اسلام شريکان
الإسلام شريكا: دراسات عن الإسلام والمسلمين
ژانرونه
وأخيرا فإن من أهم ما يجذب الانتباه إلى هذه الوثيقة المصطلح الذي تستخدمه للدلالة على توحد أبناء الطوائف والجماعات الدينية، كما يتوحد أبناء العم، في مواجهة خطر مشترك «عهد عمومية، متعامين، تعاموا، المعامة» ولكن جذر الكلمة ومشتقاتها - لا سيما الاسم عم والفعل عم والصيغة المصدرية «المعامة» - يمكن أن تنطوي أيضا على معنى «العامة» في مقابل الخاصة، كما يمكن أن تذكرنا على نحو ما بالحركات «العامية» التي كانت تطلق في العصر نفسه في لبنان على هبات «العامة» أو ثوراتهم الشعبية للمطالبة بتغييرات معينة في ظروف حياتهم الاجتماعية والسياسية والمعيشية، وتحملهم على تجميع صفوفهم كما يفعل أبناء العم «المتعامون»، وتجعلهم يتجاوزون كل الحدود الاجتماعية والدينية في وعي جماعي منظم يطمح إلى التغيير بالحسنى والوسائل السلمية قبل اللجوء إلى وسائل الردع المذكورة في الوثيقة. وهكذا ارتبطت كلمتا العم والعام والعامة في دلالات هذه «المعامة» التي وحدت مشاعر الفئات والطوائف المختلفة، وأطلقت في فضاء النفوس تلك الشرارة التي سرعان ما اشتعلت نيرانها وتوهجت أنوارها في وعي قومي ثائر على العثمانيين ثم على الفرنسيين، ووضعت الأسس الضرورية في أواخر القرن التاسع عشر للوعي العربي الحق، والوحدة العربية المأمولة ...
وإذا كان مؤلف الكتاب الذي ورد فيه نص الوثيقة لا يخبرنا عن أي أثر مباشر أو ملموس لها في واقع الحياة في مدينة الناصرة، فربما تكمن أهميتها التاريخية في أنها تعكس، أو على الأقل توحي، بملمح من تلك الوحدة التي ربطت بين الطوائف الدينية المختلفة في مرحلة متأخرة، ومن المؤكد أنها تعطينا لمحة بديعة عن وحدة الوعي العربي الذي هب ثائرا في وجه الطغيان الأجنبي، وما زال يسعى لتحقيق حلمه الأكبر بالوحدة العربية. (15) ونأتي إلى دراسات المؤلف عن مشكلة التعليم في العالم العربي ومصر بوجه خاص، ونكتفي منها بدراسته عن مشروعات التعليم في مصر قبل الاحتلال البريطاني.
3
لقد ظل نظام التعليم الإسلامي طوال العصر الوسيط وحتى بدايات العصر الحديث يحقق وظيفته في تزويد النشء بالمعارف الدينية (تحفيظ القرآن الكريم والإلمام ببعض العلوم الدينية وبعض المهارات العملية كمبادئ الحساب - وتأكيد وعيهم بالانتماء للأمة الإسلامية أو ل «دار الإسلام»). وقد حاولت بعض الحكومات استغلال هذا التعليم لتحقيق مصالحها وأغراضها - كما فعل السلاجقة السنيون بتأسيس «المدارس» لمكافحة التأثيرات الضارة لبعض المذاهب والقوى المناوئة. لم تكن هذه المدارس الإسلامية بوجه عام تمثل جزءا من نظام الدولة أو من جهازها الإداري، غير أن الأحوال تغيرت في النصف الأول من القرن التاسع عشر عندما أنشأ محمد علي «مدارسه» الحديثة لتدريب المهنيين والحرفيين على اختلافهم لخدمة «دولته». لم يهتم محمد علي أدنى اهتمام بأن يكون التعليم «وطنيا» أو«شعبيا» أو لتحصيل المعرفة أو العلم لذاته. صحيح أن قرار تأسيس المدارس الأولية في سنة 1836م قد جاء فيه أن أحد أهدافه هو «نشر مبادئ العلوم بين الأهالي» (ارجع للكتاب القيم المهم لأحمد عزت عبد الكريم عن تاريخ التعليم في عهد محمد علي، القاهرة 1938م، ص681، وكذلك ص149 وما بعدها ...) ولكن يبدو أن هذا كان مجرد كلام يردد صدى المثل المعمول بها في أوروبا دون اقتناع حقيقي من الحاكم. يدل على هذا أن محمد علي ينصح ابنه إبراهيم في أحد توجيهاته المكتوبة في الوقت نفسه على وجه التقريب بألا يتعدى التعليم حدود التدريب على خدمة الدولة (المرجع السابق ص30-40). ولكن إبراهيم نفسه كان فيما يبدو أكثر انفتاحا على القيم والمثل العليا للتعليم الأوروبي، فقد صدق في سنة 1847م - عندما كان هو الحاكم الفعلي مكان أبيه - على مشروع مقدم من «إبراهيم أدهم» - ناظر ديوان المدارس الذي تلقى تعليمه في إنجلترا - بتأسيس عدد من المدارس الأولية الحكومية التي كان من المفترض فيها أن تعطي الطلاب ما يزيد على الحاجة لمجرد «تدريب خدام» للحكومة، والجدير ذكره أن أول محاولة لإدخال المناهج الغربية في التعليم قد تمت في هذه المدارس التي أطلق عليها اسم «مكاتب الملة»، وكانت الكلمة الأخيرة في أواخر القرن التاسع عشر تستخدم بمعنى مرادف لكلمة الوطن.
4
مهما يكن الأمر فقد أهمل مشروع هذه المكاتب بعد وفاة محمد علي وابنه إبراهيم في سنة 1848م. وجاء حاكما مصر التاليان وهما عباس الأول (1848-1854م) وسعيد (1854-1863م) فلم يقدما شيئا يذكر للنهوض بالتعليم، ومع ذلك فلا بد من الإشارة إلى المشروع الموسع الذي قدمه إبراهيم أدهم لسعيد بعد توليه الحكم مباشرة، بتأسيس نظام جديد للمدارس الشعبية التي تشرف عليها الحكومة وتأخذ بالمناهج الأوروبية في التعليم وتدمج فيها المدارس التقليدية بالتدريج. وقد نص هذا المشروع على أن تقدم هذه المدارس للأطفال قدرا طيبا من التعليم العام الذي ينفعهم في مختلف ميادين حياتهم، كما استبعد أساليب القهر التي اتبعتها المدارس في عهد محمد علي، فنص كذلك على أن يكون الدخول فيها اختياريا، وألا يرغم التلاميذ على المبيت فيها، بل يصرح لهم بالبقاء مع عائلاتهم. وعلى رغم أن عددا كبيرا من الآباء رحبوا بالنظام المقترح وبعثوا بالتماساتهم الحارة لقبول أبنائهم - وذلك بسبب الاهتمام المتزايد لدى المصريين بالتعليم الحديث الذي رأوا نماذجه في المدارس الأجنبية التي تزايد عددها منذ منتصف القرن التاسع عشر (لا سيما في عهد سعيد)، وإن كان بعضها قد وجد منذ منتصف القرن السابع عشر ومنتصف القرن الثامن عشر (المرجع السابق، ص670) - على رغم ما سبق ذكره فإن المشروع كله لم يخرج إلى حيز التنفيذ، وإن ثبت بعد ذلك أنه لم ينس تمام النسيان ...
ولعل أحد أسباب تزايد اهتمام المصريين بالتعليم الحديث هو إعجابهم بنماذج المدارس الأجنبية الحديثة التي تصاعد عددها في عهد سعيد كما سبق القول، بحيث بلغ عند وفاة سعيد تسعا وخمسين مدرسة، ثم قفز عدد المدارس التي أسستها الجاليات الأجنبية والأقلية القبطية (افتتح كيروللوس الرابع بطريرك الأقباط أول مدرسة قبطية حديثة في سنة 1853م) إلى 127 مدرسة في عهد إسماعيل (1863-1879م) ووصل عددها في سنة 1878م إلى 146 مدرسة فتحت أبوابها كذلك لأبناء المسلمين.
ولا شك في أن تكاثر هذه المدارس يرجع، لحد كبير، إلى تصاعد أعداد المهاجرين الأوروبيين إلى مصر منذ أن بدأت مع الحملة الفرنسية وفي عهد محمد علي، إلى أن بلغت ذروتها أثناء حفر قناة السويس وازدهار التجارة في القطن المصري - بعد توقف السفن الحاملة للقطن الأمريكي إبان الحرب الأهلية من 1861 إلى 1865م - بحيث بلغ عدد الأجانب الأوروبيين في هذه السنة الأخيرة ثمانين ألف مهاجر. وقد بدأ هؤلاء المهاجرون قصة تحكمهم الطويل في تجارة البلاد وصناعتها ومصارفها المالية، وهو التحكم الذي يرجع في جانب منه على الأقل إلى تفوق التعليم الذي تلقوه في بلادهم أو في المدارس الأجنبية المذكورة التي بدأ كذلك أبناء المصريين المسلمين من الطبقات الميسورة في الإقبال عليها من أوسع الأبواب، لا لتحريك ألسنتهم بلغات أجنبية فحسب، بل لتعلم المهارات النادرة والمناهج الجديدة في البحث والتفكير، على نحو ما فعل المبعوثون منذ عهد محمد علي بعد عودتهم إلى البلاد. وقد واكب هذا الإقبال المد المتصاعد للمشاعر الوطنية والإحساس المتزايد بالحقوق المدنية. ويكفي القول في هذا الصدد بأن أول كتاب سياسي بالمعنى الدقيق في تاريخ مصر الحديثة قد ظهر سنة 1869م، وهو كتاب تخليص الإبريز إلى تلخيص باريز أو الديوان النفيس بإيوان باريز (القاهرة 1323 هجرية/1905 ميلادية، ص79، 187، 188، 196 وبعدها) لإمام التنوير الحديث رفاعة رافع الطهطاوي الذي سبق له أن ساهم في مشروع إبراهيم أدهم السالف الذكر الذي قدمه سنة 1854م، كما قدم في كتاب آخر (وهو مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية) مشروعا متكاملا لتحقيق السعادة للوطن المصري يقوم فيه التعليم بالدور الحاسم عندما يبدأ تعليم الأطفال، قبل التدريب المهني والفني، بتعريفهم بحقوقهم وواجباتهم المدنية. وكان لهذا الكتاب تأثير هائل وغير مسبوق في الفكر المصري في القرن التاسع عشر، وانتشرت آراؤه في «المجالس» التي كانت تعبر عن الرأي العام، كما أخذت بها معظم الصحف السياسية التي أسست في تلك الفترة، وعمل عمله في تصاعد النقد الساخط على الحكم المستبد وسوء الظن بالأجانب المستغلين. واشتدت الحاجة - تحت تأثير الدعوة الثورية لجمال الدين الأفغاني - إلى تعليم ثوري يعيد مجد الإسلام القديم ويستخدم سلاح الغرب - أي علومه ومعارفه الجديدة - سلاحا يحارب به الغرب المستغل، ويمكنه من الإطاحة بنظم الحكم الشرقية المستبدة. وازداد الاهتمام بالتعليم - باعتباره الطريق الوحيد للتحرر - عند الجناح المعتدل من الإصلاحيين الوطنيين مثل الشيخ حسين المرصفي.
5
ويستعرض المؤلف أحوال المدارس في عهد إسماعيل الذي رفع صوته - أمام قناصل الدول الغربية بعد توليه الحكم مباشرة (في العشرين من شهر يناير سنة 1863م) معبرا عن اهتمامه «بالمدارس التي هي أساس كل تقدم» - ثم لم يلبث بعد ذلك بأيام قليلة أن أعاد فتح ديوان المدارس الذي أغلقه سعيد في سنة 1854م، واهتم بإصلاح المدارس العسكرية ، وأمر بفتح مدرسة أولية وأخرى ثانوية في كل من القاهرة والإسكندرية، والغريب أن البداية الحقيقية لهذه السياسة التعليمية الجديدة قد توافقت مع قيام أول برلمان مصري في سنة 1866م، وهو مجلس شورى النواب الذي كان من أبرز مهامه النظر في مشكلة المدارس وتطوير التعليم. ففي أول دورة انعقاد لهذا المجلس (من نوفمبر 1866 إلى يناير 1867م) قدم اقتراح بإنشاء مدرسة أولية في جميع المديريات، وتحول الاقتراح إلى مشروع تبناه المجلس في يناير 1867م، وطالب فيه بقبول جميع التلاميذ بغض النظر عن ديانتهم أو طبقتهم الاجتماعية، وبمجانية التعليم والغذاء والكساء أيضا عند اللزوم. وسرعان ما صدقت الحكومة على المشروع، ودعت الشعب للمساهمة في الدعم المالي له إلى جانب الدخل المخصص له من الأوقاف، وأسندت الإشراف عليه للمهندس الواسع الأفق والمربي الكفء علي مبارك الذي عين (في الثاني عشر من أكتوبر 1867) وكيلا لديوان المدارس ثم ناظرا له. وشكل مجلس الشورى لجنة من العلماء والأعيان لإعداد قانون المدارس الأولية الذي صدر في عام 1868م، وكان من أهم بنوده إصلاح الكتاتيب وإدماجها في نظام المدارس الحديثة تحت إشراف الدولة، وإضافة مادة الحساب إلى تعليم القراءة والكتابة وتحفيظ القرآن الكريم على يد الفقيه (أو المؤدب كما طولب بتسميته وكان في الغالب كفيف البصر ...) ويعاونه «عريف» يشترط فيه الإلمام بالقراءة والكتابة. أما الكتاتيب الكبيرة التي يزيد فيها عدد التلاميذ على السبعين فقد نص القانون على التوسع في منهجها الدراسي بحيث يضم الاقتصاد والتاريخ والجغرافيا، بالإضافة إلى تعلم لغة أجنبية.
ناپیژندل شوی مخ