كلمة شكر
الداعي إلى هذا التأليف
المخالفون ودواعي الخلاف
منازع الناقدين والناقمين
الشعوبية في الشرق والغرب
متعصبة الشعوبية وأرباب الإنصاف
أمهات المسائل التي يرددها الشعوبيون
العرب قبل الإسلام
العرب في الإسلام
ثروة العرب وعلومهم
ناپیژندل شوی مخ
مواطن العربية وأثرها في اللغات الشرقية والغربية
حال الغرب في شباب الإسلام
تأثير العرب في البلاد المغلوبة
أثر علوم العرب في الغرب
أثر الشعر العربي والفنون الجميلة في الغرب
مدنية العرب في الأندلس
مدنية العرب في جزيرة صقلية
المسلمون والغربيون في الحروب الصليبية
غارات المغول والأتراك على الحضارة العربية
غارات المستعمرين من الغربيين على بلاد المسلمين وغيرهم
ناپیژندل شوی مخ
أثر المدنية الغربية في البلاد العربية
العلوم والمذاهب في الإسلام
الإدارة في الإسلام1
إدارة الخلفاء الراشدين
إدارة الأمويين
إدارة العباسيين
السياسة في الإسلام
سياسة الخلفاء الراشدين
السياسة في الشرق والغرب
الخاتمة
ناپیژندل شوی مخ
تعاليق
مراجع الكتاب
كلمة شكر
الداعي إلى هذا التأليف
المخالفون ودواعي الخلاف
منازع الناقدين والناقمين
الشعوبية في الشرق والغرب
متعصبة الشعوبية وأرباب الإنصاف
أمهات المسائل التي يرددها الشعوبيون
العرب قبل الإسلام
ناپیژندل شوی مخ
العرب في الإسلام
ثروة العرب وعلومهم
مواطن العربية وأثرها في اللغات الشرقية والغربية
حال الغرب في شباب الإسلام
تأثير العرب في البلاد المغلوبة
أثر علوم العرب في الغرب
أثر الشعر العربي والفنون الجميلة في الغرب
مدنية العرب في الأندلس
مدنية العرب في جزيرة صقلية
المسلمون والغربيون في الحروب الصليبية
ناپیژندل شوی مخ
غارات المغول والأتراك على الحضارة العربية
غارات المستعمرين من الغربيين على بلاد المسلمين وغيرهم
أثر المدنية الغربية في البلاد العربية
العلوم والمذاهب في الإسلام
الإدارة في الإسلام1
إدارة الخلفاء الراشدين
إدارة الأمويين
إدارة العباسيين
السياسة في الإسلام
سياسة الخلفاء الراشدين
ناپیژندل شوی مخ
السياسة في الشرق والغرب
الخاتمة
تعاليق
مراجع الكتاب
الإسلام والحضارة العربية
الإسلام والحضارة العربية
تأليف
محمد كرد علي
كلمة شكر
أرى من الواجب إسداء الشكر لصديقي الأستاذ محمد أسعد برادة بك مدير دار الكتب المصرية لتفضله بإخراج هذا الكتاب في مطبعة الدار على أكمل وجه، وأشكر لصديقي الأستاذ أحمد أمين رئيس لجنة التأليف والترجمة والنشر، والأستاذ أحمد زكي العدوي رئيس القسم الأدبي بدار الكتب المصرية لعنايتهما بالنظر في تجارب الطبع؛ فقد صحح الأول تجارب الجزء الأول، وعني الثاني بإصلاح تجارب الجزء الثاني.
ناپیژندل شوی مخ
وثناء طيب على الأستاذ محمد نديم ملاحظ مطبعة الدار لبذله الجهد في إتقان طبعه، جزاهم الله عن العلم والآداب خيرا.
محمد كرد علي
الداعي إلى هذا التأليف
لما قرر المجمع العلمي العربي انتدابي إلى تمثيله في مؤتمر المشرقيات الذي عقد في مدينة ليدن من بلاد القاع في صيف سنة 1931م، رغب إلي أعضاؤه المفكرون أن ألقي فيه جملة أعرض فيها لما لا يزال يسري على أسلات أقلام بعض مؤلفي الغرب، ولا سيما علماء المشرقيات، من أمور نابية عن حد التحقيق والنصفة، كلما ذكروا الإسلام وأهله، والعرب ومدنيتهم.
وفي الحق إن المعارف استفاضت في هذا العصر، حتى لم يبق مجهول إلا علم، ولا بعيد إلا اقترب، ولا صعب إلا سهل، وقد نقل إلى لغات الغرب من طرق مأمونة منوعة عشرات من الأسفار في مدنية العرب، المدينة للإسلام بحسناتها وانبعاثها، فتجلى بها ما كان غامضا على أهل المدنية الحديثة، فليس من الإنصاف إذا أن يظل بعض من تأثروا بالمؤثرات القديمة على الاستمداد من عصور الظلمات، يطرسون على آثار من كتبوا من رجال الدين، وهؤلاء ما كان لهم من مصلحة غير تصوير الإسلام في صور باهتة، وإنكار فضل العرب في إنشاء مدنية كانت على الجملة من أعظم ما قام في الأرض منذ عرف تاريخها.
وإن فئة تمثلت أساليب هذا العصر في البحث والحل، ولم تتحرر إلى اليوم من سلطان العوامل الجنسية والدينية والسياسية، لمؤاخذة كل المؤاخذة بأحكامها الجائرة على الإسلام والمسلمين، بيد أن الإعجاب بطرائق أولئك الباحثين لا يمنع من مناقشتهم في آراء لهم غير سديدة، قال بها من قالوا ذهابا مع أهواء النفس الكثيرة، وسبيل هذا الموجز الآن، تصحيح هفوات من أساءوا وما برحوا يسيئون للعرب ودينهم ورسولهم ومدنيتهم، وذكر ما أثرته الحضارة العربية في أمم الغرب والشرق، وما مني به الإسلام، لما غير أهله ما بأنفسهم، من خصماء غير رحماء ، نالوا من روحه وجسمه، فالتاثت أحواله، وتنكرت معالمه، والإلماع إلى ما قام به المسلمون بعد طول الهجعة، يلوبون على استعادة مجد أضاعوه، وعلقوا اليوم يقطعون إليه أشواطا، حتى لم يبق أمامهم غير مراحل قليلة لبلوغ الغاية.
والرجاء في هذه الصفحات أن تنفع في باب اعتبار الأحفاد بذكرى صنيع الأجداد، وأن تنتصف بها حضارتنا ممن ثلموها وما رحموها، والعمدة في وضعها على ما أطال حكماء العلماء من الإفرنج في بسطه، وفي وصف ماضي الأمة العربية على مقتضبات من أمهات أسفارها المحررة، والمنهاج فيها إطلاق حرية التفكير والتقرير، والتقية ليس مذهبا مجديا في زمن لم يعرف البشر حرية كحريته، ولا علما أعظم من علم أهله، ولا عقولا صفت كعقولهم، ولا طبقات رشيدة تعلمت حسن الاستماع على غرار طبقاتهم.
وأسأله تعالى أن يحل عقدة من لساني وقلمي؛ لأجمل ما توفرت من قراب أربعين سنة على الدعوة إلى الأخذ به، من حسنات الحضارتين العربية والغربية، وهو الهادي إلى سواء السبيل.
محمد كرد علي
دمشق، في: 19 جمادى الثانية سنة 1352
ناپیژندل شوی مخ
8 أكتوبر سنة 1933
المخالفون ودواعي الخلاف
إنصاف الإسلام والعرب
أخذ أبناء الغرب يتمتعون بعد القرن السابع عشر بحرية الفكر والوجدان، فنشأت فيه طائفة من العلماء تم لها معظم أدوات الفضل، وقد راعها ما شاهدت وحققت، فردت أقوال من ظلموا العرب والإسلام، متوخية كشف القناع عن وجه الصواب الذي غشيته الغواشي
1
في الدهر الغابر، ومن أبناء الغرب المعتدلين من استهدفوا للطعن؛ لأنهم لم يمالئوا الكاتبين الأولين على ما كتبوه، وخرجوا عن المألوف فأنصفوا المخالف، ولم يثنهم عن عزيمتهم نقد ناقد، ولا طعن طاعن، وراحوا يهزءون بمن اتهموهم ظلما بأمانتهم، ويصدعون بالحق الذي تبين لهم.
ولذلك وجب على أصحاب هذه المدنية، وهذه الدعوة الإسلامية، أن يشكروا لأولئك المنصفين، وأن لا يغرقوا باللائمة على من ينظرون إلى أشياء غيرهم، بغير العين التي يبصرون بها أشياءهم، فمن الظواهر الاجتماعية هنا، ما نرى له ما يماثله في المجتمع الغربي، كسيت هناك ثوبا جميلا بفعل الحضارة الممتدة الرواق، وبقيت هنا على سذاجتها للتأخر الطارئ من تراجع المدنية، والقوى قد تبدو سيئاته فيخيل لقصار النظر أنها حسنات، أو يفسر معاني غيره تفسيرا يظنه ضعاف النظر آيات بينات، والضعيف مهما أحسن مغمور مدحور، وربما قلبت حسناته سيئات، والعالم على الدهر عبد القوة القاهرة.
وما دامت المعضلة معضلة تخالف في عقيدة، وتخالف في تربية وعادة، وتخالف في عنصر وبيئة، فمن الواجب علينا أن نساد ونقارب حتى تفعل الأيام فعلها: نعذر المنابذ المعتدل، إذا كان ممن يؤمن بما يقول، ونشكر للموافق العادل الذي يصدر رأيه عن عقيدة واقتناع، وعلينا أن لا ننسى أيضا أن مجتمعنا ما كان في الحقيقة في عامة أدواره وأطواره فائضا بالعدل والتسامح، فقد عهدنا طوائف بالغت في الحط من المخالف لأفكارها، فحاربته بكل سلاح تحت كل كوكب، فأضعفت بعملها العقل، وقضت على الحضارة بأن وضعت العقبات في محجتها.
نحن اليوم قد نستفيد من سماع أقوال المخالف، ومنازع الصريح في نقده قد تقوم المعوج وتصلح الفاسد، لا جرم أن من المسائل ما يصعب تمييز بهرجه من صحيحه، إلا بمعاناة طويلة، وأناة وروية، ورفق جميل، وقد يكون منشأ التعقيد على الأغلب من الواضع الأول، إما لسوء فهم، ومشايعة وهم، أو لتعمد في إفساد حكم، بعلم وبغير علم، فيتسرب الضعف إلى العقول، ويتأصل فيها بمرور الأيام، والضلالة إذا رسخت احتاجت إلى جهود طويلة حتى تنزع من الأذهان، والحق إذا اختلط بالباطل وامتزج باللحم والدم استلزم التفريق بينهما معالجة طويلة، وهذا ما يصدق على تاريخ الإسلام، وحكم بعض الغربيين عليه منذ القديم، فإن الخطأ فيه عندهم عمدا أو عن غير عمد، قد أتت عليه القرون حتى انتفى، وظهرت بين ظهرانيهم حقيقته على جليتها، ولذلك يحمد قصد من أنصفوا في أحكامهم علينا، والعدل من القريب حلو ومن البعيد أحلى، ومن خالفنا في مسألة ووافقنا في مسائل كان أقرب للتقوى.
العوامل في جفاء الغربيين
ناپیژندل شوی مخ
وهناك عقدة مدنية وعقدة دينية، إذا سهل الخطب في الأولى عسر في الثانية؛ لأنها صعبة المراس، متعذرة على الانتزاع، مهما جهدت بكل جهدك، وجمعت كل عقلك، وحكم الغرب على العرب منبعث في الأصل من تباين في المعتقدات، والمعتقدات وليدة التسليم والاستهواء والعادات، ومن الصعب استئصال ما تأصل في النفوس بمرور الأيام؛ لأن العناد في الاعتقاد، فطرة لا تبغي عنها النفوس البشرية حولا، والعاقل من أنصف غيره من نفسه.
وأهم أسباب الجفاء بين الغربيين والشرقيين في القرون الأولى من الهجرة؛ كون الإسلام جاء لهداية البشر كافة، فأتى على الوثنية في البلاد التي انتشر سلطانه فيها، ودخل فيه من الصابئة واليعاقبة والنساطرة والمجوس واليهود وغيرهم جمهور كبير، وخافت أوروبا النصرانية من تسربه إلى ربوعها، فاتفقت كلمة الملوك ورجال الدين على حربه، حتى وقفت دعوته عند جزيرتي الأندلس وصقلية وما إليهما من أرض الفرنجة، ثم نشأت الحروب الصليبية ودامت قرنين كاملين، يجيش فيهما الغرب على الشام ومصر، حتى كتبت الغلبة الأخيرة للإسلام في أرض الشام.
وبديهي بعد هذه الطوائل والأحقاد التي طالت لياليها السود - خصوصا بعد أن هزت الدولة العثمانية في العصور الأخيرة أعصاب أوروبا زمنا، حتى دب الهرم فيها - أن يقول الخصم في خصمه ما قد يحط من قدره، ويصغر من أمره، ولا يفوتنا النظر أن الجهل كان فاشيا في الغرب، وأن الدين كان آخذا بمخنق
2
كل عالم وباحث، وأن آراء المؤرخين حتى في العهد الحديث تختلف في الجوهر والعرض أحيانا في الحادثة الواحدة؛ لأن من مظاهر هذا العصر اشتداد سلطان التحزب القومي، إلى ما لم يصل إليه في عصر من عصور التاريخ.
ولما انبلج فجر الأدوار الأخيرة من القرون الوسطى، وجاء دور النهضة والانتباه في الغرب، أنشأ المشتغلون بتلمس الحقائق يخففون من شرتهم على العرب، ويقللون من النيل من دينهم ومدنيتهم، وزادت معرفة الغرب للإسلام، يوم أنشأت بعض جامعات الغرب دروسا لتعليم اللغات الإسلامية، وفي مقدمتها اللغة العربية، وذلك للدعوة إلى النصرانية في الشرق، ثم انقلب الغرض إلى درس الحضارة العربية والإسلام، من طريق العقل والنظر، وكان من مجموع هذه الأبحاث بأخرة،
3
استبطان أحوال الإسلام ودياره، لغرض الفتح والتجارة.
يقول قاسم أمين:
4
ناپیژندل شوی مخ
إن العداوة القديمة التي استمرت أجيالا بين أهل الشرق والغرب بسبب اختلاف الدين، كانت ولا تزال إلى الآن سببا في أن جهل بعضهم أحوال بعض، وأساء كل منهم الظن بالآخر، وأثرت في عقولهم حتى جعلتها تتصور الأشياء على غير حقيقتها؛ إذ لا شيء يبعد الإنسان عن الحقيقة أكثر من أن يكون عند النظر إليها تحت سلطان شهوة من الشهوات؛ لأنه إن كان مخلصا في بحثه، محبا للوقوف على الحقيقة، وهو ما يندر وجوده، فلا بد أن تهوش عليه شهوته في حكمه، وأدنى آثارها أن تزين له ما يوافقها وتستميله إليه، وإن كان من الذين لا منزلة للحق من نفوسهم، وهم السواد الأعظم، ضربوا دون الحق أستارا من الأكاذيب والأوهام والأضاليل، مما تسوله لهم شهوتهم، حتى لا يبقى لشعاع من أشعة الحق منفذ إلى القلوب.
5
صعوبة درس التاريخ
وليس البحث في تاريخ بلد واحد بالأمر السهل، على من كتب له حظ من البحث والنظر، فما بالك بتاريخ أمة عظيمة تباعدت أرجاء بلادها كالأمة العربية؛ ولذلك رأينا الغربيين لما بلغ العلم هذه الدرجة العالية من الارتقاء والتشعب، يقسمون التاريخ أقساما كثيرة، فمن بحث منهم في تاريخ قرن أو قرون من تاريخ أمة، لا يتطال إلى البحث في دور آخر من أدوارها، أو من خاض في تاريخ إقليم أو بلد يحظر عليه، أو يحظر على نفسه الخوض في تاريخ إقليم أو بلد آخر، ومن اختص بجانب من تاريخ الرومان، يتعذر عليه معالجة التاريخ الحديث، ومن تاقت نفسه أن يتناول في أبحاثه النظر في حال أمة من أمم الشرق، لا يجود تأليفا له في تاريخ الغرب؛ ولذلك تقل قيمة سفر يؤلفه واحد على الأغلب، إن كان متشعب المقاصد، فكتب المعلمات أو دوائر المعارف ينشئها مئات، وأحيانا ألوف من العلماء عندهم، وكتب التاريخ والجغرافيا والآداب يؤلفها عشرات من المؤرخين والأدباء والجغرافيين، وربما لا تكتفي أمة بما عندها من الرجال فتستعين برجال من غير أمتها، تلاحظ أنهم أرقى كعبا.
إذا فالتاريخ اليوم صعب المراس لتنوع أغراضه، فكيف يعتمد على من يقرأ بضعة كتب في تاريخ العرب، ويحكم على أهله ومدنيتهم، ألا يعد من كان هذا شأنه من كتاب العامة؛ لقلة بضاعته، فما الحال بما يصدره من الآراء، وهو على رأي له قديم اصطنعه، وما استطاع أن يتحلل من قيوده، وهذا فيما نرى ما دعا «رنان» أن يقول: إن التاريخ مجموعة ظنون أو علم صغير سداه ولحمته من الفرضيات البعيدة، وقالوا: كل امرئ يحاول أن يدمج في التاريخ أفكاره من طرف خفي، وأن يتصور الحقيقة ويخلقها؛ وذلك لقلة الوثائق التي تثبت على محك النظر، ويحاول المؤرخون أبدا أن يحيوا نظريات قائمة على نظريات أخرى، ويدخلوا إلى روح أشخاص يجهلون مزاجهم، وما ورثوه من تربية وأفكار؛ ولذلك يصعب جدا كتابة تاريخ عصر أو رجل، وما زال البشر منذ عهد «توسيديد» و«هيرودتس» يحاولون كتابة التاريخ، وقلما وصلوا إلى الحقائق؛ لقلة معرفتهم باكتناهها، ويحاولون شرح الحوادث ومعرفتها وحفظها؛ ليدخلوا شيئا ضئيلا كالخيال من العناصر التي تركها العالم في ماضيه السحيق، وكان «تاسيت» يحاول أن يضع نفسه فوق الحوادث وأن يحكم عليها، ويحاول «مونتسكيو» و«هردر» أن يستخرجا من نصوص التاريخ فلسفة، وحاول «رنان» أن يوفق بين الحوادث، ويكشف أسرارها الممكنة الظهور، وأن يورد وقائعها ملموسة ذات وحدة، ولكل مؤرخ طريقته. يقول كارلايل: إن التاريخ مجموعة إشاعات، وفولتير يقول: إنه مجموعة أساطير قبلها الضعفاء.
وقال لبون:
6 «منذ القديم كان الإنصاف في التاريخ صفة جوهرية في المؤرخ، ويؤكد عامة المؤرخين منذ عهد تاسيت خلوهم من الغرض، وتجردهم عن الهوى، وحقا إن الكاتب يرى الحوادث، كما يرى المصور منظرا من المناظر، بحسب مزاجه وخلقه وروح عنصره، وإذا جئت تضع عدة مصورين أمام منظر واحد، فإنك ترى كل فرد منهم يعبر عنه بالضرورة تعبيرا يخالف فيه صاحبه، ومنهم من يعني بتفاصيل أهملها غيره، وعلى هذا تأتي كل نسخة صورة خاصة لمصورها، بمعنى أنها تمثل شكلا خاصا من التأثير، وهكذا الحال في الكاتب، فلذلك تعذر على المؤرخ أن يقول الإنصاف كله، كما يتعذر ذلك على المصور. لا جرم أن للمؤرخ أن يأتي بالوثائق كما هو العرف اليوم، ولكن هذه الوثائق إذا طال عهدها عن عهدنا كالثورة الفرنسية مثلا؛ إذ قد بلغ من اتساعها أن حياة رجل لا تكفي للإحاطة بها، وجب الاختصار على لباب ما فيها، وقد يبلغ بالمؤلف عن عمد أو غير عمد، أن يختار المواد التي توافق أهواءه السياسية والدينية والأخلاقية؛ ولذلك تعذر تأليف كتاب في التاريخ بلغ من الإنصاف مداه، اللهم إلا إذا اقتصر فيه على إيراد الحادثة في سطر واحد وفي زمن واحد، وليس هذا في طاقة مؤلف، ولا يؤسف لعدم اقتدار المؤلفين عليه، وقد بلغ من انتشار دعوى عدم التحزب في التاريخ اليوم، أن ظهرت للناس آثار تافهة تورث مللا وأي ملل، بحيث يتعذر بالرجوع إليها فهم تاريخ عصر من العصور.» ا.ه.
وقيل: إن التاريخ
7
رواية يخترعها كل كاتب من توليد خياله، وينتحل لها الأسماء والأعلام، من سير الناس وحوادث الأيام، وكلما اتفق المؤرخون على رواية مسطورة كان ذلك أدعى إلى الشك فيها، والتردد في قبولها؛ لأنه دليل على الأخذ بالسماع والتسليم بغير مناقشة، فأما إذا اختلفوا واضطربت أقوالهم بين الثناء والمذمة والترجيح والتضعيف، فأنت إذا حيال التاريخ في بابل من الفروض والآراء، ومضلة من الحقائق والشكوك، ويحتاج المؤرخ إلى كل ما يحتاج إليه القاضي من الشهادات والأسانيد والبينات، وقد ينقصه كل أولئك في أكثر الحوادث التي يتصدى لها بالبحث والتقرير، فكل حادثة تاريخية قوامها الأشخاص والأخبار والمصالح والآراء، ولكل عنصر من العناصر آفة تتطرق إليه بالزغل والارتياب، فالأشخاص يحيط بهم الحب والبغض، والرغبة والرهبة، والظهور والخفاء، والأخبار يعتورها الصدق والكذب، والفهم والجهل، والوضوح والغموض، والمصالح تتفق ولا تتفق، وتجاري الحقيقة وتناقضها، وتصبغ الأشياء عامدة أو غير عامدة، بصبغة تلوح لهذا غير ما تلوح لذاك، والرأي عرضة لاختلاف العلم والنظر والمزاج، وكل ما يدخل في تكوين الآراء وتقدير الأحكام، وإذا تأتى للمؤرخ أسباب الحكم على الأعمال الظاهرة، فقد تعوزه أسباب الحكم على النيات الخفية، والبواعث المستورة، والعوامل التي يحجبها الإنسان عن خلده ، ويغالط فيها ضميره، وهبه تأتى له كل ما يتأتى للقاضي من الشهادات والأسانيد والبينات، فهل يسلم القاضي من الزلل؟ وهل يأمن الزيغ في الفهم، والمحاباة في الهوى، وانتشار الأمر عليه في القضايا التي لها خطر، وللناس بها اهتمام؟ أما سفساف الحوادث فسواء أصاب فيها القاضي أو أخطأ فهي أهون من أن يتعلق بها خبر في تاريخ أو مذهب في قضاء. ا.ه.
ناپیژندل شوی مخ
تفنيد «لبون» أقوال من نالوا من العرب والإسلام
وما أجمل ما قال لبون في كتابه حضارة العرب:
8 «وإذا كان للأديان تأثير عظيم في الأخلاق، كما ينسب إليها في العادة، ونحن ممن لا يقول بهذا التأثير على ما يزعم الزاعمون، فإنا نجد المقابلة مدهشة بين الإسلام وسائر المعتقدات التي تزعم مع هذا أنها أسمى منه، ولقد قال بارتلمي سان هيلير - وهو من العلماء المتدينين - في كتابه في القرآن: تدمثت نفوس قساة الطباع من سادة القرون الوسطى، بملابستهم العرب وتمازجهم بهم، وعرف الفرسان بدون أن يفقدوا شيئا من شجاعتهم شعورا أرق وأشرف وأعرق في الإنسانية من شعورهم، ومن المشكوك فيه أن تكون النصرانية وحدها، على ما حملت من المنافع، هي التي ألقت في روعهم ما ألقت، وبعد هذا النظر ربما تساءل القارئ، ولماذا غمط اليوم حق العرب وتأثيرهم، وأنكر حسناتهم علماء عرفوا باستقلال أفكارهم، وكانوا بحسب الظاهر بمعزل عن الأوهام الدينية؟ وهذا السؤال قد سألته نفسي، وأرى أن لا جواب عليه غير ما أنا كاتب، ذلك أن استقلال آرائنا هو في الواقع صوري أكثر مما هو حقيقي، ونحن لسنا أحرارا على ما نريد في خوض بعض الموضوعات؛ وهذا لأن فينا أحد رجلين: الرجل الحديث؛ الذي صاغته دروس التهذيب، وعمل المحيط الأدبي والمعنوي في تنشئته، والرجل القديم: المجبول على الزمن بخميرة الأجداد، وبروح لا يعرف قراره يتألف من ماض طويل، وهذا الروح اللاشعوري هو وحده الذي ينطق في معظم الرجال، ويبدو في أنفسهم بمظاهر مختلفة، يؤيد فيهم المعتقدات التي اعتقدوها، ويملي عليهم آراءهم، وتظهر هذه الآراء بالغة حدا عظيما من الحرية في الظاهر فتحترم.» «لا جرم أن أشياع محمد كانوا خلال قرون طويلة من أخوف الأعداء الذين عرفتهم أوروبا، فكانوا بتهديدهم الغرب بسلاحهم في عهد شارل مارتيل، وفي الحروب الصليبية، وبعد استيلائهم على الآستانة، يذلوننا بمدنيتهم السامية الساحقة، وإلى أمس الدابر لم ننج من تأثيراتهم، ولقد تراكمت الأوهام الموروثة المتسلطة علينا، والنقمة على الإسلام وأشياعه في عدة قرون، حتى أصبحت جزءا من نظامنا، وكانت هذه الأوهام طبيعة متأصلة فينا، كالبغض الدوي المستتر أبدا في أعماق قلوب النصارى لليهود.» «وإذا أضفنا إلى أوهامنا الموروثة في إنكار فضل المسلمين هذا الوهم الموروث أيضا النامي في كل جيل، بفعل تربيتنا المدرسية الممقوتة، ودعوانا أن جميع العلوم والآداب الماضية أتتنا من اليونان واللاتين فقط، ندرك على أيسر سبيل أن تأثير العرب البليغ في تاريخ مدنية أوروبا قد عم تجاهله، ويرى بعض أرباب الأفكار أن من المذل على الدوام أن يذهبوا إلى أن أوروبا النصرانية، مدينة لأعداء دينها بخروجها من ظلمة التوحش، وهناك أمر يحمل في مطاويه ذلا كثيرا في الظاهر لا يقبل تحمله إلا بشيء من العنت، وذلك أنه كان للمدنية الإسلامية تأثير عظيم في العالم، وتم لها هذا التأثير بفضل العرب، بل بصنع العناصر المختلفة التي دانت بالإسلام، وبنفوذهم الأدبي هذبوا الشعوب البربرية التي قضت على الإمبراطورية الرومانية، وبتأثيرهم العقلي فتحوا لأوروبا عالم المعارف العلمية والأدبية والفلسفية، وهذا ما كانت تجهله، وعلى ذلك كان العرب ممدنينا وأساتذتنا مدة ستمائة سنة.»
وقال في حاشية هذا الفصل: إذا استحكمت الأوهام الموروثة وأوهام الثقافة في رجل، يعمى مع اتساع معارفه عن تفهم أسرار المسائل، وما هو إلا أن ينطوي على بغضين: بغض الرجل القديم الذي أنشأه الماضي، وبغض الرجل الحديث الذي هو ابن الملاحظة الشخصية، ولا يلبث أن يأتي بصور من التعبير عن الأفكار غريبة في تناقضها، ويجد القارئ مثالا من المتناقضات في محاضرة في الإسلام ألقاها في جامعة السوربون كاتب مبدع عالم، عنيت السيد رنان، حاول أن يثبت عجز العرب، فنقض بيده كل مزاعمه؛ فقد ذكر مثلا أن ارتقاء العلم كان بفضل العرب خلال ستمائة سنة، وأبان أن التعصب في الإسلام لم يظهر كل الظهور إلا لما خلفت العرب عناصر منحطة كالبربر والترك، ثم جاء يؤكد أن الإسلام طالما اضطهد العلم والفلسفة، مدعيا أنه قضى على العقل في البلاد التي افتتحها، ولكن باحثا ذكيا كالسيد رنان لا ينام على رأي مخالف لأصول التاريخ الظاهرة، فما إن تزول الأوهام فيه حينا حتى يتجلى فيه العالم فيضطر إلى الاعتراف بتأثير العرب في القرون الوسطى، وبما بلغته العلوم من الرقي في إسبانيا مدة استظلالها بظل سلطانهم، ومن الأسف أن الأوهام اللاشعورية تتغلب عليه حالا، فيدعي على وجه أكيد أن علماء العرب ليسوا عربا بأصولهم، بل هم أخلاط من أهل سمرقند وقرطبة وإشبيلية ... إلخ، وبديهي أنه لا يتيسر النزاع في أصل الأعمال التي خرجت بفضل طرائق العرب، ولعمري هل من الميسور إنكار أعمال علماء الفرنسيين، بحجة أن من تمت على أيديهم كانوا من عناصر مختلفة كالنورميين والسلتيين والإكتيين وغيرهم، ممن كونوا فرنسا بتمازجهم، وقد يكتئب هذا المؤلف العالم أحيانا من الأسلوب الذي جرى عليه في إساءته للعرب، وينتهي الصراع بين الإنسان القديم والإنسان الحديث إلى هذه النتيجة التي لم تكن متوقعة منه، فيأسف لكونه لم يخلق مسلما قائلا: «وما دخلت مسجدا قط إلا وعراني خشوع يمازجه أسف على أني لم أكن مسلما.» ا.ه.
نقد التاريخ وتوحيده
هذا وقد عقد لبون في آخر كتاب خطته يده في السنة الماضية، سماه الأسس
9
العلمية في فلسفة التاريخ فصلا في النقد التاريخي، قال فيه: «رأينا في الفصول السابقة مدى الشكوك التي تعرض للوقائع التاريخية حتى لما كان منها معروفا، فاقتضى للحكم عليها أن يتجرد فيها عن التأثيرات القومية والدينية والسياسية التي هي مرجع البت في معظم الأحكام؛ ولذلك جاءت التآليف التي كتبت في مختلف البلدان حاملة تقديرات متباينة في الحوادث الواحدة، وللأوهام الدينية خاصة سلطان على المؤلفين، على حين يعتقدون أنهم نجوا من تأثيراتها، لا جرم أن كثيرا من المؤرخين قد اندفعوا بسائق هذه الأوهام فأتوا بآراء بعيدة جدا عن محجة الصواب في بيان فضل الحضارة الإسلامية، ولا يزال التحامل على العالم الإسلامي القديم بحالة من الشدة؛ ولذلك وجب أن يعاد النظر في تاريخ القرون الوسطى بجميع أجزائه التي لها مساس بانتقال المدنية القديمة إلى العصور الحديثة.» ا.ه.
وبعد، فلم يبق من رأي يدلى به بعد هذا الكلام البالغ أقصى حدود الإنصاف والتعقل. وحقيقة إن من كتاب الغرب من إذا ذكروا الإسلام إلى اليوم، وصفوه بكل ما ينقص من قدره، وإذا اضطروا إلى الإشارة إلى المدنية العربية كأنهم يقولون بلسان الحال: إنها كعلم جابر، اقرأ تفرح، جرب تحزن، علمها لا ينفع، وجهلها لا يضر، يقول ماكس نوردو: «ولكم كبر مقام أناس بما دون المدونون من أخبارهم، حتى إن كثيرين ليعجبون من أرباب الرحلات السخفاء عجبهم من كبار الفاتحين المصلحين، وكم من أناس هم عظماء في نظر أمة، ولا يذكرون عند أمة أخرى، وكم من زلازل وحرائق أثرت في الانقلاب البشري أكثر من الحروب والغارات، وما السبب في ذلك إلا المؤرخون فإنهم غالوا في هذه وسردوا أخبار تلك على وجه عادي.»
أما الآن فمن المستحسن جد الاستحسان توحيد التاريخ في العالم، وتقليل جميع مصادر الأحقاد بين الأمم، على ما صرح بذلك رئيس مؤتمر التاريخ في لندن، وألح بوجوب السير عليه أحد كبار علماء إيطاليا قبل بضع سنين في رومية، وترى طائفة من العقلاء في الغرب نبذ كل ما يثير الحقد، ويدعو إلى الظنة، ويفك عرى الألفة، ولن يتم قيام هذا المجتمع الحديث إلا بتعاون الشرق مع الغرب تعاونا حقيقيا يقوم على الحرمة المتبادلة والمصلحة المشتركة، والعدل الذي لا يتجزأ، وللبشر اليوم مقصد أسمى من الخلافات والمناقشات التي جاءت القرون إثر القرون، وما زالت بحالها، لم تورث النفوس إلا اشمئزازا، ولم يترك الزمن الحافز مجالا للناس ليشتغلوا بأمور كان لها ما يبررها في عصور البطالة والجهالة، البشر بعد هذا التقارب في المواصلات والأفكار أحوج ما كانوا إلى التعارف والتعاطف، وإنصاف بعضهم بعضا، ليقوم نظامهم على الوئام والسلام.
ناپیژندل شوی مخ
منازع الناقدين والناقمين
نقد مؤرخ أميركي وكلام في المذابح الدينية
اختلفت مناحي الطاعنين على الإسلام في الغرب منذ نحو مائتي سنة، فكان فيهم المخلص في نقده في الجملة، بيد أنه لم يرزق من ثقوب الذهن، ونزع ربقة الهوى، ما يؤهله لإصدار أحكام على العرب ومدنيتهم خالصة من العيوب والنزعات، ومنهم الذي لم يصل إلى درجة من التحقيق يستعد بها لوزن الأشياء بميزان القسط، فأرسل كلامه إرسالا، ظانا أنه أصاب شاكلة
1
الصواب، وما هو منه بقريب، ومنهم من أعمى التعصب المذهبي بصره وبصيرته، فكال الباطل كيلا، وخلط وخبط تحت ستار العلم والبحث، وهو لو حلف لك بكل محرجة
2
من الأيمان، ليثبت لك خلوه من الغرض ما زدته إلا تجهما
3
وسخرية، وللقارئ أن يجعل بعض من وقعوا في هذه المضايق من الغربيين في المرتبة التي يراهم أهلا لها، وذلك بجنايتهم على التاريخ الصحيح، والعلم المجرد، ولتسجيلهم على أنفسهم جهلا وغباوة.
فمن سخافات المؤلفين الذين ألقوا الكلام على عواهنه
ناپیژندل شوی مخ
4
في الإسلام قول كوفين
5
من جامعة واشنطون: «إن الشريعة الإسلامية التي دان بها وقدسها، مائتان وثلاثة وثلاثون مليونا من الناس،
6
قد حفظت في تضاعيفها شرورا اجتماعية تئن منها الإنسانية، ومع هذا قدست الشريعة هذه الشرور باسم الدين.» جملة ربما قالها الكاتب الأميركي وهو لم ير حياته مسلما، ولا قرأ كتابا معتمدا من كتب العرب، قالها بدافع هو يعرفه أو فاه بها ليأتي بالغريب، وأميركا مهد الغرائب، وكأنه اكتفى بهذا الاقتضاب علما منه بأن ما قاله من البديهيات لا يعوزها شرح وتفصيل، ولو أنصف لفسر لنا هذه الشرور التي اتهم بها الإسلام وأنت منها الإنسانية، كأن الإنسانية لم تئن مثلا من معاملة الجنس الأبيض للأسود في أميركا، قال فوليه:
7 «تحدث مشاهد في الولايات المتحدة لا تورث الأميركان فخرا، وذلك أن الزنوج يحبون النساء البيض محبة شديدة، حتى لقد يرضون شهواتهم بالعنف أحيانا، ويقضي قانون «لنش» أن يطلي من يأتي ذلك بالقطران، ويحرق كما تحرق الشموع، وتضطر الحكومة السود في الناحية التي وقع فيها الفعل إلى حضور مشهد إحراق رفاقهم.»
نعم، كأن الإنسانية لم تئن من الحروب الدينية التي أهلكت فيها الإمبراطورة تيودورا وحدها نحو مائة ألف من المانويين في أواسط القرن التاسع، كما أهلك الكاثوليك من البرتستانت في مذبحة سانت بارتملي مائة ألف
8
أيضا، وكأن الإنسانية كانت راضية عن أعمال ديوان التحقيق الديني الذي قتل في إسبانيا وحدها، كما قال ريناخ:
ناپیژندل شوی مخ
9
نحو مائة ألف إنسان على أقل تعديل، وكأن الإنسانية أقرت المذابح العظيمة التي قامت في الغرب تنفيذا لرغبة الباباوات في قتل الملحدين، ومنها ما قضى على أقاليم برمتها بالخراب، كالحرب التي أعلنها
10
البابا إينوسانت الثالث سنة 1208م، فخرب جنوبي فرنسا وأقفرت مدن برمتها، ومنها كركاسون وبزيه، وكالحرب التي أثارها الكاثوليك على البرتستانت المفرطين في طلب الإصلاح، وكانوا يدعونهم الأنابابتيست، فقتل فيها 160 ألفا، وأهلك توركمادا الدومنيكي الإسباني 1420-1498 ستة آلاف إنسان بالنار، وطلب جزاء عمله منصب كردينال من البابا، وقد حكم على 8800 بالحرق، وعلى 96504 بعقوبات أخرى، وكانت الحكومة تحميه بخمسين فارسا ومائتي راجل، وكانت الأرواح لا قيمة لها في نظر المدافعين عن المعتقدات، ويرون القسوة فضيلة يثاب عليها فاعلها، وكان المؤمن حقا من لا تنفثئ
11
سورة غضبه للدين الذي يتخيل أنه الحق وما عداه باطل، ولو لم تأت الثورة الفرنسية الكبرى على هذه الفجائع التي امتدت لأواؤها
12
قرونا باسم الدين، والدين منها بريء، لظل سلطان الدينيين في الغرب إلى اليوم بحاله، ولتأخرت المدنية عن سيرها الطبيعي أكثر مما تأخرت بصنع رجال الكنيسة ومن جاراهم من الأقيال والأمراء والملوك.
رد على رنان وجانو في الإسلام
ومن الناقدين من وقعوا في غلط الحس؛ فحكموا على العرب والإسلام أحكاما لا مبرر لها، ربما كانوا يعدلون عنها لو ساعدهم الزمن فرجعوا اليوم إلى تمحيص ما دونوا، كما وقع لرنان يوم زار في القرن الماضي جزيرة أرواد،
ناپیژندل شوی مخ
13
فشاكسه بعض أهلها، فهجا أهل الجزيرة بأسرهم، بل السوريين بأجمعهم، بل المسلمين عامة، وقال: إن غلط الفكر هو مظهر خلق السوريين، وإن الأرواديين قاوموه للبغض المتأصل في قلب كل مسلم لما يقال له علم، وقال في مناسبة أخرى: إن الذي يميز العالم الإسلامي إنما هو اعتقاد المسلمين أن البحث لا طائل تحته، وأنه قد يؤدي إلى الكفر، وحكم هذا المؤلف على جماع السوريين، بما رأى من انحطاط صيادين معدمين في جزيرة صغيرة، وعلى كل مسلم بأنه عدو العلم والبحث في فطرته، لا يصح على إطلاقه؛ لأنه بعيد عن المنطق، ولا يتلاءم بحال مع حكمة صاحبه وعلمه الواسع، ونظن رنان وهو يكتب قبل زهاء سبعين سنة، لو زار بعض البلاد العربية اليوم لغير رأيه في الحكم على المسلمين، ولرأى كثيرا من عامتهم قد تحرروا مما سماه تعصبا أعمى، وألفوا ممارسة الحقائق، وأقبلوا على العلم على اختلاف ضروبه وكان بعضهم بالأمس ينكرونه ويعقونه.
ومثل ذلك وقع أيضا لعالم أثري مشهور اسمه كلرمون جانو، حيث قال: «إن المدنية العربية ليست سوى كلمة خداعة، لا وجود لها أكثر من فظائع الفتح العربي، وإنها آخر أنوار المدنية اليونانية والرومانية، طفئت بأيد خرقاء ولكنها محترمة وهي الإسلام.» كلام غث في الحقيقة ينم عن جهل بحقائق التاريخ، وإن كان صاحبه الصدر المقدم في علم الآثار، والغالب أنه شق عليه أن لا يرى العرب يرمون ما عور من مصانع اليونان والرومان، فسلبهم حقهم كله من اشتراكهم في خدمة المدنية، وجعلهم في مرتبة الفانداليين في التخريب، مدفوعا إلى هذا القول على ما يظهر بعاطفته لا بعقله، وفاته أن معظم آثار من أحبهم من اليونان والرومان خربت بعوامل الزمن الأرضية والسماوية، وما كان الإسلام سبب تداعيها على ما زعم بعض النافخين في بوق التعصب الديني، ورددوا ما طالما أجملوه ثم فصلوه، من أن الإسلام كان السبب في انقراض
14
الإرث الثمين الذي خلفته بابل وأشور وآسيا الصغرى وسورية وفينيقية فيما يختص بفن البناء والنحت وما إليه، ولو كان جانو حيا اليوم لما أحلناه إلا على ما كتبه ابن وطنه سيديليو
15
قال: وما زال الفرنج إلى الآن ينسبون إلى العرب جميع التخريب الذي يرون اليوم آثاره في الأقطار التي آغاروا عليها، وقد هولت الفرنج في شأنهم، مع أنهم كانوا في جميع الوقائع ذوي لطف عند الانتصار، وسبب ذلك ما رسخ في عقول الفرنج من الخوف والنفرة من العرب، وكانت وجوههم كالحة من حر الشمس وأعينهم مخيفة، هذا مع شدة عدو خيلهم، وغرابة ملابسهم، وتجريدهم سيوفهم، وتكلمهم بلغة لا يعرفها أهل تلك البلاد، لنشر دين بين هؤلاء النصارى المملوءة قلوبهم بتعاليم أساقفتهم، وكانوا لا يتفوهون إلا بالألفاظ الدالة على العداوة والبغضاء لهؤلاء العرب المنكرين ألوهية عيسى ابن مريم. ا.ه.
ومن أين لأثري أن يتفهم تاريخ العرب، وتاريخ الإسلام، كما قال لبون: «لم يوفق كثير من عظماء المؤلفين إلى فهمه، وما زالوا ينكرون فيه إبداع المدنية التي ولدها الدين.» ولو كتب لهذا الأثري أن يحسن التاريخ، لاقترحنا عليه أن يدلنا على الفظائع التي ارتكبها العرب في فتوحهم، ومعظم ما يبالغ في نسبته إليهم مما تبيحه القوانين الحربية، والرومان وهم مثال الدولة المدنية بزعمه، أتوا في بضع سنين من أنواع الجور واستعباد الخلق، ما لم يأت مثله العرب في القرون الأربعة الأولى، على اتساع رقعة ممالكهم.
وقد أجمع مؤرخو الغرب على أن فتح العرب في الأندلس كان أرحم بكثير من فتح الغوط «الويزغوت»، على أن تخريبات الحروب الدينية في الغرب في سبيل نشر النصرانية لتحل محل الوثنية، ثم ما نشب هناك من الفتن والغوائل قرونا طويلة دفاعا عن حمى الدين، كل ذلك كانت فظائعه أعظم من كل ما ارتكبته العرب من الفجائع المزعومة، وماذا نعمل وهذا الأثري كأمثاله، مأخوذ بحب الأحجار ورصفها، لا يثبت على ما يظن لأمة مزية إلا إذا جمعت منها جبالا وتلالا بأية طرق كانت، وما دامت الغاية تبرر الواسطة عنده، فلا يهمه إذا هلك عشرات الألوف من الخلق إن كان من وراء ذلك إنشاء معبد أو قلعة أو مسلة أو قوس أو طريق أو مسرح أو ساحة أو حمام.
السبب في قلة آثار العرب
ناپیژندل شوی مخ
ولقد رأينا الرومان حكموا الشام سبعة قرون وخرجوا منه، وهم لم ينهوا بناء هيكل الشمس في بعلبك، على كثرة من ساقوهم من الخلق ليعمروه، ومن سوء حظ العرب في الإسلام مع هؤلاء الناقمين عليه، أن السخرة محظورة في شريعتهم؛ ولذلك كانت مصانعهم مما عمر على الأغلب بأموال الملوك والخلفاء والأمراء وأهل الخير، فجاءت أعمال أفراد لا أعمال جماعات، ولكل أمة أسباب قاهرة ليس في مكنتها التفلت من قيودها، ولكل جماعة مصطلح لا تخرج عنه؛ لأنه ربيب عاداتها وأليف خلقها وروحها.
يقول ابن خلدون:
16
إن الهياكل العظيمة جدا، لا تستقل ببنائها الدولة الواحدة، والدول العربية لم يطل عهد حكمها قرونا، كما كانت آماد أمم القبط والنبط والروم والعرب الأولى من عاد وثمود والعمالقة والتبابعة؛ ولذلك لم تقم للمسلمين العرب مصانع عظيمة كأهرام مصر، وسد مأرب، وإيوان كسرى، تخلد ذكرى ملوكهم، وتنم عن مدى تفننهم في صناعاتهم، ومن أجل هذا استغنى المسلمون بما وجدوا من مباني غيرهم، وعمروا ما اشتدت حاجتهم إليه بالطرق المشروعة، ومع هذا كتب لهم في زمن قصير أن يشيدوا مصانع بلغت من الإبداع مبلغا تعرفه العين لأول نظرة؛ لأنها لم تألف رؤية أمثاله، كما قال أحد الفلاسفة المعاصرين، وهناك شيء آخر: وهو أن بعض مصانع العرب لم تعمر بالحجر الصلد، بل اتخذ لها في الغالب الآجر والقرمد والخشب والأتربة، فكان فعل الطبيعة فيها عظيما، ويقول سكريتان:
17
منذ استعاض الغرب عن البناء بالخشب، وألف البناء بالحجر، ظهرت مدنه ومصانعه بمظهر غير مظهرها، وقد أبطأ الشرق في البناء بالحجر خيف الزلازل.
ومن ينكر على الرومان تفردهم بين الأمم بإقامة المصانع العجيبة التي أعجب بها كلرمون جانو وكثير قبله وبعده من أمم الإفرنج، أحفاد الرومان وورثة مجدهم، ولكن هذا الإعجاب بما صنعوا لا ينفي أنهم كانوا كاليونان يستبيحون ارتكاب
18
كل منكر مع أعدائهم الذين جاهروهم العداء؛ فكانوا لا يتحرجون من قتل العزل من أسلحتهم ومن بيع الأسرى كالرقيق، ومن نهب المدن وحرق القرى، ومع أن هذا الظلم لم يرتكب مثله التتر وبرابرة الشمال، فإن المتغني بعدل الرومان واليونان، المأخوذ بالإعجاب بما تركوا من مصانع وتماثيل ، يحاول تمجيدهم في كل شيء بالباطل والحق، حتى ليعتذر عن ظلمهم وتعذيبهم، ويصورهم كأنهم المثل الأعلى في الإنسانية، والبعد عن الصغائر. ولكل أمة لو أنصفنا مساوئ ومحاسن، تساوى في ذلك القديم والحديث والصغير والكبير منها.
التهمة بحريق خزانة الإسكندرية
ناپیژندل شوی مخ
طالت محاولة المتعصبة إلصاق تهمة حريق خزانة الإسكندرية بعمر بن الخطاب، وقد ثبت لعلمائهم أنفسهم أنها حرقت قبل الإسلام بقرون،
19
ومع ظهور الحق في هذه المسألة، بعد أن لاكتها الألسن كثيرا، نرى أناسا يتخيلون أن في ترديد هذه الأكذوبة على الخليفة الثاني حطا من قدره، فيذكرونها عند كل موقف، ليدلوا على جهل الخليفة، وتصلبه في أفكاره، وتجافيه عن الأخذ ممن سلف من الأمم.
حرقت خزانة الإسكندرية غير مرة بأمر الإمبراطورين ثيودوسيوس ويوستنيانوس، وآخر حريق لها كان قبل الهجرة بمائتي سنة، ذكر جيبون في تاريخ سقوط دولة الرومان أن هذه الفرية على المسلمين لفقها أبو الفرج بن العبري في تاريخ مختصر الدول، وذلك بعد الإسلام بنحو ستمائة سنة، ولم يتعرض قبل أبي الفرج مؤرخ واحد لذكرها، حتى إن أفتيكيوس بطريرك الإسكندرية مع توسعه في الكلام على استيلاء المسلمين على ثغر مصر، لم يذكر كلمة عن حريق عمرو بن العاص لهذه الخزانة، وقد ذكر أرفنج وكريستون وفلين وغيرهم أن ما أشيع من مساوئ الإسلام والمسلمين بهذا الشأن، لم يكن له ذكر قبل نقل كتاب مختصر الدول إلى اللاتينية، ومن ذلك الحين ابتدأ الغربيون يبغضون المسلمين ويحتقرونهم.
ومن جملة من نقضوا هذه الرواية من علماء الفرنسيس أرنست رنان، وآلبرسيم، وقد قال رنان من خطاب له في المجمع العلمي الفرنسي: إن العلم والدين الإسلامي لا يجتمعان، بيد أنه لا يعتقد أن عمر هو الذي أحرق خزانة الإسكندرية؛ لأنها أحرقت قبله بزمن طويل، وكتب إلينا آلبرسيم 14 آب سنة 1908: «لشد ما استحكم الوهم التاريخي زمنا بشأن عمر وخزانة الإسكندرية، وها هو الآن آخذ بالاضمحلال، أما أنا فقد اغتبطت بما سنح لي من الفرصة، فكنت من العاملين على مكافحة هذا الوهم، وأثبت بالبراهين التي وصلت يدي إليها ما اعتقدت أنه هو الحقيقة .» ونص عبارته في كتابه الذي سماه الكتاب
Le Liver ، وشكرناه عليها: «ولم تحرق خزانة الإسكندرية التي قال بعضهم: إنه كان فيها نحو سبعمائة ألف مجلد على يد الإمام عمر ولا بأمره، كما جاء في بعض المصادر، فإن هذه الدعوى من الأغلاط التاريخية العظيمة؛ إذ لم يكن أثر لهذه الخزانة عندما فتحت العرب مدينة الإسكندرية سنة 640، وعلى عهد البطالسة أصبح أمر الخزانة إلى ضعف، فقسمت شطرين جعل كل منهما في مكان مستقل، فحرق القسم الأول قضاء وقدرا عندما استولى يوليوس قيصر على الإسكندرية سنة 47 قبل المسيح، وذهب القسم الثاني وكان جعل في معبد سيرابيس على يد الأسقف تيوفيل بعد ذلك التاريخ بأربعمائة سنة، عقيب الأمر الصادر عن ثيودسيوس بالقضاء على جميع المعابد الوثنية وجعل عاليها سافلها.»
وقال فوت
20
وأهلويلر في كتابهما «جنايات الأوروبيين»: «إن تيوفيل هو الذي حرق خزانة الإسكندرية لا المسلمون؛ لأن الدين الإسلامي لا يبيح إحراق الكتب.» وقال مسبرك في كتابه «الادعاءات الكاذبة»: «إن الإفرنج هم الذين أحرقوا خزانة الإسكندرية، والمسلمون هم الذين أدخلوا العلم إلى أوروبا.» وقال استيفونس في كتابه «التفكر والأديان»: «أحرقت أيدي الجاهلين خزانة الإسكندرية، وهي مكتبة مهمة وبفقدانها اضمحل العلم، وبقيت أوروبا تتخبط في ظلمات الجهالة إلى أن أنارها المسلمون بعلومهم.»
وقال غريفيني من علماء المشرقيات في إيطاليا: بعد أن فتح عمرو بن العاص الإسكندرية مرت ستة قرون كاملة، لم يسمع خلالها قول لمؤرخ مسلم أو غير مسلم، يتعرض لاتهام عمرو بن العاص بإحراق خزانة الإسكندرية، وينقض هذه التهمة ما اشتهر به عمرو بن العاص من سياسة التساهل التي جرى عليها، وشهد له بها أشهر المؤرخين النصارى الذين كانوا في عهده، كيوحنا النيقيوسي في كتابه «تاريخ مصر» الذي وضعه باللغة الحبشية القديمة.
ناپیژندل شوی مخ
21
وقال بونه موري:
22
يجب أن نصحح خطأ شاع طول القرون الوسطى، وهو أن العرب أحرقوا خزانة الإسكندرية بأمر الخليفة عمر، والحال أن العرب في ذلك العصر كانوا أشد إعجابا بعلوم اليونان وفنونهم من أن يقدموا على عمل كهذا، كما أنه معلوم أن قسما من تلك الخزانة كان احترق في أثناء ثورة الإسكندريين التي باد فيها أسطول قيصر، وأن قسما آخر أحرقه النصارى في القرن السادس، واختط العرب الفسطاط وتركوا للقبط ممفيس ولم يتعرضوا لهم في دينهم وعاداتهم، وأطلقوا لهم الحرية في انتخاب البطريرك وبناء الكنائس، وغاية ما أبطل عمرو من العادات القديمة هو ما كانوا جارين عليه من زمان الوثنيين من رمي فتاة في النيل كل سنة التماسا لفيضانه.
وعلى كثرة ما رد المنصفون تهمة حريق خزانة الإسكندرية عن عمر بن الخطاب، لا يزال فريق الإثبات مصرا على رأيه؛ لأن هذا العمل مما يحط ضمنا من رجال الإسلام، وهذه فرصة قلما تسنح للمتعصبين حتى يثبتوا أن الرجل الذي يفاخر المسلمون به هو همجي؛ ولذلك كان ينقلها الخلف عن السلف بكل أمانة كأنها حقائق، وكأنهم يشيرون إلى أن هذه الخزانة لو سلمت لغيرت وجه الكون، أما إذا وقع شيء من هذا من جماعتهم كحريق الكردينال كسيمنس كتب المسلمين في ساحات غرناطة، وكانت ثمانين ألف مجلد على رواية مؤرخيهم، فإنهم يحاولون أن يبرئوه من هذه الوصمة، ويقللوا من شأن خزائن الكتب التي أحرقتها إسبانيا وكانت عشرات، يوم قضت على العرب في بلادها في القرن السادس عشر، وصرفت نصف قرن في القضاء على كل أثر لهم، ولولا تلك المترجمات إلى العبرية واللاتينية لقضي على الحضارة العربية التي امتد رواقها على إسبانيا مدة ثمانية قرون
23
وعفت آثارها، ولا نذكر أننا قرأنا لبعض نقاد الغربيين نبذة في تقبيح ما فعله الصليبيون يوم غارتهم على طرابلس، أوائل المائة السادسة للهجرة، ويوم أمر صنجيل بإحراق كتب دار العلم فيها، وكانت تقدر بأكثر من مائة ألف مجلد، ويوم أخذ الصليبيون بعض ما طالت أيديهم إليه من دفاترها ومن كتب الخاصة في بيوتهم.
وقع الحق من نفوس بعض المستشرقين
وقع لنا أن قلنا مرة في مجلة المجمع العلمي العربي
24
ناپیژندل شوی مخ
أثناء كلامنا على ما نشره أحد المشتغلين بالمشرقيات من الإسبان من رسالة سماها: «حديث ذي القرنين»، ونقلها إلى اللغة الإسبانية: «إن هذه الرسالة كبعض الكتب التي تقل الفائدة من نشرها؛ لأنها لا تؤيد أصلا من الأصول العلمية أو الدينية، وإذا كان المقصد أن في الإسلام مثل هذه الحكايات، ويريد أرباب الغايات أن يحملوه إياها ليحملوا عليه، فإن أهل الفريق الآخر يجيبونهم بأن في خزائنكم من أمثال هذه الأسفار مئات.» ونصحنا للناشر يومئذ أن يعنى بإحياء كتب ورسائل أخرى للعرب، يأخذها من خزانتي الإسكوريال ومجريط في بلاده، وبذلك يخدم اللغة والعلم، ويقلل من الخرافات التي تغلغلت في أحشاء أمته أكثر من كل أمة أوربية، ولما صدر هذا الكلام قام غراتشقوفسكي المستشرق من ليننغراد يأسف في مجلة ليترى الدولية
25
لهذا النقد، ويقول: إن من المدهش أن يصوب مثل هذا الكلام على ممثل بلاد أنشأت أمثال ريبرا وآسين، وإن قليلا من العلماء المحدثين قد عاونوا مثلهما على فهم مدنية الإسلام، وما فيه من قيمة جوهرية، وإن هذا التقريظ كتب بلسان مهين لأمة بأسرها ... إلى آخر ما قال مما لا تأويل له إلا العصبية المذهبية التي تأثر عرقها الحساس، عندما رأى شرقيا يرد غربيا إلى الصواب، وتعالى العلم عن أن يكون آلة مصانعة وعصبية، وعبد شهوات وأهواء.
ونحن إذا لم نوافق بعض المشتغلين بالعلوم الشرقية على منازعهم الخاصة، فليس معنى ذلك أننا نهينهم؛ فلأصحابنا جولدصهير المجري، ومرجليوث الإنكليزي، ولامنس البلجيكي أقوال بعيدة عن محجة الصواب في الإسلام، وما حال ذلك دون تقديرهم قدرهم يوم يحسنون، وإذا كان في الإسبان أمثال ريبرا وآسين اللذين يأتي الناقد الروسي بهما حجة على ارتقاء إسبانيا، فإن انحطاطها قال به قبلنا عشرات من الباحثين المنصفين، ومنهم بعض مؤرخي الإسبان وعلماء الاجتماع منهم، وظهور شخصين أو أكثر في أمة لا يقوم دليلا على أنها وصلت ذروة الارتقاء، وسلمت نفوس خاصتها وعامتها من الخرافات والسخافات، حاشا طبقة راقية تأخذ بمذاهب العلم والأدب وتفاخر إلى اليوم بمجد العرب وتاريخهم، وتحرص على إحياء مدنيتهم ودراستها حرصها على كل علم نافع.
وليت ذاك الرصيف الروسي الذي أخذته العزة بالإثم، واستهجن رأينا، يتلو على الأقل ما كتبه في انحطاط الإسبان ألفريد فوليه في كتابه «روح شعوب أوروبا»،
26
إذا لرآه شعبا متأخرا في مضمار العلم والتربية، لا يهتم إلا بالظواهر، والعجب المفرط من صفاته، والبطالة هجيراه، والاكتفاء بالقليل شأنه، ولساهمنا رأينا بأن مجموع الشعب المصري أرقى من مجموع الشعب الإسباني، وإن كان هذا أوربيا نصرانيا، وذاك إفريقيا مسلما، ولشاهد أن الإسبان يضرب المثل بتعصبهم الذي كان منه فساد أمرهم،
27
وقد ابتلوا كما قال ماريفو:
28
ناپیژندل شوی مخ