ومن الجائز أن نمطا آخر كان موجودا في أنف سلف الأورانج، ويصعب التحقق منه بعد انتكاس تركيب الأنف كله في هذا العضو الكبير من أعضاء الحيوانات القردية العليا. وقد عرف أن دم الغوريلا ودم الشمبانزي أقرب استجابة إلى الانفعال بدم الإنسان من جميع الفقاريات. وتبلغ العلامات المشتركة بين الإنسان وكل من الشمبانزي والغوريلا نسبة - إلى سائر العلامات التي أحصيتها - تقدر بثمانية وسبعة أعشار في المائة؛ ولهذا أتوقع أن بقية من بقايا المتحجرات تنكشف يوما في أفريقية تعتبر السلف المشترك بين الغوريلا والشمبانزي والإنسان.
هذه هي العلامات التشريحية التي انتهى إليها أصحاب شجرة النسب من النشوئيين المتأخرين، وما عداها من العلامات ووجوه الشبه لا يعدو أن يكون إعادة لتصوير المشابه العامة التي يلمحها النظر لأول وهلة بغير حاجة إلى تشريح الأعضاء. وقد أحصاها الأستاذ «شابمان بنشر»
في كتابه عن تعليل التطور، ثم عقب عليها قائلا: «إنه لا احتمال لتسلسل الإنسان من القردة كما نعرفها؛ لأن القردة منفردة بتركيب خاص يستحيل تشريحيا أن يتطور منه تركيب الإنسان؛ إذ كان الإنسان قد نما له خلال مليون سنة دماغ أكبر، وقامة أقوم، ويد - فوق هذا وذاك - أصلح للتناول والتصرف بالاستعمال.»
وهذا الفاصل الحاسم هو قصارى مدى الاقتراب بين النوع البشري وسائر أنواع الأحياء بمقياس التطور وعلم الوراثة، يعبر عنه النشوئي فيقول: إنه سبق مليون سنة، ليلحق به مدى الفارق الروحي في تعبير الدين.
التطور قبل مذهب التطور
إن اختلاط الأنساب بين أنواع الحيوان خاطر قديم توارثه الأقدمون من أزمنة مجهولة، وندرت أمة من أمم السلف البعيد لم تتواتر فيها الأخبار والأساطير عن التناسل بين أنواع الحيوان، أو بين الإنسان والحيوان، أو بين الإنس والجن، أو بين الإنس وأرباب الأساطير المشبهين بالإنسان. ومرد هذه الأخبار والأساطير - على الأكثر - إلى جهل الأوائل بوظائف الأعضاء، وجهلهم بالشروط الحيوية التي تلزم للحمل والولادة وإمكان التناسل بين الأزواج المستعدة للتناسل في النوع الإنساني، فضلا عن سائر الأنواع، فكل ما يلد من نوعه صالح عندهم للتوليد من الأنواع الأخرى من الأحياء.
وقد سبق القول بالتطور وتدرج الكائنات كما سبق القول بتحول الأنواع وتناسلها، ولكن لعلة غير تلك العلة مردها - على الأرجح - إلى المفاضلة والترتيب بين الكائنات على حسب حظها من الحياة، أو من مشابهة الأحياء، ثم نشأت علوم الكيمياء والطب والزراعة، فكان للعلم عمله في التفرقة بين المواد الكيمية المعدنية والنباتية والحيوانية، واشترك الأحياء وغير الأحياء في مباحث الكيمياء، ثم جاءت في مباحث المتأخرين مقابلة الكيمياء العضوية بالكيمياء غير العضوية.
ومما يشبه القول بتطور الكائنات وتدرجها قول الفارابي في شرحه لأقوال المعلم الأول من كتاب «آراء أهل المدينة الفاضلة»:
إن ترتيب هذه الموجودات هو أن تقدم أولا أخسها، ثم الأفضل فالأفضل، إلى أن تنتهي إلى أفضلها الذي لا أفضل منه، فأخسها المادة الأولى المشتركة، والأفضل منها الأسطقسات المعدنية، ثم النبات، ثم الحيوان غير الناطق، وليس بعد الحيوان الناطق أفضل منه.
ويذهب الفارابي على هذا الترتيب في التفرقة بين الإنسان والإنسان بمقدار حظه من القوة الناطقة، فيجيز أن يكون بعض أشباه الآدميين بالصورة الجسدية غير محاسبين، أو غير أهل للحياة الأخرى.
ناپیژندل شوی مخ