وأما الدعوى الثالثة: وهو أن الأجسام لم تخل من الأعراض المحدثة ولم تتقدمها في الوجود، والمراد بالأعراض التي لم يخل منها الجسم الأكوان الخمسة وهي: الحركة، والسكون، والاجتماع، والافتراق، والكون المطلق، وأما ما عداها من الأعراض فهي على ضربين: ضرب غير باق فيجوز خلو الجسم عنه قبل وجوده وبعد وجوده، وذلك كالصوت والاعتماد. وضرب باق، فيجوز خلو الجسم عنه قبل وجوده في الجسم، فإن وجد لم يجز خلوه عنه إلا لأمر يرجع إلى الجسم وذلك
كاللون فإنه يجوز أن لا يوجد الله في الجسم الذي خلقه لونا، وإن أوجد سوادا مثلا لم يجز أن يخلو ذلك الجسم عن جنس من أجناس اللون، وإن جاز خلوه من السواد، فإذا تحققت هذا فالذي لا يخلو عنه الجسم هو الكون المطلق الحاصل حالة حدوثه، وما عداه فقد تقدم الجسم عليه وإن أمكن الاستدلال به على حدوث الجسم؛ لأن الجسم لم يسبقه إلا بوقت واحد، وقد خالف في ذلك فرقة من الفلاسفة فقالوا بالأكوان وأنها محدثة، إلا أنهم قالوا: إن أصل العالم متغير عنها ثم حصلت بعد ذلك.
وقالوا: إن هيولى الجسم قديمة خالية عن العرض حتى حلتها الصورة، ويريدون بالهيولى أصل الشيء المنزل منزلة الطين من اللبن، وبالصورة ما يحصل من التركيب المنزل منزلة التربيع منه.
قلنا: إن الجسم لا يحصل إلا في جهة بالضرورة فيما نشاهده وبجامع التحيز فيما غاب عنا، ولسنا نعني بالكون أكثر من حصوله في الجهة، ولكن التسمية تغير عليه فيسمى سكونا إن لبث به الجسم أكثر من وقت واحد، أو حركة إذا انتقل به، واجتماعا إذا وجد مع الجوهر غيره وكان بالقرب منه، وافتراقا إذا كان ذلك الغير بالبعد منه.
وأما قولهم: بالهيولى والصورة فإنه باطل؛ لأنهما غير معقولين ولا طريق إليهما، ولأنهما إذا كانا قديمين غير متحيزين لم يكن أحدهما بأن يكون هيولى والآخر صورة، ولا بأن يكون حالا والآخر محلا أولى من العكس لاشتراكهما في القدم.
مخ ۲۲