اسلام شريکان
الإسلام شريكا: دراسات عن الإسلام والمسلمين
ژانرونه
ويتابع الباحث قصة هذه الحركة، والأخبار التي وردت عنها في بعض كتب السير الشيعية والمارونية، وأسماء أعضائها العاملين الذين ثبتت أسماء سبعة منهم على الأقل، مع أسماء عدد آخر من المنتمين للحركة من مختلف الطوائف والجماعات الدينية (السنة والشيعة والعلويين والدروز، بجانب أحد القادة المسيحيين المنادين باستقلال «الجنس العربي» و«القبائل العربية» عن الدولة العثمانية «الظالمة والمهملة للشريعة»، وهو الماروني «يوسف بك كرم» (1823-1889م) الذي ثبت أنه أجرى اتصالات مختلفة مع الأمير عبد القادر الجزائري بشأن استقلال الشام، وإن لم يثبت انتماؤه الفعلي للحركة سابقة الذكر).
ويتابع الباحث تأسيس جمعية المقاصد الخيرية في بيروت (1878م) في صيدا (1879م) بفضل أحد أعضاء الحركة، وهو محمود منح الصلح، كما يتوقف عند نبأ النشرات الثلاث التي طالبت باستقلال الشام وعلقتها الحركة في بيروت، ولما بلغ خبرها إلى أسماع الباب العالي في إسطنبول أقيل مدحت باشا (1822-1883م) بسببها ونقل إلى أزمير.
1
ويستطرد الباحث فيتحدث عن تأسيس المحفل الماسوني السوري واللبناني في دمشق وبيروت، ودورهما في الجمع بين الطوائف الدينية المختلفة، والصلات القائمة بينهما وبين المحفل الماسوني بالقاهرة والمحافل الأوروبية، وعن انتماء بعض أعضاء حركة الأعيان السوريين والحركة الإسلامية الثائرة على الاحتلال البريطاني - مثل الأفغاني ومحمد عبده - إلى هذه المحافل السرية، وذلك فضلا عن الأمير عبد القادر الجزائري نفسه، ومع ذلك فلم تزل حقيقة هذه العلاقات المتشابكة قيد البحث، كما أن حركة الأعيان نفسها التي أسست سنة 1877م لم يكد يسمع لها صوت بعد زوال الأزمة التركية على أثر توقيع معاهدة الصلح مع روسيا (1878م)، وبعد تعرض بعض أعضائها للنفي أو للعيش تحت الحصار. والمهم بعد كل شيء أن الجمعيتين السريتين لشباب المثقفين المسيحيين وأعيان سوريا المسلمين قد تعاونا معا على المطالبة بالاستقلال عن الدولة العثمانية، وأشرق معهما فجر الوعي القومي العربي في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، وعبرا عن الرغبة القوية في تأسيس دولة شامية مستقلة يتآخى فيها المسلم والمسيحي والدرزي، لا سيما بعد المذابح الدموية التي جرت سنة 1860م في جبل لبنان وفي دمشق، بسبب الصراع بين الدروز والمسلمين والمسيحيين.
2
ولا شك في أن المناخ الذي ساد بعد هذه المذابح قد ساعد على تقارب أبناء جميع الطوائف الدينية والعلمانية في سبيل الاستقلال وخوفا من التدخل الأوروبي، ويكفي أن تلك الفترة الزمنية التي لا تزيد على ربع القرن قد شهدت تأسيس الجمعية العلمية السورية، وجمعية المقاصد الخيرية، والمدرسة الوطنية التي فتح بطرس البستاني أبوابها لأبناء الوطن الشامي بغير تفرقة أو تمييز ... (14) ونأتي إلى مقال طريف يلقي الضوء على عراقة الشعور بالوحدة الوطنية بين العرب من مسيحيين ومسلمين، وعلى بزوغ فجر الوعي الوطني بالاستقلال وبالوحدة العربية منذ منتصف القرن التاسع عشر ... والمقال بعنوان: «عقد اجتماعي في مدينة فلسطينية» (ويرجع تاريخ كتابته لعام 1947م) ويورد المقال نص وثيقة أو حجة مهمة ترجع إلى سنة 1854 ميلادية/1270 هجرية، وتحتوي على «عقد اجتماعي» جرى توقيعه بأيدي ممثلي الطوائف الدينية في مدينة الناصرة وبعض القرى المجاورة لها. وقد وجد المؤلف هذه الوثيقة في كتاب «تاريخ الناصرة للقس البروتستنتي أسعد منصور» (طبع مطبعة الهلال، القاهرة 1924م) ... والموقعون على هذه الوثيقة النادرة ثلاثة وعشرون من سكان الناصرة وقريتين قريبتين منها «المشهد واكسال»، بجانب تسعة وثلاثين من الروم الأرثوذكس والروم الكاثوليك والمارونيين والفرنسيسكان والبروتستنت، وكتب الوثيقة «العبد الفقير إلى الله محمد أمين الفاهوم» نائب الناصرة - أو قاضيها - في ذلك الحين ... وتنص الوثيقة على عدة بنود تؤكد تعهد أهالي الناصرة من شتى الطوائف الدينية على التعاون فيما بينهم لمواجهة الشر والفساد، وردع الطغيان والعدوان من جانب اللصوص وقطاع الطريق والأشقياء الخارجين عن طاعة «الدولة العلية»، ومن لم يرتدع منهم بالتي هي أحسن يقتل وتوزع ديته على «المتعامين» (أي على المتعاقدين أو المتعاهدين الذين صاروا كأولاد الأعمام) من أهل الناصرة - وإن قتل أحد المتعامين وأخذت ديته فثلث ديته إلى وارثه خاصة والثلثان إلى المتعامين. والجدير ذكره أن الحجة حفظت عند وكيل دير الناصرة لتكون سندا لهم إلى ما شاء الله ...
تلك هي وثيقة «المعامة» - أي عهد «العمومية» - أو العقد الاجتماعي الموقع بأيدي أولاد العمومة من الطوائف الدينية المختلفة لدرء الشر عنهم. ولعل أهل الناصرة قد أخذوا الكلمات التي تدل على وحدة أبناء العمومة من قبائل البدو التي كانت تحيط بهم أو كان بعضها يستوطن الناصرة، إذ يعتبر كل من ينتمي إلى القبيلة من أبناء العم، كما أن بعض التفاصيل الأخرى عن توزيع الدية وتوريثها مأخوذ عن القوانين المعمول بها لدى تلك القبائل.
وأهم ما يلفت النظر في هذه الوثيقة أنها تضم مختلف الطوائف الدينية في وحدة أو عصبة واحدة لمواجهة الشر والأشرار، وأنها تحاول أن تضفي على هذه الوحدة طابعا شرعيا بوضعها في إطار الشريعة الإسلامية (لاحظ أن كاتب الوثيقة قاض مسلم، وأنه يستخدم فيها مصطلحات ومفاهيم من الشريعة الإسلامية كما يذكر في نهايتها أنها وقعت بشهادة أربعة شهود ...) وأنها تلجأ إلى بعض التقاليد القبلية السائدة - كالثأر والدية - لحل المشكلات التي تعترض المجتمع عن طريق تقاليد قبلية أخرى - «كالمعامة» التي تنص عليها الوثيقة - وأنها أخيرا لا توحد بين عائلات أو قبائل، وإنما توحد بين طوائف وجماعات دينية مختلفة من حيث المذهب، ولكنها ذات مصلحة واحدة وهدف واحد.
ولكن ما الظروف التي أدت إلى توقيع هذه الوثيقة أو التي أحاطت بها؟
إن القس البروتستنتي أسعد منصور الذي وضع عنها كتابه المذكور من قبل ليس لديه إلا القليل الذي يقوله عن هذه الظروف: الاضطراب والفوضى اللذان عما البلاد بين عامي 1854 و1855م وأديا إلى الاعتداءات على أهالي الناصرة، والقحط والجدري اللذان انتشر وباؤهما في فلسطين في الفترة نفسها، ووقوف الحكومة عاجزة عن مواجهة القلاقل والحيلولة دون سفك الدماء في الجليل والخليل والمناطق الجبلية المحيطة بهما. أضف إلى ذلك الخلافات القائمة بين الطوائف المسيحية (التي بدأت تفد على المدينة وتثبت أقدامها فيها منذ بداية القرن السابع عشر، بعد أن كان المسيحيون قد تركوها تماما إثر استعادة المسلمين لفلسطين في أواخر الحروب الصليبية وتدمير الظاهر بيبرس لمدينة الناصرة سنة 661 للهجرة/1263 ميلادية)، إلى جانب الصراعات التي كانت تنشب بين العائلات الكبيرة على «مشيخة» الطوائف والجماعات الدينية المختلفة؛ إذ كان الوالي العثماني في صيدا ينتخب من هذه العائلات «مختارا»، وهي كلمة استبدلتها السلطة بكلمة «الشيخ» بعد انتهاء الاحتلال المصري للشام في سنة 1840م.
ناپیژندل شوی مخ