان والعبادة؟ أو يتبع في نظام المعيشة قانونا موضوعا لا يرتبط بنصوص الكتاب؟
إن المؤلف يقسم المستحدثين أو «المودرنيست» أمام هذه القضية إلى طائفتين؛ طائفة سابقة من أبناء الجيل الماضي، وطائفة لاحقة من أبناء هذا الجيل.
والفرق بينهما أن أبناء الجيل الماضي الذين درسوا علوم الحضارة الغربية قد درسوها في ديارها، وعاشوا بين أهلها، وكانوا قلة ضئيلة بالقياس إلى من نشأ بعدهم من المتعلمين العصريين ، فعادوا إلى بلادهم غرباء عنها، وكادت الصلة بينهم وبين الجمهرة الكبرى من مواطنيهم أن تنقطع كل الانقطاع.
والطائفة التالية من تلاميذ الحضارة الغربية قد عرفوها وهم في أوطانهم لم يفارقوها، وقد عرفوها في دور التعليم كما عرفوها في بيئات المعيشة الحضرية على الأكثر؛ لأن هذه البيئات قد تغيرت مع الزمن وتشابهت مظاهرها في مدائن الشرق ومدائن الغرب على نحو يقارب التشابه بين مظاهر الحضارة في أمم الغرب نفسه، حسب اختلاف مواقعها وتقاليدها.
وقد ضعفت دواعي المقاومة للحضارة الغربية بين أبناء هذا الجيل لهذا السبب الواضح، ولسبب آخر يرجع إلى تقدم المسلمين في سبيل الاستقلال عن سلطان الحكم الأجنبي، فإن مقاومة الحضارة الأوروبية كانت فيما مضى وجها من وجوه التمرد على أبناء تلك الحضارة القابضين على أزمة الحكم والإدارة. فلما زال هذا السلطان، أو خفت وطأته، زال معه سبب كبير من أسباب العداء للتجديد العصري والاستحداث في فهم الدين.
ويختم المؤلف صفحات الكتاب بأسطر قليلة يقول فيها: إن مستقبل العرب سيكون من صنع أيديهم بعد اليوم، وسيتولونه ويتولون أمور دينهم ودنياهم كما يفهمونها، وسيكون للجمهرة الكبرى شأن لا يتجاهله المصلحون بين ظهرانيهم، لأن هذه الجمهرة قد أصبح لها خطرها المحسوس، وإن تكن في بعض البلدان قد أصبحت مهمة في تقرير سياستها قبل أن تتدرب على ولاية الأمر بأيديها.
قال المؤلف قبل أن يستطرد إلى الفصل الأخير عن التجديد أو الاستحداث وعلاقته بالجماهير:
إن الحكومات الغربية في الشرق الأدنى لا تستطيع أن تجد بين العرب طوائف ذات صبغة ديمقراطية حقة - ليبرالية - تسندها وتؤيدها، وكذلك يرى الباحثون في الإسلام من الغربيين أنه لا أمل للإسلام المتجدد على الرغم من اعترافهم باعتقادهم في الإسلام قوة الخلق والحيوية.
ويتحفظ المؤلف في إبداء رأيه بين هذه الآراء، ولكنه لا يجزم برفض ذلك الرأي الذي يرويه عمن سماهم بالباحثين في الإسلام من الغربيين، ولا نخاله يستطيع أن يخلص من عادة الوزن بالميزانين في القضية الواحدة كلما تعلقت بالشرق والغرب في شئون العقائد ومذاهب الاجتماع.
فهؤلاء الباحثون الغربيون يقدرون أن «استغراب» المسلم أو أخذه بنظام من نظم الحضارة الغربية لا يتأتى على غير وجه واحد: وهو الإعراض عن دينه أو الانقلاب عليه.
فأما استغراب المسيحية فغير مستحيل مع بقاء الغربيين على ديانتهم وهي شرقية كالإسلام في مصدرها، وكأنما وجدت هذه الديانة «الشرقية» غريبة منذ اللحظة الأولى ولم «تستغرب» مرات في كل عهد من عهود التاريخ، وأول هذه المرات لم يجاوز القرن الأول للميلاد عند انتقالها من فلسطين إلى آسيا الصغرى ثم بلاد اليونان، وآخرها فروع المذاهب «الإنجيلية» في العالم الجديد، وهي في أصلها «استغراب» في بلاد أوروبا الوسطى واستغراب في أمم الشمال وأمم السكسون.
والمسلم في حساب هؤلاء الباحثين الغربيين يبدو لهم كأنه شخص واحد ولد في عهد البعثة المحمدية، وهو بعينه يولد ويعاد ميلاده من جيل إلى جيل، ومن أمة إلى أمة، كذلك «اليهودي» التائه الذي تزعم الأساطير أنه عاش منذ أيام السيد المسيح ويعيش إلى يوم عودته في آخر الزمان!
فهذا المسلم في عهد البعثة المحمدية هو المسلم الذي يتكرر ميلاده على عهد التابعين، ثم على عهد الأمويين، ثم على عهد الأندلسيين، ثم على عهد الحضارة الأوروبية في القرن العشرين! فإما أن يحمل معه زمانه قبل أربعة عشر قرنا أو ينتقل إلى زمان آخر فلا يبقى على عقيدة الإسلام.
ولو نظر هؤلاء الباحثون هذه النظرة بعينها إلى علاقة الحضارة بديانات الأمم على اختلافها لاستقاموا على جادة البحث وإن أخطئوا التقدير. نعم إنهم يستقيمون على جادة البحث لو قالوا مثلا: إنهما طريقان لا تلتقيان في كل عقيدة وكل أمة: طريق الحضارة والعلم وطريق التدين والإيمان.
يستقيمون على جادة البحث النزيه وإن أخطئوا الفرض والتقدير.
ولكن الأمر الذي يستحيل عندهم هو بقاء المسلم وحده على التدين مع أخذه بأسباب الحضارة، ولهذا نقول عنهم: إنهم يزنون بميزانين، لا يساوون بين الحكمين في القضية الواحدة.
إنهم لا يقولون: إن الانتماء إلى الدين على سنة التدين في جميع العصور مستحيل على أمم الحضارة العصرية.
كلا! إنهم لا يقولون ذلك، فلماذا يقولون : إن حضارة المسلم وتدينه هما المستحيل بين أمم العالم وحضاراته؟
يقولون ذلك لأنهم يذكرون غيرهم ولا يذكرون أنفسهم حين يتحدثون عن المشرق والمغرب، وأول ما ينسونه أن الديانة المسيحية التي بقيت في الغرب هي ديانة شرقية المنبت، شرقية الأصول والجذور، شرقية الروح والفطرة، ولكنها استغربت مع الزمن مرة بعد مرة، ووجدوها غربية قبل أن يظهروا هم إلى عالم الوجود غربيين.
الفصل الرابع عشر
ديمقراطية رعاوية في شمال الصومال1
هذا الكتاب واحد من مئات الكتب التي تصدر اليوم تباعا عن القارة الأفريقية باللغات الأوروبية. وقد بدأ التأليف في هذا الموضوع بالإجمال عن القارة في عمومها تاريخا واقتصادا وسياسة وأخلاقا وعادات أو عبادات في المجلد الواحد والمجلدين، ثم تشعبت البحوث، واتسع نطاق العناية بها بين قراء الغرب حتى بلغ بها التخصص والتحديد أن يصدر المجلد الضخم عن شعائر القبيلة الواحدة في القطر الواحد، مع التزام الشعائر الدينية الاجتماعية دون غيرها من شئون تلك القبيلة فيما يتصل بالجغرافيا أو السياسة أو العلاقات التجارية والاقتصادية، وصدرت عن الصومال وحدها - في شمالها دون سائر جهاتها - مؤلفات عدة يستغرق بعضها مئات الصفحات، ومنها هذا الكتاب في «دراسة الأحوال الرعاوية والسياسية بين أبناء الشمال» وقد فرغ لتأليفه «أ. م. لويس» بعد أن قضى عشرين شهرا في الرحلة بين أقاليم القبائل التي خصها بالكتابة في هذا المجلد، واطلع قبل الرحلة وبعدها على مراجع شتى من رحلات السياح والجغرافيين والمستطلعين. ولا ننسى أن البحث عن «أحوال الإسلام» يتقدم البحوث في كل كتابة عن القارة الأفريقية وعن الأقاليم التي يسكنها المسلمون أو يجاورونها بين أرجاء القارة من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، وقد تعد الكتابة عن هذه الأقاليم التي يسمونها «قرن أفريقيا» كتابة خاصة بالإسلام والمسلمين، سواء اتصلت بحوثها بالأقطار الإثيوبية أو بالجنوب الذي يسكنه أناس على دين الفطرة وتتخلله الدعوة الإسلامية أو دعوة المبشرين من حين إلى حين.
والمؤلف لا يخفي إعجابه بغيرة أبناء الصومال على العقيدة الإسلامية، ويقول في مقدمة كتابه: «إن الغريب عن الديار لا يسعه أن يتجنب الشعور بإخلاصهم الصادق لعقيدتهم الدينية وامتزاج الفخر بالإسلام عندهم والفخر بالانتساب إلى السلالة الوطنية. ولا يجهل الصوماليون أنهم شعب من شعوب كثيرة تدين بهذا الدين، ولكنهم يتخذون من حماستهم له أداة لإبراز ما هم مطبوعون عليه من الشعور العميق بكرامة الأنساب.»
ويقول الرحالة: إن المسلم الصومالي ينتمي - عادة - إلى إحدى الطرق الصوفية، ويرعى فيها النظام الدقيق الذي يمتاز به الصوماليون في اجتماعاتهم العامة، سواء منها اجتماعات القبيلة لتدبير المصالح المشتركة أو اجتماع أبناء الطريق لإقامة الشعائر والعبادات. ولكن الصومالي قد يجمع بين طريقتين في وقت واحد، ويؤدي شعائره في كلتا الطريقتين؛ لأنهما تتفقان في اتباع السنة وقضاء الفرائض المرعية في أحكام القرآن، وقد يقع الخلاف بين الطريقتين إذا اشتبكت أسبابه بأسباب الخلاف على مسائل المجتمع أو مسائل القبيلة «الرعاوية»، ولكنه خلاف قليل الحوادث إذا قيس بالخلاف على المذاهب في غير هذه الديار.
ومما يجد من أضرار هذا الخلاف أن مشايخ الطرق مسئولون في العرف العام عن التوفيق بين الخصوم والإصلاح بين القبائل وولاة الأمور فيها أو في البلاد الحضرية التي انفصلت بعض الانفصال عن تقاليد الريف والبادية، وليس لأحد من وجوه القوم مكانة تعلو مكانة رجل الدين بين قبائل الصوماليين، ولكن العرف الصومالي يدين بتقسيم «السلطات» بين مكانة الشيخ ومكانة رئيس العشيرة أو سلطان الإمارة، فإذا استجاب المتخاصمون إلى وساطة الإمام الديني فالعهود التي تبرم بينهم إنما يتم إبرامها على أيدي الرؤساء والسلاطين، ويتولى الإشراف على تنفيذها وكلاؤهم وأعوانهم الاجتماعيون، إلا أن يصل الأمر إلى التحكيم على وجه من وجوه الخلاف المتفق عليها فلا يرى الجميع بدا من قبول الاحتكام إلى أئمة الدين.
ويحترم الصوماليون ذكرى الآباء والأجداد، ويقيمون الأضرحة والمزارات لكل جد عظيم من جدود القبيلة المذكورين، ويتفق في هذه الحالة أن يكون مزار الجد العظيم كمزار الولي الديني في القداسة والتوقير وإقامة الموالد إلى جواره مع التصدق بالذبائح والقرابين في كل موسم مشهود، يحضره أبناء ذلك الجد كما يحضره غيرهم من المقيمين إلى جوار المزار. ولعل هذا الاشتراك بين شعائر القداسة وشعائر الولاء قائم على اشتهار أولئك الأجداد بفتح البلاد للدعوة الإسلامية واستحقاقهم للذكرى بفضل الغيرة على الدين والقدرة على تمكين السلطان السياسي لعشيرة من العشائر الوطنية أو عشائر المهاجرين الأولين.
ويدل اسم الكتاب «ديمقراطية رعاوية»
A Pastoral Democracy
على الغرض الأول من تأليفه، فهو وصف النظام الديمقراطي الفطري في بلاد القبائل الراعية، أو قبائل الرعاة التي تحسب فيها الثروة بعدد ما تملكه من الأنعام والماشية وقطعان الحيوان على الإجمال. وقد يصف المؤلف مجالس الحكم والمشاورة في هذه القبائل كما يصف علاقات الحكم بالمحكومين وعلاقات القبائل المتعددة بعضها ببعض في السلم والحرب وأيام الرخاء وأيام الجدب والشدة، فيخلص من مشاهداته الكثيرة إلى الإيمان بصدق العنوان «الديمقراطي» حين يطلق على سياسة القبائل وآدابها الاجتماعية، وإن تكن «ديمقراطية» فطرية تدين بالعرف المأثور قبل أن تدين بالنص المكتوب.
ويقول المؤلف: إن مصالح القبيلة «الرعاوية» لها اعتبارها الأول عند تطبيق الأحكام والحقوق وبخاصة في مسائل الدية والثأر ومسائل التوريث والتمليك، ويحرص أبناء الصومال على تطبيق أحكام الميراث كما شرعها الإسلام، فتعطي المرأة حقوقها على حسب هذه الأحكام، ولكنها لا تتولى رعاية الإبل ولا حيازة الأرض المخصصة للرعي والسقاية، وقد تملك الماشية وتملك الدار والمسكن من مخلفات الآباء والأزواج، ولكنها - هي باختيارها - لا تطالب بولاية أمر الإبل والمراعي والسقايات، ولعلها تؤثر ذلك لأن الملكية هنا تستتبع الحماية بالسلاح والاستعداد لدفع الغارة وصد العدوان والانتقال من حوزة إلى حوزة كلما وجبت الرحلة من حمى إلى حمى آخر، تبعا لأحوال الخصب والجدب أو أحوال الري والجفاف.
ومما يجعل للملكية في هذه الحالة حكما خاصا لا تنهض المرأة بأعبائه أن تدبير الغارة موكول إلى نظام صارم لا يعفى منه أحد من القادرين على حمل السلاح، فإذا وجب القتال، وتخلف عنه أحد من شبان القبيلة فهو عرضة لاستباحة ملكه من الأنعام والماشية، وإذا اجترأ جماعة من القبيلة على شن الغارة على قبيلة أخرى بغير إذن الزعيم حق له أن يعاقبهم ويحرمهم غنيمتهم، إلا إذا تقدموا بأنفسهم مختارين لقسمة الغنيمة بينهم وبين إخوانهم الذين خالفوهم ولم يشتركوا في اغتنامها، فقد يشفع لهم ذلك في رفع العقاب وتخفيف التعويض المفروض.
وقد تحول الصوماليون من سكان بقاع الشمال من نظام المراعي إلى نظام الأرض الزراعية، فكان لذلك أثره في تعديل أطوار المعيشة وأحكام الديمقراطية الرعوية، ولكنه تعديل ظاهر لم يتعمق إلى أصول العادات والأخلاق.
ويستطرد المؤلف في حديثه عن العرف الاجتماعي إلى الحديث عن الشعر الصومالي ووظيفة الشاعر الاجتماعية بين البادية والحاضرة، فإذا هي صورة أخرى من صور الحياة العربية في عصورها الأولى؛ لأن الشاعر يثير النخوة للقتال ويستفز الغضب للأخذ بالثأر ورد العدوان بالعدوان، وقد يلجأ إليه أحيانا في تهدئة الثوائر الجامحة وتزيين الصلح والمسالمة كلما جنح الحكماء ورؤساء الدين إلى علاج المشكلة بالتوفيق والترضية، ولا يندر في أغراض الشعر عند الصوماليين نظم القصائد حمدا للأولياء وترتيلا لأناشيد الدعاء والثناء على عباد الله الصالحين. ومن أمتع فصول الكتاب تلك الصفحات التي يروي فيها المؤلف طرفا من سير الشيوخ والنساك الذين قادوا الثورة على الحكم الأجنبي كما قادوا الثورة على فساد الأخلاق ومساوئ التفرنج بين أناس من الصوماليين بعد احتكاكهم بالجاليات الأوروبية، فإن أحاديث المؤلف عن أولئك الشيوخ والنساك تصحح التاريخ المفترى عليهم، وتدفع شبهة الهوس التي علقت بهم من روايات الصحفيين عنهم، وأولهم «الملا محمد عبد الحسن» الذي لقبوه بالملا المجنون، وما كان به من جنون إلا أن يكون الجنون عندهم فرط الغيرة على الصلاح وفرط الغضب من دسائس التبشير والاستعمار.
وأهم ما في الكتاب من وجهة النظر على الحياة العصرية تحقيق المؤلف عن الأحزاب السياسية وأسباب التقارب أو التباعد بين أعضائها، وخلاصته أن العصبية القبلية هي الصلة الكبرى التي تربط بين الهيئات السياسية في الشمال، وأن العوامل المحلية ونفوذ «الشخصيات» التي تهيمن عليها تحل محل هذه الصلة في الأقاليم «غير الرعاوية» وأن المذاهب الأوروبية التي نجحت في اجتذاب بعض الصوماليين إليها إنما نجحت لتوكيدها شريعة المساواة بين الأجناس البشرية أو لتوكيدها مبادئ الديمقراطية بين الحكومات ورعاياها. ولا يخفى أثر الإسلام في كل عامل من هذه العوامل بين المسلمين وغير المسلمين.
الفصل الخامس عشر
إسبانيا المغربية1
لأنريك سوردو
كتاب «إسبانيا المغربية» موضوع في وصف حضارة الأندلس على عهد الدول الإسلامية، وأكثر العناية فيه منصرفة إلى وصف حضارة العمران وحضارة المعيشة وما تتسع له من مظاهر العرف والعادة ومظاهر العلاقات بين أبناء المدينة وأبناء الأسرة، وأكثر ما يكون ذلك في مدنها الثلاث الكبرى، وهي قرطبة وأشبيلية وغرناطة، وإن كان المؤلف يلم أحيانا بما يتصل من قريب بهذه الحضارة في المدن الأخرى من قبيل طليطلة وقادش وبلنسية، وما عداها من أطراف الريف.
ويعجب القارئ وهو يتصفح هذا الكتاب ويقلب ما احتواه من الرسوم والنقوش والصور والتماثيل التي بولغ في الاعتناء بها على مثال لا يقع النظر على ما يشبهه في غير الآثار المقدسة عند أبناء الغرب من المسيحيين.
ماذا يزيد عليه الكاتب العربي الأصيل لو كتب في هذا الموضوع وأراد أن يودع فصوله وثنايا سطوره ما يجيش في صدره من خوالج الحنين والفخر والإعجاب بآثار ذلك الماضي العزيزة على بنيه؛ إذ يكاد القلم العربي أن يقصر عن الزيادة عما أودعه المؤلف كتابه من تلك الخوالج الناطقة خلال السطور في غير تكلف ولا انتباه، ولولا خطرات هنا وهناك يلوح فيها أن المؤلف مخالف للعرب في دينه ولغته وجنسه لسبق إلى ذهن القارئ أنه يستمع إلى أغنية من أغاني الحنين الذي قيل في زمانه:
جادك الغيث إذا الغيث همى
يا زمان الوصل بالأندلس
لم يكن وصلك إلا حلما
في الكرى، أو خلسة المختلس
ويبدو مما يورده المؤلف من بعض الأمثال الجارية على الألسن إلى اليوم أنه ليس بالغريب المنفرد بين أبناء قومه بتلك الأحلام التاريخية، فإنه يذكر أن أبناء غرناطة في هذا العصر لا ينسون الأسوة بمصاب غرناطة العربية كلما حزبتهم فاجعة قومية يتطلبون فيها حسن الأسوة، فإنهم يرددون بينهم كلمة تسير في لفظها ونغمتها مسير الأمثال، ويقولون: «لقد كانت البلية بغرناطة أفدح وأنكى» كأنهم ورثوا هذه الكلمة عن ألسنة العرب، ثم تنقلوها بغير تبديل فيها، أو كأنهم ذكروا البلد، ونسوا من هم أولئك المصابون فيه، ولا حاجة بهم إلى جهد من الذاكرة يلفتهم إلى هذا النسيان، لأن معالم المعيشة البيتية في أكثر العواصم الإسبانية على عهد العرب لا تزال على ذلك العهد إلى اليوم، سواء في تنظيم طرقاتها أو تقسيم بيوتها والانتقاع بمساكنها، وكأنما بقيت محارم الحجاب على حالها كما كانت تبنى في أيام العرب، فلا تزال المنافذ بين الغرف والحجرات وبين الشارع والسوق كأنها تلك المنافذ التي تستر وراءها مقاصير الحريم.
ويحاول المؤلف، لو استطاع أن ينسى من سبق العرب إلى إقامة الحضارة بتلك البلاد، ومنهم أسلاف من الرومان والقوط، ولكنه ينازع القلم إلى ذكراهم ليقول: إن العرب قد صنعوا ما لم يصنعوه، وقد سبقوهم في شوط الارتقاء، وإن لحقوا بهم في أزمنة التاريخ، فيقول عن صناع الأندلس اليوم: إنهم لا يزالون ينتفعون بما تعلموه من العرب والبربر من صناعات النسيج والفخار والآنية والجلود وصياغة المعادن وتزيين الأخشاب، ويثبت للرومان فضلهم في تنظيم موارد الماء للري والشرب والسقاية، ولكنه يعود فيقول: إن غلبة «الماء» في النوافير وفي الجداول المصنوعة وفي الحدائق العليا والسفلى إنما كان ظاهرة «الصحراء» التي يبلغ الماء فيها ما ليس يبلغه في مكان، من إرواء غلة الأعين والصدور.
ويشيد المؤلف بما اتسمت به الحضارة العربية من قوة الشعور بالحياة الحسية والحياة الفكرية في آن.
ويطيل الوقوف عند ظاهرة «الطرب» للسماع ونغمات الأصوات والآلات، فيروي ما يرجحه بعضهم من أنها أصل كلمة «الطربادور» التي تطلق على الشعراء المنشدين بين جنوب فرنسا وشمال البلاد الإسبانية، ويشير إلى ما تخيله بعضهم من أنها تتصل بمادة «طاب» العربية بمعنى «طيب العيش وطيب الشعور»، ثم يعدو فيقول: إن هذا الشعور الذي يدل على قابلية النفس للامتلاء بالحيوية والإحساس بجمال الحياة لم يخلقه اليوم غير ثورة الحس في حلبات مصارعة الثيران، وغير أناشيد الرقص في الحانات، تتخللها صيحات «ووللي. ووللي» عند النشوة والاستحسان، وما هي إلا تحريف لكلمة الجلالة التي كان من عادة العربي أن يهتف لإبداء إعجابه بكل جميل: الله. الله.
ويسرف المؤلف في تعظيم هذه «الحاسة» الجميلة عند العربي فيروي من أقاصيصها ما يصدق وما لا يصدق من أخبار الخلفاء والأمراء، ويغفل من ذلك ما قيل عن شق الثياب والصياح بنداء الباعة والخروج عن الحشمة والعربدة على الندماء، ويضيف إلى ذلك ما يرويه عن أمراء بغداد ودمشق وأمراء المغرب وأفريقيا، وأعجبه ما رواه عن رجل من حاشية الملوك التي تحسن ضبط الشعور في مواقف الطرب والغضب ، فنقل عن أحدهم أنه نسي نفسه؛ فهجم على المغني في حضرة الملك، وأخذ في تقبيله، وعرض نفسه بذلك للقتل العاجل؛ لأن ذلك المغني كان سجينا متهما بالخروج على الأمير، واحتال على إسماع الملك بعض غنائه لعله يعفو عنه ويستبقيه.
أما الحياة الفكرية فقد أطنب المؤلف في سرد أخبارها، كما أطنب في سرد أخباره عن الحياة الفكرية الحسية. ومن ذاك أن قرطبة كان فيها مائة وسبعون امرأة يكسبن رزقهن بنسخ الكتب غير الرجال، وأن المدينة كانت تخرج في كل سنة ما لا يقل عن ستين ألف كتاب من المصنفات المنسوخة أو المنقولة أو المؤلفة، وأن عدد الكتب في بعض المكتبات التي جمعها خليفة من الخلفاء لم يكن يقل عن أربعمائة ألف كتاب، وكانت منها كتب كثيرة في غير المباحث الدينية، أثارت جماعة من الفقهاء المتزمتين فأرضاهم المنصور بإحراق المئات منها.
ويرى المؤلف أن الثقافة العربية غلبت على كل ثقافة تقدمتها في بلاد الأندلس المغربية، ولكنها كانت في بعض المدن تنتزع المدينة من صبغتها الرومانية التاريخية لتقيم فيها نمطا من الحضارة يغلب فيها التوازن بين الغرب والشرق كما غلب من قبل في القسطنطينية وعواصم الدولة البيزنطية.
وانتقل المؤلف من الثقافة عامة إلى ثقافة الفنون الجميلة، فنفى كل ما يشاع في الغرب عن تحريم الإسلام للاشتغال بالفن الجميل. وقال: «إن الغرب تشيع فيه فكرة عامة فحواها أن الديانة الإسلامية تحرم كل التحريم صور الأحياء، وكل ما ثبت ثبوت اليقين في هذا المعنى أن التماثيل الدينية محرمة في هذه الديانة، وفيما عدا ذلك لم ترد في القرآن آية واحدة تؤيد ما يشيع بين الغربيين، وإنما ورد في الأحاديث النبوية التي يرجع استقصاء الكثير منها إلى القرن الحادي عشر للميلاد ما يفيد استنكار التصوير.»
ثم يتوسع المؤلف في بيان الموانع التي تقبل فيها الرسوم والنقوش مع انتفاء شبهة العبادة والتقديس.
ويشتمل الكتاب على أكثر من مائة صفحة كبيرة محلاة بالصور الملونة أو بالنقوش الهندسية المحكمة، تلحق بها الشروح التاريخية والتحليلات الفنية، ويوشك أن تحيط بكل ما بقي في بلاد الأندلس من الآثار الإسلامية ولا سيما المساجد والقصور، وتظهر في بعضها نقوش الكلمات العربية واضحة للقراءة مع تتبع الخطوط بينها وبين ما حولها من رسوم الزينة وعقود البناء، وهي - فيما نرى - أفصح من كل ما اقترن بها من الشروح والتحليلات في الارتفاع بإعجاب المعجبين إلى ذروة الشعور بجمال تلك الحضارة، وغاية الاستحسان لذلك الذوق الفني الذي انبعثت منه، وفرط الحنين إلى تصور العهد الذي كانت فيه هذه الآثار عمارا حيا يزدحم بمن فيه، وتحيط به الدنيا المقبلة وهي مترعة بالنعمة والرخاء. •••
وكتاب «إسبانيا المغربية» الذي أخرجه طابعوه في هذا الوضع من الزخرف الجميل والأناقة الفنية إنما هو حلقة من سلسلة متناسقة معدة لإبراز الآثار الفنية في مثل هذا الموضوع، ونعني به موضوع المخلفات المأثورة في مدن الحضارات التي يطول الحنين إليها بين أبناء العصر الحديث حنين القلوب والضمائر تارة وحنين العقول والأذواق تارة أخرى، ومنها أثينا اليونانية، والبندقية وبومبي اللاتينيتان، وبكين الصينية، ومن العواصم الإسلامية مكة المكرمة
Mecca the Blessed
والمدينة المنورة
Maidina the Rodiant
ملحوظا في ترجمة اسميهما أن يكون كل منها متبوعا بصفته التي اشتهر بها في اللغة العربية.
ولم نطلع بعد على هذين الكتابين الأخيرين، ولا ندري كيف يهتدي مؤلفاهما إلى التمييز بين ما في المدينتين من معالم القداسة ومعالم الحضارة، ولكننا نعتقد مما اطلعنا عليه من نماذج هذه السلسلة أن عرض الحضارة العربية على هذه الصورة في الغرب أصلح لتعريف الغربيين بمفاخرها من نشر التواريخ المفصلة، لأن الالتفات إلى مظاهر الفخامة المحسوسة وآيات الفن الرائعة أعم وأقوى بينهم من الالتفات إلى مآثر الروح والضمير.
الفصل السادس عشر
في مطالع الأعوام: نظرة إلى التنجيم في العالم المتمدن1
كان علم النجوم في زمن من الأزمنة الغابرة يسمى بالعلم السماوي، أو العلم العلوي، أو العلم الإلهي. وكان علما واحدا ينطوي على عدة علوم: أولها علم الدين، لأن الأقدمين كانوا يعبدون الكواكب، ويخصون كل نجم بالربوبية على جزء من أجزاء الطبيعة أو قوة من قواها.
ومن علوم النجوم «علم الفلك» الذي يبحث في حركات الكواكب ومواقيت طلوعها واحتجابها.
ومنها علم الملاحة لاعتماد السفن على رصد الكواكب واختلاط الأمر يومئذ بين دراسة الفلك ودراسة الظواهر الجوية على إطلاقها.
ولقد كان علم الزراعة يرتبط بعلم الفلك لاعتقاد الزراع قديما أن المحاصيل الزراعية تنمو بفضل البروج والمنازل السماوية التي تشرف عليها وتقترن أحيانا بمواعيد الأمطار والفيضانات.
وأما العلم الذي كان في الواقع يغطي على علوم الفلك جميعا فهو «علم التنجيم» أو علم الطوالع وما تنطوي عليه من أرصاد السعود والنحوس. فقد كانت كلمة التنجيم إذا أطلقت تعني في عرف الأكثرين علم النظر في الغيب واستطلاع السعود والنحوس، وتدبير أسباب الوقاية التي يزعم المنجمون بطلاسمهم وأباطيلهم أنها تنفع في هذه الأمور.
ولقد مضى الزمن، وتقدم الناس أو تقدم المتمدنون منهم، فتركوا عبادة النجوم وعرفوا الحقائق عن علوم الملاحة والزراعة، وعرفوا ما لم يعرفوه قط - من قبل - عن حركات الأفلاك ومنازل الفضاء، فأصبح للفلك علم مستقل غير علوم اللاهوت وعلوم الملاحة والزراعة، وانقطعت الصلة تماما بين هذا العلم الواسع وتلك الخزعبلات التي كانت تسمى بعلم التنجيم، واضطر علماء الغرب أن يفصلوا بينهما في لغاتهم، أصبح علم «الأسترونومي»؛ أي علم الفلك، غير علم «الأسترولوچي» الذي يطلق على التنجيم.
وكان المظنون أن أبناء الغرب المتمدنين قد فرغوا من أمر التنجيم وخرافاته، وقد عرفوا من حقائق الأفلاك في هذا الزمن ما يعرفونه عن تلك الخرافات التي صدقها أسلافهم، لجهلهم بأقرب الكواكب إليهم وخلطهم بين مواقع النجوم التي ترى بالعين المجردة، وهم لا يعرفون أبعادها ولا يدركون آفاتها.
أما اليوم والأرصاد الفلكية تكشف الآفاق إلى مدى الملايين من السنين الضوئية وعلماء الفلك يعرفون عن تكوين الكواكب مثل ما يعرفون عن تكوين هذه الكرة الأرضية، ويتحدثون عن السفر إلى تلك الكواكب كما يتحدثون عن الممكنات أو عن الصعوبات التي تقبل التذليل، فلا ندري كيف يعقل الإنسان المتمدن أن أسرار السماء والأرض في الحاضر والمستقبل، يكشفها المنجمون الجهلاء وينبئ عنها من غاب عنه كل كشف جديد من كشوف السماء، ولكن الواقع العجيب أن المصدقين بالتنجيم اليوم بين المتمدنين في الغرب يزيدون كلما ازدادت كشوف الفلك الحديث، وأننا لا نزال نتلقى من المطبوعات الأوروبية والأمريكية أشتاتا من التقاويم والمجلات وجداول الأرصاد والطوالع، مخصصة كلها لمسائل التنجيم ونبوءات الحاضر والمستقبل، ودلالات الأفلاك على مصائر العظماء ومقادير الدول والحكومات، وفي كل لغة من اللغات الحية تصدر التقاويم السنوية، وتصدر المجلات الدورية، وتصدر الكتب والمصنفات وتصدر دوائر المعارف ومراجع التاريخ، وينتظم صدورها كما ينتظم صدور أمثالها من المطبوعات المخصصة لمباحث العلوم والآداب والفنون، ويشتريها طلاب الطوالع بالأثمان الغالية التي تزيد أحيانا على أثمان كتب العلم والصناعة ودراسات الفنون والصناعات.
وقد عنيت إحدى المجلات السيارة بإحصاء هذه الظاهرة العجيبة، فتبين لها أن الاهتمام بالتنجيم في ازدياد، وأن الأمم الأوروبية والأمريكية لا تقل عن أبناء القارات الأخرى في إقبالها على قراءة كتب التنجيم، وعلى استشارة المنجمين في أخطر الشئون، ومنها مشروعات التجارة والاقتصاد، واختيار الشركاء والأزواج.
وإذا صح الإحصاء الذي اعتمدته المجلة فقد ازداد عدد المقبلين على استشارة المنجمين في الولايات المتحدة - بعد الحرب العظمى - من ثلاثة ملايين إلى عشرة ملايين، وأصبح عدد المكاتب المفتوحة لقراءة الطوالع يقارب خمسة آلاف، ويقدر عدد المؤمنين بالطوالع الفلكية في ألمانيا بنسبة سبعة وعشرين في المائة من مجموعة سكانها، وأن رجال السياسة في إيطاليا كثيرا ما يزورون مكاتب المنجمين تحت جنح الظلام ليسألوهم عن طوالع الأحزاب والحكومات، وأن دور الملاحة في اليابان لا يندر أن تستشير المنجمين لاختيار الساعة الملائمة لإنزال السفن الجديدة إلى الماء، وأن الناشرين اليابانيين وزعوا في سنة واحدة ثمانية ملايين نسخة من خرائط الطوالع التي تسمى بالأصطرلاب، وأن في إيطاليا عشرين مجلة منتظمة لا تنشر شيئا غير النبوءات وما يتعلق بها من أسئلة القراء وأجوبة المنجمين، وأن طائفة غير قليلة من أصحاب الأعمال يتذاكرون إلى اليوم مقدرة المنجمة إيفانجلين آدمز
Evangelin Adams
التي كانت تقنع مورجان صاحب الملايين بنبوءاتها عن تقلبات السوق، ولا يبالون من أجل ذلك أن يجازفوا بأموالهم معتمدين على أرصاد المنجمين والمنجمات.
وقد أرادت المجلة أن تلتزم جانب الحيدة العلمية في رواية تلك الأخبار، فنقلتها على علاتها ولم تظهر للقارئ أنها تستخف بها ولا تصدقها وتطمئن إليها، ولكنها نقلت كذلك أخبارا أخرى عن بعض المنجمين بمثل هذه الأمانة في الحكاية، وفيها ما فيها من التشكيك على الأقل بفريق من المحترفين لصناعة التنجيم.
قالت: إن ثلاثة من سبعة من كبار المنجمين المشهورين رسموا خريطة السيارات الشمسية فوضعوا الأسفل منها في موضع الأعلى، ولا تدري المجلة - كما تقول - أعن جهل كان ذلك أم إهمال؟
وقالت عن عالم برازيلي أنه ضجر من إلحاح بعض الناشرين عليه ليرسم له خريطة سماوية ومقرونة بالطوالع، فتخلص منه بإحالته إلى سكرتيرة ليقنعه أو يريحه من إلحاحه، فاخترع له السكرتير خريطة من عنده نقلها من بعض المهملات المهجورة، ولا تزال هذه الخريطة المخترعة تباع وتستشار في مهام الأمور.
ويتساءل كاتب البحث عن التنجيم: ترى ماذا يصنع المنجمون في أمر التوائم الذين يتشابهون بأسماء الأمهات والآباء وساعات الميلاد وأماكن الولادة، ولا يمكن أن يتفقا في حوادث الحياة؟
ويعجب الكاتب: لماذا يذكر الناس قليلا من الأخبار التي تصح ببعض التأويل بل لا تصح إلا مع التعسف في التأويل، ثم هم لا يذكرون عشرات الأخبار التي كذبت كل الكذب، ومنها أخبار المنجمين في القرون الوسطى عن نهاية الدنيا وهي قائمة بعد تلك النبوءات لا تزال؟
إلا أن المجلة في الواقع قد بالغت في احترام تلك الخرافات وفي مناقشتها كما يناقش الجد الذي تخفى أباطيله أو تحتاج إلى بحث يكثر فيه القال والقيل.
إن الأساس الذي يقوم عليه التنجيم قد تهدم، ولم يبق للمطلع على أبسط بسائط الفلك ذرة من الشك في بطلانه.
فهم يبنون علوم التنجيم على السيارات السبع، ويعدونها فيخطئون؛ لأنهم يحسبون القمر من السيارات وليس هو منها، ولا يحسبون الكرة الأرضية وهي في وسطها.
وكان المنجمون الأقدمون يجهلون ثلاثا من السيارات؛ لأنها لم تكشف قبل اختراع المنظار المقرب أو التلسكوب، وهي أرانوس الذي كشفه وليام هرشل سنة 1871، ونبتون الذي كشف في منتصف القرن الماضي، وبلوطس الذي كان معروفا بالظن، ولم يعرف على وجه التحقيق قبل سنة 1930. وأدل من ذلك على جهل المنجمين الأقدمين أنهم يذكرون بروج الفلك ويذكرون سلطان كل برج منها كأنه ثابت في مكانه، لأن معلوماتهم عن دائرة البروج ترجع إلى ما قبل الميلاد بمائة وخمسين سنة، ولأن الفلكيين قبل ذلك التاريخ كانوا يحسبون أن مدار الأرض فيها ثابت على اتجاه واحد، ولكن الفلكي هيباركس
Hipprchus
أثبت أن البروج تنتقل من أماكنها، وثبت بعد ذلك أن خط البروج انتقل قبل ألفي سنة من برج الحمل إلى برج الميزان، وأنه الآن ينتقل من برج الحوت إلى برج السنبلة، ولا تزال تتقهقر حقبة بعد حقبة حتى تعود إلى أماكنها، فلا يتم انتقالها إلا مرة في كل ستة وعشرين ألف سنة، ولا تتفق طوالع المواليد اليوم وطوالعهم قبل ألف سنة ولا قبل مائة سنة، لأن مواضعها في أفلاك البروج لا تزال في انتقال واختلاف.
هذه الحقائق الفلكية قد أصبحت أكثر من مجرد حقائق علمية يدرسها الرياضيون في مراصدهم، لأنها وقائع تلمس آثارها كل يوم في أرصاد الأجرام السماوية وأدوار المذنبات وحساب الكسوف والخسوف، وبها يستطيع الفلكيون أن يقدروا بالساعة والدقيقة مواقيت الحوادث الماضية في المنظومة الشمسية كما يقدرون أمثالها بعد ألف سنة، وكل حقيقة منها تنقض أباطيل المنجمين عن السيارات والبروج وعن الشمس والقمر من غير السيارات، وتثبت لنا أن أولئك المنجمين قد جهلوا ظواهر الفلك الواضحة فضلا عن أسراره المستورة عن النظر أو في مجاهل الغيب.
فهم لم يكشفوا السيارات نفسها فضلا عن أن يستعينوا بها على كشف الحاضر والمستقبل من حوادث الدنيا وضمائر الناس.
وهم قد جهلوا مراكز الأرض بين الأجرام السماوية، فضلا عن مراكز الأحياء والأموات الذين يعيشون، أو كانوا يعيشون على ظهرها.
وهم قد جهلوا أن البروج تنتقل من أماكنها فضلا عن الأماكن التي تتسلط عليها تلك البروج كما يزعمون، ومنها يتنبئون بتقلب الناس في الحل والترحال، وما يعترضهم في أسفارهم من السعد والنحس أو من الكسب والخسارة، وإن العلم الذي يخطئ فيما يعلمه الآن كل إنسان هيهات أن يحيط بالمجهول الذي لا يعلمه أحد، ولا يتأتى علمه لغير علام الغيوب.
إلا أن التنجيم الذي يقبل عليه المتمدنون في هذا العصر يعلمنا شيئا يعنينا جدا أن نعرفه عن أسرار النفس البشرية في كل زمن وفي كل بلد، ويبين لنا خفايا الضمير التي تبين على غير قصد من المنجمين ولا من طلاب التنجيم.
إن عبرة الإقبال على التنجيم في عصر العلم أن النفس البشرية لا تحب أن تنقطع عن عالم الغيب ولا تشعر بأن الظواهر المكشوفة تغنيها عما وراء الحجاب من مقادير الوجود، وقد يشبع العلم رءوس الناس ولكنهم لا يزالون بقلوبهم جياعا إلى غذاء آخر يستمدونه من قوة أخرى، وهو الذي يلتمسونه من هنا وهناك بين الصواب والخطأ وبين الهداية والضلال.
إن التنجيم باطل، ولكن شوق النفس البشرية إلى المجهول صحيح، وليس من النافع لها أن تكف عن طلبه، ولكن من النافع لها أن تميز بين طريق الهداية وطريق الضلال، وأن تطلب الحق حيث يطلب وإن طالت بها شقة الطريق. فليس يضيرها إذا استقامت على الجادة أن تطول الطريق.
ولا ندري ما هي النسبة العددية التي تظهر لنا بالمقارنة بين الأمس واليوم، هل يزيد الإقبال على التنجيم في بلادنا أو ينقص؟ وهل يصدق علينا ما ترويه المجلة الغربية عن العالم الغربي أو لا يصدق على ذلك المثال؟
ولكننا ندري - إن شاء الله - ما يجب علينا في هذا المقام.
ندري أننا سبقتنا الغرب إلى معرفة التنجيم آلاف السنين، فمن حقنا أن نسبقهم إلى العلم بأباطيله، وأن نقنع منه بنصيبنا في الماضي، فلا نشاركهم في بقيته الباقية بعد اليوم.
الفصل السابع عشر
الحج قبل الإسلام وبعده1
الحج فريضة قديمة في الديانات، ولم يوجد قط إلا في ديانة كبيرة، لأنه يستلزم انتشار الديانة في أماكن متعددة كما يستلزم قدمها وانتظام العمل بها في الأزمنة المتعاقبة عاما بعد عام أو موسما بعد موسم، ولا يتهيأ هذا وذاك إلا لديانة قد تأصلت في مكانها وزمانها.
وأشهر الديانات القديمة التي وجدت فيها فريضة الحج اثنتان: ديانة البراهمة في آسيا الشرقية، وديانة بني إسرائيل في آسيا الغربية.
أما الحج في الديانة البرهمية فلا صلة له بالإسلام، ولا مشابهة بينه وبين الفريضة الإسلامية في مناسكها ولا في حكمتها؛ لأنه يقوم على عقيدة تناسخ الأرواح والتطهر من الأوزار في هذه الحياة استعدادا لرجعة الروح إلى جسد أكمل وأنقى، وعند البراهمة أن الحاج يذهب إلى نهر «الكنج» ليغتسل فيه، فيتطهر من ذنوبه ويرجو بهذا التطهر أن يعاد إلى حياة أشرف من حياته الحاضرة في هذه الدنيا.
وذلك كما قدمنا أصل من أصول الحج بعيد من العقيدة الإسلامية، ولا وجه فيه للمقارنة بين العقيدتين وإثبات مواضع التطور بينهما مع اختلاف الزمن وتجدد البعثات.
أما الحج في ديانة بني إسرائيل فمرجعه الأقصى إلى دعوات إبراهيم وإسماعيل ويعقوب وموسى عليهم السلام، وهو السابقة التي لحق بها الإسلام ليتمها ويصححها، ومن هنا تتأتى المقارنة بين فريضة الحج كما بقيت عند بني إسرائيل، وبين هذه الفريضة كما أقرها الإسلام فأبقى منها ما أبقى، ونسخ منها ما نسخ، ثم تبين في بدء هذا التطور مبلغ التقدم الذي جاء به الإسلام في شعائر الدين ومناسك العبادة.
وأول الفوارق التي يتبين منها مدى هذا التطور أن الحج في بني إسرائيل إنما كان وسيلة لتدعيم سلطان الهيكل وكهانه، وإنما كان في أهم مناسكه فرصة لتزويد أولئك الكهان بالضرائب والإتاوات والقرابين، وقد صرحت بذلك مأثوراتهم كما رووها في العهد القديم، وفيه «إنه إذا قرب أحد قربانا يأخذ الدقيق ويسكب عليه الزيت ويجعل عليه لبانا ويأتي به إلى بني هارون الكهنة ويقبض منها ملء قبضته من دقيقها وزيتها مع كل لبانها، ويوقد الكاهن تذكارها على المذبح لتنبعث منه رائحة سرور للرب، والباقي من التقدمة هو لهارون وبنيه».
ومن أكبر الفوارق بين الحج كما دان به بنو إسرائيل وبين فريضته التي دان بها الإسلام أن مواسم الحج الإسرائيلية كلها مواسم زرع وحصاد، أو كما جاء في العهد القديم:
ثلاث مرات تعيد لي في السنة: عيد الفطير ... وعيد الحصاد ... وعيد الجمع في نهاية السنة ...
وفي جميع هذه الزيارات تؤدى الإتاوة لكهان الهيكل ... «ولا تظهروا أمامي فارغين ...»!
ومن سخافات المبشرين والمستشرقين أنهم يأخذون على الإسلام رمي الجمرات، وينسون أن شعائر الضحية كما يرتبها الكهان الإسرائيليون تتجاوز الاعتراف بوجود الشيطان إلى تقديم القربان إليه، فإذا كان يوم الكفارة جاءوا بجديين وفضلوا أحدهما بالقرعة فتقربوا به إلى الله، ثم تقربوا بالآخر إلى عزازيل؛ أي الشيطان.
وأبعد من ذلك عن نزاهة التوحيد أنهم يتصورون الذبيحة طعاما للإله جل وعلا، فيقولون: إنه سبحانه وتعالى يتنسم منها رائحة الرضى، وإنها سرور له متاع!
ولقد خطا الإسلام بالضمير الإنساني شوطا بعيدا في جميع هذه المناسك والعبادات.
فالمسلم لا يحج إلى الكعبة ليعزز فيها سلطان الكهان أو ليقدم إليهم القرابين والإتاوات، وإنما هي فريضة للأمة وفي مصلحة الأمة وعلى شريعة المساواة بين أبناء الأمة، وهي بهذه المثابة فريضة اجتماعية تعلن فيها الأمم الإسلامية وحدتها، والمساواة بين الكبير والصغير أمام الله وعند بيت الله.
وليس المقصود بالضحية في الإسلام أنها طعام للكهان أو طعام للإله أو قربان لكسب الرضا من عزازيل، ولكنها صدقة أو سخاء من النفس في سبيل العبادة يشير بها الإنسان إلى واجب التضحية بشيء من الدنيا في سبيل الدين، متجشما لذلك مشقة الرحلة وتكاليفها جهد المستطيع.
ويمتاز الحج في الإسلام بدلالته الروحية التي لا ترتبط بمواسم الزرع والحصاد، فإنه يتفق في جميع المواسم والمواعيد، ويأتي في الشتاء أو الصيف كما يأتي في الربيع، وهو بهذا المعنى علاقة سماوية روحية تناسب مقصدها الأسمى من تحقيق الرابطة بين الأمم التي تدين بعقيدة واحدة في أرجاء الكرة الأرضية، على تباعد مواقعها واختلاف أجوائها وفصولها، فهو رابطة من روابط السماء تؤمن بها أمم وحدتها العقيدة السماوية وإن فرقت بينها شتى المطارح والبقاع.
والواقع أن فرائض الإسلام جميعا تقوم على الصلة الاجتماعية مع قيامها في الوقت نفسه على ضمير الفرد بينه وبين الله.
والحج أظهرها وأجهرها بهذا المعنى، ولكنه كذلك معنى يظهر في كل فريضة من فرائضه الخمس المشهورات، فمن قال : «أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله» فإنما هو إشهاد تلاحظ فيه الجماعة كما تلاحظ فيه ضمائر الأفراد، وليست صلاة الجماعة منسية مع الصلوات التي ينفرد بها المسلم إذا تعذر عليه الاجتماع، وفريضة الزكاة لا تكون إلا في مجتمع يتعاون فيه الغني والفقير، وصيام رمضان ينتهي بالعيد الذي يجتمع فيه المسلمون كافة، فما من فريضة إذن في الإسلام إلا وهي فريضة الأمة بأسرها على نحو من الأنحاء.
ولقد طال بحث المؤرخين الغربيين عن أصول الحج إلى الكعبة قبل الإسلام، وتواترت الأقوال بتعدد الأبنية التي كانت من قبيلها في الجزيرة العربية، ومنها كعبة صنعاء التي يقال إنها كانت في موضع مسجد غمدان وكعبة نجران التي كشفها الرحالة المعروف الشيخ عبد الله فلبي (في سنة 1936) وغير هاتين الكعبتين مما ورد في بعض الأخبار الضعاف بغير سند من دلائل الثقات.
وأيا كان القول الفصل في تاريخ الماضي فالحج الإسلامي في عصرنا هذا هو الفريضة الوحيدة الباقية من قبيلها في جميع الأديان الكتابية.
فهيكل بيت المقدس قد تهدم منذ القرن الأول للميلاد، ولم يرد في الأناجيل المسيحية نص على مكان مقدس مفروض على المسيحيين أن يحجوا إليه، وكل ما عرف بعد القرون الأولى فإنما اتبع فيه الخلف سنة الملكة هيلانة أم الإمبراطور قسطنطين التي قيل إنها وجدت الصليب الأصيل في فلسطين عندما توجهت إليها لزيارة آثار السيد المسيح، وهي قصة يكفي للدلالة على قيمتها التاريخية أن رواتها جميعا نقلوها بعد عصر الملكة هيلانة، وأن مؤرخ العصر الأكبر يوسيبيوس
Eusebius
لم يشر إليها بكثير أو قليل على شدة اهتمامه باستقصاء الأخبار التي لا تذكر بالقياس إلى هذا الخبر العظيم.
ثم تتابعت القرون والدول التي تنتسب إلى المسيحية تتذرع بالأماكن المقدسة لترويج مطامعها السياسية، فروسيا القيصرية تدعي حمايتها على مذهب الكنيسة الشرقية، وملوك فرنسا يدعون حمايتها على مذهب الكنيسة الغربية، ولما ذهب هؤلاء الملوك وتبعتهم دولة الجمهورية «اللاتينية» كانت الغيرة على الحج في عهدها على أشدها وأقواها ونشأت في أيامها صحيفة الحاج
التي بلغ المطبوع من أعدادها مئات الألوف وامتلأت صفحاتها بأنباء المعجزات والكرامات التي تشاهد في أرض الميلاد، وتضافرت الدولة والكنيسة على ترويجها خدمة لمطامع الاستعمار.
ثم تقلبت الأيام حتى رأينا دعاة الاستعمار يسلمون الأماكن المقدسة إلى أيدي الصهيونيين!
أما فريضة الحج الإسلامي فقد بقيت لها رسالتها التي لا عبث فيها ولا موضع للمكر والدسيسة من ورائها، وإن رسالتها اليوم في العالم الإسلامي لأعظم وألزم من رسالاتها في جميع الأزمنة، لأنها العهد المجدد في كل عام بين شعوب الإسلام، وفي عصرهم أحوج ما يكونون فيه إلى الوفاق والوئام.
الفصل الثامن عشر
أفغانستان وانتشار الإسلام في الهند
في مقالنا عن استقلال الأفغان، قلنا: إن الخالق سبحانه وتعالى هو الذي كتب وثيقة الاستقلال للأمة الأفغانية حين أودع العزة في نفوس هذه الأمة العريقة، وخلقها عصية على الفاتحين، وأعصى من ذلك كثيرا على الحاكمين المستعمرين.
وللتاريخ مواضع استفهام عن أطوار الأمم تخطر للسائل، ويلتمس الجواب عنها من هداية فكره، ومن دلالة الحوادث والمقابلة بين نقائضها وأشباهها.
وبعض مواضع الاستفهام هذه في تاريخ الأفغان أنها قوية، تصير على الشدائد، وتقتحم المكاره، ولكنها قنعت من القوة في أكثر العصور، بأن تجعلها أداة لحفظ الحرية ومناعة الحوزة، قليلا ما جعلتها أداة للغلبة والطموح إلى توسعة الملك وبسط السلطان على الآفاق المترامية من حولها.
لم تكن هذه نظرتها إلى القوة، ولم تكن لها نظرة إليها كنظرة الفاتحين من أبناء الأمم المشهورة بالإقدام وشدة المراس وقلة الاكتراث بمخاطر الحروب والفتوح؛ ليس عن قصور في الهمم ولا عن زهد في العظمة كما كانت مفهومة في أزمنة الفتح والغلبة.
ولكنها ظاهرة من ظواهر التاريخ يفسرها موقع الأفغان، ثم يفسرها الدور الذي اختارته لنفسها بين دول المشرق الكبرى، وقد كانت كلها محيطة بالأفغان من الشرق والغرب والشمال والجنوب. •••
كانت الأفغان شعب قبائل متعددة لا تلتقي في وحدة حكومية، وكانت الدول من حولها «إمبراطوريات» شاسعة الأطراف: بين إمبراطورية أبناء السماء، وإمبراطورية الراجات، وإمبراطورية الفرس أيام استقلالها وأيام دخلت مع العرب في دولة واحدة هي دولة الإسلام.
فماذا تصنع الأفغان بين هذه الدول الكبار؟
إذا استطاعت أن تؤلف بين قبائلها للمحافظة على استقلالها ودفع الطغيان عنها، فقد وفت بحق الكرامة وأدركت منها ما يعز على سواها في مكانها.
ولكنها استطاعت هذا وزيادة.
استطاعت أن تتولى شئونها وأن تتولى معها مهمة الرئاسة الفعالة في كل دولة اشتركت فيها، واستطاعت مع هذا أن تنهض للفتح في جوارها كلما دعتها إليه ضرورات الموقف أو حوافزه التي لا تهمل في زمانها. •••
واستطاعت ذلك كله على ثلاث صور بينة في تاريخها مع الدول الإسلامية:
أولها:
أنها كانت ميزان الدولة التي تترجح في كفة البقاء أو كفة الزوال.
فالدولة الأموية زالت، وقامت في مكانها الدولة العباسية، يوم أعرضت خراسان عن الأولى وجنحت إلى الثانية، والدولة العباسية عادت فضعفت وتعرضت للزوال، يوم فقدت معونة خراسان.
والصورة الثانية:
التي أثبتت بها مكانها في الدولة أنها أخرجت للعباسيين بيوت الوزارة والولاية من البرامكة والطاهريين والسامانيين.
والصورة الثالثة:
أنها تكفلت لدولة بغداد بفتح الهند ونشر الإسلام فيه، فكان جانبها هو الجانب الوحيد الذي اتسع بالفتح وانتشار الإسلام، يوم كانت جوانب الدولة الأخرى تنتزع منها قطعة بعد قطعة، ويجور عليها الأعداء من خارجها أو المتمردون المنتقضون عليها من داخلها.
والدول الأفغانية الثلاث التي نهضت بفتح الهند هي دولة بني «سبكتكين» ودولة الغوريين ودولة آل قيلجي، ولا سيما علاء الدين. •••
وليس سبكتكين من صميم أبناء الأفغان، ولكن نشأته أفغانية ودولته أفغانية وقوته التي اعتمد عليها في نجاح حكمه ونجاح فتوحاته أفغانية، ولا يمكن أن تعرف بنسبة أخرى إذا وجب أن تنسب إلى قبيل أو نظام.
إن الإسلام دخل الهند من طريقين: طريق الفتوح وطريق الرحلة والتجارة.
وبعد فتح السند في أيام الأمويين لم تعرف للإسلام فتوح ذات بال غير الفتوح التي قامت بها الدول الأفغانية، ولكنهم في الواقع لم ينشروا الإسلام بالسيف، بل كان السيف يفتح لهم باب البلد، وتتكفل السياسة الرشيدة والمعاملة الحسنة بالبقية التي يعمل فيها الإقناع وحسن القدوة ما لا تعمله السيوف والعروش. •••
ولقد كان نصر المسلمين في الهند آية، عند الهنود، من آيات المشيئة الإلهية، وكثير ممن آمنوا منهم بصدق الإسلام إنما أقنعهم بمصدره الإلهي أنه انتصر على جيوش تفوقه في العدد والعدة، وتقيم في مواطنها ومعاقلها بين موارد تموينها وأمداد الجند والمال المتوالية عليها، وكانت فتوح الإسلام أشهر من فتوح القادة الأقدمين الذين بقيت في الهند ذكراهم مقرونة بالإعجاب والرهبة، ولا استثناء في ذلك للإسكندر في أوج شهرته، فإن الإسكندر لم يصل إلى «الدكن» التي وصل إليها قادة الأفغان، ولم يبق بعده أثرا من فتوحه كما بقيت آثار الفاتحين من المسلمين في حياتهم وبعد حياتهم، ولا تزال باقية فيها إلى هذه الأيام.
فلم يكن قادة الدول الأفغانية فاتحين للبلدان وكفى، ولكنهم كانوا فاتحين للقلوب وفاتحين للعقول، وربما اجتمع في بلاط أمرائهم - في جيل واحد - أقطاب من طبقة الفارابي والبيروني والفردوسي والعنصري والعسجدي وأبو بكر الخوارزمي وبديع الزمان الهمذاني، وما زالوا يقربون إليهم في كل وطن فتحوه صفوة أبنائه من الحكماء والفضلاء على اختلاف النحلة واللسان، ومن آثار فتوحهم أنهم نقلوا إلى الهند لغة من أشيع لغاتها الحاضرة، وهي اللغة «الأردية» التي يتكلمها من المسلمين وغير المسلمين عدد لا يضارعه عدد المتكلمين بإحدى لهجاتها الإقليمية.
وعرف خلفاء بغداد هذا الفضل لقادتهم المفلحين، فكان من الألقاب التي خلعوها عليهم لقب أمين المملكة ويمين الدولة فضلا عن ألقاب السلطنة والإمارة، وفي واحد من هؤلاء يقول أبو الفتح البستي يرثيه:
قلت إذ مات ناصر الدين والدو
لة حياه ربه بالكرامة
وتداعت جموعه بافتراق
هكذا هكذا تكون القيامة
ولكنها قيامة كانت تقيم الموتى وتبعث الحياة ويتلوها عمار وازدهار في مختلف الأقطار.
وبعد، فموضع الاستفهام عن قوة الخلق الأفغاني هذا جوابه: إنه خلق قوي لم يعوزه الطموح، وعلو الهمة، ولكنه أثبت نصيبه من الطموح وعلو الهمة في خير صورة تلائمه وتنفعه ويؤدي بها أمانته القومية.
كان شعبا من قبائل لم تجمعها في عهد الدول المحيطة بها وحدة حكومية، وأحاطت بها دول كبار كدولة أبناء السماء ودولة الراجات ودولة الأكاسرة والخلفاء. فإن لم تقنع بحريتها وحماية حوزتها فلا بد لها من الغلبة على الصين والهند وأرجاء الدولة الإسلامية، وإن قنعت بحريتها وحماية حوزتها فقد وفت بحق الكرامة.
ولكنها وفت بحق الكرامة وزادت عليه، فحفظت وجودها في حدودها، وأثبتت وجودها وراء تلك الحدود مما وراء النهر شرقا إلى ما وراء النهرين غربا، وفتحت بلادا يسكنها الآن من المسلمين عشرة أمثال أبنائها في وطنهم العريق.
الفصل التاسع عشر
العلية الجديدة في نيجيريا1
ألف هذا الكتاب الأستاذ هيو سميث مدرس علم الاجتماع وعلم الأجناس البشرية بكلية بروكلن، وساعدته في تأليفه الأستاذة مابل سميث مدرسة علم الاقتصاد بكلية مدينة نيويورك، واسم الكتاب «العلية الجديدة في نيجيريا» يشير إلى موضوعه، وهو استقصاء تاريخ الطبقة المتعلمة التي تستولي الآن على مقاليد الحكم في بلاد نهر النيجر بعد إعلان استقلالها منذ شهر أكتوبر من السنة الميلادية الماضية (1960).
وقد تناول المؤلفان دراسة أحوال النيجيريين المسلمين بمقدار مساسها بهذا الموضوع في حدوده الواسعة، فهما لا يبحثان في الدين الإسلامي ولا في شعائر الإسلام الدينية، ولكنهما يبحثان في الأحوال الإسلامية التي كان لها أثر اجتماعي سياسي في تكوين طبقة الرؤساء والقادة بين النيجيريين، ولا سيما أبناء الشمال من بلاد نهر النيجر؛ لأنها مقر العشائر المسلمة هناك.
ألمع المؤلفان في مقدمة البحث، إلماعا خفيفا إلى الفارق بين الشمال والجنوب في عناصر الدراسة العامة التي تحيط بأطراف هذا الموضوع، فإن استجماع هذه العناصر في الجنوب سهل ميسور من الوجهتين الجغرافية والاجتماعية، لأن مواصلاته الطبيعية كثيرة مفتحة الأبواب ، وشئونه الاجتماعية لا تخفى على الأوروبيين بعد انتشار التبشير بين العشائر الوثنية وتحويل بعض أبنائها إلى المذاهب المسيحية، ومنهم من ارتقى إلى مناصب القساوسة والأساقفة، ومن أهلته معلوماته الحديثة التي استفادها من مدارس المبشرين لولاية الوظائف الحكومية والاختلاط بالرؤساء البريطان وسائر النزلاء.
أما بلاد النيجر الشمالية فمواصلاتها الطبيعية غير ممهدة، ولم يذكر المؤلفان أن الحكومة الأجنبية أهملت تذليل صعوباتها؛ لحذرها من التقريب بين عشائرها، وقلة اطمئنانها إلى رؤسائها الدينيين المسلمين، وندرة الموظفين من أبنائها لإعراضهم عن مدارس التبشير، ولكن هذا الإهمال من جانب الحكومة ملحوظ من مراجعة فصول الكتاب وإن لم يذكره المؤلفان.
ويضاف إلى صعوبة المواصلات صعوبة أخرى اجتماعية، هي انتظام العلاقات السياسية والحكومية في أنحاء الشمال على قواعد العادات الإسلامية، ومنها الحجاب وشرائع الزواج والطلاق والميراث، وقد يكون منها قلة الاختلاط بين قادة المجتمع ورؤساء الدواوين، وندرة العارفين باللغة الإنجليزية من أبناء الشمال في أول عهد الاستعمار، خلافا للجنوبيين الذين أقبلوا على هذه اللغة وغيرها من اللغات الأوروبية واستخدموها للتفاهم بينهم عند تعذر التفاهم باللهجات الوطنية.
ويرجع المؤلفان إلى أقوال المؤرخين عن أصول العلية الأولين، فيذكران أقوال المرجحين لقدومهم من بلاد البربر وأقوال الآخرين الذين رجحوا أنهم طوائف من أبناء صعيد مصر هاجروا إلى المغرب ثم إلى الجنوب منذ ستة قرون، ولكن المحقق في العصور التاريخية القريبة أن قبائل زغاوة زحفت خلال القرن السابع للميلاد إلى وادي النيجر، فاستولت على مقاليد الحكم حول بحيرة شاد وما جاورها من الأقاليم الزراعية، وأشاعت بين هذه الأقاليم لغة وطنية تمتزج فيها العربية والبربرية وتستخدم الآن لتبادل المعاملات التجارية من غانا إلى بلاد الكاميرون، وقد كانت ذبابة مرض النوم حائلا دون القبائل المغيرة التي تعتمد على الخيل في غزواتها؛ لأنها تصيب الخيل كما تصيب الإنسان.
وقد أطلق اسم «الفلانية» على المسلمين الوافدين ومن دخل معهم في الإسلام، وظهر منهم من تسمى باسم أمين المؤمنين، وهو «ساركن مسلى» في تلك اللغة الممزوجة بكثير من الألفاظ العربية والبربرية، وتعتبر عشيرة «الهوسا» الفلانية أقوى طوائف النيجر الشمالية، تعيش معها أكثر من عشرة بطون صغيرة يدين معظم أبنائها بغير الإسلام.
والفوارق بين الشمال والجنوب - كما تدل عليها معلومات المؤلفين - تتلخص في فارق واحد يشملها وقد يغني القارئ العجلان عن تفصيلها: وذاك أن الآداب الدينية في الشمال أقوى وأعم من الآداب الوطنية أو النزعة القومية، وعلى نقيض ذلك تشتد المطالب الوطنية في الجنوب وتضعف المقاومة الدينية، وهو أمر معقول يوافق المنتظر من أناس ليست لهم ديانة ذات «دعوة» تقاوم دعوة المبشرين، وليس بينهم عشيرة واحدة تستطيع أن تعمم عقائدها الدينية أو أساطيرها الموروثة، بين جميع القبائل التي بقيت على الوثنية. ويأتي بعد هذا الفارق الشامل فارق آخر يشمل الأقاليم الشمالية ويكاد أن يضم الاعتبارات المحلية الجغرافية إلى اعتبارات العقيدة والألفة الاجتماعية، وذلك أن طوائف المسلمين المعروفة باسم الفلانية تعودت أن تأوي إلى المدن المسورة وهي على الأغلب الأعم تخلق أسباب الوحدة «المدنية» بين سكانها ولو كانوا من نحل متعددة، فإذا كان الدين الغالب هنالك بين أبناء المجتمع المدني دينا قويا يقابل دعوة التبشير بالمقاومة أو يقابلها بدعوة تماثلها، فمن الطبيعي المنتظر في هذه الحالة أن تسودها الآداب الدينية الغالبة وأن تسري غيرة الكثرة العظيمة على عقيدتها إلى شركائهم في الوطن من قبائل الوثنيين، دفاعا عن كيانهم الاجتماعي أو السياسي مع جيرانهم من أبناء الكثرة القوية، أو المسلمين.
وقد أحس الشماليون بما يتعرضون له من هضم حقوق الوطنية وجرائر الابتعاد عن وظائف الدولة إذا طال اعتزالهم لمدارس التعليم الحديث، فنهضوا لتدارك هذا النقص وأسسوا (سنة 1923) جماعة أنصار الدين، ثم نشروا فروعها في المدن الكبيرة وتمكنوا من الإشراف على المدارس الحكومية وغير الحكومية، ونشطت منهم هيئة - على مثال النقابات - لجماعة المعلمين، فأصبحت نواة للحركة السياسية وأسهم القائمون بها في الحركة الوطنية سواء إلى جانب الحكومة أو إلى جانب المعارضة، بعد قيام الحكم الدستوري وإعلان الاستقلال.
وتتألف العلية الشمالية من جماعة المتعلمين ومن كبار التجار وأصحاب المزارع والموظفين وربما سرى إليهم شيء من وعي «الطبقة» على اعتبارهم جميعا حكاما أو مرشحين للحكم قبل إعلان الاستقلال أو بعد إعلانه، ولكنهم على الرغم من وحدة الطبقة لا ينفصلون عن قبائلهم ولا يزال أدب التوقير والرعاية بين شيوخهم وشبانهم، وبين كبارهم وصغارهم، يجري على سنة الأسرة العريقة ولا يسمح للنزعات المتطرفة بالظهور.
ومن الأحاديث التي نقلها المؤلفان في هذه المسألة، وفيما يرتبط بها من مسائل الدرجات الاجتماعية؛ حديث منسوب إلى زعيم تنقل بين البلاد الأوروبية بضع سنوات، وسئل عن آثار حياة المدنية في آداب قومه، فقال: «إن الناس يفدون إلى المدن طلبا للعلم أو طلبا للمال أو رغبة في المعيشة على مثال أفضل وأيسر من معيشة القرية الريفية العتيقة، ولكنهم يظلون على الرغم من هذه الشواغل مستمسكين بعادات الاحترام والرعاية لكبراء السن والمقام، ويحبون أن يحتفظوا بالتراث القديم.»
وقال زعيم آخر من أسرة حاكمة: «إن الشعور بأواصر العشيرة يتغلغل أعماقنا وتقوم عليه قواعد حياتنا السياسية، وهو القوة المسيطرة في البلاد النيجيرية الآن.» •••
والمؤلفان ينسبان إلى التقاليد الإسلامية تخلف الشمال في حركة المقاومة، أو حركة المعارضة للحكم الأجنبي، ويقولان بعد الإشارة إلى النظام الإقطاعي: «إن بلاد الشمال الإقطاعي يندر فيها المتعلمون من الطبقة العالية وهم - على الجملة - حذرون متأدبون، بل خاضعون أحيانا في علاقتهم بالحكام البريطانيين. ومما يؤخر ظهور النزعة المستقلة بينهم أن المناصب الكبرى هناك يشغلها البريطانيون وقد عودتهم مأثوراتهم الإسلامية عادات الاحترام من التسليم والسجود والانحناء وخلع النعال، حتى ليغلب عليهم دون التفات منهم إلى ما يصنعون أن يبادروا إلى توقير كل من هو أرفع مقاما كيفما كان.»
وأغرب ما في هذا التعليل أن يفهم المؤلفان أن خشوع المسلم في صلاته يعوده أن يسجد لغير الإله المعبود، وقد كان الأحرى بينهما أن يعلما حقيقته فلا يفوتهما أن هذا الخشوع في موقف العبادة خليق أن يذكر الإنسان باجتناب عبادة الإنسان، ويحذره من التورط في الكفر بالتسوية بين الصلاة للخالق والصلاة للمخلوق، ولكنهما لو ذكرا للخضوع أو للخشوع سببا آخر لكشفنا عن سبب لا يرضيهما أن يعترفا به وما فيه من المساس بالحكم الأجنبي ونظام التبشير وعلاقته بالسياسة الاستعمارية في البلاد الأفريقية والبلاد الإسلامية منها على التخصيص.
فالسياسة البريطانية تقوم في المستعمرات على الحذر من أصحاب الدولة الأقدمين، وعلى الحذر قبل ذلك من الثقافات الاجتماعية التي تقاوم ثقافة الأجنبي وتوحي إلى أبنائها مذهبا من مذاهب الحكم والنظام، يعارض المذهب الطارئ عليهم من أساسه ويستطيع أن يزود المحكومين بنظام يناظره ويتحداه. وقد صرح أساطين الاستعمار البريطانيون بخطتهم السياسية - الهندية - هذه غير مرة، فقال لورد ألنبرو: «ليس يسعني أن أغمض عيني عن اليقين بأن هذا العنصر الإسلامي عدو أصيل العداوة لنا، وأن سياستنا الحقة ينبغي أن تتجه إلى تقريب الهنديين.»
وهذه الخطة بعينها هي الخطة التي جرت عليها السياسة الاستعمارية بين الأفريقيين كلما صادفتهم كثرة إسلامية تجاورها قلة متفرقة من الوثنيين أو غير المسلمين على العموم، فإنهم يتعمدون إقصاء الرءوس المطاعين بين العشائر المسلمة ولا يبالون أن يتبعوا خطة السماحة والإغضاء مع القبائل الوثنية المتفرقة؛ لأنها لا تستطيع أن تقابلهم بإجماع متجانس يخافون عقباه. فإذا تولى وظائف الدواوين من أهل نيجيريا الشمالية أناس مستضعفون لا يجدون لهم رءوسا من أبناء جلدتهم يطيعونها ويأتمرون بأمرها، فهذه هي ذلة المستضعف أمام السادة الأجنبيين، ولا حيلة للواحد أو الاثنين أو الثلاثة من علية الوطنيين المقبولين عند أولئك السادة غير الخشوع والاستسلام. وقد يكون الخشوع والاستسلام ديدنا معروفا عنهم قبل أن يظفروا برضوان المستعمر واطمئنانه، فيعهد إليهم بالوظيفة المرموقة ولو كانت ذات شأن خطير يخشاه المستعمر إذا تولاه المحكمون غير المأمونين.
واطردت هذه الخطة السياسية إلى ما بعد الحرب العالمية الأولى، ثم تقرر نظام الوصاية والانتداب فاضطر الحكام الأجانب إلى اتباع النظم الدستورية والتعاون مع الزعماء الوطنيين الذين تنتخبهم شعوبهم ولا يتأتى للحاكم الأجنبي أن يتخطاهم مهما يبلغ من تلفيق الدساتير وتزوير الانتخابات، فكان الاعتراف بزعماء المسلمين قضاء محتوما لا سبيل إلى اتقائه بغير الحيلة والمحاسنة، وكان من أساليب هذه المحاسنة أنهم أخذوا يرحبون بأبناء العلية الأولين ويشجعونهم على إتمام دروسهم بالجامعات الإنجليزية، وثابروا عدة سنوات على اختيار أربعة من طلاب الجامعات في كل سنة يتكفلون بهم ويسندون إليهم كبار المناصب بعد عودتهم إلى بلادهم، ومنهم السيد أبو بكر طفاوة أول رئيس وزارة تولى رئاسة الحكومة الاتحادية بعد إعلان الاستقلال منذ ستة شهور.
وقد أراد الاستعمار أمرا وأراد الله غيره، فكان أسبق النيجيريين إلى ولاية الحكم بين أبناء وطنهم، أولئك الذين أقصاهم المستعمرون عنه، ودبروا بالأمس تدبيرهم الطويل لنفيهم عن الكبير والصغير من وظائف الدواوين.
الفصل العشرون
مراكش مستقلة1
الأستاذ روم لاندو أستاذ الدراسات الإسلامية ودراسات إفريقية الشمالية في جامعة المحيط الهادي بمدينة كليفورنيا، وهو سائح باحث قديم عهد بالبحث في مسائل الديانة عامة، والديانة الإسلامية خاصة، وله مؤلفات كثيرة في هذه المسائل على تعدد أبوابها، وبعضها مقصور على البحث في الحياة الإسلامية كما عرفها بين المسلمين من أبناء المغربين الأدنى والأقصى حيث قضى سنوات من حياته، ولا يزال يقضي ما اتسع له من الوقت في إحدى حواضرها.
وفضيلة هذا المؤلف في كتاباته عن المسلمين أنه يشغل نفسه بالتفتيش عن الجانب السليم أو جانب الأمل من الحياة الدينية والدنيوية بينهم، وليس كل شغلانه بالتفتيش عن الجوانب التي تبعث التشاؤم من الناحية الإسلامية وتبعث التفاؤل من الناحية الأخرى التي تقابلها: ناحية أولئك الذين يتربصون بالإسلام الدوائر من كتاب التبشير والاستعمار.
وعلى سنته هذه جرى في الكتابة عن حالة المسلم العصري المثقف، وغير المثقف، في البلاد المراكشية بعد استقلالها، وبخاصة فيما يتراءى للمراقبين الأوروبيين الذين يزورون البلاد وينظرون إلى أثر الحضارة والحرية على قوة العقيدة الدينية بين الشبان المتعلمين، وقد كتب أحد السائحين الإنجليز مقالا زعم فيه أن طوالع الأحوال كما رآها أخيرا تدعو إلى اليقين بانفضاض البلاد عن الدين وإقبالها على المراسم الأوروبية بعد سنوات قليلة فيما يتعلق بنظم الحكم ونظم المعيشة التي تتصل بالمعاملات الأجنبية، سياسية كانت أو اجتماعية.
فكتب الأستاذ لاندو يرد على ذلك السائح بما وعاه من مشاهداته الكثيرة، ومنها أحاديث المتعلمين في وليمة بمدينة مراكش حضرها وذكر أن الحديث على المائدة أوشك أن يدور على موضوع واحد وهو موضوع التصرف، ثم قال:
شجعني موضوع هذا الحديث على إثارة السؤال عن حالة الإسلام في مراكش المستقلة، فبعثت كلماتي حماسة عظيمة وكاد الحاضرون أن ينطقوا بالكلام معا دفعة واحدة. ثم تكلم الحاكم نفسه - وهو أوفرهم نصيبا من التربية الأوروبية - فأفضى بما يعتبر الرأي الفصل المتفق عليه بين الحاضرين، وفحواه أن السائح الأجنبي يستحيل عليه أن ينفذ إلى حقيقة الحياة الدينية الإسلامية. فإن الشاب المراكشي قد يشرب ويطلق لسانه بالحديث في مظاهر المعيشة الأوروبية، ولكنه إنما يفعل ذلك حبا للظهور أو لاختيار نوع غريب من المعيشة، وقد يتخلف عن الذهاب إلى المساجد، ولكنه يؤدي الصلوات في مواقيتها ويدين بالمهم الأساسي من الفرائض الدينية، وإذا احتاج إلى الهداية الروحية في أزمات ضميره فإنما يتجه بطلب هذه الهداية إلى القرآن. ولا تزال علاقاته بأبويه وبأهله وبما يؤمن به من فضيلة أو رذيلة هي تلك العلاقات التي يستوحيها من الآداب الإسلامية. وربما خطر له أن يوقع في روع صاحبه الأوروبي أنه رجل (متقدم) يتخلى عن القديم ليأخذ بالجديد، ولكنه ضرب من الدفاع عن الذات أمام الغريب؛ إذ هو على يقين أن هذا الغريب يجهل حقيقة الإسلام ويعتبره في عرفه مرادفا للرجعية. على أن الغرباء الأجانب إنما يسمعون هذه الأحاديث من فئة قليلة بين الذين يقال عنهم إنهم فكريون
Intellectuals
ويجوز أن يكون بعضهم قد تحول عن ديانته ليدين بالمذاهب الهدامة. إلا أن هؤلاء الفكريين المزعومين لا يمثلون أحدا في الأمة المراكشية في حياتنا اليومية ...
وقد سرد الأستاذ لاندو في الكتاب أحاديث شتى سمعها من الشبان والشابات، وروى جملة من المشاهدات التي مر بها اتفاقا من العواصم وقرى الريف، ومن أعجبها عنده أنه كان يتحدث إلى فتاة متعلمة تحسن الكلام بالفرنسية كإحدى الفرنسيات، وكانت تشترك في أحاديث المجلس وهي مقنعة بقناعها التقليدي، فسألها: كيف توفقين بين عادة البرقع وهذه الآراء العصرية التي تجهرين بها؟ فكان جوابها أن الإنسان لا يعتقد ما يعتقده بملابسه وأنها تستطيع أن ترفع القناع، ولكنها لا تحب أن تؤلم أباها وأمها بعمل لا يستريحان إليه. وحكى أنه يركب أحيانا إلى منازه المدن فيرى الفتى الناشئ ينزل عن مطيته في موعد صلاة المغرب ينتحي جانبا ويؤدي صلاته قبل مواصلة السفر إلى وجهته. وحكى عن طائفة الاتباع والخدم الذين عرفهم في بيته أو في بيوت أصحابه أنهم يعاشرون الأجانب زمنا، ولكنهم يقومون بفرائضهم ولا يشربون الخمر أو يأكلون المحرمات.
ولم يستطع الرجل أن يحكم على الذين حادثهم واختبر شئونهم من أبناء البلاد بحكم واحد يشملهم جميعا، ولكنه استطاع أن يقول: إن الأوروبيين المتعجلين يخطئون الظن خطأ بعيدا إذا اعتزوا بظواهر الفرنج وحسبوها علامة على المروق من العقيدة، فإن الظواهر خداعة في مسائل الدين التي تنطوي عليها الضمائر خلال عصور المحنة، وليست هي بالعلامة الصادقة على الشعور الخفي الذي لا يدركه صاحبه أحيانا، فضلا عن الغرباء من أبناء وطنه أو أبناء الأوطان الأجنبية.
فربما شوهدت الغيرة على الإسلام بين أناس يهملون الشعائر ويخالفون الفرائض ولا يحرصون على التقاليد، وربما كانت الغيرة الوطنية التي تحتدم في نفوس الكثيرين من الساسة المتطرفين قبسا من غيرة المسلم على حماه وعلى تاريخه القديم، ولا يجوز أن يفهم الأوروبي أن المسلم يتخلى عن نسبته إلى الإسلام إذا لاح عليه أنه قد تخلى عن بعض الشعائر والتقاليد.
والذي نحب أن نزيده على تعليقات الأستاذ لاندو أن أمثال هذه الظنون التي تخامر بعض الكتاب عن الإسلام قد سلفت في الأزمنة الخالية غير مرة منذ أوائل الدولة الأموية إلى هذه الأعوام الأخيرة، وقد خفيت على مؤرخي القرون الخالية دلالتها العارضة ودلالتها الدائمة، فخطر لهم في كل مرة أنها نذير بزوال الدين أو عرض من أعراض النهاية التي يقدرونها لكل عقيدة كما يقدرونها لكل حضارة أو لكل نظام من نظم الاجتماع، ولو أن المتأخرين استفادوا من عبر الماضي لاجتنبوا الخطأ في رأي واحد بين سائر الآراء، وهو خطأ الظن بأنها «الشيخوخة» قد عرضت للدين نفسه وآذنت بانتهاء حياة الإسلام إلى ما تنتهي إليه كل حياة. فإن العرض الواحد لا يكون من أعراض الشيخوخة عشر مرات.
حدث في أواخر أيام الخلفاء الراشدين أن المسلمين الذين انتقلوا إلى البلاد المفتوحة فتنوا بمحنة الحضارات المنحلة، وقارفوا بعض منكراتها، وهجروا بعض عاداتهم، فخيل إلى أعدائهم كما خيل إلى بعض الغلاة منهم أنها نذر الضياع على قول فريق، ونذر القيامة على قول آخرين، وجاء «رد الفعل» كما نقول في اصطلاح هذه الأيام غلوا من الخوارج في التشديد وإمعانا من الأعداء في الدس الخفي أو في العدوان الظاهر، ثم انقضت الدولة كلها - وهي أول دولة إسلامية - وقامت بعدها دولة العباسيين على أساس من الغيرة للدين والنخوة لبيت النبوة، وتكررت هذه الظاهرة على مثال أخطر وأكبر في إبان دولة العباسيين، فإن احتكاك العالم الإسلامي من جميع الأجناس بدعا كهذه البدع التي يذكرها السائحون المعاصرون، ويرد عليهم الأستاذ لاندو بما أجملناه. كان الرجل منهم يتظرف بالزندقة ليقال عنه إنه من التقدميين على اصطلاحنا في هذه السنين، وكان الفكريون المزعومون يلقى بعضهم بعضا بالسؤال عما يعتقده مذهبا له كأنما كانت عقائد المذاهب ضربة لازب مع العقيدة الإسلامية العامة كما قال ميسرة بن حسان السمري يسأل ابن أبي الشيخ:
دخلتنا الشكوك يا ابن أبي شي
خ بأي الأديان أنت تدين
وإلى أيها تميل أبا جع
فر كم ذا الهوي وذا التلوين؟
وكان «التظرف» يقضي على أدعيائه أن يخلطوا الهزل بالجد في دعاوي المجون والحكمة وشواغل الأدب وغير الأدب كما قال ابن الرومي في صاحبه أبي علي البصري:
قولا لطوط أبي علي
بصرينا الشاعر المنجم
المنذر المضحك المغني
الكاتب الحاسب المعلم
الفيلسوف العظيم شأنا
العائف القائف المعزم
الماهن الكاهن المعادى
في نصر إبليس كل مسلم
وظن «السائحون» قديما من قبيل السائحين حديثا أن العالم الإسلامي مرق من الإسلام وانطفأت غيرة الإنسان على حوزته من قلوب المسلمين، ولكن العالم الإسلامي - هذا بعينه - قد وقف بعد ذلك بحقبة قصيرة في وجه الغارة الصليبية، وجاء بشعوبه من أقصى المشرق لرد الغارة بمثلها إلى قلب القارة الأوروبية.
ولما مضت على هؤلاء المسلمين في شرق القارة الأوروبية بضعة قرون خيل إلى بقايا الصليبيين أنهم قد «نضجوا» للتبشير، وقد أصبحوا على استعداد للنزول عن شريعتهم، كما نزلوا عن أحكام معاملاتهم في تلك الامتيازات «الأجنبية» التي سموها من أجل ذلك «بالتنازلات»
capitulations
أو التسليمات!
ولكن هذه التنازلات بعينها كانت بعد ذلك صيحة الثورة على السيطرة الأوروبية، حتى زالت الآن ورجعت عنها الدول الأوروبية بدلا من رجوع الإسلام بعدها عن غيرها من معالمه وتقاليده.
فإذا كان شيوع التقاليد الحديثة أحيانا باعثا من بواعث الأسف ودليلا من أدلة التهاون، فتلك حالة توجب على المسلمين، ولا ريب، أن يبدلوا بها ما هو أوفق منها للآداب الإسلامية، بل للآداب الإنسانية التي تخالفها التقاليد المعيبة كما تخالف حقيقة الإسلام.
ولكن التشاؤم منها يزيد على قدرة الصالح إذا خيل إلينا أنه تشاؤم من مصير الدين كله، ويزيد تفاؤل المتربصين به أيضا عن قدرة الصالح لهم إذا اعتبروه «عرضا إسلاميا» ولم يفهموا من حقيقته قبل ذلك أنه عرض أجنبي يسري من جانبهم ويوجب عليهم أن يتشاءموا لأنفسهم ولا يقصروا شؤمه على مستقبل الإسلام.
الفصل الحادي والعشرون
الدعوات الإسلامية والإسلام ووحدة الجماعة1
عرضت صحيفة «التايمز» الأدبية لكتابين عن الإسلام في عدد واحد، وهو العدد الصادر في الحادي عشر من شهر أغسطس الماضي (سنة 1961).
والكتابان هما: كتاب «الدعوات الإسلامية»
Moslem Devotions
لمؤلفته السيدة كونتسانس بادويك، وكتاب «الإسلام ووحدة الجماعة»
Islam and the Intepation of Society
لمؤلفه الدكتور مونتجومري وات، أشهر المؤلفين عن الإسلاميات من المستشرقين الإنجليز في الوقت الحاضر.
ينقسم كتاب الدعوات إلى ثلاثة أقسام: قسم الدعوات والصلوات المفروضة، وقد جمعت فيه المؤلفة آيات القرآن الكريم، ومن التحيات ودعوات القنوت، التي تتلى في الصلوات الخمس وفي غيرها من صلوات يؤديها المسلم أحيانا وإن لم تكن من أركان العبادة.
والقسم الثاني: يشتمل على دعوات توافق دعوات الصلاة وتضاف إليها من قبيلها على سبيل التوسع والتفسير.
والقسم الثالث: تسبيحات مستقلة يتعبد بها المسلم على انفراد أو مع الجماعة، وأكثرها من دعوات الصوفية باللغة العربية وغير العربية.
والمؤلفة تسمي هذه الأقسام الثلاثة بأسماء ترتضيها وتفضلها للدلالة على غرضها، فمنها قسم داخل الصلاة المفروضة، وقسم على عتبة الصلاة المفروضة، وقسم خارج هذه الصلاة يختاره، ولا يلزم أن يكون من باب الفرائض ولا من باب السنة النبوية، بل يجوز لكل مسلم أن يختار له عبارته وعنوانه ومناسبته على حدة أو مع إخوان له في الطريق وفي حلقات الأذكار الخاصة.
وجملة ما اختارته المؤلفة مقبول عن جماعة المسلمين مع اختلاف المذاهب، إلا طائفة منه يتمادى بها الشطط إلى القول بالحلول أو القول «بوحدة الوجود» على النهج الذي يرفضه أهل السنة بالإجماع، وهو ذلك النهج الذي يوشك أن يتطوح بأهله إلى تأليه الكون بمظاهره المادية وبواطنه الخفية، وليس هذا القسم من الدعوات بالكثير وإن كان ناقد الكتاب يقول: إن دعواته أقرب إلى تسبيحات المتصوفة منه إلى العبادات العامة أو العبادات المقررة للجميع، وهي على حد تعبيراتهم «العبادات الأرثوذكسية».
ويقول ناقد الصحيفة الأدبية: «إن نشر هذه الدعوات بين المسيحيين، وهي مما يغلب عليه اللطف المستحب؛ خليق أن يقرب أسباب التفاهم بين الديانات فيما هو أقرب الأمور إلى جوهرها جميعا وهو العبادة. وإن العبادة الإسلامية بأسلوبها الصوفي على الخصوص لتحمل كثيرا من معاني المشابهة والمشاركة بينها وبين العبادة المسيحية.»
ويمضي الناقد قائلا: «ولم تقصر المؤلفة اختيارها على هذا النوع - يعني نوع الدعوات الصوفية الخالصة - بل هي تعرض لنا ما يلتبس بشيء من الكثافة في أوراد المتصوفين المعاصرين، وإن هذين النمطين من أنماط الدعوات الصوفية ليظهران معا بين المسلمين كما يظهران متصاحبين في تقاليد أكبر الكنائس الغربية.»
نقول: إن عيب هذا الكتاب وأمثاله أن مؤلفيها يحشرون فيها كل ما ينقلونه عن الإسلام إلى صعيد واحد، ولا يكتفون بالجانب الخالص منه متعللين بدعوى الحيدة واجتناب التحيز لهذا الفريق أو ذاك فيما ينسبونه إلى أتباع الديانة التي هم غرباء عنها متهمون بالغرض إذا تشيعوا لفريق من أتباعها على غيره. ولولا هذا الخلط الذريع لكانت هذه الدعوات عنوانا صالحا للديانة الإسلامية في جوهرها، وهو جوهر العبادة كما قال ناقد الكتاب.
وعندنا أن الإسلاميات التي تنشر في الغرب تحتمل الترتيب والتقديم بالأولية من وجهة النظر الإسلامية، فأجدرها بالنشر - وأولها في هذا الترتيب - أمثال هذه الدعوات والصلوات، على شريطة السلامة من شوائب التصوف الكثيف، كما وصفه ناقد الكتاب، ومن شوائب التصوف المدخول الذي تطرق إلى الإسلام من بقايا الديانات الشرقية الخالية، ومنه ذلك الإغراق في دعوى الحلول ودعوى «الإلهية الكونية» التي تسمى عند أصحابها بوحدة الوجود، ولا ينكر المسلم أن يؤمن بالتجلي الإلهي في آيات الكون بين السموات والأرضين، فإنه مأمور بالبحث عن هذه الآيات بنصوص الكتاب ووصايا الأحاديث النبوية، ولكنه ينكر أن يؤمن بالوثنية الكونية التي تصدق على من يؤله الكون كما تصدق على من يؤله جزءا من أجزائه، فهو في تنزيهه للوجود الإلهي لا يرفض عقيدة من العقائد كما يرفض هذه «الوثنيات».
فإذا سلم كتاب الدعوات الإسلامية من أوراد أدعياء الصوفية، ومن لوثة الحلول، ووحدة الوجود، فكل ما بقي منها فهو الدين الحق على أفضل ما يكون في عقل الإنسان وضميره، وليس لدين من الأديان دعوات، أو صلوات ترتقي إلى أفق من التنظيم أرفع من أفقها الذي ارتفعت إليه في الإسلام.
ففي البرهمية سبحات من التصوف الروحاني تعلو إلى الذروة بين الدعوات الدينية، ولكنها تفارق التوحيد دائما كلما أوغلت في أعماق العقيدة أو رجعت إلى التشبيه بالقوى الطبيعية. وكثيرا ما ينتهي بها أسلوبها في التنزيه إلى فناء كالعدم يتساوى فيه الوجود المطلق و«اللاوجود» على الإطلاق!
وفي غير البرهمية من الديانات الكبرى أوصاف للإله تهبط بالخالق إلى مشابهة الخليقة وتنسب إليه أفعالا كأفعال أرباب الديانات الأولى، وهذه جميعا شوائب للإيمان بالربوبية يتنزه عنها الإسلام ولا تخفى على غير المسلمين، بل يحسبها بعضهم غلوا في «الإبعاد بين الخلق والخالق»!
ودعوات الإسلام حقيقة أن تسكت المتخرصين عليه ممن يتهمونه بالمادية أو بالوقوف عند حدود الحياة «العملية» التي تتجافى بالمسلمين عن صفاء الروح وتلصقهم بنعيم الأرض حتى حين يتصورون نعيم السماء.
ولو أن كتاب الدعوات الإسلامية خلا من الدعوات المدخولة لكان في الطليعة من الكتب التي يحق لها النشر بين الأوروبيين من وجهة النظر الإسلامية ، ولكننا نستكثر على مؤلف غير مسلم أو مؤلفة غير مسلمة أن يعمل لإبراز الإسلام على هذه الصورة المثلى، وحسبه أنه يعف عن محاسنه فلا يطمسها. •••
أما الكتاب الآخر عن الإسلام ووحدة الجماعة فقد كتبنا عنه منذ شهرين في مجلة منبر الإسلام، وخلاصته في بضعة سطور أن الدعوة المحمدية كانت دعوة تجديد بين أناس غير محافظين، لأن كفار قريش كانوا قد تبدلوا في معيشتهم وخالفوا سنن البداوة العربية من قبلهم، ولكن الفارق بين تجديدهم وتجديد الإسلام أن الإسلام أعطى ضمير الفرد «مثلا أعلى» يستقيم عليه وجوده بين أبناء قومه وبين بني الإنسان عامة، وأنه أعطى الجماعة الإسلامية كيانا يسمى «الأمة» ويجعل لها من ثمة قبلة واحدة وإمامة واحدة تثبت على تقلبات الأيام وصروف التاريخ.
وإنما نعود إلى الكتاب على هذه الصفحات لنعلق على تعليق الصحيفة الإنجليزية، فإن ناقد التاريخ - على خلاف العادة في هذه الصحيفة - قد أنحى على الكتاب ومؤلفه إنحاء يكاد أن ينحدر إلى الإهانة والتنديد، ولعله بهذا المسلك العجيب يعزز الشبهة التي تساور أذهان قراء الصحيفة في السنوات الأخيرة، وهي شبهة الهوى المصبوغ بصبغة التطرف الاجتماعي الذي يقترن أحيانا بالإسرائيليات ونزعات الهدم والفوضى في الفن والأدب، وكأنما استحق الدكتور مونتجومري ذلك الإنحاء عليه من ناقده المتطرف لأن كتابته في نظره قد تحسب من قبيل المحاباة للإسلام، وإن تكن في نظر القارئ المسلم دون حق الإسلام في التعظيم والتحقيق.
وأكبر مآخذ الناقد على مؤلف الكتاب أنه نسي «قابلية الدين» للمفارقات وهو يكتب عن الإسلام وعن النظم السياسية والاجتماعية في تاريخه، فاستعظم على الإسلام أن ينجو من الاتهام بمصادمة الواقع ومخالفة المعقول، كأنه كان يطالب المؤلف بتكرار المقال عن جمود النظام الاجتماعي في الإسلام؛ لأنه لم يقرر مبادئ الاجتماع التي تتابعت بعد قيام دعوته لينقض بعضها بعضا إلى هذا الزمن الأخير، وليس تعليقنا على هذا التعليق إنكارا لما ادعاه عن موقف الإسلام من المذاهب الاجتماعية التي ظهرت منذ قيامه ولا تزال تظهر إلى اليوم، ولكننا نعلق عليه لنقول: إن الإسلام قد استوفى شرط الدين حقا؛ لأنه عقيدة تثبت على تقلب المذاهب الاجتماعية ولا تزول مع كل عقيدة منها، وقد يزول نظام رأس المال ويزول غيره من النظم التي تعاديه أو تواليه، ولكن الإسلام يقيم للمجتمع نظاما قويما لا يعنيه تبدل الأسماء حين يكفل له تحريم الاحتكار ويوجب فيه إنصاف العاملين ومعونة العاجزين عن العمل، وأيما نظام يمتنع فيه كنز الذهب والفضة وتداول الثروة بين الأغنياء، ويلتزم فيه المجتمع بأعباء الضعفاء والمحرومين، فهو نظام إسلامي مشروع، وهو كذلك نظام إنساني متجدد، والمسلمون الذين يطبقونه أناس مفروض فيهم أنهم خلائق عاقلة، تنطلق أيديها بتدبير مصالحها ولا تملى عليها قبل ولادتها إملاء الحروف والبنود، لكي تطاع على السماع، ولا تسمح لمن تملي عليهم بموقف غير موقف الخضوع والاتباع.
الفصل الثاني والعشرون
أطلس العالم العربي والشرق الأوسط1
ظهر في العهد الأخير أطلس العالم العربي والشرق الأوسط باللغة الإنجليزية، وفيه نحو أربعين خريطة جغرافية للبلاد العربية وبلاد الشرق الأوسط على العموم، مع بيان مرسوم لمواطن المسلمين في قارتي آسيا وأفريقيا وبعض المواقع الأخرى من العالم المصطلح على تسميته بالعالم القديم.
واختتم الأطلس ببحث مطول عن تاريخ العرب والإسلام كتبه الأستاذ بكنجهام
beckingham
أستاذ الدراسات الإسلامية بجامعة منشستر، وقال في فذلكته ما خلاصته:
ويمكن أن يقال عن يقين: إن هناك عوامل ثلاثة مهمة كلها جديد بحيث يصح عقلا أن نترقب منها بداءة صفحة أخرى من صفحات التاريخ العربي، وهذه العوامل الثلاثة هي الوطنية وحركة التصنيع والحركة «العلمانية» أو حركة الانطلاق من الصبغة الدينية.
ففي القرن التاسع عشر أخذت الوطنية من الطراز الأوروبي تعمل عملها بين أبناء البلاد العربية الذين تلقوا شيئا من التعليم على المنهج الأوروبي، وكان الكثيرون منهم ضباطا عسكريين، وبدأت الحركة على أقواها في سوريا ومصر ... وقد أعقب سقوط الدولة العثمانية قيام عدد من الحكومات العربية يحد استقلالها حدا شديدا نظام الوصاية من قبل بريطانيا العظمى وفرنسا، ويحول دون اتحادها الوطني تنازع البيوت المالكة ومنافستها، ولم تتقرر روابط التعاون بين هذه الحكومات حتى في مواجهة الصهيونية ، ولا كان زوال البيوت المالكة قاضيا على منازعاتها ومنافساتها، ولكن لا خلاف في استطاعة الدعوات الوطنية أن تثير الشعور في البلاد، وبخاصة بين أبناء الجيل الجديد، يكاد هذا الشعور أن يكون بينهم أقوى من الشعور بالإسلام.
أما حركة التصنيع فقد كانت ضربة لازب بعد الاحتكاك بالغرب، وبعد أن تحولت مواطن آبار النفط من بلاد فقيرة إلى بلاد من أغنى جهات العالم المعمور، وقد أصبح الناس في الجزيرة العربية حيث بقيت أحوال المعيشة على ما كانت عليه قبل الإسلام جمهرة من «البرولتارية» الحديثة؛ أي جمهرة الصناع الفقراء في مراكز التصنيع. وقد اشتركت كل من حركة الوطنية وحركة التصنيع لظهور الروح «العلمانية» التي أضعفت العقيدة الإسلامية ضعفا لم تصب بمثله في جميع أدوارها التاريخية، ولو أن الوطنية العربية على الإجمال تجنح إلى موالاة الإسلام أكثر من جنوحها إلى أية عقيدة أخرى. ومن المألوف الشائع أن ترى أناسا من العرب يدافعون عن ديانتهم مدافعة الغيرة والحماسة مع إهمالهم لأداء فرائضها والقيام بشعائرها، وهي ظاهرة لا نراها مقصورة على الإسلام.
وإن طائفة من الأفكار ذات الأثر الفعال في العالم العربي لهي اليوم وليدة الحضارة الأوروبية، فإن فكرة الدولة الوطنية ذات السيادة كانت هي المثل الأعلى الذي توخاه الزعماء الوطنيون عند ثورتهم على السيطرة الأوروبية، وقد أفلحوا في تحقيق استقلالهم السياسي باتباع الأساليب الإدارية وأساليب التنظيم والدعاية، ومناورات السياسة الفنية والصناعية الحديثة، وإن محاولتهم أن ينهضوا بذلك كله دون مساس بتقاليدهم العربية والإسلامية لجديرة أن تكسبهم احترام الأمم الأخرى كما يكسبهم عطفها ...
ونرى كما يرى - فيما نحسب - أن صاحب هذه الدراسة يتحرى البحث العلمي في ملاحظاته على تاريخ العرب والإسلام في العصر الحديث، وأن الخطأ إنما عرض له من جانب مذهب التفكير ولم يعرض له من جانب سوء النية.
فهو على عادة الكثيرين من المؤرخين المتأخرين يخلط عند الكلام - على حركات التاريخ العربي - بين الوطنية والقومية، وهما على اقتراب الشبه بينهما مختلفان بالنشأة والطبيعة، وقد يقال في التفرقة بينهما على وجه السرعة أن الوطنية أقرب إلى السياسة والاجتماع، وأن القومية أقرب إلى العنصر والسلالة، وأن الوطنية بمعناها في مصطلح العلوم السياسية ظاهرة متأخرة نشأت في الغرب بعد انحلال الدولة المقدسة وانفصال الحكومات عن سلطان الكنيسة، مع ضعف النبلاء أصحاب الإقطاع وتقرير الحقوق للشعوب بجميع طبقاتها. أما القومية فهي بين العرب على الخصوص سابقة لتكوين الشعوب على الوضع الحديث، ومنها القومية التي جمعت قبائل العرب في وقعة ذي قار لمحاربة فارس، ومنها كذلك قومية القبائل التي ساعدت بني قومها العرب المسلمين عند فتح فلسطين وفتح مصر؛ إذ كان عمرو بن العاص ينتقل بجيشه من حدود فلسطين إلى المنزلة إلى الفيوم ولا يهتم بحماية ظهره من جنود الروم، اعتمادا على معونة القبائل العربية في تلك الأقاليم.
ولا يزال اسم الأمة باللغة العربية دليلا على صحة فهم هذه الكلمة ورجحانها بالاصطلاح العلمي على الكلمة الأوروبية التي تجعل الوطنية علاقة اشتراك في أرض المولد، فإن الأمة بلغة الضاد تجعل الوطنية مرهونة بوحدة الوجهة والأمانة، ولا تعلقها بموطن الميلاد كما تتعلق به عند الأوروبيين في اصطلاحها الحديث.
وعلى هذا الاعتبار يخطئ المؤرخ الذي يتوهم أن الشعور القومي بين العرب طارئ جديد يخشى منه على قوة العقيدة الدينية، فإنه كان على أقوى ما يكون في صدر الإسلام بعد فتوح الإسلام الأولى، ومن أجل هذا قيل إن الشعوبية بين شعوب الإسلام غير العربية كانت بمثابة رد الفعل لقيام الدولة أولا على العنصر العربي دون غيره من عناصر الدولة المتعددة. •••
والوهم في مسألة «العلمانية» أظهر من هذا الوهم في مسألة الشعور الوطني أو الشعور القومي، إذا كان المقصود بالعلمانية ما يقابل عندهم «الطقوس الكهنوتية» أو مراسم السلطة التي يفرضها رجال الدين على الدولة.
فالإسلام لم يعرف قط شيئا من قبيل الطقوس الكهنوتية منذ قيام النبي
صلى الله عليه وسلم
بالأمر وقيام خلفائه به من بعده. ولم يرفض خلفاء بني العباس إدارة الميزانية في دولتهم على حساب السنة النيروزية، بل لم يرفضوا الاحتفال بالنيروز في موسمه المألوف عند الأقدمين، ولم يتبع أحد من الخلفاء أو الأمراء المسلمين طقوسا كهنوتية في شئون الولاية أو في شئون المعيشة العامة، بل كانت أزياؤهم وتقاليدهم على سنة الأمم في عهودهم، فارسية وتركية، ومتشبهة بالفرس والترك في أزيائها وتقاليدها، وقد كان خلفاء الأندلس قدوة للأوروبيين في المعيشة «العلمانية»، ومنهم تعلم هؤلاء الاستقلال عن طقوس الكهنوت وشعائر السلطة المفروضة من جانب رجل الدين، وليست الكسوة ذات «الجكتة والبنطلون» أول كسوة غريبة قبلها المسلمون بعد اتصالهم بشعوب العالم من المشرق إلى المغرب، وليس في العصر الحاضر «علمانية» لم تسبق لها مثيلات كثيرة منذ قيام الدعوة المحمدية دون أن تصيب العقيدة بالضعف أو تمس الولاء للدين في قلوب أبنائه، ولعل الصليبين في أشد أيام العصبية الدينية بين المعسكرين قد تعلموا من «علمانية» المسلمين أضعاف ما تعلمه المسلمون من علمانية الغرب في زمانهم، ولم يحدث قط أن الإسلام كان يوما ما أشد إحساسا بوجوده مما كان أيام الحروب الصليبية، ولا نستثني من ذلك جماعة المسلمين الذين خضعوا لدولة بيت المقدس نحو قرن من الزمان، ولم يطمع في إسلامهم أحد من حكامهم العلمانيين ولا الكهنوتيين. •••
ولا شك أن الأستاذ بكنجهام كان يكتب كلامه عن التصنيع وفي ذهنه منشور ماركس وإنجلز إلى طبقة العمال بين جميع الطبقات، وهو ذلك المنشور الذي جعل عهد «التصنيع» في النهاية ختاما لعهود الوطنية والدين، وخيل إلى كاتبه أن طبقة العمال التي سموها بالبرولتارية مارقة جميعا من الدين ومن كل إيمان بالله والرسل بعد شيوع التصنيع في أمم الحضارة الأوروبية.
ولكن هذه النبوءة المادية لم تصدق بين عمال الغرب نفسه إلا بمقدار محدود كان من الجائز أن ينحرف عن الدين في قطر من الأقطار لم يسمع بالصناعة العصرية ولم يخضع قط لنظام التصنيع الحديث، فإن المتدينين من عمال البلاد الأوروبية والأمريكية يزيدون كثيرا على المنحرفين منهم عن الدين، وعدد الكتب الدينية التي تنتشر بينهم يزيد على أضعاف أمثالها قبل عهد التصنيع، وليس عند المؤرخين الاقتصاديين حجة على أن العقائد «الصورية» ظاهرة خاصة بزماننا هذا دون الأزمنة الخالية، فلا تزال أوصاف المجتمع الأوروبي في القصص قبل مائتي سنة تمثل لنا «التدين» في تلك الأيام على مثال من «العادات الصورية» لا تختلف عنه عادات العصر كثيرا بين جماعات المتدينين المحسوبين في زمرة المتحللين من فرائض التدين الصحيح.
ويعلم الأستاذ بكنجهام - ولا ريب - أن الحركة النقابية في بلادنا الشرقية لم تكن وليدة التصنيع الحديث؛ لأن نقابات الصناع وأصحاب الحرف شاعت في القاهرة على عهد الفاطميين شيوعها اليوم في لندن وباريس وواشنطن، وكانت هذه النقابات قوام المواكب الدينية التي تخلفت بقاياها إلى العصر الحاضر، فلم ينقطع ما بينها وبين المعالم الدينية لارتباطها بتقاليد الحرفة، وافتراقها عن الطوائف الأخرى من أتباع رجال الطرق ورواد المساجد والأضرحة، بل كان هؤلاء جميعا «موكبا» واحدا في كل احتفال عام، يتسم بسمات العبادة، أو يقوم على ذكرى من الذكريات الدينية. •••
إن العوامل الثلاثة التي أحصاها الأستاذ بكنجهام لها خطرها الذي لا يجهل ولا يهمل، ولكنها على جدة أشكالها وأسمائها ليست بالعوارض الجديدة كل الجدة في تاريخ الإسلام، فقد سبقت لها في هذا التاريخ مثيلات كثيرات ترددت عليه حقبة بعد حقبة، وتركت آثارها حينا أو ذهبت بغير أثر يذكر، وسيمر الإسلام بعوامل اليوم كما مر بمثيلاتها قبل اليوم بسلام.
الفصل الثالث والعشرون
خاتم الأنبياء
محمد رسول الله وخاتم النبيين: عقيدة يصدقها المسلم تصديقه بعقائد الدين، ولكنه يفهمها كذلك فهم المرء للحقائق العلمية والقضايا المنطقية، لأنه إذا فهم النبوة بصفاتها المقررة في الإسلام علم أنها نبوة تختم بها النبوات، وتفتتح بها في التاريخ الإنساني رسالة الرشد والضمير والإلهام.
إن ختام النبوات خاصة محمدية، ولكنها خاصة لا يستأثر بها محمد
صلى الله عليه وسلم
لنفسه؛ لأن الخاصة التي يقتضيها تاريخ الأمم جميعا تعم كل مؤمن بالدين وكل مجيب للدعوة، ولا تخص صاحب الدعوة في حياته ولا بعد مماته.
وقد يفهم المسلم ذلك بغير مشقة، ولكنه على وضوحه للمؤمنين بالرسالة المحمدية يساق عند غيرهم من المتدينين ومنكري الأديان مساق الغرابة، ويسيء بعضهم فهمه، كما يسيء أدبه، فيزعم أنها أثرة لصاحب الدعوة يغلق بها أبواب النبوة على سواه كما يغلق صاحب السطوة الملك على من يليه من غير أهله أو يصطفيه.
ولا حاجة في هذا المقام إلى مناقشة المنكرين في أمر الإيمان بختام النبوة ولا بنفعها في زمن من الأزمان، فلا فرق عندهم بين الزمن الذي يبدءون بإنكار كل نبوة فاتحة قبل أن ينكروها خاتمة، ولا يقولون بضرورة النبوة ولا بنفعها في زمن من الأزمان، فلا فرق عندهم بين الزمن الذي يستجاب فيه للأنبياء والزمن الذي لا يستجابون فيه، وكلاهما عندهم زمن يستمتع فيه لشيء لا يجوز الإصغاء إليه.
لكن المتدينين الذين يستغربون ختام النبوة إنما يستغربون في الواقع أمرا ينساق إليه المصدقون بالنبوات سواء فطنوا إليه عن فهم وروية أو أخذوه مأخذ العادة التي لا تحتاج من معتادها إلى التعليل. فقد آمن بختام النبوة كل من آمنوا بنبوات التوراة، وقد ختم بعض هؤلاء دعوات الدين جميعا بما دانت به سلالة واحدة لا يوحي الله إلى غيرها ولم يوح إلى أحد من قبلها فيما اعتقدوه ويعتقدونه حتى اليوم.
وليس إيمان المسلم بخاتم النبيين على نحو من هذه الغرابة في التصديق ولا في التكفير؛ لأن النبوة التي ختمت النبوات في عقيدة المسلم هي الدعوة التي تدوم مدى الزمن؛ لأنها تكل العقيدة إلى العقل وتقيم العقيدة على الإيمان برب واحد هو رب العالمين.
كانت الأمم قبل البعثة المحمدية تفهم أن النبوة استطلاع للغيب وكشف للأسرار والمخبآت، يستعينون بها على رد الضائع وإعادة المسروق أو الدلالة عليه، ويستخبرونها عن طوالع الخير والشرر ومقادير السعود والنحوس.
وكان من تلك الأمم من يحسب أن النبوة وساطة بين المعبود وعباده للتشفع وتسليم القرابين.
وكانوا يطلبون وساطة الأنبياء دفعا للنوازل التي يستحقونها أو تنزل بهم لأنها قضاء مبرم يتوقعه الصالحون العارفون ويسألون المعبود في رفعه قبل نزوله.
فجاءت نبوة الإسلام بجديد باق لم تسبق له سابقة في الدعوات الدينية، ولا حاجة بعده إلى جديد ولا استطاعة فيه للتجديد، لأنه يخاطب في الإنسان صفته الباقية وخاصته الملازمة، وهي خاصة النفس الناطقة بين الأحياء، وخاصة الضمير المسئول الذي يحمل تبعته ولا تغنيه عنها شفاعة ولا كفارة من سواه.
إنها نبوة فهم وهداية وليست نبوة استطلاع وتنجيم، وإنها نبوة هداية بالتأمل والنظر والتفكير وليست نبوة خوارق وأهوال تروع البصر والبصيرة وتروع الضمائر بالخوف والرهبة حيث يعيبها قبول الإقناع.
إنها نبوة مبشرة منذرة لا تملك لهم نفعا ولا ضرا، ولا تعمل لهم عملا غير ما يعملونه لأنفسهم بمشيئتهم إذا اهتدوا بهداية العقل المتدبر والضمير السليم:
قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون .
نعم، ولا إغراء ولا مساومة على قربان أو جزاء بين الأخذ والعطاء:
قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي قل هل يستوي الأعمى والبصير أفلا تتفكرون .
وقد جاءت سمعة المعجزة ميسرة لصاحب هذه النبوة يوم مات ابنه إبراهيم وكسفت الشمس فظن الناس أنها كسفت لموته، وأبى النبي الصادق أن يسكت عليها، فتكلم ليعلمهم: «إن الشمس والقمر آيتان ... لا تخسفان لموت أحد ولا لحياته.»
وخليق بذوي العقل وأولي الألباب، أن يصدقوا هذا النبي حين يقول لهم: إن المعجزة لا تنفع من لا ينتفع بعقله وضميره
ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون * لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون .
فإذا جاء النبي بهذه الرسالة التي تكل الإنسان إلى «خاصة إنسانية» لا تفارقه وتعطيه البينة من شهوده فيما يراه حوله ولا يغيب عن حسه وفكره، فأين تنتهي هذه الرسالة؟ وماذا تعمل الرسالة التي تأتي بعدها لتنسخها وتخلفها؟ إنها لا تعمل إلا أن تنسخ العقل أو تعود به كرة أخرى إلى القرون الأولى، وليست هذه ولا تلك بدعوة يحتاج إليها إنسان من الراشدين بعد أن وكل إلى هداه، فمن لم يكن من الراشدين فحاجته إلى المعلم الذي يدله على ما فاته من هداية النبوة ألزم من حاجته إلى نبي جديد معيد لما تقدمه، كأنه يسقط واجب التعليم.
ولقد تقدمت نبوة الإسلام دعوات كثيرة من أكبر الدعوات شأنا في تاريخ العقيدة، ولكنك لو عرضتها على مؤرخ ينظر في أدوار التاريخ - كائنا من كان معتقده في الدين - لم يستطع أن يختتم دور النبوة في تاريخ الإنسانية بدعوة من تلك الدعوات على جلالة شأنها وبعد أثرها في العصور اللاحقة بعصرها، لأنها جميعا قد بدأت وانتهت قبل أن توجد في أذهان الناس فكرة الإنسانية العامة وفكرة الإنسان المسئول المحاسب على أمانة العقل والضمير.
فنبوات بني إسرائيل لم تزل مقصورة على سلالة بشرية واحدة تنعزل بحاضرها ووعود مستقبلها عن سائر الأمم، وعيسى - عليه السلام - قد نقل الرسالة نقلة واسعة حين أدخل أبناء إبراهيم بالروح في عداد أبنائه بالجسد، ولكنه أدى رسالته وبقي الإنسان بعده محتاجا أشد الحاجة إلى رسالة تخلصه من الاعتماد على غيره في النجاة من أوزاره والتكفير عن سيئاته والنهوض بتبعات صلاحه وتربية روحه، ولن تفرغ أمانة النبوة في تاريخ الإنسانية قبل أن توجد للإنسانية فكرة عامة في نفوس أبنائها، ولن تختتم النبوات قبل أن يوجد الإنسان الذي يخاطب بخطاب العقل ويحاسب بحسابه ويحمل تبعاته على عاتقه ويشترك على سواء بينه وبين إخوته من البشر في عبادة إله واحد هو رب العالمين أجمعين، وليس بالرب الذي يخلق نعمته لسلالة واحدة من خلقه أو لعشيرة واحدة يدركها الخلاص بفضل لم تفضله، وحساب لم تضعه في موازينها بعمل يمينها.
فلما جاءت نبوة الإسلام صح في حكم العقل أن تختتم بها النبوة لأنها حاضرة في كل وقت يحضره الإنسان العاقل المسئول وتحضره آيات الله لقوم يعقلون:
إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون .
ونقول: إن ختام النبوة - بعد الدعوة المحمدية - قد صح في حكم العقل، ولنا أن نقول كذلك: إنه قد صح في حكم الواقع والتاريخ، فإن العالم الإنساني الذي تعاقبت فيه النبوات قبل محمد
صلى الله عليه وسلم
لم تظهر فيه نبوة مسموعة بعده، ولم يظهر فيه غير أدعياء النبوة الذين ذهبوا ولم يستمع إليهم أحد في حياتهم أو بعد مماتهم، ولم يظهر فيه من أولئك الأدعياء أنفسهم من يستند إلى رسالته لا يحيلها إلى النبوة الإسلامية بقواعدها وأركانها. •••
إن اختتام محمد للنبوات عقيدة يصدقها المسلم بوحي إيمانه، ولكنها كذلك حقيقة علمية يفهمها بفكره ويشهد دلائلها في العصور الغابرة كما يشهدها في عصره مؤتمرا بأوامر دينه.
وإنه ليطيب للكثيرين من أبناء العصر الحاضر الفخورين بعلومهم ومخترعاتهم أن يهتفوا قائلين: «نحن في عصر العلم، نحن في عصر العقل، نحن في عصر الحقائق الواقعة، نحن في عصر آيات الطبيعة.»
فليهتفوا بذلك ما طاب لهم أن يهتفوا، وليذكروه ويعيدوه تحديا لما شاءوا من النبوات إلا النبوة التي ختمت جميع النبوات؛ لأنها هي قالت للناس قبل أربعة عشر قرنا ما يقولونه الآن، وهي أوحت إليهم أنهم يعيشون بعد اليوم بهداية بصائرهم، وما يبصرونه من آيات تلك الهداية في مشاهد الطبيعة، وأسرار الخلق، وبراهين العيان.
وكل أعجوبة من أعاجيب العلم فهي جزء من معجزات هذا الدين، الذي جاء به خاتم النبيين:
وأبصرهم فسوف يبصرون [الصافات: 175].
الفصل الرابع والعشرون
ديانات العالم السبع العظمى1
أحرى بهذا الكتاب أن يسمى معرضا دينيا على الورق؛ لأنه يجمع أكثر من خمسين ومائتي صورة فنية لمناسك الأديان في أنحاء العالم، حيث يقيم أتباع الديانات السبع المشهورة: وهي البرهمية والبوذية ديانتا أهل الهند، والطاوية والكنفوشية ديانتا أهل الصين، والإسلام والمسيحية واليهودية.
ألف الكتاب لمجلة الحياة
Life
المصورة طائفة من المتخصصين للمباحث الدينية تناول كل منهم البحث في ديانة يدرسها ويطلع على مراجعها، واستغرقت بحوثهم أكثر من سنتين زيدت عليها تنقيحات وتصحيحات استغرقت بضعة أشهر، ثم ظهر الكتاب أخيرا على صورة طيبة في شكله وموضوعه وجاءت فصوله التي كتبت عن الإسلام على أطيب ما ينتظر من الباحث غير المسلم حيث يتصدى للكتابة عن هذا الدين وأهله في معترك الخصومات السياسية والمذهبية التي تثير العداء له في كثير من علاقاته بالدول والشعوب.
وأطيب ما في تلك الفصول من هذه الوصية أن كتابها يورد الاعتراضات الشائعة عن الدين الإسلامي ويرد عليها أحيانا بما ينقضها ويجلو حقيقتها، ويوفق إلى الرأي الصواب في معظم أقواله.
بدأ بقوله عن النبي
صلى الله عليه وسلم : إنه لا يسمي نفسه المخلص، ولا يقول إنه المسيح المنتظر، ولكنه بشر يبلغ الناس رسالته الإلهية، وليس في نشأة هذا الدين غموض ولا مجال للخبط بالظنون؛ لأنه انبثق في ضحوة التاريخ الساطعة وانتشر بين أمم الأرض بقوة الإعصار، وسر انتشاره ودوامه أنه عقيدة سهلة واضحة متمكنة فيما تثبته للناس من أصول الإيمان، وهو أكثر من دين شعائر وعبادات؛ لأنه إلى جانب ذلك أدب حياة وشريعة سلوك تنظم معيشة الإنسان على مثال لا نظير له في الحضارة الغربية.
ومن أسباب قوة هذا الدين أنه عند اتباعه الكلمة الأخيرة من وحي الله، وهو يتقبل الديانات الكتابية التي سبقته، ولكنه يعلم أتباعه أنها اجتمعت صحيحة خالصة من الحواشي والأوشاب في آيات القرآن، ولم ينشئ القرآن كهانة ولا مراسم هيكلية تلجئ المسلم إلى وساطة زمرة من الأحبار والرؤساء، لأن فرائضه المعروفة الواضحة مما يؤديه كل مسلم بينه وبين الله بغير حاجة إلى الوسطاء.
يقول كاتب فصول الإسلام في الكتاب: «إن بعض عادات العرف في البلاد الإسلامية تحسب من دلائل الرجعية عند الغربيين، ولكن النبي نفسه رفع شأن المرأة ولم تكن قيودها الثقيلة مما يفرضه القرآن، وإنما جاءت من توليدات بعض المتأولين في عصور النكسة والجمود، وقد أنكر الإسلام وأد البنات ووضع الحدود لتعدد الزوجات بعد أن كان مستباحا في أيام الجاهلية بغير حدود.»
وتكلم المؤلف عن نحل الصوفية فأشار إلى بعض نحلها التي يعترض عليها أهل السنة، ثم قال: «إن الصوفية انتعشت واستقامت بهداية الأفكار التي بثها الإمام الغزالي، وهو عبقري ديني ولد بإحدى قرى فارس سنة 1058 ميلادية، ويحسبه المسلمون اليوم في عداد الأولياء القديسين، ويبلغ عدد المتصوفة بين المسلمين نحو ثلاثة في المائة ينتمون إلى طرق متعددة مختلفة الدرجات.»
ثم وصف الكاتب أذكار بعض الدراويش المنتسبين إلى الصوفية بصفات منكرة، يشاركه في إنكارها جملة المسلمين، ولكنه عاد بأكثر التقاليد الصوفية إلى العادات المستعارة من غير المسلمين.
واستطرد إلى التبشير بالدين الإسلامي بين غير المسلمين فقال: «إن الإسلام، إلى زمن متأخر، لم يكن له جماعات منظمة للتبشير، لأن هذا الدين الذي جعل المسلم في غنى عن الوساطة بينه وبين ربه قد جعله كذلك داعيا إلى دينه حيث كان وإن لم تكن له جماعة ينتمي إليها ويتقيد بنظامها لنشر الدعوة، إلا أن الدلائل تشير إلى عناية حديثة من جانب المسلمين بأنظمة التبشير المسيحية، وقد أصبح الجامع الأزهر - ذلك المعقل الثقافي الذي صمد للتيارات الغربية وحال بين مؤثراتها وبين العالم الإسلامي - ينشط الآن لتدريب فئة من أبنائه كل سنة للعمل في هذا الميدان. ولاحت علامات النشاط لهذا العمل من جانب النحل المتشعبة في الإسلام، ومنها نحلة الأحمدية التي تبعث الرسل إلى أوروبا والشرق الأقصى وأقطار أفريقيا الشرقية.»
قال الكاتب: «إن في القارة الأفريقية اليوم نحو ستين مليون مسلم من نيف ومائتي مليون عدة أبناء القارة: وإذا تزاحم المبشرون من المسلمين والمسيحيين كسب التبشير الإسلامي عشرة كلما كسب التبشير المسيحي واحدا من الوثنيين، ويشيع بين سكان أفريقيا الغربية - ولا سيما نيجيريا - أن الإسلام دين الرجل الأسود، وأن المسيحية دين الرجل الأبيض، وأجدر من ذلك بالالتفات أن المسلمين في الهند وباكستان حيث تزيد عدتهم على عدة إخوانهم في كل مكان آخر قد تحول أكثرهم عن العقيدة التي تقضي بنبذ بعض الطوائف إلى العقيدة التي تبسط سنة المساواة بين جميع المؤمنين، وهناك علامات شتى على أن الإسلام يتحرك من سباته الطويل، ففي كل أمة إسلامية دعوة إلى إحياء الإسلام سياسيا وروحيا وثقافيا بمختلف الأساليب، وقد أعيد بناء مئات من المساجد في البلاد التركية بعد مصادرة أتاتورك للتعاليم الدينية، وزادت نسبة الطلبة الدينيين في إيران بمقدار أربعين في المائة بين سنة 1951 وسنة 1955، وتتراءى في أفريقيا الشمالية علامات من هذا القبيل، ولا يخلو بلد بين بلاد المسلمين اليوم من شعور القلق من جراء الاحتكاك الدائم بالحضارة الغربية. وقديما كان المسلمون يقابلون الحضارات المخالفة بقلة الاكتراث حينا وبالنفور حينا وبالانطواء في جملة الأحيان، أما في الآوانة الحاضرة فالإسلام مجتهد في التوفيق بينه وبين مستحدثات الحضارة، ولا يجمد على القديم المفقود غير العدد النزر من المعتصمين المتشبثين بالتقاليد المهجورة، وبين الفريقين طائفة ثالثة ترى أن إحياء الإسلام من داخله عمل مستطاع للوقوف حيال الغرب موقف الأنداد الأكفاء، متعاونين على شرعة التعاون والاستقلال.»
ويعرض المؤلف بعد ذلك للدور المنتظر من الإسلام بين الديمقراطية والشيوعية، لأنه وسط في الموقع ووسط في العقيدة ووسط في المصلحة بين المعسكرين، ثم يؤكد قيام الفوارق بين مبادئ الثقافة الإسلامية ومبادئ الديمقراطية، ولكنه يخلط في تقديره فيخيل إليه أن المسلم غير بعيد من الشيوعية إذا عز عليه أن يجد في الديمقراطية رضاه.
ويختم كلمته عن الدعوة الإسلامية بقوله: «لا ريب أن الوجهة التي سيتجه إليها الإسلام سيكون لها أثرها العميق في مصير العالم الإنساني، وتتوقف هذه الوجهة على مقدار نجاح المسلمين في التوفيق بين عقيدتهم ومقتضيات الزمن والتاريخ، ومن ثم يدرك المسلمون أن قضيتهم العظمى هي قضية العقيدة الروحية، ويذكرون كلمة النبي حين قال لأصحابه بعد مرجعهم من إحدى الوقائع: إنهم عادوا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر، وهو جهاد الضمير.»
ويلي هذا الفصل عن الدعوة صفحات من ترجمة القرآن الكريم، يخصصها الناقل للسور والآيات التي تعرف القراء الأوروبيين بآداب الكتاب ووصاياه المميزة له بين وصايا الأديان الكتابية، ويغلب عليه في جملة ما ينقله أن ينحو بالمقارنة بينها جميعا منحى الإنصاف ولا يتعمد فيها أن يبتر الشواهد للإيحاء بالمغامز والشبهات.
إلا أننا نترقب كثيرا ونغلو في الثقة بفهم القوم لحقائق هذا الدين إذا ترقبنا من منصفيهم أن يصبحوا مسلمين متحرجين في تنزيه العقائد الإسلامية عن المظان التي قد تخفى على أناس من المقلدين بين أتباع هذا الدين، فلا يزال هذا المؤلف وغيره ممن يحسنون القول في الإسلام إجمالا يتوهمون أن النعيم الموعود لا يعدو أن يكون ألوانا من لذات الحس ومتعه من متع الطعام والشراب، ثم يتوهمون أن الإسلام قد انفرد بتصوير النعيم على هذه الصورة بين الأديان الكتابية، ويتناسون أوصاف الكتب الأخرى من القرون الأولى إلى ما بعد القرون الوسطى لكل متاع موعود في عالم الجزاء والثواب، وقد يأبون أن يفهموا أن الإجماع منعقد بين العارفين بالكتاب على اختلاف الصفات والموصوفات بين الدنيا والآخرة، ولكنهم سواء وقفوا بالفهم دون معنى التنزيه الواجب، لأنهم يجهلون أو لأنهم يستريحون إلى المعنى القريب المبذول، قد بلغوا طاقاتهم من إحسان النية وإحسان المقال.
الفصل الخامس والعشرون
كلام عن الإسلام والعرب في كتابين حديثين1
كتابان من المطبوعات الحديثة قرأت فيهما كلاما عن الإسلام والعرب، وعن تقدير الحضارة العربية.
فتحت أحدهما فوجدت في صدره فصلا مطولا بعنوان: «إسلام القرن العشرين»، فخطر لي أن المؤلف يتكلم عن تطور الإسلام في هذا القرن ويشرح آراء المجددين المصلحين من أئمته أو عادات المسلمين المعاصرين، مع المقابلة بينها وبين عادات المسلمين في القرون التي سبقت القرن العشرين.
ولكنني لم أقرأ من الفصل بضعة أسطر حتى ظهر لي أن المؤلف إنما يتكلم عن الشيوعية الماركسية ويحذر العالم الغربي من أخطارها؛ لأنها - كما يقول - غزوة جديدة تهدده في كيانه كما هدده الإسلام في القرن السابع للميلاد!
وإنه لتضمين من المؤلف أوضح وأبلغ من التصريح، لأنه يعلن رأيه ورأي قرائه المقصودين في موقفهم من الإسلام، ويبين لنا أن هناك قوما من بني جلدته يحسون أن اسم الإسلام نذير بالخطر يكفي أن يذكر لهم ليدركوا أنهم مهددون بما يوقظ النائم وينبه الغافل ولا يحتاج إلى نذير.
وفرغت من الفصل فلم أجد فيه وجها من وجوه المشابهة غير أن الإسلام دعوة والشيوعية دعوة، أو هي كما سماها «دين دنيوي» يقوم على عقيدة «إيمانية» تجري مع الشعور ولا تجري مع المنطق والمعرفة البرهانية، وهذا كل ما هنالك من مشابهة بين النذيرين!
وقد زعم المؤلف أن خطة ستالين في «تشييع» القارة الآسيوية أو إكراهها على قبول الشيوعية ليست إلا تكرارا لخطط القادة الآسيويين أمثال محمود الغزنوي وطغرل بك وألب أرسلان، وأن هذه الخطط جميعا تعتمد على سلاح الدولة وسلاح العقيدة وتتخذ العقيدة أحيانا وسيلة لقلب الدولة كما تتخذ الدولة أحيانا وسيلة لقلب العقيدة.
لكن ما هو وجه الشبه بين دعوة تصحح المجتمع أو تعالج أدواءه وبين دعوة تهدم المجتمع ولا تبقي منه بقية تربط بين حاضره وماضيه؟
وما هو وجه الشبه بين دعوة تحصي عدد الضحايا من أعدائها ومقاوميها فلا يزيد على بضعة ألوف في مائة سنة، وبين دعوة تحصي عدد ضحاياها في موطنها وحده فيزيد على عشرين مليونا في بضع سنوات؟
وما وجه الشبه بين الصديق والفاروق، وبين لينين وستالين؟
إن كل شيء في الإسلام والشيوعية يختلف أشد الاختلاف غير اسم الدعوة أو اسم العقيدة، إن صح وصف المؤلف للشيوعية بأنها عقيدة دنيوية.
ولكن الشبه المهم الذي جمعه المؤلف تحت عنوان فصله إنما هو في «النذير» الصريح باسم الدعوتين، وكفى به عنوانا يغني عند قرائه المقصودين، وعندنا نحن، عن صفحات ومجلدات! •••
هذا الكتاب اسمه «الشيوعية من وجهة العلوم الاجتماعية والنفسية» واسم مؤلفه الأمريكي جول مونيروت، ويقول مقرظوه: إنه ناقد ثاقب النظر يرمي بنظره إلى بعيد!
أما الكتاب الآخر فاسمه «العرب» واسم مؤلفه «هاري أليس»، وهو كاتب صحفي قضى في الشرق الأوسط حقبة غير قصيرة مشتغلا بمراقبة الأحوال ومراسلة الصحف العلمية، وكتابه أشبه بكتب الدراسة فيما يعرض له من التاريخ القديم، وأشبه بمقالات السياسة فيما انتهى إليه في ختام فصله الأخير.
يبدأ المؤلف تاريخه الموجز من العصور السابقة للأديان الكتابية، ويعتبر تاريخ العرب أصلا لتواريخ الحضارات التي عمرت طويلا بين النهرين وبين البحرين؛ أي البحر الأحمر وبحر الروم.
ثم يوجز الكلام عن دعوة الإسلام فيقول، بعد خليط من الحقائق والأوهام: إن سنة 732م وافقت ذكرى وفاة النبي
صلى الله عليه وسلم ، فبلغت بدعوته أقصى المغرب وكادت أن تصل إلى أقصى المشرق، ولم يكن السيف وحده قوام الدعوة، بل كان كثير من أبناء البلدان المفتوحة يقبلون على الإسلام لتفضيلهم إياه على عقائدهم، أو لأن الدخول في الإسلام يرفع عنهم الضرائب التي تجبى من غير المسلمين، ولكن لا يفهم من ذلك أن المسلمين الذين دخل آباؤهم في الإسلام فرارا من الضريبة كانت عقيدتهم الإسلامية هينة عليهم، بل كان هؤلاء المسلمون يذودون عن دينهم مستميتين مستشهدين كلما هوجمت ديارهم بعد سقوط «الإمبراطورية» حوالي القرن الثالث عشر للميلاد.
قال: «وإن العرب الذين كانوا قبل الإسلام بدوا جفاة جلبوا إلى دولتهم الواسعة هديتين جليلتين : إحداهما الديانة التي بشر بها محمد
صلى الله عليه وسلم ، والأخرى اللغة العربية، فأصبح اللسان العربي واسطة المعاملة كما أصبح واسطة التعليم والتثقيف، فزاد عدد الكتب التي كانت تظهر باللغة العربية بين القرن التاسع والقرن الثاني عشر للميلاد على جملة الكتب التي ظهرت يومئذ بجميع اللغات الأخرى ...»
ولم يخالف المؤلف ديدن زملائه في خصلتين ملازمتين لأكثر الكاتبين عن الإسلام والعرب من الأوروبيين، فإنه ليستريح إلى الإقلال من عدد المتكلمين باللغة العربية فيحصيهم بنحو خمسين مليونا وهو يستطيع أن يعلم بغير حاجة إلى البحث الطويل أن خمسين مليونا يتكلمون العربية يعيشون في أفريقيا الشمالية وحدها دون سائر الأمم الأفريقية الأخرى وراء مراكش والجزائر وتونس وليبيا ووادي النيل، ولا يقل المتكلمون باللغة العربية إلى الغرب من القارة الآسيوية عن ثلاثين مليونا بين جزيرة العرب ووادي النهرين وسائر أقطار الهلال الخصيب، وقد يبلغ العارفون بالعربية من غير العرب عدة ملايين.
والخصلة الأخرى التي ينساق إليها المؤرخ الغربي عن سوء فهم منه للظواهر الفنية أحيانا هي التطفيف من نصيب الذوق العربي الخالص من نهضة الفنون والثقافة في الدول الإسلامية أو «الإمبراطورية» الإسلامية كما يسميها.
فقد يكون المهندسون أجانب عن السلالة العربية الخالصة، ولكن الذوق العربي بلا جدال هو الذوق الذي غلب على هندسة المعمار في كل قطر من أقطار المشرق والمغرب، وما من أحد ينظر إلى العمدان والأقواس التي تحمل القباب ثم يشك في قيامها جميعا على أساس من إلهام «النخلة» بقوامها المديد النحيل وقبتها المعرشة وأقواسها المتناسقة على جهاتها الأربع، وليس التقابل بين الأشكال الهندسية على النسق المعروف عند الإفرنج باسم «الأرابيسك» إلا تكرارا في فن البناء للتقابل بين القوافي والأعاريض والشطور في فن القريض.
ولا نكران لنقد الناقدين من جهابذة الفن الذين يأخذون على فن «المعمار» العربي خلوه من صور الكائنات الحية ومن صور النبات في أكثر الأحايين، ولكن هؤلاء النقاد ينسون أن مذهب المعمار العربي قابل للدفاع عنه من الجانب الفني الخالص، وإن ظنوا أن الدفاع عن هذا المذهب مقصور على الجوانب الدينية، فقد رأى الفيلسوف الكبير «عمانويل كانت» أن الفن الخالص يتمثل في المعمار العربي وحده، وقلما يتمثل على هذا النحو في فنون المعمار الأخرى؛ لأن جماله مستمد من جمال الأشكال غير مستعار من الصور والأشباه التي يقاس جمالها بغير مقاييس الهندسة ومقاييس البناء، ومن الإنصاف للذوق العربي أن نذكر أن أشكال الهندسة أقرب إلى قوام الجدار والسقف والعمود الحجري من الصور الحيوانية أو النباتية، فإذا حسنت التحلية بصور الأحياء أو صور النبات فأحرى أن يوكل ذلك إلى نقش الرسوم التي تعلق بألواحها على الجدران، كأنها بعض الأثاث الجميل بين سائر المقتنيات الفنية التي تحتويها الحجرات والبيوت.
وما دام الأمر لا يرجع إلى فقدان التعاطف بين الإنسان وسائر الخلائق الحية فلا معابة فيه على الذوق ولا على الشعور، ولكنه تقسيم لمواضع الجمال الفني حيث ينبغي أن توضع من جدران البيوت أو مقتنيات البيوت.
أما أن تجريد المعمار العربي من الرسوم الحية لم يكن يرجع إلى فقدان التعاطف بين العربي وسائر الخلائق الحية، فهو حقيقة لا تخفى على من يروي القليل من الشعر العربي فضلا عن الكثير، فإن الشاعر الذي لا ينسى الناقة ولا الفرس ولا الربيع والمرعى قبل عصر الحضارة خليق أن يحس الحياة والأحياء تحت قبة السماء، ولا ينتظر أن يخلق إحساسه بها تحت قباب الهياكل والقصور.
وينتقل المؤلف من حديثه عن عصر الحضارة إلى حديثه عن قضايا العصر الحاضر، فلا يفوته أيضا أن يدلي بدلوه في تلك السخافة التي تعاهد عليها زملاؤه الصحفيون، أو المؤرخون العصريون من أبناء الغرب كلما ذكروا قضية فلسطين، فهي عندهم قضية كسبتها عصابات إسرائيل من الأمم العربية في ميدان القتال وانتصرت فيها بجيشها وسلاحها على دول العرب مجتمعات، ولم يكن أحد - بعيدا عن الشرق الأوسط - يجهل أن إسرائيل كانت تحارب بسلاح الدول الغربية ومالها، وكانت تلقى التشجيع من تلك الدول فتزحف على الأرض المحرمة ويصبح احتلالها تلك الأرض «أمرا واقعا» و«حقا مكتسبا»، على حين يضطر العرب إلى الجلاء عن أماكنهم بأمر السادة المسلطين على حكوماتهم وجيوشهم، ثم يقتل وسطاء الهيئات الدولية الذين يكفون إسرائيل عن العدوان أو يترددون في استجابتها إلى دعواها، فلا ينالها من جراء قتلهم جزاء ولا يحول بينها وبين المزيد من معونة السلاح والمال.
إن البعيدين عن الشرق الأوسط يعلمون ذلك فلا ينساقون إلى القول بانتصار إسرائيل عن حسن نية، ولا يقررون هذه السخافة إلا وهم يتعمدون المغالطة ويسترون الجريمة المشتركة بين حكوماتهم وعصابات الصهيونية العالمية، فإذا بدرت تلك السخافة من مقيم في الشرق الأوسط مطلع على الأخبار من مصادرها، فهو في الواقع يبتدع تلك السخافة ويعمل على ترويجها ولا يتورط فيها مضطرا إليها بعد اختراعها وترويجها.
وبيت القصيد من هذا كله ينجلي عند ختام الكتاب من الأسطر القليلة التي عقب بها المؤلف على كلامه عن النفط في البلاد العربية، وعن القوة التي تستفيدها هذه البلاد من تزاحم الأمم على آبارها وإدراكهم لخطر مراكزها في معترك السياسة العالمية، وهذه أسطر الختام منقولة بحروفها: ... كلما ازدادت ثقة العرب وجب عليهم أن يثقوا بشعوب الغرب التي تعودوا أن يسيئوا بها الظنون منذ أيام الوصاية والانتداب، وعلى الغربيين - من جانبهم - أن يذكروا أنه قبل قرون عديدة سبقت وصول الرجل الأبيض إلى أمريكا كان العرب سادة الدنيا وزعماء حضاراتها.
الفصل السادس والعشرون
الصحافة في الإسلام1
الجرائد الآن قوة لا تستبدل بغيرها، وليس من عصرنا هذا ما ينوب عنها إذا محيت منه، فقد وجدت لمركزها الذي شغلته من قبل وتشغله الآن، وليس عندنا ما ينازعها عليه أو ينازعه عليها.
بلغت من التأثير على عقول الناس والمكانة من المجتمع أن قراءتها أصبحت عملا من الأعمال اليومية لا يقصر فيه المغرمون بها وهم عادة من أرقى الناس فكرا وأشدهم حرصا على تحقيق معنى الإنسانية فيهم. ومعناها أن الإنسان مدني بطبعه، يميل إلى كل ما يجمعه بالناس، ويعمل على التقرب منهم بغريزته. ومن شأن هذا الميل أن يحمل صاحبه على الاهتمام بأخبار الناس لأنه واحد منهم يهمه ما يهمهم وهو لا يجد بغيته هذه إلا في الصحافة. لذلك أفرد لها العالم المتمدن من وقته ساعتين وهما ثلث وقت العامل ووقت المتعلم. وثلث وقت الوكل الذي لا يعنى في غير الراحة. وإذا نزعنا إلى المجاز في التعبير قلنا: إن حركة الأفلاك ودوران الكواكب شهرا من السنة بما يتخلل ذلك من هطول السحاب، ونجوم النبات، وهبوب الرياح وتقلب الأحوال، وتداول الليل والنهار، وقف على الصحافة لا دخل فيه لعمل غيرها، ومع ذلك فلا يكون المجاز هنا قد تعدى الحقيقة بكثير، فإن الواقع ما نرى ونقول. •••
تقسمت الأنباء بين الماضي والمستقبل والحاضر! فاختص التاريخ بعلم الماضي، والنبوءة بعلم المستقبل، واختصت الصحافة بالحاضر! فإذا استغنى العالم عن التاريخ والاستبصار بحوادثه ووقائعه بما كمل من خبرته وارتقى من عقله، أو كانت النبوءة قد قفل بابها وسدل حجابها، فلم نعد نسمع عن نبي يدعو الناس إليه، ويرغبهم فيما لديه، فهو لا يستغني عن الصحافة؛ لأنها نبأ الحاضر الذي لا يتجرد منه الإنسان إلا إلى حاضر آخر.
فالصحافة - هذه القوة العاملة - أصبحت من مستلزمات الرقي وضروريات الحياة الأدبية، فلا يخلو منها إلا مجتمع ناقص لم تتوافر فيه شروط الاجتماع، ولا نعلم ماذا كان يكون حال مصر وماذا كان يحل محل هذه النهضة العالية والحماسة السياسية المبثوثة بين جميع الطبقات المصرية إذا لم تنشر فيها الجرائد الآن.
ومما يدل على افتقار العالم إلى هذه القوة أنه لم يستقم أمره بدونها منذ بدأ يرقى ويفهم معنى الاجتماع، وإنما كانت تتقمص أشباحا مختلفة غير الشبح الذي تظهر فيه في العصر الحاضر.
غاية الشعور هي تنبيه الشعور والحث على عمل الواجب ولفت الناس إلى ما يحيق بهم من الأخطار سواء كانت من أثر العادات أو من مناوأة الأعداء، وقد تحققت هذه الغاية بأساليب متباينة ووسائط تتناسب مع حالة العصور الأدبية، فتمثلت أولا في الخطابة. كأن يشعر العالم أو الأديب بنقص في المجتمع الذي يعيش فيه، أو بحاجة مواطنيه إلى الجهاد وغيره من مقومات الحياة في تلك الأزمان، فيحشد الجموع إلى ميادين البلد ويلقي عليهم خلاصة أفكاره، فيجرهم إلى العمل بها بما للخطابة من قوة التأثير، فكانت الخطابة عندهم بمقام الصحف السياسية منا.
ثم تمثلت في التدريس، فكان يؤدي وظيفة المجلات العلمية عندنا، ويندر أن يتعدى العلوم والآداب إلى السياسة إلا في قضية تتماس فيها السياسة بالعلم أو يضطر فيها المعلم إلى إبداء رأيه في شئون مملكته لتلامذته، وقد كان بينهم أبناء الملوك والأعيان؛ أي الذين تنفعهم دروس السياسة الممزوجة بالعلم. •••
ولم يعر عن الخطابة شعب من الشعوب خصوصا العرب، على أنهم ما كانوا يعرفون في جاهليتهم طريقة التدريس لقلة معلوماتهم، فتوافرت عزائمهم إلى الخطابة، فبرعوا فيها وأعطوها قسطا من الإتقان وأقاموا لها النوادي والمجامع على مثال ما كان عند أمتي اليونان والرومان، وقد فاقوهم في بلاغة المعاني وسلامة التعابير.
ولما جاء الإسلام اتسعت دائرة معارفهم وحركت عقولهم المعضلات الشرعية لأول مرة، ثم العلمية بعد أن تقدموا وعربوا كتب حكماء اليونان وغيرهم من أساطين الحكمة في الأمم القديمة، فاهتدوا إلى التدريس وبث الأفكار بواسطته، وكانوا يرحلون إلى المدرسين من قطر إلى قطر، بل من قارة إلى قارة، حتى تفرغ لهذا العمل كثير من العلماء الأجلاء، فاجتمعت عندهم بذلك دعائم الصحافة كما هي عند بقية الأمم، ورجحوها بأن دينهم يعينهم على التمكن منها، فإن الإسلام قرر مبدأها ووصف نموذجها وصف أعلم معاصريها.
فقال الكتاب العزيز:
ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر .
وقال النبي
صلى الله عليه وسلم : «إن من أشد الناس عذابا يوم القيامة من اتقاه الناس لشره.»
وقال: «إن الرجل ليتكلم بالكلمة يرضي بها جلساءه يهوي بها في نار جهنم.»
ولا ريب أن هذا أوضح تعريف للصحافة، فما هي على أكمل حالاتها إلا دعوة إلى الخير وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر. يتفرغ لها جماعة اختصاصيون سماهم القرآن أمة. ومن أهم نموذجاتها عند العصريين ألا تكون أداة تخويف يهدد بها الأعداء، أو فرشاة مجاملة ومحاباة يتقرب بها إلى الملوك والأمراء، بل تكون عند ضمير صاحبها وعقله، وهذا منصوص في الحديثين الشريفين بحيث تنطبقان على الصحافة أكثر مما على الأفراد.
فلو وجدت المطابع في زمن علماء الإسلام الأولين، أو لو وجدوا هم في زمن المطابع، لما تأخروا عن الائتمار بأمر الله ولتوفقوا إلى استخدام الصحافة بمعناها المعروف.
ومثل أمامك رجلا عالما يريد أن يهدي الناس إلى ما فيه خيرهم، كيف يهتدي إلى ذلك ويعمم مبادئه بين الناس يغير الصحافة وعنده معداتها، وبين يديه القرآن الكريم والأحاديث الشريفة يقتبس من آدابها. لا شك أن أول ما يخطر بباله إنشاء صحيفة سياسية يطلع عليها الناس عامة ليكون نفعها أعم، وفائدتها أتم.
وغير ذلك، فمن مبادئ الإسلام إلقاء خطبة أسبوعية في كل مسجد على جموع المصلين، وقد قالوا: إن صلاة الجماعة تقدر بسبعين صلاة يؤديها المصلي منفردا، وذلك ترغيبا في سماع هذه الخطب، ودعوة للناس إلى حضورها للاتعاظ بما فيها، وما هذا إلا بمثابة صحيفة أسبوعية تصدر من كل مسجد مشتملة على النصائح والتحذيرات، فلا ينقصها إلا الطبع، أما النشر فهي حاصلة عليه.
فترى أن الإسلام أشار إلى الصحافة بمعناها الحقيقي، وأن صحافة الإسلام لا تختلف عن الصحافة العصرية إلا في أنها غير مطبوعة، أو أنها حسب اصطلاح الصحافيين كانت في تلك العصور وفي ذلك الدور تمثل للطبع في هذا العصر.
الفصل السابع والعشرون
الاقتصاد السياسي في الإسلام (1)1
الاقتصاد السياسي علم يبحث عن تكوين الثروة العامة في المملكة، وكيفية تصريفها حتى تعود بالربح على المملكة التي نشأت منها، وهو بهذا الاعتبار يحسبه بعض الناس أنه إن جاء في مصلحة مملكة فلن يجيء في مصلحة الأخرى، أو كان في منفعة فرد فلا يكون فيه نفع لفرد آخر، والحقيقة أنه علم ينفع كل من تمسك بنظرياته وأحسن استعمالها، فمتى كان البائع ملما به عارفا بأسراره عرف كيف يروج تجارته وينتفع بأرباحها، ومتى كان الشاري كذلك وقف عند الحد الذي يتجاوز منفعته، فلم يتورط في الشراء إلى ما يتعداها وبهذا يحفظ التوازن بين الاثنين.
ولا فرق بين الاقتصاد المنزلي والاقتصاد السياسي إلا في أن الأول يتعلق بالأفراد يمضون فيه على ما يسعد حالهم وحال المتصلين بهم، والثاني يتعلق بالحكومات تمضي فيه على ما يسعد حالها وحال رعيتها.
فالأول يكلف الأفراد أنفسهم بأنفسهم وهم منقادون إلى ذلك بداعي الحاجة الشخصية، والثاني تكلف به الحكومات من قبل رعاياها، ورعاياها هم أولئك الأفراد، فالصلة بين العلمين متينة تكاد تجعلهما علما واحدا إذا كان الأمر كذلك، فعلم الاقتصاد قديم جدا عمل به الناس منذ تفرقت مناحي كسبهم، وقد عرفوه عملا وعلما، إذ لا يعقل أن واحدا يتجر ويصنع إلا وهو متيقن من فائدته في ذلك، وأن آخر يشتري أو يستعيض ما لم يكن في حاجة إلى ما يشتريه أو ما يستعيض به، غير أنه كان على أكمل أنواعه بالنسبة لتلك العصور حين اخترعت النقود وميز الناس قيم الأشياء بالنسبة لبعضها من جهة وبالنسبة للذهب والفضة من الجهة الأخرى، فتوحدت مطالبهم واتجهت نفوسهم إلى أمر واحد وهو اقتناء الذهب والفضة، فابتدعوا لذلك الأساليب وانتجعوا الطرائق، وفصلوا كل ما يؤدي إلى ذلك الغرض من أقرب الطرق، وبينوا كل ما يحول دونه من العوائق، فحصل من مجموع أفكارهم في هذا الصدد علم يشبه علم الاقتصاد العصري من بعض الوجوه.
اخترع النقود وحد المطالب وشغل الأفكار على اختلاف منازعها بشيء واحد ليس يعسر على الناس أجمعين إذا اتجهت أفكارهم إلى ذلك الشيء أن يمحصوه ويجعلوه للعيان كأحسن ما يكون، وقد فعلوا فأصبحت الأموال وطرق توزيعها ووسائل استثمارها معلومة عندهم تمام العلم. ولا أظن أن التاجر في القرن العشرين أحكم في معاملاته وتعميماته من التاجر في القرن التاسع أو العاشر مثلا، بل ربما كان هذا أحكم لبعده عن المضار، والمجازفة التي تحدق بتاجر هذا القرن. هذا بالنسبة للأفراد، أما الأمم فلم تنتبه إلى الاستفادة من علم الاقتصاد على صورة واضحة قائمة على دعامة ثابتة إلا حوالي القرن السابع عشر، وذلك لا يمنع أن تكون في القرون الأولى استفادت من تجارب الأفراد ما يمكنها به تسيير أعمالها على شيء من الضبط والحكمة، ولا يمنع أيضا أن يكون هداتها وكتابها قد بحثوا في هذا الباب، فظهر لهم من بحثهم بعض قواعد وقضايا اتخذها الملوك والولاة قوانين يراعونها في تدبير ممالكهم. قال ابن خلدون في مقدمته: «فإذا استديم الرخص في سلعة أو عرض من مأكول أو ملبوس ولم يحصل للتاجر حوالة الأسواق، فصد الربح والنماء بطول تلك المدة وكسد سوق ذلك الصنف، فقعد التجار عن السعي فيها وفسدت رءوس أموالهم، واعتبر ذلك أولا بالزرع، فإنه إذا استديم رخصه يفسد به حال المحترفين بسائر أطواره لقلة الربح فيه وندارته أو فقده، فيقعدون المدة وكسد سوق ذلك الصنف، فقعد التجار عن السعي فيها وفسدت عن النماء في أموالهم، ويعودون عن الإنفاق على رءوس أموالهم وتفسد أحوالهم، ويتبع ذلك فساد حال المحترفين بالطحن والخبز وسائر ما يتعلق بالزراعة من الحرث إلى صيرورته مأكولا، وكذا يفسد حال الجند إذا كانت أرزاقهم من السلطان على أهل الفلح زرعا، فإنها تقل جباياتهم من ذلك.»
وقال: «واعلم أن التجارة محاولة الكسب بتنمية المال بشراء السلع وبيعها بالغلاء أيا كانت السلعة من دقيق أو زرع أو حيوان أو قماش، وذلك القدر الثاني يسمى ربحا، فالمحاول لذلك الربح إما أن يختزن السلعة ويتحين بها حوالة الأسواق من الرخص إلى الغلاء فيعظم ربحه، وإما بأن ينقلها إلى بلد آخر تنفق فيه تلك السلعة»، إلى أن قال: «ويمكن حصر التجارة في كلمتين: شراء الرخيص وبيع الغالي.» وقال أيضا: «الرخص المفرط يجحف بمعاش المحترفين بذلك الصنف الرخيص وكذلك الغلاء المفرط، وإنما معاش الناس وكسبهم في التوسط وسرعة حوالة الأسواق، وعلم ذلك يرجع إلى القواعد المعتبرة بين أهل العمران، وإنما يحمد الرخص من الزرع لعموم الحاجة إليه.»
وقال: «إن احتكار الزرع لتحين أوقات الغلاء مشئوم يعود على فائدته بالتلف والخسران.» هذه آراء ابن خلدون في الثروة ومذاهب استعمالها لو جئنا نتقدها لما أملنا أن نأخذ عليه أكثر مما أخذوا على أول من وضع علم الاقتصاد في القرن السابع عشر، بل لرأينا أنفسنا مضطرين في بعض النقط إلى الثناء عليه لتقريره قواعد لا تزال مرعية في هذا العلم إلى الآن.
نأخذ عليه قوله: «ويتبع ذلك فساد الحال المحترفين بالطحن والخبز وسائر ما يتعلق بالزراعة من الحرث إلى صيرورته مأكولا»؛ لأنه متى رخص القمح أو غيره من نتاج الأرض كثر الإقبال عليه واشتراه من لم يعتد شراءه، فينشأ عن ذلك أن المطاحن والمخابز يروج عملها، ويزداد عدد الواردين عليها، لا كما يقول هو أنها تكسد حالها وتفسد أعمالها. ومع ذلك فقد أصاب في قوله عن صانعي المحاريث والفئوس وقاطعي الخشب المستعمل في تلك الآلات، فإنهم تبور صناعتهم ريثما تتجدد همة الفلاح ويعوض ما خسر، وأصاب أيضا في تقرير مبدأ التضامن بين الأفراد واشتراكهم في الضر والنفع ما داموا مجتمعين في صعيد واحد يتبادلون التجارة ويتجاذبون المنافع بينهم. ونأخذ عليه قوله في تعريف التجارة: «هي شراء الرخيص وبيع الغالي»؛ لأنه قول ينطبق على التاجر فقط ولا يشمل غيره، والتعريف العصري أكمل وأعم وهو: «بالمبادلة تدفع ما تستغني عنه وتأخذ ما أنت في حاجه إليه»، ولكنه كان في معرض التكلم عن الصنائع صناعة صناعة، فربما لم يصرف فكره إلى التعميم إلا أننا إذا أردنا إنصافه فلا يسعنا إلا الإعجاب بقوله هذا: «الرخص المفرط يجحف بمعاش المحترفين بذلك الصنف وكذلك الغلاء المفرط، وإنما معاش الناس وكسبهم في التوسط»، فهو لا يتعدى ما ثبت عندنا الآن من أنه لا تستقيم حالة السوق إلا بتساوي المعروض والمطلوب، والاقتصاديون لم يقروا على هذا المبدأ إلا بعد جدال عنيف نشب بينهم، وكان كل منهم يذهب فيه مذهبا، وابن خلدون قد سبقهم في تقريره، كذلك نعجب بقوله: «إن احتكار الزرع لتحين أوقات الغلاء مشئوم يعود على فائدته بالتلف»، فقد ظهر أن الاحتكار أصل الغلاء، والغلاء يغرر بالعقول ويذهب بها مذاهب الضلال، ويجرها إلى الخطأ في أحكامها. وهذه أزمة مصر لم تحدث إلا من ارتفاع أسعار الأرض ارتفاعا لا أساس له وإقبال الناس على اقتناء الأراضي بلا تدبر أو حساب.
الفصل الثامن والعشرون
الاقتصاد السياسي في الإسلام (2)1
تلك آراء كاتب، أما الملوك فكانوا يعرفون من علم الاقتصاد مثل ما يعرفونه هذا أو أكثر. قال المأمون: «الناس أربعة: ذو سيادة أو صناعة أو تجارة أو زراعة، فمن لم يكن منهم كان عيالا عليهم.»
وهذا التقسيم هو المأثور الآن بين الناس، وإذا كان أول مؤسسي علم الاقتصاد أجهد نفسه وأعمل فكره حتى قال: إن الأرض منبع الثروة وإن غير الفلاح عالة عليه، فقد قال المأمون قبله: إن الناس سادة وصناع وتجار وزراع، ومن ليس كذلك فهو عيال عليهم، فكان قوله موافقا لآخر رأي من آراء القرن العشرين عن توزيع العمل.
أما الإسلام من حيث هو شرع ودين فقد ألم بكثير من قواعد الاقتصاد مما لو جمع وأفردت له الأبواب والفصول لصح أن يكون هديا يسترشد به في مشكلات الاقتصاد ومعضلاته. وقد كلف الدائنين به بفروض وواجبات إذا علموا بها كان من أثرها في معاملاتهم أن ينتظم السوق ويترتب سير الأعمال ترتيبا يقلل من شكوى المفلوكين، ويخفف من تعب المنهوكين، ويبطل الغش الذي يضيع أجر العامل، ويربي حظ الخامل، ويدخل بين الناس فيفصم عراهم ويفسد عليهم أعمالهم. فإذا نظرنا إلى الإسلام وقوانينه الاقتصادية فإنما ننظر إلى وازعين؛ وازع إرشادي يقود الناس إلى ما فيه صلاح دنياهم، ووازع باطني يحذرهم آونة بعد أخرى من الغش والخداع، ويلفتهم إلى نقاء الذمة وطهارة النفس وطلب ما يستحقونه على عملهم بلا طمع ولا زهد، ومتى بطلت التجارة المغشوشة لم تكسد التجارة المتقنة، ولم يتحسر عامل على عمله، أو يأخذ بائع فوق حقه، أو يمس شار في ماله، وهذا نهاية ما يصل إليه الانتظام في الأعمال.
وسائل إحداث الثروة في الإسلام هي التجارة والصناعة والزراعة، قال تعالى:
ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات وليذيقكم من رحمته ولتجري الفلك بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون . أي أن في إرسال الرياح ما يبشركم بنزول المطر وهو دم الزرع، فينمو ويثمر ويكون لكم من جناه ما تحملون به الفلك (وهو ابن الصناعة) إلى الجهات الأخرى لتبتغوا من فضله (التجارة)، ولعلكم تراقبون الله في أعمالكم؛ فتشكرونه على ما وفقكم إليه مما فيه فائدتكم، ولا يذهب قارئ إلى أن هذا خصيص بالعرب، فإن العرب لم يكن من عاداتهم حمل تجاراتهم في السفن، بل كانت سفنهم الجمال يركبونها ويحملون عليها رحالهم، كذلك لم تكن معائشهم تتوقف على الزرع، فإن بلادهم حفراء جفراء، أو هي واد غير ذي زرع كما قال القرآن الكريم، فكانوا يشيمون البرق للتفاؤل أكثر مما يشيمونه للاستمطار، وكانوا ينتظرون المطر للاستقاء أكثر مما ينتظرونه لري المروج والمزارع، فأمره تعالى عام لعموم خلقه لا لفئة معينة منهم.
وقال
صلى الله عليه وسلم : «سافروا تغنموا»، وهو أمر يظهر في أول الأمر أنه تحصيل حاصل لأن العرب كانوا يسافرون بلا تكليف من أحد وكانوا يسافرون للتجارة أيضا، فما معنى هذا الأمر؟
ولكن الإسلام قد جاء مبطلا لكل ما كانت عليه الجاهلية، وكان ينتظر أن يمنعهم عن التجارة كما منعهم عن غيرها من ضروب الكسب كالميسر والأزلام، فإقراره لهم عليها يعد أمرا جديدا وتكليفا من تكاليف الإسلام، كما أنه يعد تنبيها للخامل الذي ركن إلى الكسل واستنام للخمول، فيحفزه إلى مسابقة العاملين في ميدان الكسب والعمل، ويفهمه أن هذا من واجبات الدين وموجبات اليقين، ويؤخذ من هذا التكليف أنه يرشدهم إلى استبدال ما يفيض عن حاجاتهم بما يحتاجون إليه من البلاد الأجنبية، والمبادلة من أهم قواعد الاقتصاد.
أما رأس المال وهو رأس علم الاقتصاد فقد قال عنه النبي
صلى الله عليه وسلم : «تزود من صحتك لسقمك ومن غناك لفقرك ومن شبابك لهرمك »، ويفهم من هذا الحديث الشريف أنه لم يعين رأس المال بالذهب والفضة، بل تركه على إطلاقه، يجوز على كل ما ينجي صاحبه من العدم، فكما يصح أن يقال: إن التزويد من الصحة للسقم هو بتوفير النفقة التي تلزم في حالة المرض، كذلك يصح أن يقال: إنه يكون بتعلم الطب للعلاج به عند لزومه، وكما يمكن أن يكون التزود في حالة الغنى باقتصاد شيء من الدخل لأيام العوز والفاقة، كذلك ممكن أن يكون بتعلم الصنائع والتدرب عليها لتغنيه عن بسط يده بالسؤال إذا ضاقت به الحال، وكما يجوز أن يتزود الشاب لهرمه بادخار المال، كذلك يجوز أن يتزود بالعلم والمعرفة ليستعملهما في جلب خير أوفر بتعب أقل وهو الغرض الذي أسس لأجله علم الاقتصاد.
وبعد أن فصل الإسلام موارد الرزق والسبل المؤدية لها وبين استحالة تساوي الناس في العمل والكسب أراد تعزية الفقراء منهم لئلا يجد الحسد إلى قلوبهم منفذا، فقال تعالى:
يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير
كناية عن تقسيم العمل بين الناس، فلا يحسد أحدهم الثاني على ما سبق إليه من المنفعة لأنه تمييز تقتضيه طبيعة العمران.
ثم أقبل عليهم جميعا يعلمهم كيفية إنفاق الثروة، فقال:
ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض ، والخير هو ما ترتاح له الذمة ويرضى به الضمير، وقال:
ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا . ثم شملهم بنصيحة عامة تنفع التاجر والصانع وصاحب المال، وهي:
أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين * وزنوا بالقسطاس المستقيم * ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين . ولو عمل الناس بهذه الوصية لألفيت أغلب من يشكو ساكتا، فالعامل الفقير يرضى بحظه؛ لأنه غير مبخوس الأجر، والتاجر يقنع بما يصله؛ لأنه قيمة بضاعته، والشاري يسر؛ لأن موفي الكيل راجح الوزن، والثقة تتبادل بين الجميع؛ لأن الغش مرفوع من بينهم، والمعاملة تسري على أحسن نمط؛ لأن الثقة في الوسط، وهذه نتيجة لا يستطاع الوصول إليها بعلم من العلوم.
فإذا أضفنا إلى ما تقدم تحريمه من التحلي بالذهب على حين لا خطر في ذلك إلا استخدام أتعاب الناس فيما لا ينفعهم، علمنا أن الإسلام ينظر إلى كل ما يحيط بالناس في دينهم ودنياهم، فأثبته وشرح علاجه في القرآن، وقد رأينا علماء الاقتصاد يقررون أنه لا يصلح للعملة إلا الذهب والفضة، وينددون بمن يستعملها في غير ذلك، فهل رجع العالم ثلاثة عشر قرنا أم تقدم القرآن كل تلك القرون.
الفصل التاسع والعشرون
الأزهر أحوج إلى اختيار مدرسيه منه إلى مال يواسيه1
الجامع الأزهر على قيد خطوة من الراكب والراجل، ولكنه على بعد ألف سنة من المفكر؛ وذلك لأنه لا يزال كما هو يلقي دروسه على النسق الذي كان يلقي به أفلاطون دروسه في غابته وأرسطو بين تلامذته، وقد أغرى أساتذته بكل قديم حتى لو علموا كيف كان يعلم آدم أبناءه لعدلوا عن خطتهم الحالية في التعليم إلى تلك الخطة، وإنا ليؤسفنا أن يكون الأزهر الشريف أثرا من الآثار لا حظ له من الغرض الذي أسس لأجله؛ لأننا نريد أن تكون مصر وطن الإسلام الثاني بحق، ونريد أن نستأهل اللقب الذي أطلقه علينا المسلمون في الشرق والغرب، وهو أننا حفظة العلم الإسلامي وأعلام الدين وأقطاب الشرق إلى آخر ما يقولون عنا.
أقيم الأزهر لغرضين: أولهما أن يحفظ ما عساه أن يندثر من آداب اللغة العربية، وثانيهما أن يهدي الناس إلى أقوم السبل في أمر دينهم، فهل هو قائم بهذه المهمة كما ينتظر منه؟
كلا: فإن الإنسان يتعلم الأدب ليكون كاتبا أو شاعرا، ونحن لا نكاد نطبق أصابع اليدين على شعراء الأزهر وكتابه. ويتفقه أحدنا في الدين ليعرف الناس في أمور معاشهم على ما يقضي به نصوصه وأحكامه، وما عهدنا في الأزهريين من تصدى لتطبيق آية من القرآن على مشروع معاصر مفيد، ولا رأيناهم أتوا بشيء جديد غير ما أخلق جدته الزمن وأبلته الأيام.
فهل هكذا يكون الأزهر؟ هل هكذا يكون المعهد الذي يؤمه طلاب العلوم الدينية من حيث تشرق الشمس ومن حيث تغرب ؟ هل هكذا تكون المدرسة التي تضم بين جدرانها أكثر مما تضمه ثكنات الجنود في القطر المصري والسودان.
لا والله ولو كان غاية ما يطمح إليه مؤسسة أن يكون على هذه الحال، لما استحق منا ومن المسلمين إلا أن يصفوه بالخرق والحمق وتبذير أموال المسلمين فيما لا يجدي، لا بالسداد والحكمة والاقتصاد.
نبهنا إلى ذلك ما قرره مجلس الأزهر الأعلى في جلسته الأخيرة برئاسة الجناب العالي الخديوي، فقد تقرر فتح اعتماد جديد بخمسة وعشرين ألف جنيه لإصلاح الأزهر، ونحن على ثقة من أن هذا الاعتماد وما تقدمه إنما قرر بنية صرفه في وجوهه، ولكن الذي يدهشنا أننا لا نزال نرى الأزهر كما كنا نراه قبل عشرين عاما مع ما يؤكده سمو الخديوي المرة بعد المرة من أنه لا يهتم الآن بشيء قدر اهتمامه بإرجاع الأزهر إلى عهده الأول، أيام كان منفجر العلم ومنبثق العرفان.
ولقد علمتنا الحوادث أن الأزهر لا ينقصه المال ولا معدات التدريس، وإنما ينقصه المدرسون الذين يحسنون تلقين الدروس على النمط الذي يفهمه المبتدئون، فأحلنا إخفاق المصلحين في مسعاهم إلى إبقاء من يصلح ومن لا يصلح من العلماء في مراكزهم التي كانوا يشغلونها من قبل، ورجحنا أن الأزهر سيبقى كما هو اليوم إن لم يتداركه المصلحون من هذا الباب، فقد علت شكوى الطلاب من المدرسين وكيفية إلقاء الدروس وإهمال القائمين بالإصلاح تنفيذ برامجها حتى الاثنتي عشرة غرفة التي أنشئت حديثا لم يتناول الإصلاح منها إلا اثنتين؛ وهما الثانية عشرة والحادية عشرة، وبقي العشرة الأخرى على الطراز القديم في التدريس والمرتبات والمدرسين وكل ما يتعلق بذلك، على شكوى الطلاب من كل ذلك، وما سمعنا طالبا أو عالما يشكو قلة المال أو تفاهة المرتبات.
فخير للمجلس الأعلى أن يشذب الأزهر من أمثال هؤلاء. وإن أدركتهم الشفقة بهم فليعين لهم دخلا يتعيشون منه، وإلا فالمال ضائع هدرا، وخير أن تخسر عشرة آلاف جنيه في معاشات العلماء المتقاعدين من أن تخسر كل اعتماد يفتح من الآن إلى يوم الدين.
هذا ما نشير به الآن على المجلس ولنا عودة إن شاء الله إلى هذا الموضوع.
الفصل الثلاثون
الجامعة المصرية والأزهر الشريف لا يهمهما لمن يكون
الغلب
في البلاد المصرية الآن جامعتان متناظرتان: أولاهما على وشك الدخول إلى ميدان المناظرة، وهما الجامع الأزهر والجامعة المصرية.
ووجه الشبه بينهما أن دروسهما متقاربة، وإن ظهرت أبعد ما يكون شبها ببعضها، فإن كل ما في الأزهر علوم كلامية سواء كانت منطقا أو بلاغة أو غير ذلك، وكذلك الجامعة، فليس يتكلف مدرسوها أن يحملوا أداة من أدوات المعامل لشرح الدرس عليها ، اللهم إلا لسانهم والكتاب، فالأول مدرس الآداب اليونانية والعربية، والثانية تدرس أدب الإنجليز والفرنسيس وغيرهم من الأمم المتحضرة الحديثة، والأول يعتذر عن إلحاق العلوم العصرية بعلومه بأنه ديني لا يجوز أن يشتغل إلا بالعلوم الدينية، والثانية تعتذر عن ذلك بحداثة عهدها وعدم انتظام معداتها، وهما عنصران متناقضان عن جرم واحد.
ولقد أملت الأمة المصرية في الأول وترقبت منذ عهد بعيد تحقيق أملها، ولا يزال في صدرها بقية رجاء في حصول النفع منه، وهي تهتم الآن بوضع ثقتها في الجامعة لولا أنها لم تر منها حتى الساعة ما يحملها على ذلك.
من البديهي أن أيهما كان الأسبق إلى إدخال العلوم النافعة فيه كان له الفوز على منافسه، فلنغمض أعيننا ساعة أو سنة أو حقبة، ثم نفتحها عليهما وهما على ما نحب وتحب البلاد المصرية فماذا نرى؟
أما الأزهر فإنه سيكون جامعة للعلوم الدينية بأنواعها وآداب اللغة العربية بفروعها، يضاف إلى ذلك الرياضة والفلسفة الحديثة والكيمياء والطبيعة والفلك والتاريخ والطب والهندسة بمعناها الشامل، وبالإجمال كل ما تشتمل عليه دوائر المعارف عند الإفرنج بالإنسكلوبيديات.
وأما الجامعة فإنها ستتولى كل تلك العلوم إلا العلوم الدينية الإسلامية، فإنها ستنقصها لا محالة؛ إذ ليس في الموفدين من قبلها إلى أوروبا من أرسل بقصد التوفر على هذه العلوم وإتقانها، ولو كان فيه من هذه وجهته لما صح أن يوفد إلى أوروبا إلا إذا كان الغرض من إرساله أن يشتغل بالنسيان لا بالتحصيل.
فالأزهر على هذا التقرير سيخرج من ميدان المناظرة فائزا مستجمعا لكل ما يوجد ثقة الناس به!
ولكننا إذا نبذنا الغرضيات جانبا وأخذنا بالواقع الممثل أمام أعيننا رأينا عكس النتيجة التي قدمناها، وذلك لأننا اشترطنا أن يكون التفضيل بينهما راجعا إلى سبق أحدهما الآخر في توسيع نطاق دروسه، والذي يبدو لنا ولكل من يستطيع استخدام بصره وبصيرته أن الجامعة ستسبق الجامع، فبينما هي ترسل الإرساليات خارج القطر، وبينما هي تطلب العلم ولو بالصين، يجثم الأزهر بمكانه إلى جانب سيدنا الحسين وهو لا يريد، بل ولا يحدث نفسه بالخروج قيد شبر عما وضعه له الأقدمون؛ لأنه يعتبر خروج الإنسان عن الحد الذي وضعه له أجداده وأسلافه بمثابة خروج الفلك عن الدائرة التي رسمتها له القدرة الإلهية، فإذا قيض الله له رجلا طويل الباع يمد يده إلى ما وراء العصور الوسطى فينشله من ظلماتها إلى هذا العصر المنير كان به، وإلا فهو سكيت كل ميدان، قريع كل رهان.
يقول قائل: كيف يتداركه رجل وقد حاول الرجال إصلاحه فأخفقوا واجتمعوا على تهذيبه فما اتحدوا حتى تفرقوا؟ كيف يكون في حاجة إلى رجل واحد وأنت ترى أمامك رجالا كلما قوموه من جانب تداعى من الجانب الآخر؟!
الأمر من البساطة بحيث لا يحتاج إلى روية أو إمعان نظر، فنحن نقول: إنه في حاجة إلى رجل واحد؛ لأن رجلا واحدا بيده كل ما يراه الناس كفيلا لإصلاح الأزهر؛ في وسعه أن يرسل على نفقة الأوقاف إرسالية علمية: نصفها من طلبة المدارس ونصفها من طلبة مدرسة دار العلوم أو مدرسة دار القضاء الشرعي، ويحضر هؤلاء في جامعات أوروبا ما يناسب إدخاله إلى الأزهر، يتلقون العلوم الحية الضرورية، ولا بأس بالمنطق الحديث، لا ذلك المنطق البالي الذي سوى بين الإنسان والأعجم فجعله في حاجة إلى القصور وأفسد على متعلميه ملكة الحكم، فأصبحوا ولا طاقة لهم بتصور البديهي: وهو أن الغرب إنما ارتقى بالعلوم العصرية، وأن الشرق لا ينتظر أن يدركه إلا إذا نهج نفس طريقه وعدل عن تلك السبيل النكباء.
مثل هؤلاء إذا عادوا إلى الأزهر بعد سنين معدودة أغنوه عن بعض أساتذته الحاليين الذين لا يصلحون للتدريس، وحفظوا عليه مزيته التي كادت تنمحي، وتقدموا به إلى حيث يقارن بأكبر جامعة في العالم، ولا نخال أن ذلك يستدعي من النفقات أكثر مما تستدعيه هذه الاعتمادات التي تواترت أنباؤها وتعددت أسماؤها، وكلها اسم على غير مسمى وظهارة بلا بطانة وقول بلا عمل.
الفصل الحادي والثلاثون
كتاب جديد عن الرسول1
من رأي فريق من كبار المفكرين أن الفترة التي تمر بها البلاد اليوم فترة إمعان في التفكير ، وأن مناقشة المسائل السياسية العليا ينبغي أن تتأخر بضعة أيام أو أسابيع، حتى تتبين الغايات التي تصل إليها المفاوضات، من هذا الفريق كان كبار المفكرين الأستاذ العقاد.
وقد أراد الأستاذ الكبير أن يطبق هذا الرأي، فرغب أن تكون أولى مقالاته في هذه الآونة على صفحات «السياسة» مقالة تتصل أوثق الصلات بالشئون الفكرية، وليس من شك أن الأستاذ العقاد قد أتاح لقراء العربية بهذا الاتجاه فرصة حرموا منها طويلا.
المحرر
لما ألف الدكتور هيكل باشا كتابه عن «حياة محمد»، وألفت كتابي عن «عبقرية محمد»، لم يقع هذا التأليف موقع الاستحسان عند فريق من أدعياء الأدب والثقافة؛ لأن موضوع محمد - كما زعموا - موضوع قديم لا يجوز لأبناء العصر الحاضر أن يحفلوا به ولا يحسن بأنصار «التقدم» أن يرجعوا إليه.
وحقيقة الأمر أن هؤلاء الأدعياء لا ينكرون الكتابة في تاريخ النبي
صلى الله عليه وسلم ؛ لأنها كتابة قديمة أو كتابة محرمة على أبناء القرن العشرين، ولكنهم ينكرونها، لأنهم يضيقون بكل ناحية روحية في تاريخ الإنسان، ويعلمون أنها عقبة قائمة تعترضهم في سبيلهم الذي ينساقون فيه ويندفعون إليه بوحي من سادتهم المتحجبين وراءهم من دعاة المذاهب المادية وأعداء كل رفيع أو عظيم في الضمائر والأرواح، وهم يكشفون أنفسهم كلما أنكروا الكتابة عن أعلام الإنسانية وهداتها، وبشروا بالكتابة في موضوع واحد لا يجوز لأصحاب الأقلام عندهم أن يتجاوزوه: وهو موضوع الطعام والشراب، كأنما الطعام والشراب أحدث الأشياء في العالم الإنساني، وإنهما لسابقان للإنسان نفسه إيغالا في القدم إلى أقدم عصور الأحياء والحشرات.
أما العظمة الروحية التي تتجلى في الكتابة عن الهداة وأبطال الإصلاح والإرشاد، فهي موضوع خالد لا تنقضي جدته في زمن من الأزمان، ولعل الشرقيين عامة والمسلمين خاصة لم يكتبوا عن محمد
صلى الله عليه وسلم
في هذا العصر الحديث بعض ما كتبه عنه الأوروبيون والأمريكيون، ولا يزالون يكتبون إلى هذا العام.
ومن مصداق ذلك كتاب جديد عن «الرسول»، طبع في مدينة نيويورك سنة 1946، ولم ينقض على ظهوره هنالك شهران.
ومعنى ذلك أن المطابع الأمريكية التي تحيط بها شواغل العالم كله في الآونة الحاضرة لا ترى في تلك الشواغل ما يصرفها عن تاريخ نبي يدين به الشرقيون ولا يدين به الأمريكيون، ولا تحسب أن القراء في الغرب يضنون على هذا الموضوع الجليل بساعات أو أيام ينفقونها في الاطلاع عليه، وهم قائمون قاعدون في معترك السياسة الدولية ومعترك المشكلات الاقتصادية ومعترك الحياة العصرية بكل ما تتسع له هذه الحياة من المطالب والمنازعات.
هذا الكتاب الجديد عن محمد
صلى الله عليه وسلم
هو كتاب «الرسول»
The Messenger
الذي ألفه الكولونيل بودلي صاحب كتاب «الريح في الصحراء» وكتاب «الصحاري المرحة» وغيرهما من الكتب في الموضوعات الشرقية، وقد اختار اسم الرسول عنوانا لكتابه هذا لأنه الاسم الذي يوصف به محمد في كل نداء للصلاة، حين يهتف المؤذنون في الآفاق أن «لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله».
وقد يكفي هذا الكتاب للتنويه به أنه «رد عملي» على أولئك «المتحيونين» الذين يريدون أن يحصروا النفس الآدمية في أضيق الحدود وأسفل الدركات، ويحاولون أن يخدعوا مسامع الشرقيين باسم الحضارة الحديثة ومطالب العصر الحديث، ولكنه في الواقع يستحق التنويه به لغير هذا السبب ولأسباب كثيرة؛ إذ كان طريف التأليف طريف المصادر طريف البواعث إلى العناية به والتأهب له قبل إبرازه في حيز الكلمات والصفحات.
فالكولونيل بدولي صاحبه رجل وافر الحظ من معارف الحضارة الأوروبية والحياتين السياسية والعسكرية، تعلم في أيتون وساندهرست، وعمل في الهند، واشترك في الحرب العظمى ، وساهم في مؤتمرات فرساي، واطلع على الخفايا الدولية من وراء الحجب والأسداد، فثقلت على ضميره مساوئ السياسة وأوضارها، ولزمته الكآبة، وأفضى بذات نفسه إلى صديقه لورنس المعروف في البادية العربية، فأشار عليه بأن يعتزل أوروبا ويأوي إلى بلاد يعيش فيها على الفطرة، كبلاد العرب وأطراف الصحراء، فعمل بنصيحة صديقه وراح يتنقل في الصحراء العربية زهاء سبع سنوات، وهذا الكتاب الأخير بعض ثمرات هذه السنوات.
وكتاب «الرسول» طريف في مصادره كما هو طريف في أسباب تألفيه؛ لأن صاحبه لم يعول فيه على المراجع الكتابية، بل على المراجع الشفوية يتتبعها حيث عاش الرسول
صلى الله عليه وسلم ، ويتفهمها من وحي المكان ومن النفاذ إلى بداهة العروبة في مواطنها الأولى، غير متوسع في الاطلاع ولا متعرض لمواطن الجدل والخلاف. وقد اكتفى من الكتب بالقرآن الكريم، ثم بما تيسر له من المصنفات بعد الفراغ من تكوين رأيه وتصوير شعوره وخياله، فآثر الإحساس بحياة الرسول على التعمق في أقوال القائلين عنه من المسلمين وغير المسلمين.
ولا ينتظر القارئ من صاحب كتاب الرسول أن يؤمن بالإسلام كما يؤمن به المسلمون؛ لأنه على ما يبدو من كلامه ينظر إلى الأديان جميعا نظرة المستقل عن الشعائر والمراسم التي هي مثار الخلاف بين دين ودين.
إلا أنه حسن النية في تقدير فضائل الرسول والرد على ناقديه من منكري دينه أو منكري جميع الأديان.
فهو يحيل الأوروبيين الذين يتعرضون لزواج النبي أو لجهاده بالسيف على سير الأنبياء كما وصفهم العهد القديم، ولا سيما سيرة داود وسليمان.
وهو يقول للذين يطالعون القرآن مترجما إلى اللغات الأوروبية ويعجبون من إعجاب المسلمين به أن القرآن كتاب حي لم يوضع للمطالعة وتزجية الفراغ، وإنما للتبشير والإيحاء والتذكير، ولن يتذوقه المطالع المتصفح كما يتذوقه السامع المصيخ إليه بظاهر حسه وباطن نفسه؛ لأنه يتطلب الإيمان ويتحدث إلى المؤمنين.
وأشار إلى وصف الجنة كما جاء في القرآن الكريم، فقال: إن القديسين المسيحيين قد وصفوا نعيم السماء بمثل هذا الوصف في القرن الرابع بعد المسيح، فقال القديس أفرايم في أناشيد: «إنني قد نظرت إلى منازل الصالحين في النعيم، فرأيتهم مضمخين بالعطر الزكي تتأرج منهم الطيوب وتنعقد عليهم أكاليل الرياحين والثمرات ... فمن عف عن معاقرة الخمر على الأرض تشوفت إليه الخمر من كروم السماء، ومن عصم نفسه عن الشهوات تلقته الحسان في أحضانها الطهور؛ لأنه ترهب ولم يمرغ نفسه بأحضان المحبة الأرضية.»
وأشار إلى وصف جهنم كما جاء في القرآن، فقال: إنها لا تشبه اللعنة الأبدية التي أعدت للكافرين في رأي اليهود والمسيحيين؛ لأنها لا تيئس النازلين بها من الغفران واستحقاق الجنة بعد التكفير عن خطاياهم بالعذاب.
وبهذه النية الحسنة نظر في حياة النبي
صلى الله عليه وسلم
وفي دعوته وفي المقابلة بين العقيدة الإسلامية وغيرها من العقائد الكتابية، فلم يكتب كما يكتب المسلم المؤمن بالدعوة المحمدية، ولا كتب كما يكتب المنكر المتحامل الذي يتعصب لدينه ويتعمد القدح والإجحاف.
وإذا جاز أن نرتب المؤلف الواحد في درجات متتاليات، فصاحب كتاب الرسول قد كان شاعرا فسائحا فمؤرخا فناظرا في الأديان بنظرة المتصوف الحديث، فغلب الشعر فيه على التاريخ وغلب التاريخ الشعري فيه على التمحيص والاعتقاد.
وجاء كتابه بعد هذا كله في أوانه ليقنع بعض الشرقيين على الأقل بأن «تاريخ محمد» شيء خالد يشتغل به أصحاب الشواغل في وقت يمتلئ فيه الحاضر بما ينسي كل قديم، لو كان نسيان كل قديم مما يليق بكرامة الآدميين.
الفصل الثاني والثلاثون
الثقافتان1
من مباحث اليوم في دوائر الثقافة الإنجليزية مسألة الثقافة الإنسانية في العصر الحاضر، وأصح من ذلك أنها مسألة الثقافتين التي يخشى منها على الثقافة الإنسانية، ويريدون بهما ثقافة العلوم والصناعات من جانب وثقافة الآداب والفنون من جانب آخر، وكلتاهما نافعة إذا لم تنفرد بالفكر الإنساني كل الانفراد، ولكنها ناقصة النفع بل وشيكة أن تضر؛ إذا حجبت عن الفكر ما عداها من متممات التهذيب والتقويم.
أثار هذه المسألة في الأيام الأخيرة الأديب «سيرشارل سنو» في محاضرة من محاضراته المسموعة القيمة، ولخص فيها مشكلة الإنسان المتعلم في القرن العشرين، فإن اتساع ميادين المعرفة مع شيوع التخصص في حدوده الضيقة شطر الإنسان - كما يقول - شطرين، وجعله نصف إنساني لا يكتفى به في حسن الفهم وحسن التقدير وحسن التصرف، وقد عزله عن الفطرة التي تعتمد على العرف السليم ولم يعوضه عنها ما يغنيه ويهديه، لأنه أعطاه النظر من ناحية واحدة، وهو أخطر الأنظار.
ولم نسمع في هذا العالم محاضرة كان لها من الصدى ما كان لهذه المحاضرة منذ إلقائها إلى اليوم، أو محاضرة تلاحق التعقيب عليها كما يتلاحق من تعقيبات الصحافة والإذاعة والأندية الفكرية في موضوعها، وهو موضوع الثقافتين.
قال الأديب جون شارب في إذاعته: إنها أخطر بحث عن التعليم تناوله الباحثون منذ صدر تقرير هادو
Hadaw
قبل ثلاثين سنة.
قال ناقد الملحق الأدبي لصحيفة التيمس: إن الفراغ بين القوتين ليس من الأمور المزهود فيها، فلولا الفراغ لما أمكن سريان الشرارة الكهربائية، ولولاه لما تحركت السيارة التي نركبها، فإذا وجد فراغ بين نوعين من التعليم فليس من الحتم أن يئول ذلك إلى ضرر أو خسارة، وإنما الواجب أن يأتي الفراغ في الموضوع الملائم وبالقدر المطلوب.
ثم عاد الناقد المطلع إلى مسالة الفراغ بين الثقافتين العلمية والفنية في العصر الحاضر فقال: إنها في الحق من المشكلات الجسام يخففها إلى حين أن الإنسان المهذب في زماننا - سواء كان من العلميين أو الفنيين - لا يكتفي بنصيبه من العلم أو الفن، ولا يستغني عن شاغل من شواغل الرياضة البدنية أو من شواغل الموسيقى كالعزف على آلة من آلاتها والاستماع إلى أدوارها المحفوظة في قوالبها المسجلة، أو الاستماع إلى طرائف الإذاعة في مختلف الموضوعات.
إلا أنه ينتمي على الرغم من هذا العزاء الموقوت لو تعالج هذه المشكلة بما يجمع الفائدة من كلتا الثقافتين، ويكفل اللقاء للشطرين الإنسانيين في بنية واحدة لا تشتكي الزيع والانحراف في نظرتها إلى دنياها.
وقال الفيلسوف الرياضي الكبير برتراند رسل من كلمة نشرتها مجلة المساجلة: إن القطيعة بين الثقافتين لم تبلغ في الأزمنة الماضية ما بلغته الآن، إذا كانت القنطرة بين العدوتين قائمة على طول أو على قصر ، ولكنها في الحقبة الأخيرة يوشك أن تنقصم فلا تلتقي إحداهما بالأخرى، ولا تسلم الثقافة من كلفة الادعاء والحذلقة، كما يحدث دائما عند الشعور بالنقص والرغبة في مداراة الجهل والسذاجة.
ويرى بعض المعقبين أن العلة ناشئة من تراكم الفضول والحشو على مواد الثقافة جريا مع التقليد والعادة، فلو أعيد النظر في برنامج التعليم لم يتعذر إصلاح الخطأ وتصفية الفضول وإبقاء البقية الصالحة من ثقافة العلم وثقافة الفن التي لا يصعب تحصيلها على المتعلم، مع إعطاء التخصص حقه في عصره.
والذي نراه في جملة ما طالعناه من مباحث هذه المشكلة أن العلة فيها عند الغربيين راجعة إلى سبب أصيل لم يبتدئ في هذا القرن العشرين ولم تأت به الدراسة العلمية أو الحركة الصناعية في هذه السنوات منذ أربعين أو خمسين سنة.
إن العلة فيما نرى راجعة إلى قسمة الثقافة عند القوم إلى ثقافة إلهية وثقافة إنسانية، وراجعة قبل ذلك إلى قسمة الإنسان بين هذا العالم وبين العالم السماوي، وإلى المقابلة بينهما كما تتقابل مملكة السماء ومملكة العالم الدنيوي، أي مملكة الشيطان.
فمن قبل هذا العصر - عصر العلم والصناعة - كان الأوروبيون يقسمون الثقافة إلى قسم العلوم اللاهوتية وقسم العلوم التي سموها بالإنسانية تمييزا لها من علوم اللاهوت وما يلحق بها من دراسة تعين عليها، وقد سرى هذا التقسيم منهم إلى الشرق مع سريان الحضارة إلينا من بلادهم، فسمعنا بيننا من يتحدث عن العلوم الدينية والعلوم الدنيوية.
فالدين الإسلامي يأمر المسلم بالنظر في السماوات والأرض؛ ليعلم كل العلم عندنا واحدا يطلبه المتعلم لدينه ودنياه ما يؤدي إليه النظر فيهما وفيما بينهما، ويأمره بأن ينظر في سريرة الإنسان وفي أحوال الأمم فلا يفوته العلم بالإنسان الفرد ولا بالجماعات البشرية.
وأثر هذا الإحساس «بالوحدة الذهنية» أن تتم ثقافة المتعلم، ويسلم العقل من داء الفصام الثقافي الذي يفصل بين روحه وبدنه وبين دينه ودنياه.
وأثره في تاريخ التفكير أن نرى تلك الثقافة الواحدة في العالم الفقيه الفيلسوف الأديب، مع اشتغال بالطب أو بالوزارة أو بسياسة الأمور العامة ، ولا نرى له نظيرا في الأزمنة الحديثة، ولم نر له من قبل نظيرا في الأزمنة الغابرة؛ لأن الثقافة فيها بطبيعتها كانت تنحصر بين حدودها التي لا تتفرق أو لا تدعو إلى التخصيص، لقلة محصولها في مختلف العلوم.
ولم تتأثر قواعد هذه الثقافة التامة بانتقال المسلمين إلى البلاد الغربية، بل هي أثرت هناك في تلاميذها من الغربيين، فرفعت أمامهم أمثلة نادرة من «الإنسان المثقف» كما ينبغي أن يكون.
من أمثلة أبو بكر بن زهر الذي يقول فيه صاحب نفح الطيب: «هو عين ذلك البيت وإن كانوا كلهم أعيانا علماء، ورؤساء حكماء وزراء.»
ويقول فيه صاحب المطرب من أشعار أهل المغرب: «كان شيخنا الوزير أبو بكر بن زهر بمكان من اللغة مكين، ومورد من الطب عذب معين، وكان يحفظ شعر ذي الرمة وهو ثلث لغة العرب، مع الإشراف على جميع أقوال أهل الطب والمنزلة العلياء عند أهل المغرب، ومع سمو النسب وكثرة الأموال والنشب.»
وصاحب هذه المعارف والرئاسات هو الذي يقول من الشعر في شوقه إلى طفله الصغير:
ولى واحد مثل فرخ القطا
صغير تخلف قلبي لديه
نأت عنه داري فيا وحشتا
لذاك الشخيص وذاك الوجيه
تشوقني وتشوقته
فيبكي علي وأبكي عليه
وهو الذي يقول وقد نظر في مشيبه إلى المرآة:
إني نظرت إلى المرآة إذ جليت
فأنكرت مقلتاي كل ما رأتا
رأيت فيها شييخا لست أعرفه
وكنت أعهده من قبل ذاك فتى
فقلت: أين الذي بالأمس كان هنا؟
متى ترحل من هذا المكان متى؟
فاستضحكت ثم قالت وهي معجبة:
إن الذي أنكرته مقلتاك أتى
كانت سليمى تنادي يا أخي وقد
صارت سليمى تنادى اليوم يا أبتا
وهو الذي يقول في إحدى موشحاته:
سلم الأمر للقضا
فهو للنفس أنفع
واغتنم حين أقبلا
وجه بدر تهللا
لا تقل بالهموم لا
كل ما فات وانقضى
ليس بالحزن يرجع
ومثل هذا الشعر يسلك بقائله في عداد النخبة من شعراء عصره وشعراء كل عصر، لو أنه تخصص للشعر ولم يزد عليه فضلا من أفضال العلم أو الحكمة أو الرئاسة. ولكنه زاد عليه من كل فضل ما يسلكه بين خاصة أهله، ولم يفرضه عليه واجب من واجبات المنصب ولا حاجة من حاجات النفس إلى المال والمتعة، بل ترك من المتعة بمقدار ما استفاد من حكمة وأدب: متعة لا يبذل فيها هذا الثمن من يجهل كيف يكون متاع الأرواح والألباب.
ولقد كان هذا التوسع في المعرفة من نصيب البيوت والأسر، ولم يكن من نصيب نابغة فيها يعدونه فلتة الفلتات النادرة بين أبنائها، فليس بالنادر بينهم أن يتعاقب على النبوغ ثلاثة أجيال يميزون بينهم باسم الأب والابن والحفيد؛ لأنهم كلهم في شهرة العلم والنبوغ سواء. •••
إن «ثقافة التامة» على هذه السنة مستطاعة في كل زمن، مستطاعة في زماننا هذا على الوجه الأمثل مع وفرة علومه وتعدد ألوان الثقافة فيه؛ لأنه كما تعددت فيه ألوان الثقافة تعددت فيه وسائل نشرها وتقريبها والوصول إليها في مصادرها، فمن لم يتسع وقته للاطلاع على المطولات لم يضق به الوقت عن الإلمام بالوسيط أو الوجيز في ضروريات المعرفة، ومن فاته الاطلاع لم يفته الشهود والاستماع، ومن فاته كل ذلك لم تفته مراجعة الصحف ومناقشة العارفين ومتابعة الأخبار مع السؤال والاستفسار.
وليس المطلوب بالبداهة إلغاء التخصص ولا الوقوف بالمعرفة الخاصة دون الغاية من الاستقصاء، فإن الإجادة في عمل الإنسان المثقف لا تنال بغير هذا الاستقصاء إلى غاية مداه المستطاع، ولكن إتقان التخصص هو الذي يوجب على صاحب العلم والفن أن ينطلق من قيوده ولا يغلق عليه أبواب علمه وفنه، فلا سبيل إلى إتقان شيء من الأشياء وراء الجدران المحكمة والأبواب المقفلة، ولا يعرف الحسن من يراه في وجه واحد، أو يعرف سكنى الدور من لم يخرج قط من داره، أو يعرف عقله من لم يعرف عقولا أخرى لا مشابهة بينها وبينه.
فمن أجل التخصص نعرف ما حوله، وقوام الأمر من المعرفة الصحيحة في عصر «التخصص» أن نعرف كل ما يعرف من علم واحد، وألا نجهل الصلة بينه وبين سائر العلوم، فلا نلتقي بأصحابها لقاء الغرباء من عالم آخر، وما هو في الحقيقة غير العالم الذي نعيش فيه.
وزينة الثقافة، بل ضرورتها القصوى، ألا يكون المرء عالما في بابه وأميا في سائر الأبواب، فإن هذه الأمية في نقصها وسوء مغبتها أجدر بالمحو من أمية الجاهل بالألف والباء.
الفصل الثالث والثلاثون
عود إلى الثقافتين1
عرضنا في إحدى مقالاتنا بمجلة «الأزهر» لمشكلة الثقافتين عند الأمم الغربية، والمقصود بها مشكلة الانفصال بين ثقافة العلم وثقافة الأدب. واتساع الهاوية فترة بعد فترة بين تفكير العلماء وتفكير الأدباء وأصحاب الآراء النظرية، مما ينذر بإصابة «الشخصية الإنسانية» في هذا العصر بداء كداء الفصام، ويجعل الإنسان الناشئ على إحدى هاتين الثقافتين دون الأخرى كأنه نصف إنسان.
وقد كانت هذه المشكلة مدار البحث في سلسلة المحاضرات الفلسفية التي ألقاها الكاتب - العلمي الأدبي - الأستاذ سنو
snow
في شهر مايو الماضي، فثارت حولها ضجة من النقاش والنقد والتعقيب لم تنقطع إلى هذه الأيام؛ لأن المشكلة - على ما هو ظاهر - ليست من المشكلات التي ينتهي الفصل فيها بسلسلة من المحاضرات، أو بطائفة من الآراء تنشر ثم تطوى بعد أسابيع أو شهور، ولا مناص فيها من اتباع القول بالعمل على منهاج متفق عليه، فإن لم يبلغ التفاهم عليه مبلغ الاتفاق فلا أقل من أن يكون صالحا للتنفيذ والتقرير.
وقد عاد الأستاذ سنو إلى بحثه في مقال نشرته مجلة المساجلة
encounter
في عددها الصادر في شهر فبراير الماضي، أراد بمقاله هذا أن يلم أطراف المناقشة ويعقب عليها بخلاصة رأيه بعد عرض أقوال الموافقين والمخالفين من الباحثين قبله أو بعده في مشكلة الثقافتين، وقد جمعهم إلى طوائف ثلاث: موافقين في الرأي والنتيجة، وموافقين في الرأي مخالفين في النتيجة، ومخالفين يعارضون نظرته كل المعارضة في وصف المشكلة، ويرون أن العصر الحديث كالعصر القديم في تعدد الثقافات، مع اختلاف الموضوع والمقدار.
ولا يعنينا هنا تفصيل أسباب الخلاف بين آراء الموافقين والمعارضين: فذلك شرح يطول ولا علاقة له بالناحية التي نحول إليها البحث من أمر الثقافة الإسلامية.
ولكننا نجتزئ بالإشارة إلى رده المجمل على المخالفين ، ثم بالإشارة إلى الحل الذي يقترحه لعلاج المشكلة من الوجهة العامة.
فالمخالفون يقولون: إن الحال لم تتغير في جوهرها من أيام عصر النهضة إلى اليوم. فلو تلاقى عالم فقيه وشاعر فنان قبيل القرن السادس عشر لما كان بينهما من التفاهم والتقارب أكثر مما يكون بين علماء العصر الحاضر وأدبائه أو مفكريه النظريين.
وجواب الكاتب على هؤلاء أنه لا يسلم بأن المسافة بين الفريقين كانت على هذا البعد منذ ثلاثة قرون، ولا يقول: إن العلم والأدب كانا قريبين متلاقيين في القرن السادس عشر، ولكنه يقول: إن القنطرة بينهما كانت موجودة مستقرة، وهي اليوم تتهدم شيئا فشيئا وتوشك أن تزول، وأنه على أية حال لا يريد أن تقام القنطرة وتظل قائمة لمن يعبرها، ولا يعجز أحد عن عبورها إذا أراد.
أما حل مشكلة الثقافتين من الوجهة العامة عند الكاتب فهو تعميم التصنيع في المجتمعات الحديثة، ولا بد - على رأيه - من الاختيار بين البدائية الهمجية وبين تصنيع المجتمع وتعويد الناس جميعا أن يعيشوا معيشة الحضارة العلمية، فيصبح التثقف العلمي حقيقة واقعة يزاولها الناس في البيوت والأسواق وفي ميادين الرياضة البدنية والنفسية، وفي حينها تحول الإنسان بين العمل الصالح واللهو البريء؛ لاضطرارهم إلى استخدام الآلات.
والكاتب، فيما نعتقد، مصيب من الجانب الذي ينظر إليه، وهو جانب «الإنسان الغربي» وارث العلم والأدب في البلاد الأوروبية أو الأمريكية من القرون الأولى بعد الميلاد.
فقد عاش هذا الإنسان على الدوام في ميدانين متقابلين من عالم الثقافة، ميدان الروح وميدان الجسد، أو ميدان ملكوت السماء وميدان ملكوت الأرض، وكان الانفصال بين الميدانين بعيد الأمد يكاد ينتهي إلى عالمين متناقضين: أحدهما ملعون منبوذ هو هذا العالم المشهود، والآخر مقدس مطلوب ولكنه غائب وراء الحواس، بل وراء العقول التي تتصرف في الأمور الدنيوية.
وليس الانفصال بين العلم والأدب في القرن التاسع عشر وما بعده إلا ميراثا منقولا من ذلك الفاصل القديم، ولا غنى في هذه الحالة عن تقريب القواعد قبل تقريب البناء الذي يقام عليها.
ولهذا لا غنى عن سؤال يجاب عليه قبل البحث في الحلول العامة المقترحة، سواء منها حل الكاتب الإنجليزي وحل غيره من المفكرين العلميين والنظريين.
هذا السؤال هو: ما الرأي في «الشخصية الإنسانية» على أي وضع من الأوضاع الاجتماعية في العصر الأخير: عصر وحضارة العلم الحديث أو عصور الزراعة والعلاقات الاقتصادية على اختلافها؟
هل «الشخصية» الإنسانية هي موضع التربية والتثقيف وغرضهما؛ ومدارهما في جميع الأحوال، أو أن موضع التربية والتثقيف وغرضهما ومدارهما شيء آخر لا يبالي مصير هذه الشخصية؟
إن الإسلام لا مشكلة فيه من جهة الثقافة على أنواعها؛ لأن «الضمير الإنساني » هو المسئول دنيا وأخرى عما يعمله الإنسان وما يعلمه، وعما يدين به في نجواه وما يدين به بينه وبين غيره.
والتربية في الإسلام هي تهذيب هذه «الشخصية»، وتزويد قواها الفكرية والبدنية معا بكل ما يصلحها للعلم والعمل.
وكل تربية ينالها الإنسان فهي امتداد لقوة من قواه، سواء منها قوة البدن وقوة الروح، وإنما تعرف قيمتها بميزان القوة التي تمدها وتزيدها وتهيئها للعمل في الحياة الخاصة أو الحياة الاجتماعية العامة.
فالتربية الصناعية تجعل للإنسان يدا أقوى من يده أو قدما أقوى من قدمه، أو بصرا أقوى من بصره، أو سمعا أقوى من سمعه، وهي تربية ضرورية نافعة لا غنى عن تعميمها بين الناس في المجتمعات الحديثة، ولا غنى لهذه المجتمعات عنها في عصر الصناعة والمخترعات.
هذه التربية الصناعية قوة تمنح الإصبع قدرة على أن يحرك الجبال بالضغط على زر صغير، وتمنح العين قدرة على النظر بالمجاهر والمناظير إلى دقائق الخفاء وإلى آفاق السماء.
ولكن هذه القوى جميعا لن تبلغ في القيم الإنسانية مبلغ القدرة التي ترفع ضميره، وتوليه من الشعور والفكر وسيلة توسع أمامه آفاق الحياة، وتبسط بين يديه كونا أعظم من الكون الذي يعيش فيه جسده، ووجودا أتم من الوجود الذي يلابسه بأعضائه البدنية ولو بلغت غاية مداها من بسطة وامتداد.
إن «زرا» يضغطه الإنسان بإصبعه قد يمنحه قوة ألف إصبع أو آلاف من الأصابع تحسب بالملايين، ولكن «الشخصية الإنسانية» لا تتوقف عليه، وقد تصنعه للإنسان شخصية أخرى فيعمل به كل عمله المطلوب، فليس من الضروري أن يكون صانع الزر هو المنتفع به أو هو المتعلم لتركيبه واستخدامه، ولا شأن له في إتمام «كيانه الإنساني» ولا في الارتفاع به إلى ما هو أهل له من مراتب الكمال.
لكن القدرة الروحية إذا عرف بها الإنسان مزايا الخير والجمال، وتذوق بها محاسن الحياة الفكرية والعاطفية تتوقف على «الشخصية» التي تستطيعها ولا تصنعها لها شخصية أخرى كما تصنع الأزرار والمجاهر والمناظير.
وهذا هو الفارق بين تربية وتربية، وبين إنسان مثقف وإنسان ناقص التثقيف ، أيا كان نظام المجتمع وأيا كان حظه من التصنيع.
فإذا وجب التصنيع فإنما يجب لتمكين الإنسان من الانتفاع بصناعات عصره وتوزيع منافع الصناعات بين جميع أبناء المجتمع على سنة الإنصاف والتعاون في المصلحة والخير، ولكن المجتمع الذي سيصنع الأزرار والمجاهر والمناظير لأبنائه لا يعطيهم كل شيء ولا يزودهم بمقومات الحياة التي يحتويها كل ضمير بينه وبين الله وبين الناس، ولا يستطيع أن يعول فيها على معمل من معامل التصنيع يتكفل بتوريد الضمائر لأبنائه كما تتكفل المعامل بتوريد هذه الأداة أو ذلك المخترع المصنوع.
ولن تتم في مجتمع من المجتمعات ثقافة عالية جديرة بأن تسمى ثقافة إنسان ما لم تكن ثقافة شاملة يتم بها قوام «الشخصية الإنسانية» بريئة من داء الفصام موفورة الحظ من الضمير والجسد، ومن العلم والأدب، ومن مطالب الأذواق ومطالب العقول.
الفصل الرابع والثلاثون
الروحانية بين الأنبياء الثلاثة1
الأديان الثلاثة: الإسرائيلية والمسيحية والإسلام، ظهرت كلها بين السلالات السامية وكان أنبياؤها جميعا من الساميين.
والإجماع منعقد على هذا بين المؤرخين كافة، نعني انتساب موسى وعيسى ومحمد عليهم السلام إلى هذه السلالة، يشذ عنهم «فرويد» العالم النفساني الإسرائيلي المشهور، فهو ينسب موسى إلى الجنس المصري القديم، وبعض الباحثين يقولون: إن الجنس المصري القديم منحدر من الأصول الأوروبية.
ويشذ عنهم في أمر المسيح أولئك الدعاة الجرمانيون الذين يعتسفون الأنساب لكل عظيم فيردونه إلى الأصل الجرماني أو السلالة الآرية على التعميم، فهؤلاء الدعاة يزعمون أن صفات المسيح المتواترة أقرب إلى الملامح الآرية الشمالية، وينظرون من جهة أخرى إلى الملامح الفكرية أو الأدبية، فيزعمون أن الروحانية التي تظهر في أقوال السيد المسيح أكبر وأرفع من طاقة «السلالة السامية» التي يحسبونها مقصورة على الماديات الملموسة والمطالب الأرضية القريبة.
وكلا القولين - قول فرويد وقول الدعاة الجرمانيين - لا يؤيده دليل قاطع ولا يتعدى الأخذ بالظنون.
فمن المستبعد أن يكون موسى مصريا، ثم تجتمع له زعامة الإسرائيليين من جميع القبائل والبطون في الديار المصرية، ومن السخف أن يكون المسيح «آريا» تطبيقا لقاعدة يخترعها دعاة الجرمانية، ثم يسندونها بالظنون ويعودون فيسندون الظنون بتلك القاعدة المخترعة.
وعلى هذا يصح أن ينعقد الإجماع - كأصح ما انعقد في مسألة من المسائل - على أن البيئة السامية هي البيئة التي ظهرت فيها الأديان الثلاثة، وأن موسى وعيسى ومحمدا جميعا من سلالات الساميين.
ألهذه المزية الجنسية دلالة عامة! وهل نشأت الأديان الكبرى الثلاثة بين أبناء الجنس السامي لسبب عنصري يخص هذه السلالة، أو لسبب نفساني يرجع إلى طبيعة العقيدة الدينية؟
تكلم في ذلك المتكلمون فأثبتوا وأنكروا كما يحبون أو يكرهون، فمن قائل: إن العقل السامي بفطرته مستعد للاعتقاد غير مستعد للتفكير أو الخلق الفني والنظرات الفلسفية المجردة، ومن قائل: إن العقيدة الدينية نفسها طور من أطوار الزعامة العنصرية التي تطور فيها الساميون إلى مداها الأقصى، قبل أن يخرج الآريون الشماليون من نظام القبيلة الأولى.
ولا يتسع المقام للتقصي في أقوال المثبتين والمنكرين، فحسبنا أن نقف في أول الطريق على بر الأمان، فنقول: إن العقائد الدينية ظهرت في السلالات السامية يوم كانت تظهر فيهم جميع المعارف الكونية والنهضات الثقافية، فلا محل لتخصيص الأديان هنا بالعنصر السامي أو اتخاذ هذه الخاصة دليلا عنصريا من تلك الأدلة الكثيرة التي تختلط بالعصبيات.
كانت الدول الكبرى كلها قائمة في الرقعة الغربية من القارة الآسيوية، وهي الرقعة التي أقام فيها الساميون منذ مئات الأجيال، فشاعت المعارف الكونية من هذا الوطن القديم، ولم ينحصر الأمر يومئذ في ظهور العقائد دون غيرها من النهضات أو الفتوح في عالم الروح. •••
نحن لا ننكر الفوارق العنصرية ولا نستخف بآثارها في اختلاف الأمزجة والأخلاق وتباين المشارب والميول، ولكننا لا نحب أن نعزو إلى الفوارق العنصرية إلا الذي يثبت ثبوتا قويا أنه راجع إليها. فلا نقول: إن «العقائد» سليقة سامية إلا إذا تبين أن الآريين بمعزل عن العقائد، وأن الساميين لا يمتازون بغيرها، وأن المسألة محصورة فيهم على مدى العصور وليست مسألة عصر ومناسبة زمانية أو مكانية.
كذلك نرجع إلى الروحانية بين الأديان الثلاثة، فلا نجعل العنصرية حكما فيها قبل أن نستنفد العوامل الأخرى جميعا، وإن جاز أن يذكر الاستعداد العنصري بين عوامل شتى يحسب لها حسابها في هذا الموضوع.
فالذي يقال مثلا: إن السيد المسيح - عليه السلام - كان صاحب دعوة روحانية لا تشتغل بشئون الدنيا ولا بالمطالب العملية التي تحتاج إلى وضع النظم وفرض الشرائع، وأن علة ذلك في رأي بعض الباحثين أن المسيحية تشابه العقائد الآرية التي جعلت الدين للروح والضمير ولم تجعله لمطالب الجسد أو مطالب الحياة الاجتماعية والنظم السياسية.
وهذا الذي يقع فيه الخلاف الكثير.
فاهتمام السيد المسيح - عليه السلام - بالجانب الروحي من الدين لم يصرفه أولا عن الجوانب الأخرى التي تناولتها سائر الأديان، ولم يكن لفارق عنصري بين الذين خوطبوا بالدعوة المسيحية والذين خوطبوا بالدعوة الإسلامية أو الدعوة الموسوية.
واهتمام السيد المسيح بالجانب الروحي ليس معناه - من الوجهة الأخرى - أن هذا الجانب لم ينل حظه من الاهتمام في دعوة محمد أو دعوة موسى - عليهما السلام - وإنما معناه أنه جانب من الجوانب الكثيرة التي عني بها الإسلام خاصة، وكان لها سهم في العناية من وصايا الأنبياء الذين ظهروا في بني إسرائيل.
وقبل أن نحصر الأمر في علة «الاستعداد العنصري» نعود إلى العلل المختلفة، فنسأل: ألم تكن هنالك علل أخرى جعلت رسالة السيد المسيح أقرب إلى الروحانيات منها إلى العمليات والشئون الدنيوية؟
فإذا سألنا هذا السؤال لم نستطع أن نقول: إن السامية أو الآرية هما الحد الفاصل في هذا الموضوع.
فقد كانت هنالك علل كثيرة خليقة أن تقصر الدعوة المسيحية الأولى على مواعظها الأخلاقية التي أوشكت أن تقتصر عليها.
فمن تلك العلل أن بني إسرائيل كانوا أصحاب شريعة دينية مفصلة في شئون الحقوق والمعاملات قبل أن تتجه إليهم دعوة السيد المسيح، وكانت آداب القائمين على تلك الشريعة هي موضع العهدة أو موضع الحاجة إلى الإصلاح، فلا جرم تتجه إليهم الدعوة من هذه الناحية ولا تتجه من ناحية التشريع المفصل في شئون الحكم وشئون المعيشة، بل كان من قول السيد المسيح الصريح أنه لا ينقض الناموس ولكنه يثبته ويزكيه.
ومن تلك العلل أن السيد المسيح ظهر في بلاد يحكمها الرومان ويتولى إدارتها أولئك القوم الذين اشتهروا بالنظم والشرائع وتبويب الأوامر والقوانين، وما لم تكن الدعوة المسيحية ثورة سياسية معززة بقوة الجند والسلاح، فلا سبيل في بدايتها إلى تفصيل الشرائع وانتزاع سلطان الحكم من أيدي القابضين عليه، وإنما السبيل الأوحد أن تنصلح الأخلاق والضمائر بالعظة والهداية الروحية على السنة التي اختارها السيد المسيح ويختارها في مكانه كل داع إلى دين جديد يتذرع إلى دعوته بالإقناع لا بالسلاح والصراع.
فهذه العلة كافية لتعليل الصبغة الروحانية التي غلبت على المسيحية، وإنها لأقرب إلى تعليلها من الرأي القائل باقتباس المسيحية من العقائد الهندية أو الآرية في جملتها؛ لأن هذا الرأي يلجئنا إلى إقامة فاصل بين ساميين وساميين، ولا يبطل الاعتراض الذي يرد في هذا الصدد حين يسأل السائل: وماذا كانت الدعوة المسيحية صانعة إذا هي فرضت الشرائع بغير حكومة وبغير ثورة مسلحة وبغير موافقة من أصحاب الأمر بين الرومان أو بني إسرائيل؟
أما الإسلام فلم يكن معقولا أن ينحصر في المواعظ الروحانية دون غيرها؛ لأن العرب لم يدينوا بشريعة عامة مفصلة قبل الإسلام تغنيهم عن تشريع جديد، ولأن الإسلام قد تولى الحكم كما تولى الهداية النفسية، فلا مناص هنا من إقامة الحدود وبيان الحقوق وتقرير الحكم في كل شأن من شئون المعيشة تتولاه الحكومات.
وكذلك موسى - عليه السلام - في قيادته للقبائل الإسرائيلية؛ لأنه كان في مقام الزعيم الذي يسوس تلك القبائل بالشرائع المرعية في زمانه والشرائع التي اقتضاها خروجه من ديار مصر إلى ديار كان فيها لبني إسرائيل موطن قديم، فاهتم بتسجيل الشرائع المصرية والإسرائيلية والموسوية، واهتم إلى جانب ذلك بمصالح قومه؛ لأن العمل الأكبر الذي تصدى له إنما هو إنقاذ إخوانه في العنصر والعقيدة، فهو عمل «وطني» مقدم في زمانه على الوصايا الإنسانية العامة التي تشمل الأمم كلها كما تشملها كل نصيحة أخلاقية أو موعظة روحية.
وهذه العلة كافية أيضا لتعليل الصبغة العملية التي غلبت على الدعوة الموسوية، فأصبحت شيئا غير المسيحية في الروحانية أو البشارة الإنسانية التي تخاطب جميع الأمم كما تخاطب بني إسرائيل. ولا حاجة في هذا المقام إلى التفريق بين ساميين وآريين، أو التفريق بين طائفة من السلالة السامية وطائفة أخرى، إذ لو كان موسى آريا وكان أبناء إسرائيل آريين لما سلك غير مسلكه معهم في شئون التشريع والمصالح الوطنية أو المصالح العنصرية.
ونعود فنقول: إننا لا ننكر الفوارق بين العناصر والأقوام، ولكننا ننكر الفوارق التي يفرضها بعض الباحثين المتعسفين بغير دليل ولا قرينة راجحة، ونحب أن نقيم البحث في أسرار العقائد وأسرار نجاحها في زمانها ومكانها على العلل الكونية التي جرى عليها نظام الوجود؛ لأن الأسرار الإلهية التي توحي بها الأديان لن تناقض المعقول من سنن الكون وفطرة الأشياء.
الفصل الخامس والثلاثون
الإسلام والحضارة الإنسانية
الإسلام دين إنساني عام، أو دين عالمي كما نقول في اصطلاح العصر الحديث، يخاطب الأمم جميعا فلا يفرق بين أمة وأمة بفارق الجنس أو اللون أو اللغة، فكل إنسان في جوانب الأرض أهل لأن يأوي إلى هذه الأخوة الإنسانية حيث شاء وحين شاء.
وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا .
وأرسلناك للناس رسولا وكفى بالله شهيدا .
هكذا أعلنها القرآن الكريم دعوة عامة منذ ألف وأربعمائة سنة، وهكذا أعلنها النبي
صلى الله عليه وسلم
وخلفاؤه الراشدون وتابعوهم الأبرار في صدر الإسلام، ولم يمض ربع قرن من التاريخ الهجري حتى قامت بينات الواقع على حقيقة هذه الدعوة الإنسانية الإسلامية، فدان بالدين الجديد أناس من جميع الأقوام والسلالات، ولم تنقض على الهجرة ثلاثة قرون حتى كان في عداد المسلمين ساميون وآريون وحاميون وطورانيون، عرب وفرس وترك وهنديون وصينيون وأفريقيون من السود والإثيوبيين.
هذه هي البينة العلمية الواقعية على «عمومية» الدين، وهي بينة ينفرد بها الإسلام بين الأديان الكتابية وغير الكتابية، وينبغي أن ننظر إليها من وجهتها الصحيحة لنعرف حقا أنها مزية قد انفرد بها الإسلام.
إن دينا من الأديان الأخرى لم يكسب أمة ذات كتاب عريقة في الحضارة، وإنما كانت الأديان مقصورة على العصبية القومية أو على تحويل الوثنيين الذين درجوا على عبادة الأصنام وما يشبه الأصنام من رموز القوى الطبيعية.
فالموسوية قصرت دعوتها على العبريين أو اليهود، ولما قام المكابيون ليكرهوا قبائل البادية على قبول الشعائر اليهودية كانت هذه القبائل وثنية مغرقة في الجهالة، وكان المكابيون يؤمنون بإلاله «يهوا» ملكا تجب له الطاعة على رعاياه، وكانوا من أجل هذا يسمون أمراءهم رؤساء كهان ولا يسمحون لهم بلقب الملك وشاراته ومراسمه، فإكراه القبائل على قبول سلطان «يهوا» إنما كان عندهم بمثابة الخضوع السياسي الذي يلزم الأجانب والغرباء كما يلزم أبناء الأمة وأهل السلالة.
والبرهمية ظلت ديانة قومية عنصرية حتى خرجت منها النحلة البوذية، فنجحت في تحويل الوثنيين إليها في الصين واليابان، ولم تحول إليها قط أمة ذات كتاب.
والمسيحية حولت إليها الرومان وغيرهم من الغربيين أو الشرقيين، ولكنهم كانوا جميعا من الوثنيين الذين وقفوا عند خطوات الدين الأولى، ولم يجاوزوها إلى عقائد أهل الكتاب.
أما الإسلام فقد حول إليه على خلاف ذلك أعرق الأمم في الحضارة وفي الإيمان بالعقيدة الكتابية، فأسلمت فارس وأسلمت مصر، وهما على التحقيق أعرق أمم العالم يومئذ في تاريخ الحضارة، وأولاهما كانت تؤمن بالله واليوم الآخر والحساب والعقاب وغلبة الخير على الشر وخلود الروح، وثانيتهما كانت تدين بالمسيحية وتحمل لواءها في العالم القديم.
هذه المزية ينفرد بها الإسلام بين جميع الديانات، وهي آية العالمية والصلاح لدعوة الأمم جمعاء، سواء منها الأمم المغرقة في الحضارة والدين أو الأمم التي لم تبلغ بعد مبلغ الارتقاء في التحضر والاعتقاد.
إن هذه الحقيقة خليقة أن تذكر على الخصوص في عصرنا الحديث؛ لأننا سمعنا فيه أناسا من المبشرين يعترفون بغلبة الدعوة الإسلامية في أواسط القارة الأفريقية ويسلمون أنها نجحت حيث لم ينجحوا، وشاعت بغير تبشير حيث يخفقون بعد التبشير سنوات، ولكنهم يعتذرون لأنفسهم بعذر يقبلونه ولا يقبله الواقع: وهو موافقة الإسلام للقبائل المتأخرة بطبيعته، وأنه قريب المأخذ عند «البدائيين» من سلالات القارة السوداء! وليس أصلح لتفنيد هذا العذر من تلك الحقائق التي أثبتها التاريخ، أو من تلك المزية التي انفرد بها في الإسلام بين الأديان، فدخلت في دعوته أعرق الأمم حضارة بعد خلاصها من الوثنية الأولى عدة قرون، ولم يحصل ذلك قط في تاريخ دين.
وتزداد هذه الحقائق ثبوتا ووضوحا كلما رجعنا إلى تاريخ الدعوة الإسلامية بين البلاد الآسيوية، فإنها لم تعتمد على القتال ولم تعتمد على التبشير بقدر اعتمادها على القدوة الحسنة والأمثلة العملية، فلا تذكر الوقائع الحربية إلى جانب العدد الذي دان بالإسلام من أهل الهند والصين والملايا، وعدتهم نحو مائتي مليون، وكل ما يرويه التاريخ عن القتال بين المسلمين وغيرهم في تلك الأرجاء فإنما حدث بعد أن أصبح المسلمون معدودين بالملايين، وإنما هو في جميع الأحوال قتال سياسة وليس بقتال إكراه على الدين.
إن الوقائع العملية هي الشهادة للإسلام بالصبغة الإنسانية العالمية، ولا حاجة بالدين إلى شهادة أخرى متى ثبت له من تاريخه الأول أنه يضم إليه شعوبا من جميع السلالات والعقائد، ومن جميع الأطوار في الحضارة والمعيشة البدائية، وأن كتابه يخاطب الناس كافة، ويوجه الرسالة إلى كل سامع.
هذه الخاصة الإنسانية باقية في صميم الإسلام يواجه بها الحضارة العصرية كما واجه بها حضارات العصور الأولى، وهي التي صبغت تلك الحضارات بالصبغة الإسلامية، وهي التي جعلت تاريخ العالم من القرن السادس للميلاد إلى القرن الخامس عشر تاريخ الفكر الإسلامي والآداب الإسلامية، ولم ينفصل التاريخان بعد ذلك؛ لأن الإسلام فقد «خاصته» التي لازمته عدة قرون، ولكنهما انفصلا لأن المسلمين تخلفوا عن الركب، وأصبحوا «غير مسلمين» إلا باللقب والعنوان.
يقول المؤرخ «تويبني»: إن المسلمين يواجهون حضارة العصر بنزعتين متناقضتين: إحداهما يسميها النزعة الهيرودية وينسبها إلى هيرود ملك اليهود الذي قابل حضارة الرومان بمشابهة الرومان في السكن والملبس والمعيشة، والأخرى نزعة الغلاة، وينسبها إلى نساك إسرائيل الذين كانوا يصرون على القديم، وينكرون كل مخالفة للعادات والموروثات.
ولو أراد الأستاذ «توينبي» أن يتوسع في الأمثلة لعمم القول على الطبيعة الإنسانية في مواجهة كل حديث ومقابلة كل تغيير.
فالهوادة والتشدد طبيعتان في النفس البشرية تبرزان في كل عصر وتتقابلان أو تتناقضان أمام كل دعوة، وقد ظهرت هاتان الطبيعتان في طوائف المسلمين منذ الصدر الأول للإسلام، فكان منهم أبو ذر الغفاري المتقشف المتنسك كما كان منهم الصحابة الذين أقبلوا على معيشة الحضر واليسار، وقال المسعودي عن بعضهم: «إن الثمن الواحد من متروك الزبير بلغ بعد وفاته خمسين ألف دينار، وإنه خلف ألف فرس وألف أمة، وإن غلة طلحة من العراق بلغت ألف دينار كل يوم، وإن عبد الرحمن بن عوف كان على مربط ألف فرس وله ألف بعير وعشرة آلاف من الغنم، وإن منهم من بنى دورا بالحجاز والشام والإسكندرية.» إلى آخر ما روي من أخبار تغلب فيها المبالغة على التقدير الصحيح.
ونحن في العصر الحاضر نعرف الرخصة والهوادة كما نعرف الشدة والصرامة، ونواجه الحضارة الأوروبية بالنزعتين معا أو نتوسط بينهما تارة مع المحافظة وتارة مع التجديد، ومن لم يتوسط منا تشبث بالمحافظة حتى الجمود أو اندفع مع التجديد حتى أصبح كالمنبت عن الطريق، وأحسب هذه النزعات جميعا كانت - على اختلافها الذي نشهده اليوم - في تاريخ كل دعوة ومواجهة كل تغيير، فهي طبيعة الناس لا تتبدل ولا تختلف مع الأزمنة بغير الصور والأشكال، وحسبنا أن نرى في الإسلام متسعا لها مع الحضارة العصرية كما اتسع لها من الحضارات الأولى، فإنما يغني المسلمين من الإسلام أن يظل كما كان عقيدة إنسانية عامة، وأن يكون الإنسان مسلما حقا حين يتشدد ومسلما حقا حين يترخص، فلا يقطعه الإسلام عن زمنه ولا عن مزية من مزايا حضارته ومعارفه وصناعاته، ولا يكون المسلم الحق غريبا مع حضارة الغرب الحديث وهو لم يكن غريبا مع حضارة الفراعنة والفرس والروم.
لقد كان الإسلام عقيدة «إنسانية» ودعوة عالمية يوم تقطعت الأسباب بين الأمم وتمزقت الأنساب بين بني آدم وحواء، فاليوم والدعوة الإنسانية على كل لسان خليق بالإسلام أن يجعلها في كل قلب، وأن ينفذ بها إلى كل ضمير.
ناپیژندل شوی مخ