أما الشمبنزي، وهو أقرب الخمسة إلينا نحن البشر، فيستوي عنده الشجر والأرض؛ إذ هو يتسلق كما يمشي، وهو إفريقي مثل الغوريلا، وهو ينتصب في القامة أو يكاد، ولذلك يتعلم الانزلاج ويمارسه في طرب وخفة، ويعيش مثل الغوريلا في غابات إفريقيا الغربية، وهو يسير جماعات كل منها نحو ثمانية أو عشرة، ويأكل الفواكه، ولا يبالي أن يعيش بجوار القرى، ولكنه إذا أحس أن أحدا يتجسس عليه ترك مكانه إلى آخر، ولا يزيد وزنه على مئة رطل، وهو بالمقارنة إلى الأورانج يعد انبساطيا يفرح بالاجتماع ويلعب وينشط إلى المرح بخلاف الأورانج الذي يعد انطوائيا يعيش منفردا ولا يكاد يعرف معنى للمؤانسة، والشمبنزي سريع إلى التعلم، فهيم يتناول طعامه بالملعقة، وعندما يعاشرنا يكتسب منا أخلاقا بشرية، فإن الندم يبدو عليه عندما يخطئ عمدا أو عفوا، ولكنه عندما يسن يؤثر الانفراد ويتجنب المزاح، وكثيرا ما يصلع، فيتخذ سحنة بشرية.
أما نحن البشر فنختلف الاختلاف الأكبر عن هذه الأربعة المتقدمة من حيث إن حجم الدماغ عندنا أكبر مما هو عندها، وأيضا من حيث إن إبهام اليد تواجه الأصابع ولذلك نحسن القبض والتناول أكثر منها، وقد تركنا الشجر تركا تاما، ولا يقاربنا في هذا سوى الغوريلا ، والقدم عندنا مقنطرة نمشي على أرساغنا ثم نندفع فوق أصابعنا، في حين أن أقدام الأربعة الأخرى مسطحة، ولذلك لا يسهل عليها المشي كما يسهل علينا، لكن أذرعتنا لا تزال طويلة، مما يدل على أننا عشنا كثيرا على الشجر، ودماغنا يكبر دماغ الغوريلا بثلاثة أضعاف، ويجب ألا ننسى أن القامة المنتصبة العمودية عندنا هي التي هيأت لنا حمل هذا الدماغ الثقيل؛ لأننا نحمله حملا عموديا فلا يرهقنا، ولم نكن نستطيع أن نحمله لو كنا نمشي على أربع، والفم والأنف يتراجعان عندنا؛ لأن اليد تقوم بالتناول بدلا من الفم، والأنف أصبح صغير القيمة؛ لأن العين جعلتنا تستغني بالنظر - أو نكاد - عن الشم، وزيادة الحجم في نظر الطبيعة ليست ذات قيمة كبيرة، كما ترى هذا إذا اعتبرت الكلاب، فإن بينها كلب سان برنار الذي يزيد وزنه على ثلاثين رطلا، وكلب لولو الذي قد لا يبلغ رطلا أو رطلين، ودماغنا، وهو أعظم ما يميزنا من هذه الأربعة الأخرى، يزيد أضعاف ما هو عند الغوريلا أو الأورانج أو الشمبنزي، وليس هذا شيئا عظيما؛ لأننا والأورانج سواء من حيث التشريح المخي بلا أدنى اختلاف.
ولنا جميعا وجوه متشابهة، فنحن الخمسة نبدو للعالم بوجوه تتشابه؛ لأن العينين تتقاربان، ولنا أيد للتناول، وجميعنا قد استغنينا عن الأذناب، ولكن ما تبقى من الذنب عندنا أكبر مما تبقى منه عند الأربعة الأخرى، وجميعنا نمشي على أقدامنا بفروق، بعضنا قد ترك الشجر بعض الوقت، وأحدنا «نحن» قد ترك الشجر كل الوقت.
قال هوكسلي: «إن الإنسان يشبه هذه الأربعة الأخرى، كما يشبه كل واحد منها الآخر، وهو يختلف عنها كما يختلف كل واحد منها عن الآخر» ثم يقول: «إن الفروق الجسمية التي تفصل الإنسان من الغوريلا والشمبنزي ليست عظيمة إلى الحد الذي تبلغه الفروق بين القردة العليا والقردة الدنيا».
والفروق بين البشر كبيرة، فإن أنف الزنجي الأفطس وأنف السويدي الأشم يختلفان اختلافا عظيما، وكذلك بشرة الزنجي السوداء وبشرة الأوروبي البيضاء قد أحدث الاختلاف بينهما الثاني للأول آلافا من السنين، والصيني أملط أو يكاد، والأوروبي شعراني وأحيانا نجد على بعض الأجسام البشرية زغبا صوفيا، يكثر في فرنسا وإيطاليا بين الفتيات له لمسة حريرية جاذبة وحبذا الإنسان يعود فيكتسي بهذا الصرف الناعم ويستغني به عن الملابس، وبعض هذه الفروق يمكن تعليله بالمناخ، مثال ذلك أن السويدي أو النرويجي الذي يعيش في مناخ بارد بالقرب من القطب يجب أن يكبر أنفه وتضيق المسالك الداخلية فيه حتى لا يفجأ الهواء البارد رئتيه، أما الزنجي الذي يعيش في إفريقيا الحارة فينفطس أنفه وتتسع مسالكه الداخلية حتى يجتازها الهواء بسرعة وبلا عائق، والهواء الحار يتمدد فيحتاج الزنجي كي يحصل على حاجته من الأكسجين إلى مقدار من الهواء يزيد على المقدار الذي يحصل عليه الأوروبي.
ولكن مع جميع هذه الاختلافات بيننا نحن البشر ما زلنا نوعا واحدا يتفرع إلى سلالات عدة يتم بينها التلاقح ولا يؤدي إلى نسل من «البغال» العقيمة.
والفروق بيننا وبين القردة الأربعة الأخرى كبيرة، وأهمها بالطبع هو المخ، ولكن هذا المخ ما كان ليصل إلى ضخامته الحاضرة بل ما كان لينمو في الذكاء لولا اللغة التي جعلت التفكير الدقيق ممكنا، ولولا اليد التي جعلت الحضارة ممكنة بما لها من إبهام يجيد التناول، فميزتنا الكبرى على القردة الأربعة الأخرى ليست المخ الكبير وإنما هي اللغة واليد.
الدماغ واليد واللسان
وجد البشر، منذ شرعوا يفكرون، أنهم في حاجة إلى الإيمان بغيبيات تقوم مقام الاقتناع بالمنطق؛ لأن وسائل المنطق لم تكن مكملة لديهم، ولذلك سلموا أو آمنوا بأشياء كثيرة، بما أسموه «ما وراء المادة»، ومهما يكن اختلافهم في هذه الغيبيات فإنهم أجمعوا على اتخاذ عقائد ارتضوها ووجدوا فيها طمأنينة أو وسيلة للخير والعدل.
وما دامت معارفنا ناقصة فإن منطقنا يبقى ناقصا، ولذلك نحن نلجأ من وقت لآخر إلى غيبيات نضع فيها البصيرة والحدس مكان التعقل والمعرفة، فنحن مثلا نجد في التطور «نظرية» تقدم البراهين الناصعة على حقيقتها، ولكننا ننظر إليها من زاوية أخرى باعتبارها «مذهبا» لا نعتمد فيه على الحقائق ولكن على العقائد، وليس دستورنا في هذا المذهب هو المنطق ولكنه البصيرة.
ناپیژندل شوی مخ