أما صلاح الدين فكانت علائقه بالصليبيين أشد ظهورا، وعلى يده كانت الوقائع المهمة الحاسمة، وفي أيامه جاء أعظم ملوك أوروبا إلى الشام في حملة عظيمة، وهو ريشاردس قلب الأسد ملك الإنجليز (الإنكتار)، وحاول أن يفض الحرب ونوع لذلك الأساليب، فصادق جماعة من مماليك صلاح الدين، ودخل معهم دخولا عظيما بحيث كانوا يجتمعون به في أوقات متعددة، وكان في كل هذا يخلط الجد بالهزل؛ حتى يتوصل إلى مأربه من استرجاع الأرض المقدسة، وصلاح الدين يعرف ذلك ويغضي عن هذا التلاعب.
كتب ريشاردس إلى صلاح الدين: إن المسلمين والفرنج قد هلكوا وخربت البلاد، وتلفت الأموال والأرواح، وقد بلغ الأمر حقه، وليس هناك حديث سوى القدس والصليب والبلاد، والقدس متعبدنا ما ننزل عنه ولو لم يبق منا أحد، وأما البلاد فيعاد إلينا ما هو قاطع الأردن، وأما الصليب فهو خشبة عندكم لا مقدار له وهو عندنا عظيم، فيمن به السلطان علينا ونستريح من هذا العناء الدائم، فأرسل السلطان في جوابه: القدس لنا كما هو لكم، وهو عندنا أعظم مما هو عندكم؛ فإنه مسرى نبينا ومجتمع الملائكة، فلا يتصور أن ننزل عنه ولا نقدر على التلفظ بذلك بين المسلمين، وأما البلاد فهي أيضا لنا في الأصل، واستيلاؤكم كان طارئا عليها لضعف من كان بها من المسلمين، وأما الصليب فهلاكه عندنا قربة عظيمة ، لا يجوز أن نفرط فيه إلا لمصلحة راجعة على الإسلام هي أوفى منها.
وبعث ريشاردس أيضا إلى صلاح الدين يقول له: لا يجوز لك أن تهلك المسلمين كلهم ولا يجوز لي أن أهلك الفرنج كلهم. قال ابن شداد
12
بعد أن ذكر ما عرضه ملكهم من شروط الصلح العجيبة: فانظر إلى هذه الصناعة في استخلاص الغرض باللين تارة وبالخشونة أخرى، وكان مضطرا إلى الرواح، وهذا عمله مع اضطراره، والله المسئول في أن يكفي المسلمين مكره، فما بلوا بأعظم حيلة ولا أشد إقداما منه. ا.ه. ووقعت هدنة في سنة 588ه، بين المسلمين والفرنج، وحلف ملوك الفرنج وعظماؤهم، أما ملك الإنجليز فأعطى يده واعتذر عن الحلف مدعيا أن الملوك لا يحلفون.
بعض ما استفاده الصليبيون من حربهم
أخذ الصليبيون عن المسلمين حياة الرفاهية، وفارقوا عيش البداوة، واشتد ولوعهم بالزراعة والتجارة، وعرفوا أن في بلاد الشرق الإسلامي صنائع أرقى من صناعاتهم، وزراعة ناجحة، وتجارات رابحة، ورقة معاملة، وتسامحا غريبا، وحبب إليهم الترحال فربطوا صلات تجارية مع الشرق، وأيقنوا أن المسلمين إذا سكتوا زمنا عن طلب الثأر لا يقعدون عنه طويلا، متى أعدوا أسباب الغلبة، وجاء فيهم أعاظم القواد والزعماء، وهؤلاء يخلقون عند الحوادث في العادة، وهم لا يخلقون الحوادث، ولا يرتجلون زعامتهم ارتجالا.
وعرف الصليبيون
13
أن قد دعا عدم التجانس في جيوشهم، وقلة الوحدة في قيادتهم، إلى أن ركب أعداؤهم أكتافهم في بلاد الروم وبلاد الإسلام، وقربت هذه الحرب بين شعوب أوروبا، وجمعتهم تحت لواء واحد، وأشعرت قلوبهم حب الوحدة الأدبية، وساعدت على إيجاد فكرة أوربية، وعلمتهم كيف يحترمون خصومهم ، وعلمت خصومهم كيف يحترمونهم، وعقدت بينهم المعاهدات والصلات، خلال المهادنات وأيام السلام، وقد جهز ريشاردس قلب الأسد فئة من العرب جعلهم فرسانا، وعقدت عقود أنكحة بين الطائفتين، ودخل التسامح المتبادل في الأخلاق. قال منرو: كان النصارى يؤثرون استشارة أطباء المسلمين؛ لتفوقهم على أطباء النصرانية في علاج الأمراض، ولتجافيهم عن استعمال السكين والمبضع في الجراحة، وبعث بورشارد من قبل الإمبراطور فريدريك بربروسا إلى صلاح الدين ، فوصف معتقدات الإسلام وصفا حسنا، وأطرى روح التسامح عند المسلمين، وذكر الحرية التي أطلقوا عنانها لأتباع كل دين، وقال: إن أكثر المسلمين يكتفون بزوج واحدة. قال منرو: وكان صلاح الدين محبوبا في الغرب؛ لرأفته وكرمه بعد استيلائه على أورشليم، ولسلوكه سلوكا آخر غير سلوك الصليبيين سنة 1099، فأثار دهشة الغربيين وعجبهم، وكان كما هي العادة عند المسلمين، شديد التسامح مشهورا بتأدبه، وبهذا الاختلاط ارتفع من أذهان الغربيين ما دسه بعض رؤساء دينهم عمدا أو عن غير عمد على الإسلام، حتى عاد بعضهم يشرح معتقدات الإسلام بضبط ودقة، وقال: إن المسلمين مولعون بإقراء الضيوف، ومتفوقون في الأدب واللطف. وكتب ريكولدوس حوالي سنة 1294 في مدح المسلمين قائلا: ومن لا يعجب بحماستهم وبخشوعهم في صلاتهم وبرحمتهم الفقير وبتقديسهم اسم الله والأنبياء والأماكن المقدسة، وبحسن عشرتهم ولطفهم مع الغريب، وباتفاقهم وتحاببهم؟ قال منرو: وعلى الرغم من مثل هذه الشهادة بقيت نظرية أكثر الكهنة على ما كانت عليه دون تغيير، فهم ما فتئوا يشعرون أنه من المستحيل استمالة المسلمين إلى النصرانية، ولطالما تخوفوا من كثرة من دانوا بالإسلام من النصارى. ا.ه.
ناپیژندل شوی مخ