تمهيد
الكتاب الأول: الإنسان في القرآن
المخلوق المسئول
الكائن المكلف
روح وجسد
النفس
الأمانة
التكليف والحرية
أسرة واحدة
آدم
الكتاب الثاني: الإنسان في مذاهب العلم والفكر
عمر الإنسان
الإنسان ومذهب التطور
التطور قبل مذهب التطور
أثر مذهب النشوء في الغرب
مذهب التطور في الشرق العربي
الدين ومذهب دارون
سلسلة الخلق العظمى
الإنسان في علم الحيوان وفي علوم الأجناس البشرية
الإنسان في علوم النفس والأخلاق
مستقبل الإنسان في علوم الأحياء
عود على بدء
تمهيد
الكتاب الأول: الإنسان في القرآن
المخلوق المسئول
الكائن المكلف
روح وجسد
النفس
الأمانة
التكليف والحرية
أسرة واحدة
آدم
الكتاب الثاني: الإنسان في مذاهب العلم والفكر
عمر الإنسان
الإنسان ومذهب التطور
التطور قبل مذهب التطور
أثر مذهب النشوء في الغرب
مذهب التطور في الشرق العربي
الدين ومذهب دارون
سلسلة الخلق العظمى
الإنسان في علم الحيوان وفي علوم الأجناس البشرية
الإنسان في علوم النفس والأخلاق
مستقبل الإنسان في علوم الأحياء
عود على بدء
الإنسان في القرآن
الإنسان في القرآن
تأليف
عباس محمود العقاد
تمهيد
إنسان القرآن هو إنسان القرن العشرين، ولعل مكانه في هذا القرن أوفق وأوثق من أمكنته في كثير من القرون الماضية؛ لأن القرون الماضية لم تلجئ الإنسان إلى البحث عن مكانه في الوجود كله، وعن مكانه بين الخلائق الحية على هذه الأرض، وبين أبناء نوعه وأبناء الجماعة التي يعيش فيها من ذلك النوع، وبين كل نسبة ظاهرة أو خفية ينتمي إليها، كما ألجأه إلى ذلك كله هذا القرن العشرون.
قديما كان الحكماء يجعلون شعارهم في نصيحة الإنسان: «اعرف نفسك!» وإنها لنصيحة قد ترادف سؤالهم: من أنت؟ أو سؤالهم: ما اسمك؟ غير أن الإنسان إذا أجابه فإنما يجيبه باسم «باطني» يعرفه بملامح وجدانه، وقسمات ضميره، ولا يقف عند تعريفه بالاسم الذي يختار اعتسافا من بضعة حروف.
وهو على أية حال سؤال إلى «شخص» بعد شخص، قد يسمعه عشرون في الحجرة الواحدة ويجيبون عليه عشرين جوابا متفرقات.
وقديما كانوا يزعمون أن أبا الهول كان يلقي سؤاله، فيهلك من لم يعرف جوابه. وكان سؤالا عن الحيوان الذي يمشي على أربع في الصباح، وعلى اثنتين عند الظهيرة، وعلى ثلاث عند المساء، فكان سؤالهم لغزا من ألغاز الأقدمين عن الإنسان في أطوار عمره، بين الطفل الذي يحبو على أربع، والفتى الذي يعتدل على قدمين، والشيخ الذي يتحامل على عصاه. وهو لغز شبيه بطفولة الإنسان كله؛ لا تبتعد المسافة بين جهله وعلمه، ولا بين الهلاك فيه والنجاة.
إلا أن القرن العشرين جمع الأسئلة، فلم يدع سؤالا عن نسبة من نسب الإنسان لم يطلب جوابه، على نذير بالهلاك لمن جهل الجواب، وقد يكون هلاكا للجسد والروح.
ما مكان الإنسان من الكون كله؟
ما مكانه من هذه السيارة الأرضية بين خلائقها الأحياء؟
ما مكانه بين أبناء نوعه البشري؟ وما مكانه بين كل جماعة من هذا النوع الواحد، أو هذا النوع الذي يتألف من جملة أنواع يضمها عنوان «الإنسان»؟
وهي أسئلة لا جواب لها في غير «عقيدة دينية» تجمع للإنسان صفوة عرفانه بدنياه، وصفوة إيمانه بغيبها المجهول، تجمع له زبدة الثقة بعقله، وزبدة الثقة بالحياة؛ حياته وحياة سائر الأحياء والأكوان.
إن القرن العشرين كان حقيقا أن يسمى بعصر «الأيديولوجية»، أو عصر الحياة «على مبدأ وعقيدة»؛ لأنه كلما ألقى على الإنسان سؤالا من أسئلته تلك لم يعفه من جوابه، ولم يسلمه إلى جزاء أهون من جزاء الحيرة عند السكوت عليه؛ فإن يكن سكوتا عن الأجوبة جميعا؛ فهو الهلاك المحدق بالأبدان والعقول.
وليس أكثر من «المبادئ والعقائد» التي نسمع عنها في هذا القرن ويسمونها بالمذاهب و«الأيديولوجيات».
ولكن أجوبة القرن العشرين، مهما يكن من شأنها، فهي أجوبة العصر الذي يحل المشكلة الزمنية ولا يتعداها إلى مشكلة الأبد: مشكلة ما مضى، وما أتى من الدهر، وما يأتي إلى غير نهاية، ولا جواب لهذه المشكلة غير العقيدة الدينية التي تؤمن بها الإنسانية، فلا يغني فيها إيمان فرد واحد بينه وبين ضميره، أو جواب سؤال واحد لمن يقول: من أنت؟ وماذا تعرف من نفسك بين عامة النفوس؟ قصاراك أنك واحد منها بين ألوف الألوف، عاشوا ويعيشون وسيعيشون، ولا يسكتون عن تلك الأسئلة عامة، ولا أمان لهم ولا لك إن سكتوا عليها.
هذه العقيدة الدينية توجد كما ينبغي أن توجد، وإنما الضلالة فيمن يريدها على غير سوائها الذي تستقيم عليه، ولا تستقيم على سواه.
هذه العقيدة الدينية لا توجد اليوم لتنبذ غدا، ولا توجد على الأيام للعارفين دون الجاهلين، وللعاملين دون الخاملين، ولمن يطلبون الخير للناس دون من يطلبون الخير لأنفسهم، ولمن يعتقدون دراية ومحبة دون من يعتقدون تسليما ورهبة، ولمن يسعون سعيهم إلى العلم والإيمان دون من يقعدون في مواطنهم منتظرين، وقد يقعدون وهم يجهلون أنهم قاعدون، ولا يعلمون ما الخبر وما المنتظر، إن علموا أنهم منتظرون!
هذه العقيدة بنية حية، قوامها دهور وأمم، ومعايش وآمال، ونفوس خلقت ونفوس لم تخلق، ونفوس يخلق لها تراثها قبل أن يصير إليها، وسبيلها جميعا أن تتهدى إلى قبلة واحدة: تنظر إليها فتمضي قدما، أو تفقدها في الأفق فهي أشلاء ممزقة، كأنها أشلاء الجسم المشدود بين مفارق الطريق.
إن القرن العشرين منذ مطلعه يعرض العقيدة بعد العقيدة على الإنسان وعلى الإنسانية، ولا نعلم أنه عرض عليها حتى اليوم قديما معادا، أو جديدا مبتدعا هو أوفق من عقيدة القرآن، وأوفق ما فيها أنها غنية عن الاختراع والامتحان، وأنها على شرط العقيدة الدينية من بنية حية شملت ملايين الخلق، وثبتت معهم وحدها في كل معترك زبون يوم خذلتهم كل قوة يعتصم بها الناس. •••
ونحن ندعي في هذه الصفحات أن المنصف بين النصائح لا يستطيع أن ينصح لأهل القرآن بعقيدة في الإنسان والإنسانية أصح وأصلح من عقيدتهم التي يستوحونها من كتابهم، وأن القرن العشرين سينتهي بما استحدث من مبادئ ومذاهب و«أيديولوجيات» ولا ينتهي ما تعلمه أهل القرآن من القرآن، وأن أهل هذا الكتاب يتدبرون القول فيتبعون أحسنه، إذا تدبروا فلم يأخذوا بعقيدة من هذه العقائد التي يروجها دعاتها باسم المادية، أو الفاشية، أو العقلية، ويريدون بها أن تكون على الزمن بديلا من العقائد الإلهية، ومن عقائد الغيب الذي يحسبونه معدوما، أو موجودا كمعدوم.
وقد استمع الناس إلى المادية التاريخية فقالت لهم: إن الإنسان عملة «اقتصادية» في سوق الصناعة والتجارة، تعلو وتهبط في طبقاتها بمعيار العرض والطلب، وصفقات الرواج والكساد. أما الإنسانية فقد أنصتت إلى المادية التاريخية فقالت لها: إنها شيء لا وجود له مع طوائفها التي تخلقها الأسعار والأجور.
واستمع الناس إلى الفاشية فقالت لهم: إن الإنسان واحد من عنصر سيد أو عنصر مسود، وإن أبناء الإنسانية جميعا عبيد للعنصر السيد، والعنصر السيد قبل ذلك عبد للسيد المختار، بغير اختيار.
واستمع الناس إلى «العقلية» فقال لهم قائل منها: إن «إنسانيتهم» كذلك شيء لا وجود له، ووهم من أوهام الأذهان، وإن الشيء الموجود حقا هو الفرد الواحد! وبرهان وجوده حقا أن يفعل ما استطاع من نفع أو أذى كلما أمن المغبة من سائر الأفراد والأحداث.
وغير جديد ما استمعوه من أهل العقائد الإلهية عن مكان هذا الإنسان من الأرض والسماء، ومكانه من إخوته في آدم وحواء.
سمعوا أنه روح وجسد، ودنيا وآخرة، ينجو شطره بمقدار ما يهلك شطره، ويصح له الوجود بمقدار ما صح له من عقبى الفناء.
وسمعوا أنه إنسانان؛ إنسان صحيح مقبول، وإنسان زائف مدخول. صحيح مقبول كل من اجتباه مولاه على هواه، وزائف مدخول كل من خلقه ونفاه، ولعله لم يخلقه ودعاه إليه من دعاه.
وسمعوا أن الإنسان يولد بذنب غيره، ويموت بذنب غيره، ويبرأ من الذنب بكفارة غيره، ويمضي بين النعمة واللعنة بقدر من الأقدار لا نصيب له فيه من عصيان أو طاعة، ومن إباء أو اختيار.
وسمعوا من القرآن غير ذلك، فهم متدبرون يستمعون إلى العقل كما يستمعون إلى الإيمان إذا اطمأنوا وثبتوا على اطمئنانهم إليه.
الإنسان في عقيدة القرآن هو الخليقة المسئول بين جميع ما خلق الله، يدين بعقله فيما رأى وسمع، ويدين بوجدانه فيما طواه الغيب فلا تدركه الأبصار والأسماع.
و«الإنسانية» من أسلافها إلى أعقابها أسرة واحدة لها نسب واحد وإله واحد، أفضلها من عمل حسنا واتقى سيئا، وصدق النية فيما أحسنه واتقاه. •••
وفي الصفحات التالية كتابان في كتاب وجيز، نبدؤهما بعقيدة القرآن، فنعيد هذه الكلمات القلائل في صفحات، ونتلوها بعرض مفيد لتاريخ البحث عن نشأة الإنسان في مذاهب الفكر والعلم، أو مذاهب الحدس والخيال، ولا نزيد في سردها على الإلمام بما يصلح أن يكون محكا للنظر فيما يؤخذ بالبرهان، أو يؤخذ بالإيمان عن حقيقة الإنسان.
الكتاب الأول
الإنسان في القرآن
المخلوق المسئول
ارتفع القرآن بالدين من عقائد الكهانة والوساطة وألغاز المحاريب إلى عقائد الرشد والهداية. لا جرم كان «المخلوق المسئول» صفوة جميع الصفات التي ذكرها القرآن عن الإنسان، إما خاصة بالتكليف أو عامة في معارض الحمد والذم من طباعه وفعاله.
ولقد ذكر الإنسان في القرآن بغاية الحمد وغاية الذم في الآيات المتعددة، وفي الآية الواحدة، فلا يعني ذلك أنه يحمد ويذم في آن واحد، وإنما معناه أنه أهل للكمال والنقص بما فطر عليه من استعداد لكل منهما؛ فهو أهل للخير والشر؛ لأنه أهل للتكاليف.
والإنسان مسئول عن عمله - فردا وجماعة - لا يؤخذ واحد بوزر واحد، ولا أمة بوزر أمة:
كل امرئ بما كسب رهين (الطور: 21).
تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون (البقرة: 134). •••
أما مناط المسئولية في القرآن، فهو جامع لكل ركن من أركانها يتغلغل إليه فقه الباحثين عن حكمة التشريع الديني، أو التشريع في الموضوع.
فهي بنصوص الكتاب قائمة على أركانها المجملة: تبليغ، وعلم، وعمل؛ فلا تحق التبعة على أحد لم تبلغه الدعوة في مسائل الغيب ومسائل الإيمان:
ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون (يونس: 47).
وإن من أمة إلا خلا فيها نذير (فاطر: 24).
وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا (الإسراء: 15). •••
أما العلم فإن أول آية في الكتاب تلقاها صاحب الدعوة الإسلامية كانت أمرا بالقراءة، وتنويها بعلم الله وعلم الإنسان:
اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم (العلق: 3-5).
وأول فاتح في خلق الإنسان كان فاتحة العلم الذي تعلمه آدم وامتاز به على سائر المخلوقات:
وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين * قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم (البقرة: 31، 32). •••
وأما العمل فهو مشروط في القرآن بالتكليف الذي تسعه طاقة المكلف، وبالسعي الذي يسعاه لربه ولنفسه.
لا يكلف الله نفسا إلا وسعها (البقرة: 286).
وأن ليس للإنسان إلا ما سعى (النجم: 39).
فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره (الزلزلة: 7، 8).
ورسل البلاغ هم أول المكلفين بالعلم والعمل، أممهم جميعا أمة واحدة هي «الأمة الإنسانية»، وإلههم جميعا إله واحد هو رب العالمين:
يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم * وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون (المؤمنون: 51، 52).
وفيما ذكر فيه الإنسان من آيات الكتاب وصف له وهو في الذروة من الكمال المقدور له بما استعد له من التكليف، ووصف له وهو في الدرك الأسفل من الحطة التي ينحدر إليها بهذا الاستعداد. وكل هذه الآيات توسع مفصل فيما ورد من نصوص الأمر والنهي، والعظة والتذكير، والثواب والعقاب.
فالإنسان أكرم الخلائق بهذا الاستعداد المتفرد بين خلائق السماء والأرض من ذي حياة أو غير ذي حياة:
ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا (الإسراء: 70).
لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم (التين: 4).
سخر لكم ما في السماوات (لقمان: 20).
سخر لكم ما في الأرض (الحج: 65). •••
ولكنه ينفرد بين الخلائق بمساوئ لا يوصف بها غيره؛ لأن السيئة والحسنة - على السواء - لا يوصف بها مخلوق غير مسئول.
فهذا المخلوق المسئول يوصف دون غيره من الخلائق بالكفر والظلم والطغيان والخسران والفجور والكنود؛ لأنه دون غيره أهل للإيمان والعدل والرجحان والعفاف.
إن الإنسان لظلوم كفار (إبراهيم: 34).
إن الإنسان ليطغى * أن رآه استغنى (العلق: 6، 7).
إن الإنسان لفي خسر (العصر: 2).
بل يريد الإنسان ليفجر أمامه (القيامة: 5).
إن الإنسان لربه لكنود (العاديات: 6).
وقد يذكر بالضدين في الآية الواحدة كما جاء في قوله تعالى:
لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم * ثم رددناه أسفل سافلين (التين: 4، 5).
ونقرأ في بعض التفاسير أن أسفل سافلين هو أرذل العمر، وهو يقتضي أن يكون «أحسن تقويم» هو تقويم الطفل الوليد.
ونقرأ في غيرها أن أسفل سافلين هي الجحيم، فيكون لزاما أن الجنة هي المقصودة بأحسن تقويم.
وفهم الكثيرون أن التقويم الحسن هو الصورة الظاهرة لاعتدال قوام الإنسان، وليس جمال الخلق وحده مرتبطا باعتدال القوام، بل ترتبط به القدرة على العمل والإرادة، وهي قدرة لم تخف علاقتها بصورته الظاهرة قبل عصر التشريح والعلم بوظائف الأعضاء، الذي أثبت العلاقة الضرورية بين اعتدال القامة وجهاز النطق في الرأس والعنق وعمود الظهر وسائر البدن، ثم زاد الناس علما بما يعنيه التقويم الحسن من فضائل العقل والجسد، ومن مزايا الفطنة والجمال.
وإنما المعنى الموافق لسائر معاني الآيات، أن الجمع بين النقيضين في الإنسان ينصرف إلى وصف واحد، وهو وصف الاستعداد الذي يجعله أهلا للترقي إلى أحسن تقويم، وأهلا للتدهور إلى أسفل سافلين.
على أن الآيات التي قصر فيها القول على خلق جسد الإنسان لم تخل مما يوحي إلى المخلوق المسئول أن أطوار خلقه السوي إعداد لما هو أشرف من حياته الحيوانية، وبرهان من براهين التبليغ برسالة الغيب، عسى أن ينظر في الخلق فيرى فيه آثار الخالق الذي لا تدركه الأبصار والأسماع:
ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين * ثم جعلناه نطفة في قرار مكين * ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين (المؤمنون: 12-14).
ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم * الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين * ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين * ثم سواه ونفخ فيه من روحه (السجدة: 6-9).
ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون (الروم: 20).
سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون (يس: 36).
ولا يسأل الإنسان عما يجهل، ولكنه يسأل عما علم، وعما وسعه أن يعلم، وما من شيء في عالم الغيب أو عالم الشهادة هو محجوب كله من علم الإنسان، فما وسعه من علم فهو محاسب عليه.
الكائن المكلف
القرآن كتاب تبليغ وإقناع وتبيين، وقوام هذه الفضيلة فيه هذا التوافق التام بين أركانه وأحكامه، وبين عقائده وعباداته، وبين حجته ومقصده، فكل ركن من أركانه يتنزل فيه بأقداره، ويوافق في تفصيله سائر أركانه التي تتم به، أو يتم بها على قدر مبين.
ليس أتم ولا أعجب من التوافق بين تمييز الإنسان بالتكليف، وبين خطاب العقل في هذا الكتاب المبين بكل وصف من أوصاف العقل، وكل وظيفة من وظائفه في الحياة الإنسانية.
وخليق بالمسلم، وبكل دارس للأديان أن يتنبه إلى هذه الفضيلة التي تحسب لأول وهلة كأنها شيء من الواقع البديهي لا يحتاج إلى التنبيه، ولكن حاجته إلى التنبيه إنما تظهر عند المقارنة بين القرآن وبين جملة من الكتب الدينية الكبرى، في فضيلة التبليغ المقصود، ونعني به التبليغ الذي يراد ويتناسب فيه البيان على حسب الأحكام والأركان.
في كثير من الأديان تقوم عليها دعائم الدين كله، ويرتبط بها نجاة الإنسان من الهلاك أو ضياعه في هاوية المقت واللعنة، ثم تبحث عن هذه الأركان في كتاب الدين فإذا هي معروضة فيه بين السطور، يحيلها المفسرون إلى حكم القرينة، ويجوز لمن شاء أن يحسبها من مصادفات القول يتساوى السكوت عنها والنص عليها.
مثل هذا لا يعرف في حكم من أحكام الكتاب المبين، ولا في ركن من أركانه، بل المعروف فيه على نقيض ذلك: أن تبليغه على قدر فريضته، وأن التوافق فيه على أتمه بين الأركان التي تتلازم وتتكامل عن بيان مقدور لا محل فيه لفرض المصادفة، بل لا محل فيه لتجاهل القصد مع رسالة من رسالات التبليغ.
مكان الإنسان في القرآن الكريم هو أشرف مكان له في ميزان العقيدة، وفي ميزان الفكر، وفي ميزان الخليقة الذي توزن به طبائع الكائن بين عامة الكائنات.
هو الكائن المكلف.
هو كائن أصوب في التعريف من قول القائلين «الكائن الناطق »، وأشرف في التقدير.
هو كائن أصوب في التعريف من الملك الهابط، ومن الحيوان الصاعد، وأشرف في التقدير من هذا وذاك.
ليس الكائن الناطق بشيء إن لم يكن هذا النطق أهلا لأمانة التكليف، وليس الملك الهابط منزلة تهدي إلى طريق الصعود أو طريق الهبوط، وليس الحيوان الصاعد بمنزلة الفصل بين ما كان عليه وما صار إليه، ولا بمنزلة التمييز بين حال وحال في طريق الارتقاء.
إنما الكائن المكلف شيء محدود بين الخلائق بكل حد من حدود العقيدة، أو العلم، أو الحكمة، وحادث من حوادث الفتح في الخليقة موضوع في موضعه المكين بالقياس إلى كل ما عداه.
أي شيء أعجب من هذه الخاصة المحكمة ينفرد بها القرآن بين تعريفات الفلسفة وتعريفات الدعوة الدينية؟!
إنها عجيبة لا يدفع عجبها إلا أن تجري على سنتها من تبليغ الكتاب المبين.
إنها عجيبة لم تأت من مصادفات التضمين والتخمين؛ لأن الكتاب الذي ميز الإنسان بخاصة التكليف هو الكتاب الذي امتلأ بخطاب «العقل» بكل ملكة من ملكاته، وكل وظيفة عرفها له العقلاء والمتعقلون، قبل أن يصبح العقل «درسا» يتقصاه الدارسون كنها وعملا، وأثرا في داخله وفيما خرج عنه، وفيما يصدر منه وما يئول إليه.
العقل وازع «يعقل» صاحبه عما يأباه له التكليف.
العقل فهم وفكر يتقلب في وجوه الأشياء وفي بواطن الأمور.
العقل رشد يميز بين الهداية والضلال.
العقل روية وتدبير.
العقل بصيرة تنفذ وراء الأبصار.
والعقل ذكرى تأخذ من الماضي للحاضر، وتجمع العبرة مما كان لما يكون، وتحفظ وتعي وتبدئ وتعيد.
والعقل بكل هذه المعاني موصول بكل حجة من حجج التكليف، وكل أمر بمعروف، وكل نهي عن محظور.
أفلا يعقلون؟ أفلا يتفكرون؟ أفلا يبصرون؟ أفلا يتدبرون؟ أليس منكم رجل رشيد؟ أفلا تتذكرون؟
إن هذا العقل بكل عمل من أعماله التي يناط بها التكليف حجة على المكلفين فيما يعنيهم من أمر الأرض والسماء، ومن أمر أنفسهم، ومن أمر خالقهم، وخالق الأرض والسماء؛ لأنهم:
يتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا (آل عمران: 191).
أولم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى (الروم: 8).
وقد ننقل تكاليف القرآن جميعا، وننقل عظاته جميعا إذا أردنا الشواهد على هذا التوافق الموصول بين تمييز الإنسان بالتكليف في القرآن، وبين خطابه للعقل والفكر، وتذكيره بالرشد والبصر وسائر ملكات التمييز في مصطلحات الأوائل والأواخر، ولكنها شواهد حاضرة في ذهن كل قارئ لهذا الكتاب، وكل قادر على المقابلة بينه وبين غيره من كتب الأديان، ولو لم يعبر منها غير صفحات معدودات.
ومن تمام التوافق بين أركان التبليغ في هذا الكتاب أن الأمر فيه يجري على هذه السنة فيما أتى به فريدا غير مسبوق عن رسالة النبوة.
إنها الرسالة التي لم تعرف قط في التاريخ البشري قبل تمييز الإنسان بخاصة التكليف، وإعداده لخطاب العقل وبينات الإقناع.
كانت الأمم - قبل البعثة المحمدية - تفهم أن النبوة استطلاع للغيب، وكشف للأسرار والمخبآت، يستعان بها على رد الضائع، وإعادة المسروق أو الدلالة عليه، ويستخبرونها عن طوالع الخير والشر، ومقادير السعود والنحوس. وكان من تلك الأمم من يحسب أن النبوة وساطة بين المعبود وعباده للتشفع إليه بالهدايا والقرابين، وكانوا يطلبون وساطة الأنبياء دفعا للنوازل التي يستحقونها وتنزل بهم؛ لأنها قضاء مبرم يتوقعه الصالحون العارفون، ويسألون المعبود في دفعه قبل نزوله.
فجاءت نبوءة الإسلام بجديد باق لم تسبق له سابقة في الدعوات الدينية، بل لا حاجة بعده إلى جديد ولا استطاعة للتجديد؛ لأنه يخاطب في الإنسان صفته الباقية، وخاصته الملازمة، وهي خاصة النفس الناطقة بين عامة الأحياء، أو خاصة الضمير المسئول الذي يحمل تبعته، ولا تغنيه عنها شفاعة ولا كفارة من سواه.
فهي نبوة فهم وهداية، وليست نبوة استطلاع وتنجيم، وهي نبوة هداية بالتأمل والنظر والتفكير، وليست نبوة خوارق وأهوال تروع البصر والبصيرة، وتروع الضمائر بالتخويف والإرهاب حيث يعييها قبول الإقناع.
إنها نبوة مبشرة منذرة لا تملك لهم نفعا ولا ضرا، ولا تعمل لهم عملا غير ما يعملونه لأنفسهم بمشيئتهم إذا اهتدوا بهداية العقل المتدبر، والضمير السليم:
قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون (الأعراف: 188).
نعم، ولا إغراء ولا مساومة على جزاء بين الأخذ والعطاء:
قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي قل هل يستوي الأعمى والبصير أفلا تتفكرون (الأنعام: 50).
وقد جاءت سمعة المعجزة ميسرة لصاحب هذه النبوة يوم مات ابنه إبراهيم وكسفت الشمس، فظن الناس أنها كسفت لموته، وأبى النبي الصادق أن يسكت عليها، فتكلم ليعلمهم أن الشمس والقمر آيتان لا تخسفان لموت أحد ولا لحياته.
وقد بين للناس أن المعجزة لا تجدي من يكابر العقل، ويأبى الإصغاء إلى بينات الإقناع:
ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون * لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون (الحجر: 14، 15).
ولقد تقدمت نبوة الإسلام دعوات كثيرة من أكبر الدعوات شأنا في تاريخ العقيدة، ولكنك لو عرضتها على مؤرخ ينظر في أدوار التاريخ لم يستطع أن يختتم دور النبوة في تاريخ الإنسانية بدعوة من تلك الدعوات على جلالة شأنها؛ لأنها جميعا قد بدأت وانتهت قبل أن توجد في أذهان الناس فكرة الإنسانية العامة، وفكرة الإنسان المسئول المحاسب على أمانة العقل والضمير.
فنبوات بني إسرائيل لم تزل مقصورة على سلالة بشرية واحدة تنعزل بحاضرها ووعود مستقبلها عن سائر الأمم. وعيسى عليه السلام قد نقل الرسالة نقلة واسعة حين أدخل أبناء إبراهيم بالروح في عداد أبنائه بالجسد، ولكنه أدى رسالته وبقي الإنسان بعده محتاجا أشد الحاجة إلى رسالة تخلصه من الاعتماد على غيره في النجاة من أوزاره، والتكفير عن سيئاته، والنهوض بتبعات صلاحه وتربية روحه.
ولن تفرغ أمانة النبوة في تاريخ الإنسانية قبل أن يوجد الإنسان الذي يخاطب بخطاب العقل، ويحاسب بحسابه، ويحمل تبعاته على عاتقه، ويشترك على سواء بينه وبين إخوانه من البشر في عبادة إله واحد هو رب العالمين، وليس بالرب الذي يخلق نعمته لسلالة واحدة من خلقه، أو لعشيرة واحدة يدركها الخلاص بفضل لم تفضله، وحساب لم تضعه في موازينها بعمل يمينها.
فلما جاءت نبوة التكليف، صح في حكم العقل أن تختم بها النبوة؛ لأنها حاضرة في كل وقت يحضره الإنسان العاقل المسئول، وتحضره آيات الله لقوم يعقلون.
إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون (البقرة: 164). •••
إن قيام النبوة على إقناع العقل المسئول بآيات الكون قد اختتم سلطان الأحبار والقادة، كما اختتم سلطان النبوات بالمعجزات وخوارق العادات، فلا يعذر الإسلام إنسانا يعطل عقله ليطيع السادة والمستكبرين، أو ليطيع الأحبار المتسلطين بسلطان المال والدين:
قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها (النساء: 97).
قال الذين استكبروا للذين استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم بل كنتم مجرمين (سبأ: 32).
يأيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله (التوبة: 34).
اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله (التوبة: 31).
فلا يسقط التكليف عن العاقل أن يطيع المتحكمين بطغيان الحكم أو طغيان الكهانة، ولا يمنعه التكليف أن يسأل من يعلم إن كان لا يعلم؛ لأن طلب العلم يحقق واجب التكليف ولا يعطله أو يلغيه، ويوجب على المتعلم أن يتبين من يسأل وهو مسئول عما يفعل:
وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون (النحل: 43).
فإذا سمي ختام النبوة باسمه الحق في تاريخ الإنسان، فاسمه الحق أنه هو فاتحة عهد الرشد في حياة الإنسانية الخالدة، قبل عهد الرشد الذي أخرجته القرون الوسطى بسبعة قرون.
ومن عبث الجهالة أن يفهم هذا الميقات الجليل فهم العقول الصغار، فلا يعطى حقه من الفهم ولا حقه من التقديس، وتسمع من يفسره في «عصر العلم» فلا يفهم منه إلا أنه «حكر» الأثرة يغلقه النبي على من بعده، ويسيغ هذا السخف وهو صورة لا تقبل التصور عن هذا النبي، كيفما تصوره الناظر إليه على حقيقته أو على دعواه؛ فهذا «الحكر» صنيع لا يصنعه نبي أمر أتباعه بتصديق الأنبياء من قبله، وجهد جهده لينفي سلطان الغيب عن نفسه، ويطرد سمعة المعجزة عن دعوته، وهي طيعة منقادة بين يديه؛ فإن جاز في حقه هذا «الحكر» المغتصب، فهل يجوز في حقه أن يغتصبه من الله، وأن يأمن تكذيب الله إياه، وقدرته على إخلاف دعواه؟
إن اختتام النبوة لا يفهم هذا الفهم الصغير في عقل يطيق أن يدرك الواقع من أمر دعوة عظيمة، ولا شأن عظيم، ولو كان احتكار النبوة باعث النبي إلى دعواه لما دخل فيها ذهاب سلطان الأحبار والولاة، ولا دخل فيها ادعاء النبوة أصلا وهي لا تخول النبي ولا مدعي النبوة أن يحجب المغيب المجهول من مشيئة الله.
ولكن الإيمان بالعقل المسئول هو الباعث البين الذي يفسر ما لم يفسره صغار العقول من اختتام النبوة، واختتام الكهانة، واختتام سلطان الحاكمين على الضمير، وأن انتظامه كله على هذه السنة المتفقة لهو الآية الناطقة بإرادة الله.
روح وجسد
عقيدة الروح إحدى العقائد الغيبية في القرآن، والعقائد الغيبية أساس عميق من أسس التدين تقوم عليه كل ديانة يطمئن إليها ضمير الإنسان، ولكن الفضيلة الأولى في عقائد القرآن الغيبية أنها لا تعطل عقول المؤمنين بها، ولا تبطل التكليف بخطاب العقل المسئول وهو يؤدي حق التمييز، وحق الإيمان والإسلام؛ إسلام الأمر كله إلى الخالق المعبود.
وعقيدة الروح إحدى العقائد «الغيبية» التي نلمس فيها هذه الفضيلة كأنها من حقائق الحس، وإن وجب على العقل الإنساني أن يؤمن بعلمه القليل فيها، وأن يسلم تسليم الإيمان بأنها من علم الله.
ذلك بأن الإيمان بالروح لم يفرض على العقل البشري في القرآن الكريم نقيضة من النقائض التي تشطره بين ضدين متدابرين، ولم يفصم النفس البشرية بفاصم من الحيرة بين الخلقتين: خلقة الإنسان روحا مجهول القوام، وجسدا معروف المطالب والغايات، محسوس اللذات والآلام.
فالروح والجسد في القرآن الكريم ملاك الذات الإنسانية، تتم بهما الحياة، ولا تنكر أحدهما في سبيل الآخر، فلا يجوز للمؤمن بالكتاب أن يبخس للجسد حقا ليوفي حقوق الروح، ولا يجوز له أن يبخس للروح حقا ليوفي حقوق الجسد، ولا يحمد منه الإسراف في مرضاة هذا ولا مرضاة ذاك. وعلى الله قصد السبيل.
والقرآن الكريم ينهى عن تحريم المباح كما ينهى عن إباحة المحرم:
يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين * وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون (المائدة: 87، 88).
والقرآن الكريم يعلم المؤمن به أن يكسب الطيبات من صنع يده، وأن ينفق منها غير مسرف في إنفاقه، وأن ينعم بالطيبات من ثمرات الأرض وخيراتها؛ لأنها نعمة مشكورة لا يحل له أن يجتنبها:
يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض (البقرة: 267).
يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون (البقرة: 172).
ومن تمكين الإنسان في الأرض أن يبتغي فيها معيشته، ويسيم فيها مطيته، وأن يتخذ منها زينته، ويتم بها عدته، ولا يزهد في شيء من خيراتها يخرجه لنفسه، أو تخرجه له الأرض من فضل ربه:
والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون * وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر ولو شاء لهداكم أجمعين * هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون * ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون (النحل: 8-11). •••
بل الزينة للعبادة واجبة كوجوبها لمقاصد الدنيا ومطالب المعيشة، والخطاب في هذا موجه إلى بني آدم؛ لأنها نعمة مرضية من نعم الإنسانية، ومن تمييز الله لهذا الإنسان على سائر الحيوان:
يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين * قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق (الأعراف : 31، 32).
ولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش (الأعراف: 10). •••
فهو من تمكين بني آدم بين خلائق الله، وهو من حق المعيشة الأرضية وواجب الحياة الدنيوية، لا تناقض فيه بين روح وجسد، ولا تنازع فيه بين دنيا وآخرة، ولا فصام فيه للذات الإنسانية يحار فيه العقل وتتمزق به أوصال الضمير.
وقوامه في خطاب التبليغ للإنسان من بني آدم كافة:
وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا (القصص: 77). •••
فليس السعي في سبيل الدنيا ضلالا عن سبيل الآخرة، وليس في القرآن فصام بين روح وجسد، أو انشقاق بين عقل ومادة، أو انقطاع بين سماء وأرض، أو شتات في العقيدة يوزع «الذات الإنسانية» بين ظاهر وباطن، وبين غيب وشهادة، بل هي العقيدة على هداية واحدة تحسن بالروح كما تحسن بالجسد، في غير إسراف ولا جور عن السبيل:
ومنها جائر ولو شاء لهداكم أجمعين (النحل: 9).
إن القرآن الكريم بهذا الإلهام الصادق ينقذ العقل من نقائض التفكير، ولا ينجيه من نقائض التكليف وحسب، أو من نقائض الحيرة بين العالمين في حقائق الدين، ولا مزيد.
فمن ضلال التفكير قديما، أنه ساق كبار العقول إلى ذلك الفاصل المعتسف بين عالم النور والفلك الأعلى، وعالم التراب والأرض السفلى.
كل ما فوق القمر فهو صفاء وطهارة، وكل ما دون القمر فهو كدر ودنس، وكل ما هنالك فهو جوهر خالص، وكل ما دونه فهو عرض مشوب، أو أعراض لا يصفو لها وجود ولو أشرق عليها عالم النور.
وعلى مثل هذا «التفاضل» المسلم به بين النور والتراب، وبين الجوهر والعرض قد دار كل ما دار قديما وحديثا - في الدين والعلم - من عزل أصيل بين الصفاء والكدرة، وبين العقل والمادة، وبين الروح والجسد، وبين النقيضين من النور والظلام.
إن هذا الاعتساف في التفريق بين هذين الوجودين المتقابلين قد عطل العقل زمنا طويلا عن فهم حقائق الحس، كما عطله - ولا يزال يعطله - عن فهم حقائق التكليف وحقائق الأديان.
إن العقل ليعلم اليوم أن ذرات التراب وذرات الضياء من معدن واحد ، وأن الحجر اليابس يتفتت فإذا هو شعاع، وأن الشعاع المنطلق ينعقد ويتقابل فإذا هو حجر، وأن الفيصل بين ضياء الفلك وضياء العقل قائم لا شك فيه، ولكن لا شك كذلك في خفاء هذا الأمر على العلم كخفائه على الإيمان.
فماذا يقول العالمون بالذرة من «المؤمنين» بالمادة دون الروح؟
ماذا يقولون عن عقل «الدماغ»؛ كيف يرى ما لا تراه العين بشعاع الضياء؟ سيقولون علما ما قال به قارئ الكتاب إيمانا حين قيل له عن الروح فسمع وصدق وقلبه مطمئن بالإيمان:
قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا (الإسراء: 85).
النفس
تكلم حكماء اليونان عن العقل والروح والنفس بمعانيها التي تنسب إلى الكون.
وتكلموا عن العقل والروح والنفس بمعانيها التي تنسب إلى الإنسان، ورتبوها على حسب صفائها وعلو جوهرها، فكان العقل عندهم أولها وأشرفها؛ لأن جوهر العقل المطلق هو الله جل شأنه، والعقل الإلهي هو العقل الفعال
المنزه عن المادة والهيولي، وعنه يصدر العقل الإنساني أو العقل المنفعل
، ثم يأتي الروح والنفس بعد ذلك في الصفاء والشرف.
فعندهم أن الروح أقرب إلى عنصر النور، وأن النفس أقرب إلى عنصر الهواء والتراب، ويقول أتباع أفلوطين: إن العقل الإلهي فيض منعم صدر عنه «النفس»، ومنه صدر ما دونها من الموجودات على ترتيب شرفها وصفائها، وهم يذكرون النفس بصيغة المذكر، ويتابعهم في ذلك من كتبوا بالعربية وتابعوهم في مذاهبهم الصوفية.
والروح أرفع من النفس في درجات الوجود ودرجات الحياة عند أكثر حكماء اليونان، فمنهم من ينسب النفس إلى الكائنات العضوية جميعا، ومنها كل نبات ينمو ويلد ويوصف ببعض صفات الأحياء، فمعنى النفس عندهم على هذه الصفة مرادف لمعنى «الحركة الحيوية»، أو معنى القوة التي تجعل أعضاء الجسم الحي مخالفة للأجسام المادية في قابلية النمو والتوليد، ونصيبها من الإرادة أكبر من نصيب الجماد، وأصغر من نصيب الروح؛ فإنها لا تملك الانتقال من المكان الذي هي فيه.
فالعقل والروح والنفس قوى حية على هذا الترتيب من الشرف والصفاء، والإنسان له نصيبه من العقل، ولكنه دون العقل الفعال في جوهره وتنزهه عن المادة والهيولي، وله روح يعلو به على سائر الموجودات، ونفس قد يقترب بها من الكائنات التي تنمو وتلد وتزيد على درجات.
إن هذا الاختلاف بين هذه القوى في مصطلح الحكمة اليونانية، وفي لغة الكتاب المبين يقاس من ناحية إلى كثافة المادة، ويقاس من ناحية إلى المثل الأعلى، وهو الله.
وقد يقاس الكمال في مصطلح الحكمة اليونانية إلى الجوهر بمقدار ارتفاعه، وإلى المادة أو الهيولي بمقدار هبوطه.
ولكن كمال هذه القوى في لغة القرآن مقيس إلى كمال الله جل شأنه؛ فأرفعها وأشرفها ما كان أقربها إلى الصفات الإلهية، وأدناها وأخسها ما كان أبعدها من تلك الصفات.
ومن المقابلة بين هذه القوى، كما ذكرت في الكتاب المبين، قد نتبين أن «الروح» هو أقربها إلى الحياة الباقية، وأخفاها عن المدارك الحسية، وأنه الجانب الذي استأثر الله بعلمه واحتجب عن أنبيائه؛ لأنه سر الوجود المطلق؛ لا قدرة للعقل الإنساني المحدود على الإحاطة به ووعيه إلا بما يناسبه من الإشارة والتقريب:
ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا (الإسراء: 85).
أما العقل والنفس في بيان القرآن الكريم، فالراجح أن النفس أقربهما إلى الطبع أو القوة الحيوية التي تشمل الإرادة كما تشمل الغريزة، وتعمل واعية كما تعمل غير واعية، وتأتي في مواضعها من الآيات الكثيرة مرادفة للقوة التي يدركها النوم، والقوة التي يزهقها القتل، والقوة التي تحس النعمة والعذاب، وتلهم الفجور والتقوى، وتحاسب على ما تعمل من حسنة وسيئة؛ فهي القوة التي تعمل وتريد مهتدية بهدى العقل، أو منقادة لنوازع الطبع والهوى، وتوضع لها الموازين القسط يوم القيامة.
الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها (الزمر: 42).
وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار (الأنعام: 60).
وإذا ذكر قتل النفس «في القرآن» فإنما هو قتل الإنسان أو الناس على حسب الخطاب إلى الفرد أو الجماعة:
من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا (المائدة: 32).
ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما (النساء: 29).
ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم (البقرة: 85).
ولكن الإنسان أعم من النفس؛ لأنه مسئول أن ينهاها:
وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى * فإن الجنة هي المأوى (النازعات: 40، 41).
فجملة هذه القوى من النفس والعقل والروح هي «الذات الإنسانية»، تدل كل قوة منها على «الذات الإنسانية» في حالة من حالاتها، ولا تتعدد «الذات الإنسانية» بأية صورة من صور التعدد؛ لأنها ذات نفس، أو ذات روح، أو ذات عقل، فإنما هي إنسان واحد في جميع هذه الحالات، وهي تعبيرات عنها في جميع اللغات تقضي بها ضرورة الكلام عن كل قوة خفية تدرك أعمالها ولا تدرك مصادرها.
وعلى هذا النحو تكلم الناس عن ملكات العقل والنفس والروح، وعما ينسب إليها من وعي باطن ووعي ظاهر، ومن ضمير ووجدان وخيال وحافظة وبديهة وروية، إلى غير هذه الأسماء التي تتعدد للتمييز بين الأعمال، وإن لم تتعدد في مصدرها المعلوم أو المجهول.
وقد ذكرت النفس في القرآن بجميع قواها التي يدرسها اليوم علماء النفس المتخصصون لهذه الدراسات في موضوعاتها الحديثة.
فقوة الدوافع الغريزية تقابل النفس «الأمارة بالسوء»:
وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء (يوسف: 53).
وقوة النفس الواعية تقابل النفس الملهمة:
ونفس وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها * قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها (الشمس: 7-10).
وقوة الضمير تقابل النفس اللوامة، وهي النفس التي يقع منها الحساب كما يقع عليها، وجاء ذكرها من أجل ذلك مقرونا بيوم القيامة:
لا أقسم بيوم القيامة * ولا أقسم بالنفس اللوامة (القيامة: 1، 2).
ثم ذكرت موصوفة بالإبصار والعلم بمواقع الأعذار:
بل الإنسان على نفسه بصيرة * ولو ألقى معاذيره (القيامة: 14، 15).
وقوة الإيمان والثقة بالغيب تقابل النفس المطمئنة:
يا أيتها النفس المطمئنة * ارجعي إلى ربك راضية مرضية (الفجر: 27، 28).
وفي كل موضع من هذه المواضع تذكر النفس الإنسانية بعامة هذه القوى، فتجمعها خاصة واحدة هي خاصة الإنسان في القرآن، وهي - كما تقدم - خاصة الكائن المكلف المسئول.
كل نفس بما كسبت رهينة (المدثر : 38).
ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا (الأنبياء: 47).
يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا (آل عمران: 30).
إذا السماء انفطرت * وإذا الكواكب انتثرت * وإذا البحار فجرت * وإذا القبور بعثرت * علمت نفس ما قدمت وأخرت * يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم * الذي خلقك فسواك فعدلك * في أي صورة ما شاء ركبك (الانفطار: 1-8).
وإذا النفوس زوجت * وإذا الموءودة سئلت * بأي ذنب قتلت * وإذا الصحف نشرت * وإذا السماء كشطت * وإذا الجحيم سعرت * وإذا الجنة أزلفت * علمت نفس ما أحضرت (التكوير: 7-14).
وجملة ما قيل في معنى «النفوس زوجت» أنها تقرن بمقوماتها وأعمالها، أو تضم إلى أشباهها وقرنائها.
فحساب النفس من حساب الإنسان، ولكن الذات الإنسانية أعم من النفس ومن العقل ومن الروح حين تذكر كل منها على حدة، فإن الإنسان يحاسب نفسه لينهاها عن هواها، ولكن الروح من أمر الخالق الذي لا يعلم الإنسان منه إلا ما علمه الله، ويتوسط العقل بين القوتين، فهو وازع الغريزة، ومستلهم لهداية الروح.
ولعلنا نفقه من هدي القرآن ترتيب هذه القوى في الذات الإنسانية، وعمل كل منها في القيام بالتكليف وتمييز الإنسان بمنزلة الكائن المسئول.
فالإنسان يعلو على نفسه بعقله، ويعلو على عقله بروحه، فيتصل من جانب النفس بقوى الغرائز الحيوانية ودوافع الحياة الجسدية، ويتصل من جانب الروح بعالم البقاء وسر الوجود الدائم، وعلمه عند الله، وحق العقل أن يدرك ما وسعه من جانبها المحدود، ولكنه لا يدرك الحقيقة كلها من جانبها المطلق إلا بإيمان وإلهام.
الأمانة
وردت كلمة الأمانة والأمانات في خمسة مواضع من القرآن الكريم، وكلها بالمعنى الذي يفيد التبعة والعهد والمسئولية، وخصصت هذا المعنى في آية من «سورة البقرة» بوديعة المال وما إليه؛ إذ قال تعالى في سياق وثائق الديون:
يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله
إلى قوله تعالى:
فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته وليتق الله ربه (البقرة: 282-283).
ففي هذه الآية خصصت الأمانة بما يؤتمن عليه المرء من الودائع والديون، ولكننا لا نخرج من الآية بغير التذكير المؤكد بمعنى الأمانة العامة، وهي الحق والفريضة، ومنها حق العلم وفريضته، فلا يجوز لمن علم علما أن ينسى حقه:
ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله (البقرة: 282).
وكل ما ورد في غير سياق الديون والودائع فالحكم فيه عام وإن ورد على سبب خاص؛ لأن مناسبات النزول لا تمنع سريان الحكم والتبليغ إلى جميع المخاطبين بآيات الكتاب، جاء في سورة النساء:
إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل (النساء: 58).
قال الإمام الزمخشري في الكشاف: «الخطاب عام لكل أحد في كل أمانة، وقيل: نزلت في عثمان بن طلحة بن عبد الدار، وكان سادن الكعبة، وذلك أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
حين دخل مكة يوم الفتح أغلق عثمان باب الكعبة، وصعد السطح، وأبى أن يدفع المفتاح إليه وقال: «لو علمت أنه رسول الله لم أمنعه.» فلوى علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - يده، وأخذه منه وفتح، ودخل رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وصلى ركعتين. فلما خرج سأله العباس أن يعطيه المفتاح ويجمع له السقاية والسدانة، فنزلت الآية، فأمر عليا أن يرده إلى عثمان ويعتذر إليه، فقال عثمان لعلي: «أكرهت وآذيت ثم جئت ترفق؟» فقال: «لقد أنزل الله في شأنك قرآنا.» وقرأ علي الآية، فقال عثمان: «أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله.»
ومضى الإمام الزمخشري في تفسير الآية إلى أن قال: «وقيل: هو خطاب للولاة بأداء الأمانات والحكم بالعدل، وقرئ الأمانة على التوحيد.»
وفي الجلالين أن الآية «وإن وردت على سبب خاص فعمومها معتبر بقرينة الجمع».
ويقول الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده: «إن الظاهر أنها نزلت قبل فتح مكة، وأن النبي - عليه السلام - تلاها استشهادا.»
ومن تفسيرات المتأخرين تفسير الجواهر للشيخ طنطاوي جوهري يقول: إن الأمانة «كل ما اؤتمنتم عليه من قول أو عمل، أو مال أو علم، وبالجملة كل ما يكون عند الإنسان من النعم التي تفيد نفسه وغيره»، وإن الخطاب موجه إلى الناس عامة، وإلى الحكام وولاة الأمور.
وكذلك الأمانات والعهد فيما ورد في سورة «المؤمنون»:
والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون (المؤمنون: 8).
فهي تشمل كل ما يرعاه الإنسان من عهد وذمة، وهذا هو معنى الأمانات في سورة الأنفال، وعلى هذا المعنى إجمالا يفهم كل تبليغ خوطب به الناس عامة، وإن تنزلت به الآيات لمناسبة خاصة.
أما الأمانة التي عرضت على الخلق عامة فحملها الإنسان ولم يحملها أحد من خلقه، فهي أعم من المناسبات الخاصة والمناسبات العامة بالنسبة إلى أحكام التبليغ؛ لأن الأمر فيها أمر التكوين والاستعداد بالفطرة التي فطر عليها العاقل وغير العاقل، واستعد له الحي وغير الحي، والمخاطب بالتبليغ وغير المخاطب. وفي هذا الموضع من القرآن الكريم ذكرت هذه الفطرة مقرونة بفطرة الخليقة كلها، وذكرت ومعها صفة الإنسان التي تخصه بين عامة المخلوقات حين يتقبل أعباءها ويحملها، وما كان ليحملها إلا أن يتعرض لتبعاتها؛ فهو ظلوم جهول.
ظلوم لأنه يتعدى الحدود وهو يعرفها، وجهول لأنه يتعدى تلك الحدود وهو لا يعلمها، وعنده أمانة العقل التي تهديه إلى علمها. وما من كائن غير الكائن العاقل يوصف بالظلم والجهل؛ لأنه لا يعرف الحد الذي يتعداه، ولا تناط به معرفة الحدود، وإنما يوصف بالظلم والجهل من يصح أن يوصف بالعدل والمعرفة، ومن يصح أن يسأل عن فعل يريده في الحالين.
قال تعالى:
إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا (الأحزاب: 72).
وذكرت هذه الفطرة الإنسانية في موضع آخر من الكتاب، مع ذكر تكريم الإنسان وولايته زمام الكائنات مفضلا على كثير من المخلوقات، فقال تعالى في سورة الإسراء:
ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا (الإسراء: 70).
و«كثير ممن خلقنا» هذه الآية تشمل كل مخلوق لم يكن أهلا لأمانة الخير والشر، أو لأمانة التكليف بما أودع فيه من فطرة التكوين . •••
ولقد وضح معنى «الأمانة» في هذا الحكم العام وضوحا لا يقبل اللبس أو الانحراف بالفهم عن جوهره المقصود، وهو التكليف، فمن لم يذكره من المفسرين بنصه ذكره بمقتضياته ومتعلقاته، وهي ملازمة له لا تنفك عنه.
وهذه أمثلة من أقوال المفسرين الذين تناقلوا الرواية بالمعنى الذي فهم من كلمة الأمانة منذ صدر الإسلام إلى القرن الرابع عشر للهجرة.
قال الإمام الزمخشري - المتوفى في سنة 528 للهجرة: «يريد بالأمانة الطاعة، فعظم أمرها، وفخر شأنها، ويراد بها الطاعة لأنها لازمة الوجود كما أن الأمانة لازمة الأداء، وعرضها على الجمادات، وإباؤها وإشفاقها مجاز، وأما حمل الأمانة فمن قولك: فلان حامل للأمانة أو متحمل لها، تريد أنه لا يؤديها إلى صاحبها حتى تزول عن ذمته، ويخرج من عهدتها.»
وقال الفيلسوف الفخر الرازي - المتوفى سنة ست وستمائة للهجرة: «
إنا عرضنا الأمانة
أي التكليف، وهو الأمر بخلاف ما في الطبيعة، واعلم أن هذا النوع من التكليف ليس في السماوات ولا في الأرض؛ لأن الأرض والجبل والسماء كلها على ما خلقت عليه: الجبل لا يطلب منه السير، والأرض لا يطلب منها الصعود، ولا من السماء الهبوط، ولا في الملائكة؛ لأن الملائكة وإن كانوا مأمورين منهيين عن أشياء، لكن ذلك لهم كالأكل والشرب لنا، فيسبحون الليل والنهار لا يفترون كما يشتغل الإنسان بأمر موافق لطبعه.»
قال الإمام الفيلسوف في تفسير حمل الأمانة: «لم يكن إباؤهن كإباء إبليس في قوله تعالى:
أبى أن يكون مع الساجدين
من وجهين؛ أحدهما: أن هناك السجود كان فرضا، وها هنا الأمانة كانت عرضا، وثانيهما: أن الإباء كان هناك استكبارا، وها هنا استصغارا؛ استصغرن أنفسهن، بدليل قوله تعالى:
وأشفقن منها ، وقال بعضهم في تفسير الآية: إن المخلوق على قسمين: مدرك وغير مدرك، والمدرك منه من يدرك الكلي والجزئي مثل الآدمي، ومنه من يدرك الجزئي كالبهائم تدرك الشعير الذي تأكله ولا تفكر في عواقب الأمور، ولا تنظر في الدلائل والبراهين، ومنه من يدرك الكلي ولا يدرك الجزئي؛ كالملك يدرك الكليات ولا يدرك لذة الجماع والأكل.
قالوا: وإلى هذا أشار الله تعالى بقوله:
ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء ، فاعترفوا بعدم علمهم بتلك الجزئيات، والتكليف لم يكن إلا على مدرك الأمرين؛ إذ له لذات بأمور جزئية، فمنع منها لتحصيل لذات حقيقية هي مثل لذة الملائكة بعبادة الله ومعرفته، وأما غيره فإن كان مكلفا يكون مكلفا لا بمعنى الأمر بما فيه عليهم كلفة ومشقة، بل بمعنى الخطاب؛ فإن المخاطب يسمى مكلفا كما أن المكلف مخاطب.»
وقال الإمام ابن كثير - المتوفى سنة 774 للهجرة: «عن ابن عباس: يعني بالأمانة الطاعة، عرضها قبل أن يعرضها على آدم فلم يطقها، فقال لآدم: إني قد عرضت الأمانة على السماوات والأرض والجبال فلم يطقنها، فهل أنت آخذ بما فيها؟ قال: يا رب، وما فيها؟ قال: إن أحسنت جزيت، وإن أسأت عوقبت. فأخذها آدم فتحملها، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: الأمانة الفرائض، عرضها الله على السماوات والأرض والجبال؛ إن أدوها أثابهم، وإن ضيعوها عذبهم، فكرهوا ذلك وأشفقوا من غير معصية، ولكن تعظيما لدين الله ألا يقوموا بها، ثم عرضها على آدم فقبلها بما فيها.
قال مجاهد وسعيد بن جبير والحسن البصري وغير واحد: إن الأمانة هي الفرائض، ثم أورد الإمام ابن كثير أقوالا أخرى مروية بأسماء أصحابها، وعقب عليها قائلا: «إنها كلها لا تنافي بينها، بل هي متفقة وراجعة إلى أنها التكليف وقبول الأوامر والنواهي بشرطها.» •••
وجاء في تفسير الإمام السيوطي - المتوفى سنة 911 للهجرة: «
إنا عرضنا الأمانة : الصلوات وغيرها، من فعلها له الثواب، ومن تركها عليه العقاب.»
وقال الإمام محمد جمال الدين القاسمي - المتوفى سنة 1332 للهجرة:
عبر عنها بالأمانة تنبيها على أنها حقوق مرعية أودعها الله تعالى المكلفين، وائتمنهم عليها، وأوجب عليهم تلقيها بحسن الطاعة والانقياد، وأمرهم بمراعاتها والمحافظة عليها وأدائها من غير إخلال بشيء من حقوقها، ومعنى الآية أن تلك الأمانة في عظم الشأن بحيث لو كلفت هاتيك الأجرام العظام - التي هي مثل في القوة والشدة - مراعاتها، وكانت ذات شعور وإدراك؛ لأبين قبولها وأشفقن منها.
أما قوله تعالى:
وحملها الإنسان
أي عند عرضها عليه إما باعتبارها بالإضافة إلى استعداده، أو بتكليفه إياها يوم الميثاق؛ أي تكلفها والتزمها مع ما فيه من ضعف البنية ورخاوة القوة، وهو إما عبارة عن قبوله لها بموجب استعداده الفطري، أو من اعترافه بقوله: بلى، وقوله تعالى
إنه كان ظلوما جهولا
اعتراض وسط بين الجمل، وغايته للإيذان من أول الأمر بعدم وفائه بما عهده وتحمله؛ أي أنه كان مفرطا في الظلم، مبالغا في الجهل، أي بحسب غالب أفراده الذين لم يعملوا بموجب فطرتهم السليمة.
ونقل صاحب تفسير الجواهر زبدة هذه المعاني، ثم نقل تفسير الفيروزآبادي لمعنى حمل الأمانة؛ إذ قال: «فأبين أن يحملنها وحملها الإنسان؛ أي أبين أن يخنها وخانها الإنسان.» قال: «والإنسان هنا هو الكافر والمنافق.» •••
ولا نختم هذه المقتبسات قبل أن نعود إلى الاستدراك الذي بدأناها به، وهو الاتفاق على معنى التكليف، وأن الاختلاف على المذام التي تترتب عليه إنما هو الدليل على معنى الاستعداد الفطري للمذام وما عداها، أو على معنى الوقوع في المذمة بمجاوزة حدود التكليف ظلما مع العلم بها، وجهلا مع القدرة على التعلم والاسترشاد في أمرها.
إلا أن معنى الاستعداد الفطري لا يخفى إذا روجعت الآيات التي ورد فيها ذكر صفات «الإنسان» بمعنى جنس الإنسان؛ فإنه يذكر بهذه الصفات في مواضع كثيرة مع ذكر آيات التكوين والخلق وتصريف قوى الطبيعة، فقد ذكر تكريم بني آدم مع السلطان على البر والبحر والزرع والضرع والتفضيل على كثير من خلائق الله، وذكر ظلم الإنسان وجهله مع انفراده بالفطرة المستعدة للتكليف بين خلق السماوات والأرض، وذكر في غير هاتين الآيتين بقوله للخير والشر مع الإيمان بالجزاء، والتذكير بخلق الليل والنهار، وخيرات الأرض، وحساب الأفلاك، ومن ذاك - وفيه الإشارة إلى أمثاله من الآيات:
ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا * وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة أعتدنا لهم عذابا أليما * ويدع الإنسان بالشر دعاءه بالخير وكان الإنسان عجولا * وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب وكل شيء فصلناه تفصيلا (الإسراء: 9-12).
فقد ذكرت هنا فطرة الاستعداد للخير والشر مع ذكر الإيمان بالجزاء وتصريف الليل والنهار، وعجلة الإنسان على حساب العواقب، وهو أهل للحساب، حساب الشاهد والغائب، وحساب النور والظلام، وحساب السنين والأيام.
التكليف والحرية
من شروط التكليف طاعة وحرية.
وهذه بديهية يغفل عنها كثير من المجادلين في قضية القدر، وفي قضية الإيمان، وفي قضية التكليف والجزاء، فيقصرون النظر على شرط الحرية، ويهملون شرط الطاعة كأنه مناقض للجزاء، وكأنه من اللازم عقلا أن يكون الجزاء مقرونا بالحرية المطلقة، وهي في ذاتها استحالة عقلية بكل احتمال يخطر على البال في فهم خلق الإنسان؛ فمن بحث عن الإيمان بالتكليف غير ناظر إلى شرط «الطاعة»، فلا جرم يضل عنه ولا ينتهي فيه إلى قرار؛ لأنه يبحث عن شيء آخر ولا يبحث عن التكليف ولا عن الإيمان.
في القرآن خطاب متكرر إلى العقل، وبيان متكرر لحساب الإنسان العاقل على الخير والشر، مع إسناد الإرادة إليه في استحقاقه للثواب والعقاب.
وفيه آيات صريحة تسند الإرادة إلى الله، وتقرر أنه - سبحانه وتعالى - هو الخالق المقدر الذي يقدر الهداية والضلال، ويعطي كل شيء خلقه ويهديه، وهي آيات كثيرة مقصودة بالتكرار، وإن لم تبلغ في الكثرة عدد آيات الخطاب والتكليف، وآيات التذكير بالعقل والنظر والتمييز والتفكير.
فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم (البقرة: 213).
قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين كما بدأكم تعودون * فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة (الأعراف: 29، 30).
سبح اسم ربك الأعلى * الذي خلق فسوى * والذي قدر فهدى (الأعلى: 1-3).
وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وهو العزيز الحكيم (إبراهيم: 4).
يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء (إبراهيم: 27). •••
وكثرة الآيات بهذا المعنى تبعد عن الذهن أن يكون فيها مجال للتأويل بغير معناها الظاهر على اختلاف العبارة والمناسبة، فمعناها الظاهر الذي لا تأويل فيه أن الله - سبحانه وتعالى - هو الفعال لما يريد، الذي يخلق عباده ويخلق ما يعملون.
أفي هذا تناقض في حكم العقل إذا نظرنا إلى الأمر كله نظرة المعقول، ولم نقصر النظر إلى النصوص أو إلى واجب الاعتقاد بمقتضى هذه النصوص؟
إن الرجوع بالقضية إلى أسسها المحتملة على كل احتمال ينفي التناقض، ويرينا كيف يكون هذا الاعتقاد «حلا للمشكلة» من أسسها المفروضة جميعا، وخروجا من التناقض الذي يلزمها على كل احتمال غير هذا الاحتمال.
وليكن الإنسان روحا وعقلا خلقه الله، أو يكن تركيبا عارضا من تراكيب المادة لم يخلقه أحد، على قول المؤمنين بالمادة مجردة من الفكر والإرادة.
وليكن التكليف إرادة من عند الله، أو يكن ضرورة من قضاء الواقع لا يرتبط بها أمر ولا جزاء.
فكيف يتصور العقل إرادة الإنسان على كل احتمال؟
إنه لا يتصورها إرادة مطلقة من جميع القيود؛ لأن إرادة إنسان واحد تنطلق بغير قيد هي قيد لكل إنسان سواه، وكيف يأتي هذا الإنسان الواحد بإرادته المطلقة منفردا بها بين أمثاله المقيدين؟
أما أن يوجد الناس جميعا بإرادة مطلقة لكل منهم على سواء، فهذه هي الإحالة العقلية في الفرض والتقدير قبل الوصول بها إلى الإيجاد والتحقيق.
فإذا كانت الإرادة المطلقة هي إرادة الله، فخلق الناس مكلفين بغير إرادة لهم شيء غير معقول وغير مقبول؛ لأن سقوط التكليف لا معنى له في هذه الحالة إلا أن يخلق الناس جميعا متشابهين متماثلين متساوين في العمل الصالح الذي يساقون إليه كما تساق الآلات، فلا فضل إذن للعاقل على غير العاقل، ولا تمييز للإنسان على الجماد المجرد من الحس، فضلا عن الحيوان.
فإذا وجب تكليف الإنسان، فالعقل الإنساني لا يوجبه إلا كما ينبغي أن يوجب على حالة واحدة لا سواها، وهي حالة الإرادة المخلوقة يودعها فيه الخالق كما ينبغي أن تودع، وهي لا ينبغي أن تودع إلا على هذا الفرض الذي يدعو إليه القرآن.
إن الحرية المخلوقة حرية صحيحة كما ينبغي أن تكون في احتمال العقل المدرك المميز الذي يهتدي بإذن الله لما اختلفوا فيه.
ولا يقال: إن الحرية التي تخلق ليست بحرية؛ فإن الحرية غير القيد، سواء كانا مخلوقين أو مطبوعين، وسواء كانا من عالم الروح أو من عالم المادة عند التمييز بينهما، كما تتمايز قيمة المعدن نفيسا وغير نفيس، وكلاهما مخلوق أو مصنوع؛ فإن صنعنا للآنية الذهبية وللآنية النحاسية لا ينفي نفاسة الأولى، ولا يسوي بين الآنيتين المصنوعتين، وليس في العقل شيء يسمى حرية مطبوعة تعلو على الحرية المخلوقة بالانطلاق من جميع القيود؛ لأن الانطلاق من جميع القيود غير معقول وغير موجود. •••
وإذا وجدت للمخلوقات العاقلة حرية أو وجدت لها إرادة، فلنرجع إلى العقل لنرى كيف يتصورها العقل - أي عقل - وكيف تكون على احتمال واحد دون كل احتمال.
إنها لا تكون سواء في كل إنسان؛ لأنها إذا امتنع فيها خلاف القوة لم يمتنع فيها خلاف الزمن والعمر، ولا خلاف المكان والجسد، ولا خلاف الصغر والكبر، ولا خلاف الحركة والجمود.
وإذا امتنع فيها كل هذا الخلاف فليست هي بشيء؛ إذ ليست الموجودات التي لم تتمايز ولم تتنوع بأشياء يقبلها التصور، بل هي عدم ينقطع عن الوجود، أو كائن لا تمييز فيه ولا تكليف، ولا حسنة ولا سيئة، ولا ثواب ولا عقاب.
فإذا وجد المخلوق حرا ذا إرادة، فلا وجود له إلا بهذا الاختلاف في حكم العقل كيفما كان حكم النصوص.
وإذا قضى العقل بهذا دون سواه، فالعقل هو الذي يتصور إرادة الله وإرادة الإنسان على احتمال واحد دون سواه.
وحكم الإيمان هنا وحكم العقل متماثلان؛ إذ كان كل ما عدا حرية «الإيمان» فرضا غير معقول، بل غير موجود. •••
ونحن إذن في حل من القول بكفاية العقل وحده لتلقي خطاب التكليف؛ إذ كان المؤمن والفيلسوف معا يذهبان بالعقل بين نقائض الفروض، فلا يستقران على فرض ممكن أو صالح غير اعتماد التكليف على العقل، واعتماد العقل على الإيمان، والإنكار الجزاف يوقع العقل في نقيضين، وهو تعطيل للعقل أفضل له من كل تعطيل.
وإنما تساورنا الحيرة في مسائل الإيمان عامة من خطأ شائع يوهم أناسا من المتدينين والمنكرين: أن الإيمان على الدوام تسليم بما يأباه العقل وبما يتقبله - إذا تقبله - وهو مغمض العين، مكتوف اليد، يتساوى منه النظر وترك النظر، بلا اجتهاد ولا محاولة ولا موازنة بين ما يجوز وما يمتنع كل الامتناع.
هذا إيمان يلغي العقل ويلقي به بعيدا إلى طرف التصديق بغير سؤال ولا انتظار جواب؛ فإما عقل ولا تصديق، وإما تصديق ولا عقل: ضدان لا يجتمعان. •••
والفرق بعيد بين الإيمان الذي يلغي العقل، والإيمان الذي يعمل فيه العقل غاية عمله، ثم يعلم من ثم أين ينتهي وأين يبتدئ الإيمان.
إن الإيمان هنا نتيجة لعمل العقل غاية جهده، وليس نتيجة لإهماله وإبطال وجوده.
والعقل يستطيع أن يصل إلى هذه النتيجة، فتلزمه حجة الدعوة إلى التصديق بالغيب المجهول.
والعقل يستطيع أن يعلم بضرورة الإيمان؛ لأن إنكار هذه الضرورة نقيضة عقلية، وليس بنقيضة للدين والعقيدة وحسب، ولا سبيل للعقل إلى الإيمان بموجود كامل مطلق الكمال يصح أن يؤمن به غير الاعتراف بضرورة هذا الإيمان ولزومه - منطقا - قبل لزومه لهداية الضمير.
فالموجود الذي يصح أن نؤمن به هو وجود كامل أبدي ليست له حدود.
والموجود الذي ليست له حدود لا يحيط به إدراك العقل المحدود.
فما النتيجة اللازمة لهذه الحقيقة التي لا شك فيها؟
هي إحدى اثنتين: إما إنكار جزاف، وإما تسليم بحقيقة تفوق إدراك العقول.
الإنكار معناه أن سبب الإيمان الوحيد يكون هو السبب الوحيد لكل تعطيل.
والإنكار الجزاف يوقع العقل في نقيض، وهو تعطيل للعقل أفضل له من الإنكار. •••
إن الموجود السرمدي الكامل المطلق الكمال هو الإله الذي نريده بالإيمان، وهذا هو حقه في إيمان العقلاء بوجوده وربوبيته.
ولكن العقل المحدود لا يحيط بالوجود المطلق الذي ليست له حدود.
أفيقول العقل إذن: لا إيمان بهذا الموجود المطلق؛ لأنه الموجود الذي يصح في العقل أن نؤمن به ونبحث عنه، ولا يصح في العقول إيمان بغيره؟
العقل لا يقول هذا.
والعقل إذا قال بضرورة الإيمان على هذه الصفة، وبهذا الحق، لم يكن قد ألغى عمله وأبطل وجوده، بل هو يبلغ بذلك غاية عمله، فهو عقل يزيد عليه إيمان.
إن العقل الذي يزيد عليه الإيمان هو العقل الذي خاطبه القرآن بالتكليف، أو هو العقل المؤمن الذي تعنيه النبوة بالتذكير والتبشير، وهو المسئول أن يستمع إلى النبي المرسل من عالم الغيب، فلا معذرة له بعد حجة الغيب والتسليم، وبعد حجة الشهادة والتفكير. •••
ومع التسليم بهذا الموجود الكامل، لا يعرف عقل الإنسان تكليفا غير التكليف الذي بسطته نصوص القرآن، فلا معنى للتكليف أصلا إن لم تكن فيه طاعة وحرية، ولا معنى للحرية من وراء إرادة الخالق وإرادة المخلوق.
أسرة واحدة
خيل إلى علماء القرن السابع عشر من الغربيين أنهم مطالبون بتغيير كتاب العلم من الألف إلى الياء، وأن تعريف شيء من الأشياء بأنه من عقائد القرون الوسطى كاف لرفضه ولإعادة بحثه، ثم إعادته إلى الاصطلاح بمدلول جديد.
وأول هذه التعريفات المتبدلة تعريف الإنسان حسب موضعه من هذا العالم؛ لأن الإنسان لم يزل في كل عصر، وفي كل علم، وفي كل عقيدة مقياسا لما عداه من خلائق هذا العالم، بل مقياسا للعالم أجمع، يتبدل النظر إليه كلما تبدل النظر إلى الوجود بأسره.
ولم يتبدل النظر إلى مركز الكرة الأرضية من الأجرام السماوية، حتى خيل إلى كثير من الفلكيين والجغرافيين أن حقائق السماوات والأرضين قد تغيرت؛ لأن الكرة الأرضية مركز الإنسان.
وقد أعيد النظر إلى مكان الإنسان من الخليقة كلها، فوضعه علماء الحيوان بموضع واحد مع طبقة الأحياء التي عرفوها باسم الأوائل
وهي في الذروة من طبقات الحيوان اللبون.
وأعيد «تصنيف» هذا النوع الحيواني، فذهب بعضهم بعيدا في تقسيمه إلى عناصر، وإلى الرجوع بكل عنصر منها إلى نوع من القردة الأوائل، كما سيجيء في الكلام على آراء النشوئيين القائلين بالتطور والارتقاء.
والذين قالوا: إنه نوع واحد لم يرتابوا في تقسيمه إلى «عناصر» أو سلالات تكاد - لولا التناسل فيما بينهما - أن تعتبر أنواعا مستقلة بتراكيب أبدانها وعقولها، بل قال بعضهم: إن تجارب العلم لم تثبت إمكان التناسل بينها، ولم تنف إمكان التناسل بين بعضها وبعض أنواع القردة المشابهة للبشرية، ويجب أن نتمهل قليلا قبل التحقق من أن السلالات الإنسانية كلها قابلة للتوالد فيما بينها، كما يتوالد ذكور الحيوان وإناثه من النوع الواحد بغير عائق للنمو في دور الحمل ودور الطفولة.
والذين قنعوا باختلاف العناصر والسلالات لم يقنعوا بالقليل من فوارق هذا الاختلاف؛ فمنهم من كاد يجعل السلالة «الآرية» نوعا «سيكولوجيا» يضارع النوع «البيولوجي» في الاختلاف، وفي قابلية «التفاهم» والتعامل و«تناسل» العواطف والأفكار.
وعادوا بعد الحرب العالمية الثانية إلى التراجع السريع في هذا «التصنيف»، الذي خيل إلى أصحابه قبل جيل واحد أنه حقيقة واقعة تستغني بالنظر عن البرهان، وما كانوا ليسرعوا هذا الإسراع في التراجع لولا بلاء «الإنسانية» بعواقب ذلك «التصنيف» الوبيل؛ لأنه التصنيف الذي سوغ لعنصر من العناصر أن يستبيح السيادة على الأمم عنوة، وأن يستكثر حق الآدمية على تلك الأمم التي لم يدخلها معه في قرابة الإنسان للإنسان.
فمن كبار علماء الأنواع في العصر الحاضر من يقول، كما جاء في كتاب «قرن من مذاهب دارون»: «إن التفرقة بين عناصر النوع الإنساني اعتساف أو توسع في التعبير، فقد نقسم النوع الإنساني إلى عنصرين كبيرين يسكن أحدهما في القارتين الآسيوية والأوروبية والأمريكتين، ويسكن الآخر في أفريقية وبلاد الملايا والقارة الأسترالية، فإذا أردنا المزيد من الحصر، فقد نقسمها حسب الألوان إلى بيضاء وصفراء وحمراء وسوداء وسمراء، ونزيد حصرا فنبلغ بها ثلاثين، ولا يمنعنا أن نجعلهم مائتين إلا صعوبة التفاهم على هذا التقسيم.» •••
فحوى هذا أن فوراق العناصر فوارق أسماء وعناوين، وأن «الإنسان» أسرة واحدة على تعدد أبنائها، وتعدد أقسامها، واختلاف الألقاب اللغوية التي تطلق على تلك الأقسام. •••
فحوى هذا أن القرآن قد وضع الإنسان - علما ودينا - في موضعه الصحيح، حين جعل تقسيمه الصحيح أنه «ابن ذكر وأنثى»، وأنه ينتمي بشعوبه وقبائله إلى الأسرة البشرية التي لا تفاضل بين الإخوة فيها بغير العمل الصالح، وبغير التقوى.
يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير (الحجرات: 13).
وقد نسميهم باصطلاح الأسماء «أمما» كثيرة كلما تباعدت بينهم المواطن، وتحيزت بهم الحدود، وتشعبت بينهم العقائد واللغات، ولكنهم قبل هذا الاختلاف أمة واحدة لها إله واحد: هو رب العالمين. •••
فإذا كانوا قد تعددوا شعوبا وقبائل كما جاء في الآية الشريفة، فإنما كان هذا التعدد أقوى الأسباب لإحكام صلة التعارف بينها، وتعريف «الإنسانية» كلها بأسرار خلقها؛ فإن تعدد الشعوب والقبائل يعدد المساعي والحيل لاستخراج كنوز الأرض، واستنباط أدوات الصناعة، على حسب المواقع والأزمنة، وعلى حسب الملكات والعادات التي تتفتق عنها ضرورات العيش والذود عن الحياة، فينجم عن هذا ما لا بد أن ينجم عنه من تعدد الحضارات، وأفانين الثقافة، وتزداد «الإنسانية» عرفانا بأسرار خلقها، وعرفانا بخالقها، واقترابا فيما بينها، وتضطر إليه اضطرارا لما تحسه من اشتباك منافعها، وسريان الضرر من قريبها إلى بعيدها:
ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين (الروم: 22).
وهذا هو حكم القرآن في وحدة بني الإنسان، وفي تدعيم هذه الوحدة بما يحسبه الناظر المتعجل بابا من أبواب الإفراق والتباين، وهو تعدد الشعوب والقبائل واختلاف اللغات والألوان:
وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم فيما فيه يختلفون (يونس: 19).
كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين (البقرة: 213).
ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين (هود: 118).
ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات (المائدة: 48).
إن هذه الوحدة في صلة الإنسان مشدودة الأزر بالوحدة بين الناس كافة في الصلة بالله - ربهم ورب العالمين - الذي يسوي بينهم، ويدينهم بالرحمة والإنصاف، ثم لا يقضي بينهم فيما اختلفوا فيه إلا بقسطاس العدل، أيهم أحسن عملا وأقرب إلى التقوى واستباق الخيرات:
وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم (البقرة: 163).
قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا (الكهف: 110).
إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون (الأنبياء: 92).
قل إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فهل أنتم مسلمون (الأنبياء: 108).
ولقد كان من الحق في ذمة العلم أن يتريث علماء المقابلة بين الأديان طويلا عند هذه المرحلة العظمى في تاريخ العقيدة، وفي تاريخ الفكر، وفي تاريخ القيم الأخلاقية، بل في تاريخ الحياة الإنسانية من مطلعها، في ظلمات الماضي المجهول، إلى هذا الأوج السامق الذي ارتفعت إليه بعد ألوف السنين، وما كانت لترتفع إليه بعمل ولا عقيدة غير العقيدة في رب واحد هو رب العالمين.
إنها لم تكن كلمة في موضع كلمة، ولم تكن صفة من صفات التقديس بديلا من صفة مثلها، ولم تكن رمية من غير رام على لسان ناسك ذاهل يقول في تسبيح المعبود كيف يقول.
إنها لم تكن لفتة من لفتات الساعة تهيم بالنظر الشارد في تيه من السحر والكهانة، ثم لا تبالي أن تعود إلى خلفها كما تعود إلى أمامها على غير هدى.
لو كانت كذلك لذهبت في غمار الكلمات والأوهام، ولم يبال من لفظ بها أو استمع إليها أن يعيدها مرتين.
ولكنها كانت قبلة يستقبلها الإنسان على سواء لم يكن بالغه لو لم يعتدل إليه في مطلع الطريق، وهيهات - على غير هذه القبلة - أن ينتظم للإنسان مسلك معقول إلى الرشد والضمير.
إن قيم الأعمال والأخلاق لا قوام لها مع الإيمان برب هو رب هذا القبيل أو هذا الشعب، بين من خلق الله من قبائل لا يختارها وشعوب لا ينظر إليها.
وإن هذه القيم لغو عند أناس يحيق بهم الذنب وما اقترفوه، ويهبط عليهم الغفران وما صعدوا إليه، ويتقلبون بين النقمة والنعمة بغير جريرة من إثم، وبغير شفاعة من توبة، وبغير نية للإساءة ولا نية للتكفير.
إن العالم الإنساني كلمة غير مفهومة عند من يدين برب غير رب العالمين، وإن قيم الأخلاق كيل جزاف حين تنقطع الأسباب بين الحسنات والسيئات، وبين الثواب والعقاب، وإن «الإنسانية» الجامعة شيء لا وجود له قبل أن يوجد «الإنسان المسئول».
وإنما توجد «الإنسانية الواحدة»، ويتساوى الإنسان والإنسان مع الإله الواحد الأحد، رب الناس ورب العالمين أجمعين، أفضلهم عنده أتقاهم وأصلحهم وأسبقهم إلى الخيرات.
وما التقوى؟
التقوى كلمة واحدة تجمع كل وازع يزع الضمير.
وأقدر الناس على أمانة التقوى أقدرهم على النهوض بالتبعة، وأعرفهم بمواضع المعروف والمنكر، والمباح والمحظور.
والإنسان التقي مرة أخرى هو الإنسان «الإنسان».
ما هذه التقوى التي يتعلق بها كل فضل للإنسان عن رب العالمين؟
لو شاء فلاسفة الأخلاق لعلموا ما هي هذه التقوى، وعلموا حقا أن موازينهم جميعا لا تحسن الترجيح بين فضل وفضل، وبين قدرة وقدرة كما تحسنه هذه «التقوى» التي يحسبونها «تسبيحة» من تسابيح المعابد، ويخيل إليهم أنها أفشل من أن تنفع العالم المحقق في مقام الموازنة والتفضيل، فليس بين فاضل ومفضول قط من رجحان غير رجحان الأفضل في القدرة على التبعة، بما طاب لهم من ألوان التبعات.
هي موضع الرجحان للعالم على الجاهل، وللرشيد على القاصر، وللذكي على الغبي، وللقادر على العاجز، وللمهذب على الفدم، وللمجدود على المحروم، وللغني على الفقير، وللسيد على العبد، وللحاكم على المحكوم، ولصاحب الخلق المكين على صاحب الخلق الهزيل، ولكل فاضل - بالإيجاز - على كل مفضول، وما من ميزان آخر ينفع فلاسفة الأخلاق في طائفة من هذه الخصال إلا خذلهم في طائفة غيرها، بل في أكثرها وأحوجها إلى الموازنة والتفضيل.
فليست «جملة» الإنسان ماثلة في تفضيل العلماء على الجهلاء، أو الراشدين على القصر، أو الأذكياء على الأغبياء، أو غير هؤلاء على غير هؤلاء من الفاضلين على المفضولين؛ فإن العالم يفضل الجاهل بالعلم ولا مراء، ولكنه قد يئوب مفضولا عند المقابلة بينهما في باب من أبواب الخبرة، أو نزعة من نزعات الفطرة.
وهكذا كل راجح وكل مرجوح بميزان المال أو النسب أو الخلائق والعادات، ولكننا إذا حكمنا بأن إنسانا يفضل إنسانا بالقدرة على تحمل التبعات، فهو الراجح لا مراء في كل ميزان من موازين المفاضلة بين بني الإنسان، وكل قيمة تحسب للإنسان فهي داخلة في هذا الحساب، فإن جاز أن تهمل ويبقى الإنسان بعدها أهلا للرجحان بالتبعات؛ فهي مهملة حقا ولو كان لها شأنها في غير هذا الإنسان.
إن أكرمكم عند الله أتقاكم (الحجرات: 13).
صدق الله العظيم، إنه لهو القسطاس الذي ينشئ «للإنسانية» حقوق المساواة بين أبنائها دينا وعلما، وفلسفة وشريعة، وإلهاما من الوحي الإلهي، وتمحيصا من البديهة الإنسانية.
ومكان الوحي الإلهي في هذه المساواة أنها قد شرعت للإنسان شريعتها حقا من حقوق الخلق والتكوين، ولم تشرعها له وسيلة من وسائل الحكم، وإجراء من «إجراءات» السياسة في إبان الخطر المطبق خيفة من ثورة النفوس، وتنافسا على عدد الأصوات في معارك الانتخاب؛ فإن أحدا ممن خولهم القرآن تلك المساواة لم يطلبها، ولم يكن لينالها قبل أن تنزل عليه من وحي رب العالمين، ولكنها لم تنشأ في حضارة من حضارات العالم القديم أو الحديث إلا كان وراءها حيلة، أو وسيلة سياسية، أو مراوغة تمليق وتسكين.
ولولا حروب أثينا وإسبارطة، وحروب رومة وفارس، وحروب الأمم في القرن العشرين، لما سمع «ديموس» بشيء يسمى الديمقراطية، ولا رضخ «الديموقراطيون» المتأخرون بشيء لذوي المعاول والمناجل، أو لذوي الألوان المجندين للمصانع والمعسكرات، ولا سمع العالم بمساواة بين بني آدم لا فضل فيها لأحد منهم على أحد بغير العمل الصالح وتقوى الله.
آدم
قصة آدم عليه السلام في القرآن هي قصة الإنسان الأول.
خلق من تراب، وارتقى بالخلق السوي إلى منزلة العقل والإرادة.
وتعلم من الأسماء فضلا من العلم ميزه على خلائق الأرض من ذي حياة وغير ذي حياة.
وقضي له أن يكسب فضله بجهده، وأن يكون جهده غلبة لإرادته، وانتصارا لعقله على جسده.
وقصة هذه النشأة الآدمية يستوفيها القرآن في هذه الآيات:
ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين (المؤمنون: 12).
ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم * الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين * ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين * ثم سواه ونفخ فيه من روحه (السجدة: 6-9).
وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من صلصال من حمإ مسنون * فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين * فسجد الملائكة كلهم أجمعون * إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين (الحجر: 28-31).
وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون * وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين * قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم * قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون * وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين * وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين * فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين * فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم * قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون (البقرة: 30-38).
هذه قصة «نشأة آدم» في القرآن.
وهي إحدى قصص الخلق والتكوين، وفي هذه القصص جميعا من أمر الغيب ما هو حق الإيمان، وفيها من أمر الحياة الإنسانية ما يسعه خطاب العقل، ويتقبله بعلم منه يوافق الإيمان، وهو العلم بقيم الحياة، أو العلم «بالقيم» العليا في حياة الإنسان وسائر الأحياء.
ولباب القيم جميعا أن الفضيلة العليا إرادة وتجربة، وليست منحة يبطل فيها التصرف، ويمتنع فيها التمييز.
فإذا جردنا من عالم التصور مخلوقا يعقل، ولكنه يحسن ويعجز عن الإساءة لأنه مصروف عنها، ومخلوقا تأتي منه الحسنة كما تأتي منه السيئة لأنه لا يميز بينهما ولا يريدهما، ومخلوقا تكلفه الحسنة جهدا ويريدها لأنه يعرف فضلها، ويصبر على المشقة في سبيلها، فنحن قد ذهبنا بالتصور غاية مذهبه لنقف عند قصة آدم والملائكة ، وما في الأرض والسماء من خليقة ذات حياة أو غير ذات حياة.
وعلينا أن نمعن بالتصور مدى آخر وراء هذا المدى من تاريخ الإنسان، وذلك هو المدى الذي نطلع منه على «سياسة الخلق والتكوين» على كل صورة من الصور مرة أخرى في احتمال العقل، أو في احتمال الفرض والتقدير.
إننا نعلم من سياسة الخلق أن الأجسام الحية نشأت على الكرة الأرضية قبل نشأة الإنسان، فكادت أن تبلغ مبلغ الجبال الصغار، وثقل بعضها وزنا حتى أربى على مئات الأطنان، ثم فنيت لأنها قصرت عن ملكة التدبير التي تروض بها هذه الأجسام الضخام، ولسنا نعلم شيئا بغير السماع والإلهام عن خلائق العقل التي تفردت فيها العقول عن الأبدان.
والعقل الإنساني يأبى أن يصدق أن هذا الكون خلو من معدن العقل إلا أن ينبت عرضا في جزء من مادة الأرض بعد نشوء الإنسان.
أقرب إلى تصديقه - ولا نقول أقرب إلى إيمانه وكفى - أن سياسة الخلق والتكوين تصرفت في مقادير العقول، كما تصرفت في مقادير الأبدان إلى غاية ما تبلغه من الضخامة بمعزل عن العقل وعن فضائل التمييز.
تلك سياسة الخلق التي أذنت للكائنات العاقلة في عالم الروح أن تعلم مداها من الرقي في معارج الحياة، وأن تتلقى الأمر بالسجود للقيمة الجديدة التي تنفرج عنها أستار الغيب، ويودعها الخالق هذا الكيان الموسوم بالإنسان.
ومن بديهة الإيمان أن تدع للدين حقه في تبليغ هذه النشأة إلى المؤمنين بالغيب، وأن تدع للعقول حقها فيما وسعت من علم، وفيما وسعها من تعليم. إن النشأة الآدمية في القرآن هي طريق الحياة من الأرض إلى السماء، أو هي طريق الكائن الحي من المادة الصماء إلى الخلاق الحكيم.
ولا يأبى القرآن على المؤمن به أن يرسم مسلك الحياة من المبدأ إلى المصير على هذا الطريق الخفي البين، فإنه لعلى الجادة في كل مكان يردها إلى الأرض ولا يقطعها عن الله.
الكتاب الثاني
الإنسان في مذاهب العلم والفكر
عمر الإنسان
نبدأ هذه الفصول عن الإنسان في مذاهب العلم والفكر بفصل عام عن عمر الإنسان في هذا العالم؛ لأن تقدير الزمن الذي مضى على ابتداء حياة النوع الإنساني مرتبط بكل بحث عن أصل الإنسان في جميع المذاهب، ولا سيما مذهب النشوء أو التطور، وهو أول مذهب يتعين البحث فيه واستقراء ما يقال عنه، تأييدا وتفنيدا، في تقرير مكان الإنسان من هذا الوجود، ومكانه بعد ذلك من عامة الأحياء.
ونرى أن هذا المذهب أول المذاهب التي يتعين بحثها هنا لأنه أحرى أن يسمى «مذهب مذاهب»، وأن يدرس على سعة تخرجه من حدود المذهب الواحد الذي يقصر على موضوعه الأصيل؛ فإنه ما كاد يظهر وينتشر بين أصحاب الدراسات حتى عاد هؤلاء يحسبون أنهم مطالبون بإعادة النظر في موضوعاتها؛ للمقابلة بين قواعدها ومقرراتها قبل انتشار مذهب التطور وبعده، فكتبوا عن تطور العلم، وتطور الفن، وتطور الأدب، وتطور السياسة، وعن أبواب شتى من الدراسات يقال فيها اليوم غير ما قيل بالأمس؛ تبعا للقوانين أو النظريات التي جاء بها النشوئيون.
وسنبسط القول في هذا المذهب على وجه خاص، على قدر المستطاع، في حيز هذه الرسالة؛ لأنه على كل فرض من الفروض دعوى في قضية الإنسان يستمع إليها ولا تهمل كل الإهمال، ولو اعتقد الناظر فيها - كما نعتقد - أنها تقوم على آراء لا تلزم منها النتيجة التي وصل إليها النشوئيون لزوم الحتم، ولكنها معلقة إلى حين. ولنبدأ بالكلام فيما يلي عن عمر الإنسان بتقدير العلوم العصرية، ولا تناقض بين شيء منه وبين شيء مما ورد في آيات القرآن.
لم يوجب القرآن على المسلم مقدارا محدودا من السنين لخلق الكون أو لخلق الإنسان، ولا نعلم أن ديانة من الديانات الكبرى التي يؤمن بها أبناء الحضارة عرضت لتاريخ الخليقة غير الديانتين البرهمية واليهودية.
والديانة البرهمية لا تقدر عمر الكون أو عمر الحياة بمقدار محدود من السنين؛ لأنها تقول بالدورة الأبدية التي تتكرر فيها حياة الإنسان مع حياة الكون بغير أجل معروف في البداية أو النهاية. وعند البرهميين أن الكون فلك كبير، يتم دورته المتكررة مرة في كل ثلاثمائة وستين ألف سنة. وقد يزاد هذا القدر أو ينقص في تفسيراتهم الدينية على حسب المقادير المضاعفة عندهم للدورة الشمسية، وهي عندهم مثل صغير للدورة الكونية الكبرى، كلما انتهت دورة بدأت دورة أخرى من دورات الوجود السرمدي عودا على بدء إلى غير انتهاء.
أما المصادر اليهودية، فهي على حسب تحقيق الفقيه الكبير «جيمس يوشر» - المتوفى سنة 1596 - تدل على ابتداء الخليقة في شهر أكتوبر سنة 4004 قبل الميلاد. وقد شرح أسانيده التي بني عليها هذا التقدير في كتاب ضخم سماه السجلات القديمة والعهد الجديد
Annales Veteris et Novi Testamenti .
وأضيف هذا التاريخ إلى نسخة التوراة التي ترجمت على عهد الملك «جيمس»، وبهامشها تواريخ الحوادث المذكورة في متونها.
وظل هذا التاريخ معتمدا في طبعات التوراة المنقولة عن هذه النسخة إلى العهد الأخير، ثم أجمع شراح الكتاب العصريون، يهودا ومسيحيين، على تقدير السنين والأيام التي وردت في صدد الكلام عن الخليقة بمقادير غير مقادير السنين والأيام الشمسية، واستندوا إلى أن اليوم الشمسي وأن السنة الشمسية تساوي مدة دوران الأرض حول الشمس مرة واحدة، فلا يمكن أن يكون اليوم من أيام الخليقة الستة يوما شمسيا؛ لأن الشمس نفسها خلقت في اليوم الرابع كما جاء في الإصحاح الأول من سفر التكوين:
وقال الله: لتكن أنوار في جلد السماء لتفصل بين النهار والليل، وتكون لآيات وأوقات وأيام وسنين، وتكون أنوار في جلد السماء لتنير على الأرض، وكان كذلك. فعمل الله النورين العظيمين: النور الأكبر لحكم النهار، والنور الأصغر لحكم الليل، والنجوم، وجعلها الله في جلد السماء لتنير على الأرض، ولتحكم على النهار والليل، وتفصل بين النور والظلمة. ورأى الله ذلك أنه حسن. وكان مساء وكان صباح يوما رابعا.
وانقضى القرن السابع عشر والثامن عشر دون أن يعرض لعلماء الغرب، من مباحث الدين أو العلم، شيء يدعوهم إلى تقدير عمر للخليقة يزيد على ستين قرنا بحساب السنين الشمسية، ثم تتابعت الكشوف عن ظواهر الطبيعة كيفما تناولتها العلوم الحديثة، فتضاءلت هذه القرون الستون حتى أصبحت كلمحة البصر الخاطفة بالقياس إلى أعمار الكائنات السماوية والأرضية، بعد أن عرف العلماء حساب الزمن بالسنة الضوئية، وتحققوا من النظر اليقين إلى بعض الكواكب أنهم يرونها الآن بعد أن مضى على انطلاق الشعاع منها ملايين من السنوات الشمسية.
وتبين من تحقيق أعمار بعض الأشجار أنها نبتت قبل ميلاد المسيح، وقبل دعوة موسى الكليم وإبراهيم الخليل، وتبين من بقايا النبات المتحجر أنه كان ينمو على الأرض قبل مئات الآلاف من السنين، وقامت تقديرات العلم في قياس أعمار هذه الكائنات على معايير محققة لا تقل ثبوتا عن قياس الساعات بحركة الرمل أو الماء في الساعات الرملية والمائية؛ لأنهم يبنون هذه التقديرات على المعلوم المحقق من سرعة الإشعاع المعدني، أو مدى الوقت اللازم لتحول العناصر، وأمثال ذلك من المعايير التي تصلح للقياس عليها، كما يصلح العلم بمقدار الرمل أو الماء ومقدار الوقت اللازم لانصبابه في صندوقه قياسا لساعات النهار والليل، وكما يصلح العلم بحركات الكواكب قياسا للسنين والشهور.
وقد اشتركت العلوم جميعا في اتخاذ مقاييسها لتقدير أعمار الكائنات، فقاس النباتي عمر الشجرة بحلقات جذوعها، وقاس الطبيعي أعمار البحار بمقادير الملح الذي أفرغته الأنهار فيها، وقاس عالم الطبقات الأرضية أعمار الصخور بتحول المعادن أو استقرار الرواسب، أو بإشعاع العناصر، أو بالأحافير المتحجرة من بقايا النبات والحيوان. وكلها معايير معقولة توغل بأعمار بعض الكائنات رجوعا إلى دهور محسوبة بمئات الألوف من السنين، وتمعن في القدم حتى تحسب بمئات الملايين. •••
وأحدث المقاييس العلمية التي تقاس بها عصور ما قبل التاريخ مقياس الكربون المسمى بكربون (14)، تمييزا له عن كربون (12) المسمى بمقدار وزنه الذري، فإن العالم الأمريكي «ويلارد لبي»
Willard Libby ، صاحب الدراسات المأثورة في الطبيعيات الذرية، وجد - قبيل منتصف القرن - أن نصف ذرات هذا الكربون تتحلل في الأجسام الحية خلال خمسة آلاف وخمسمائة وثمان وستين سنة، يعمل فيها حساب فرق التقدير بنحو ثلاثين سنة إلى الزيادة أو النقصان.
فإذا جمعت بقايا العظام أو الفحم الحجري، فمن الممكن وزن ما فيها من كربون (14)، وتقدير الزمن الذي انقضت فيه حياة الكائن الحي الذي تخلفت عنه تلك البقايا على حسب المقدار المتحلل من ذلك الكربون، فإذا كان هذا المقدار نصفا، فقد مات ذلك الكائن الحي قبل خمسة آلاف وخمسمائة وثمان وستين سنة، وإذا كان ذلك المقدار ربعا، فقد انتهت حياته قبل نحو أحد عشر ألفا ومائة وست وثلاثين سنة، ويزيد عدد القرون كلما نقصت نسبة البقية الباقية من الكربون (14) بالمقابلة بينه وبين الكربون (12)، مع ذلك الفارق القليل الذي يحسب فيه الحساب لخطأ التقدير.
وبهذه المقاييس الكثيرة التي تضبط حساب القرون كما يضبط حساب الأيام والليالي بالساعات الرملية والمائية قفل تاريخ الإنسان على الأرض راجعا إلى ألوف القرون، بدلا من العشرات أو الآحاد، ووضع علماء الطبقات والحفائر مقادير الأعمار المتطاولة لكل طبقة من الطبقات الأرضية وجدت فيها بقايا الأجسام البشرية، وقدروا للطبقة الحجرية ثلاثة أدوار بين عليا ووسطى وسفلى، يتراوح تاريخها بين خمسة وسبعين ألف سنة وستمائة ألف سنة.
وتنسب إلى الطبقة العليا بقايا الإنسان التي وجدت في الأقاليم الغربية من القارة الأوروبية، وإلى الطبقة الوسطى بقايا الإنسان التي وجدت في أواسط القارة، وأقدم من هذا بقايا الإنسان التي وجدت في القارة الآسيوية بين الصين وبلاد الملايا، ومثلها في القدم أو أقدم منها بقايا الإنسان في أقاليم الجنوب الأفريقية.
وآخر البقايا الإنسانية التي وجدت في القارة الأفريقية جمجمة وجدها الدكتور «ليكي»
Leakey
في شهر يوليو سنة 1959، ووجد معها بقايا حيوانات يظن الدكتور أن صاحب الجمجمة كان يصطادها لطعامه، ويستخدم في صيدها أسلحة حجرية وجدت آثارها على مقربة منه، وقد استقرت هذه الحفائر تحت مجرى «أولدفاي» بتنجانيقا، وسمي هذا الإنسان باسم علمي معناه الإنسان الزنجي
Zinianthropus ، ولقبوه في الدوائر العلمية بلقب «كاسر الجوز» لضخامة فكه وضروسه، ويقدرون تاريخه بنحو ستمائة ألف سنة، حسب قياس الزمن بتلك المقاييس المتعددة، ومنها حساب زمن التحجر، وزمن تكوين الطبقة، وزمن التطور في تركيب العظام، وزمن البقايا التي تخلفت من عظام الفك والأسنان.
وليس من المحقق أن يوغل التاريخ في القدم إلى كل تلك الألوف من السنين، ولكن المحقق أن إيغالها إلى تلك الدهور كلها أو ما هو أقدم منها ليس بالأمر المستغرب في أقيسة الزمن، أو أقيسة أعمار الحياة الإنسانية، بعد وضوح الحقائق الثابتة عن قدم تاريخ الخليقة من ظواهرها الأرضية وظواهرها السماوية على السواء.
والمحقق كذلك أن الإنسان القديم الذي دلت عليه تلك البقايا كان يستخدم الآلات الحجرية، ويستعين في كفاح أعدائه من الحيوانات الضارية بنصيب من الذكاء لم يكن معهودا في حيوان منها، فهو في أقدم عهوده مميز بالعقل والنطق، وهما صفتان إنسانيتان لا تنفصلان عن استخدام الآلة، ولا عن الخاصة المميزة للحيوان الناطق من اعتدال القامة، ومطاوعة اليد للإرادة في حالات المشي والوقوف، ولولا ذلك لما استطاع الإنسان أن يستخدم السلاح وأن يصنعه لإصابة الحيوانات الضارية من بعيد. •••
أما الإنسان في مجتمعات الحضارة فلم ينكشف، بعد، أثر يدل على تاريخ له قبل عشرة آلاف سنة أو نحوها، ونعني بإنسان الحضارة ذلك الإنسان الذي عرف الشريعة ونظام المعاملة، وسخر الحيوان كما سخر العناصر الطبيعية في مصالحه المشتركة.
وقد وجدت في وادي النيل آثار الإنسان المقيم الذي كان يستخدم الأدوات الحجرية، ويعول على محاصيل الأرض في تدبير طعامه وأسباب معيشته، ولكن المتفق عليه أن هذا الإنسان لم يكن يعرف الكتابة، ولم تكن نقوشه على الحجر من قبيل الرموز المصطلح عليها لنقل الأفكار وتسجيل الوقائع، ولكنها أقرب إلى الطلاسم السحرية، أو إلى أشكال الزينة، وإنها - على هذا - لتعتبر مقدمة لازمة لنشأة المزايا التي تحقق الصلاح، وتكفل لصاحبها الدوام في ميدان التنازع.
وليس لنا أن نأخذ مأخذ اليقين بروايات الأقدمين عن ماضيهم البعيد في حياة الثقافة والحضارة الرفيعة، ولكنها روايات لا تهمل في صدد الكلام عن تاريخ الإنسان، وليس لنا كذلك أن ننقضها بغير دليل.
كان هيرودوت - الملقب بأبي التاريخ - يعيش في القرن الخامس قبل الميلاد، وهو يروي في كتابه الثاني عن كهنة الفراعنة أنهم يقدرون تاريخ الدولة من عهد ملكها الأول بثلاثمائة وواحد وأربعين جيلا، أي بنحو أحد عشر ألف سنة على حساب ثلاثة أجيال لكل قرن واحد، ويعتقد بعض الباحثين المحدثين أنه تقدير غير مبالغ فيه، وأن مواقع بعض الهياكل تدل على انقضاء زمن كهذا الزمن قبل عصر هيرودوت في مراقبة فلكية سمحت بملاحظة الفرق بين السنة الشمسية في التقويم القديم، وهذه السنة الشمسية في تقويمنا الحديث، وهو فرق يبلغ سنة كاملة كل ألف وأربعمائة وإحدى وستين سنة، ولا سبيل إلى إدراك هذا الفرق في أمة تجهل الرصد والتسجيل، وتعجز عن مراقبة هذه الفروق دورا بعد دور في تاريخها الطويل.
1 •••
ومما يذكر، ولا يهمل، في صدد الروايات المتواترة عن الأمم دراسة رواية أفلاطون عن القارة المفقودة التي سماها القارة الأطلسية، وذكرها في كتابين من كتبه المحفوظة؛ هما: كتاب «تيماوس»
Timaeus
و«كريتياس»
Critis ، وروى من أخبار أهلها أنهم تقدموا في الحضارة تقدما لم يدركه أحد من بعدهم، ثم غاصت بأهلها تحت الأرض على أثر زلزال من زلازل العصور الغابرة، التي يظهر من أخبار الأقدمين أنهم كانوا يحسبونها من عوارض الطبيعة الدائمة، أو عوارضها الدورية.
وقد بحث طلاب الأسرار في مجاهل الماضي المدثور عن موقع القارة المفقودة، فرجح عندهم أنها كانت في موضع المحيط الأطلسي بين شماله ووسطه، وأنها زالت في إحدى الكوارث الكونية التي قدروا لوقوعها سنة 9564 قبل الميلاد، فلم يبق منها إلا بعض الجزر البركانية.
وقد كان أفلاطون أحد رواة هذه الأسطورة، فلقيت من عناية الأخلاف اللاحقة ما لم تلقه أساطير عصره، وجاء فرنسيس باكون، فيلسوف العلوم التجريبية، بعد القرون الوسطى، فسمى أحد كتبه باسم «الأطلسية الجديدة»، ووصف فيه العالم الجديد كما يتمناه.
إلا أن الغالب على المحدثين أن يتبعوا في هذه الرواية منهجهم «التقليدي» في كل رواية تخلفت من العصور الأولى، وانتقلت إلى العصور الأخيرة مع أساطير الأقدمين، فحسبوها جملة واحدة في عداد تلك الأساطير. وهو منهج كانت له مسوغاته القانونية في مرحلة الانتقال بين ظلمات القرون الوسطى ومطالع الكشف والتحقيق عند أوائل القرن التاسع عشر، ولكن استقرار عصر الكشف والتجربة العلمية خليق أن يوطد الأقدام على بر الأمان، ويسمح للباحث بالتردد في الإنكار كما سمح له من قبل بالتردد في القبول، بل بالتعجيل إلى الرفض بغير حجة ولا موازنة بين مسوغات التكذيب ومسوغات التصديق.
ولعل الكشوف الكثيرة التي تعاقبت خلال القرن التاسع عشر، وتبين منها أن روايات الأقدمين لم تكن كلها من قبيل الأساطير، قد أقنعت أكثر الباحثين بأن الرفض بغير برهان أضر بالبحث من القبول بغير برهان؛ لأن الذي يجزم برفض خبر قديم إنما يحكم بالاستحالة على الممكنات الكثيرة التي تجوز ولا تمتنع في العقول، وخير منه - عقلا - من يقبل شيئا ممكنا، وإن لم يقم البرهان على وقوعه فعلا كما وقع غيره من الممكنات.
وإذا حق لهذه «الأسطورة» أن تشفع لها رواية أفلاطون، فقد يكون من شفاعتها الحديثة التي تزكي تلك الشفاعة الموقرة أن المحيط الأطلسي ينبئ الباحثين المحدثين عن صدوع واسعة، يدل عليها تقابل الخطوط بين شواطئه الشرقية وشواطئه الغربية، وقد تدل عليها أغوار القاع وسلاسل المواقع المنهارة على امتداده طولا وعرضا بإزاء قارات العالم القديم والعالم الجديد. وهذه كلها كشوف متأخرة لم يعرف عنها الأقدمون شيئا حين تناقلوا أخبارهم عن قارتهم المفقودة.
على أن الكشوف الأثرية في السنوات الأخيرة قد خرجت بأساطير القارات المفقودة من عالم الأسرار إلى عالم الآثار، وطالعتنا باسم قارة جديدة في محيط آخر غير المحيط الأطلسي، ولكن يقابله في الموقع ويشبهه في الظواهر والأغوار، وتلك هي قارة «مو»
Mu ، التي ألف عنها الكولونيل جيمس شرشوارد
chruchivard
كتابيه باسم: «قارة مو المفقودة»، و«أبناء مو»، ويروي فيهما أخبار حضارات سابقة لعصور التاريخ، يرجع بها قدما إلى أكثر من عشرين ألف سنة قبل الميلاد، ويعزز دعواه برموز وإشارات يفسرها بمعانيها اللغوية، ولا يقنع باعتبارها من أشكال الزينة ونقوش البناء؛ لأنه يرى أن الرسوم الهندسية لا تبلغ هذا المبلغ عند أمة تجهل الكتابة ونقل الأفكار بالعلامات والخطوط. •••
وعلى عهدة المؤلف ننقل خلاصة كتابه عن القارة المفقودة مقتبسة من مقدمته لكتابه الآخر عن «أبناء مو»، وفيها يقول ما فحواه:
إن قارة (مو) كانت قارة واسعة تقع في المحيط الهادي بين أمريكا وآسيا، ويقع وسطها إلى الجنوب قليلا من خط الاستواء، ويقدر طولها من الشرق إلى الغرب بستة آلاف ميل ، وعرضها بين الشمال والجنوب بثلاثة آلاف ميل، وقد دهمها زلزال عنيف قبل نحو اثني عشر ألف سنة، فابتلعتها لجج المحيط، وغاص معها إلى قراره نحو ستين مليون إنسان.
ويستدل على وجود تلك القارة بالآثار الكتابية والروايات المتوارثة التي يتداولها أناس من أبناء الهند والصين وبورما والتبت وكمبوديا وأواسط أمريكا، ومنها نقوش ورقوم شوهدت في جزر المحيط الهادي، تؤيدها روايات الإغريق والمصريين الأقدمين، وتتوافر حولها الأساطير بين بقاع الدنيا المترامية على أرجاء الكرة الأرضية.
وقد خطا الإنسان خطواته الأولى في سبل التقدم والمعرفة قبل نحو مائتي ألف سنة، وانتهى قبل نكبة القارة بالزلزال إلى شأو من الحضارة لم نصل إليه حتى الآن في حضارتنا الراهنة؛ لأن حضارتنا لا تدعي لها عمرا أطول من خمسة آلاف سنة، وهي مرحلة قصيرة بالقياس إلى الشأو الذي يدركه الإنسان العاقل بعد ممارسة الحضارة والصناعة مائتي ألف سنة. وليست حضارات الأمم الشرقية العريقة من الهند إلى بابل ومصر إلا ومضات الرماد المتخلف من حضارة تلك القارة الغريقة.
وقد فسر المؤلف ما عثر عليه من الرموز والرقوم، واعتمد في بعض تفسيراته على كهان المحاريب البرهمية، وعلى حلول الطلاسم التي انتهى إليها قراء الكتابات القديمة على آثار المغرب والمشرق، ومنها آثار المايا وآثار الفراعنة، ويقول المؤلف: إنه لم يأت برأي من عنده في كل ما بسط القول فيه من أخبار تلك القارة، ولكنه رأى ما يراه كل قارئ لتلك النقوش والرقوم، يتقبل طريقة حلها كما شرحها مشفوعة بأسانيدها، وبالأدلة التي تؤكد معانيها، وقد ثبت له من تلك الأدلة أن بعضها يمتد في الأزمنة الماضية إلى سبعين ألف سنة.
ولكن الآثار التي نقلت من قارة (مو) نفسها جد قليلة، وغاية ما أمكن العثور عليه من الآثار المتصلة بها أثران رمزيان مصنوعان من البرونز، يرجع تاريخهما على الأقل إلى نحو عشرين ألف سنة، إذا كانا من مخلفات الحضارة التي بقيت على أرض القارة الآسيوية بعد الزلزال وقبل الطوفان، وقد يرجعا إلى آماد أبعد من ذلك جدا إذا كانا من مخلفات (مو) التي نقلت إلى بلاد القارة الآسيوية.
والجديد في قصة هذه القارة كما رواها مؤلف كتابي القارة المفقودة وأبناء «مو»، أنها تحدثنا عن الإنسان «المتدين» في تلك العصور السحيقة، وأنها تصف لنا هذا الإنسان «مخلوقا» مميزا بين جميع المخلوقات، وتربط بين خاصة التدين وبين هذه المزية التي تفرده بين أنواع الأحياء، على خلاف المفهوم من مذاهب النشوئيين الذين جعلوا الإنسان نوعا من هذه الأنواع بغير مزية تفصله عنها سوى مزية الارتقاء.
وقد ألم المؤلف بمشابهات عارضة بين مجمل الكلام عن الخليقة، وعن نكبات الإنسان في العصور الغابرة، كما جاءت في الآثار الأولى وفي كتب الأديان الباقية، وغاية ما نقوله عن توكيدات المؤلف وتخميناته معا، أن مسألة الإنسان المتحضر قبل عصور التاريخ ليست مما يهمل في سياق يعرض لتاريخ النوع الإنساني، ولمكان الإنسان من كتب الدين.
الإنسان ومذهب التطور
القائلون بالتطور فرقتان: منهم من يعمم تطبيقه على الكون كله بما اشتمل عليه من مادة وقوة، ومنهم من يقصره على عالم الكائنات العضوية التي تشتمل على النبات والحيوان والإنسان، ولا تحيط بما عداها من الموجودات غير العضوية.
والقائلون بالتطور العام يواجهون مسألة الخلق، أو مسألة الإيمان بالخالق في كلامهم عن العالم، وعن القوى المسيرة له من خارجه أو داخله، ولا مناص لهم من التعرض لهذه القوى برأي من الآراء.
فالذين يقصرون التطور على الأحياء يرجعون في تعليل تطورها إلى عوامل الطبيعة وما تشمله من مؤثرات البيئة والمناخ، وموارد الغذاء، ووسائل الحصول عليه، ولا يضطرهم القول بهذا التطور إلى التعرض لما وراء هذه العوامل الطبيعية بإثبات أو إنكار؛ فقد تكون عوامل الطبيعة في مذهبهم خاضعة لقوة عالية فوق الطبيعة، تودعها ما تشاء من النظم والنواميس، ولا يتناقض القول بالنظم الطبيعية عندهم والقول بما وراء الطبيعة، على حسب العقائد الدينية أو المذاهب الفلسفية.
أما تعميم التطور على الكون كله فلا بد أن يسبقه السؤال عن القوة التي تملك تسيير هذا الكون منذ الأزل إلى غير نهاية، ولا بد للقائل بتعميم التطور من الفصل في مسألة البداية والنهاية، وهي لا تنفصل عن مسألة الخلق والخالق في جملتها.
فإذا كان تطور الأحياء يرجع إلى عوامل البيئة الطبيعية، فماذا خارج الكون كله يرجع إليه تطور الكون منذ البداية الأولى؟ وكيف يتفق القول بالتطور والقول بالأبدية التي لا أول لها ولا آخر إذا قيل: إن الكون موجود بلا ابتداء ولا ختام؟
إن أشهر القائلين بالتطور العام هربرت سبنسر (1820-1903) الذي عرف التطور بأنه انتقال من البسيط إلى المركب، وقال عن تطور الحياة: إنه توفيق دائم بين مطالب البنية الحية وبين ظروفها الطبيعية، ولهذا يحدث التغير للبنية، ثم يحدث لها التوسع والامتداد، وتترقى في وظائفها تبعا لاتساعها وامتدادها.
وقد عرضت له قضية البداية الأولى فلم يدخلها في حدود الطبيعة، ولم يخرجها من حدودها، ولكنه قسم الحقائق الكونية إلى قسمين بالنسبة إلى المعرفة الإنسانية؛ أحدهما: حقائق الأشياء في ذواتها وفي أصولها الأولى، وهي القسم الذي لا يدرك ولا يتقبل الإدراك بالأساليب العلمية، والآخر: حقائق الأشياء في ظواهرها المحدودة، وهي التي يستطيع عقل الإنسان أن يدركها بالاستقراء والاستدلال، ويظهر فيها عمل التطور إما باستخراج الأحكام العامة من المشاهدات المتفرقة، أو بتفسير هذه المشاهدات على حسب تلك الأحكام.
وأصحاب هذا الرأي من القائلين بالتطور العام - على ترددهم في مسألة الأصول الأولى - لا يتجاهلون هذه الأصول، ولا يفوتهم أن القول بالتطور العام يوجب عليهم أن يرجعوا إلى المؤثرات الكونية التي تصدر منها الآثار المتغيرة، وتفسر لنا أسبابها، وأن إطلاق القول بالتطور من مبدأ الكون غير تخصيص التطور بالكائنات العضوية، وتفسيره بالرجوع إلى العوامل التي تحيط بتلك الكائنات، وتفعل فعلها أو تنفعل معها بمشاركتها، ولكن أصحاب التطور العام على مذهب سبنسر يسلمون بتلك المؤثرات الكونية، ويتركون البحث فيها عجزا عن الوصول إلى النتيجة، فيقفون بالمعرفة الإنسانية عند الآثار التي يدركونها، ويحجمون عما وراء ذلك فيسلكونه في عداد «المجهولات» التي لا تدرك بالحواس والعقول.
ويبقى أصحاب التطور العام الذين لا يذهبون مذهب سبنسر في تقسيم المعرفة الإنسانية بين مدرك وغير قابل للإدرك، وهو قبل ذلك مذهب الفيلسوف الأيقوسي هاملتون (1788-1856)، ومذهب الفيلسوف الألماني عمانويل كانت (1724-1804) في الظواهر والحقائق، أو في الأشياء كما تحس وتدرك، والأشياء في ذواتها.
فأصحاب التطور هؤلاء فريقان يقفان من مسألة الأصول الأولى موقفين متقابلين متناقضين، وتفسير هذه الأصول عند أحدهما - وهو فريق المؤمنين - أنها من صنع الخالق الحكيم، وأن القوة التي تصدر عنها آثار التطور في الكون كله منذ بدايته لا بد أن تكون «قدرة» فوق الطبيعة، وفوق الكون، تودعه ما تشاء من النظم والنواميس.
والفريق الآخر - وهو فريق الماديين المنكرين - يكتفي من التفسير بذكر العوامل التي ينسب إليها التأثير، واعتبارها طبيعة في المادة لا تفسير لها إلا أنها وجدت هكذا، ولا يمكن أن توجد على صورة أخرى غير التي وجدت عليها.
فإذا احتاج الفيلسوف المادي إلى القول بالحركة الدائمة قال: إنها عادة المادة في أصل تكوينها، وإذا لزمه القول بالتغير مع الحركة قال: إن المادة المتحركة متغيرة بطبيعتها، وإذا لزمه بعد ذلك أن يجعلها متغيرة من البساطة إلى التركيب، ومن النقيض إلى النقيض؛ فهذا القول عنده هو وصف للواقع وتفسير له في وقت واحد، وكذلك يفسر التقدم والارتقاء وهما يستلزمان الغاية المرسومة، والنتيجة المقصودة، ولكن الفيلسوف المادي يحسب أنه فرغ من التفسير بوضع كلمة «الضرورة» هنا موضع كلمة الغاية المقصودة.
وليس عند الفيلسوف المادي تفسير لهذا التعدد الهائل في ظواهر الكون وأجزائه، مع ابتداء تطوره من وقت واحد أو مبدأ واحد، وجريان هذا التطور على مادة واحدة وقوة واحدة، وليس عنده معنى لهذا التقدم أو غاية يتقدم إليها غير انقضاء أجل الكون مرة بعد مرة، كلما انقضت دورة من دوراته الأبدية بين التأخر والتقدم أو بين الهبوط والارتقاء.
وكل هذه الفلسفة المادية تتلخص في كلمة تشبه كلمة الطفل حين تسأله عن سبب شيء فيقول لك: «هكذا» بغير سبب، أو تشبه كلمة الجاهل الذي تسأله عما وقع أمامه فيقول لك: «وقع وحده»، ولا تفهم منه علة لوقوعه أوضح من قول المادي الفيلسوف: إن المادة تتغير لأنها متغيرة، وتتقدم لأنها متقدمة، وتنتقل من البساطة إلى التركيب ومن النقيض إلى النقيض لأن ذلك كله من طبائعها.
ولولا أن المادي الفيلسوف يقرر مذهبه في التطور ليصل منه إلى نتيجة في المستقبل يوجبها على الناس وعلى الزمن؛ لتساوى تفسيره للتطور وسكوته عن تفسيره، ولكنه لو اختار أن يتنبأ بنتيجة تناقض تلك النتيجة، واختار أن يفسر ذلك أيضا بأنه طبيعة من طبائع المادة، وطور من أطوارها؛ لما كانت حجته في إحدى النبوءتين بأقوى من حجته في الأخرى. •••
والقائلون بتطور الكائنات العضوية، ممن يقصرون القول عليها ولا يعممون تطبيق التطور على جميع الكائنات، يميلون - على الأغلب الأعم - إلى القصد في التفسيرات والتعليلات، ويتجنبون البحث في الأصول الأولى مكتفين من الأسباب بما يخضع للتجربة، ويصلح للتقرير بأساليب العلم الطبيعي الحديث.
وخلاصة مذهبهم أن أنواع الأحياء تتحول وتتعدد على حسب العوامل الطبيعية، وأنها ترجع جميعا إلى أصل واحد، أو أصول قليلة، لعلها هي الخلايا البدائية.
وليس القول بتقارب الأنواع أو بتدرجها رأيا حديثا مجهولا قبل ظهور مذهب دارون أو مذاهب النشوئيين العصريين على العموم، ولكنه رأي قديم قال به فلاسفة اليونان وعرفه مفكرو العرب، كما سنبينه في فصل آخر من فصول هذا الكتاب، وإنما الجديد منه إسناده إلى أسباب العلوم الطبيعية التي شاعت بين أواخر القرن السابع عشر وأوائل القرن الثامن عشر، وابتدأ القول به مع ابتداء البحث العلمي على مناهج العلماء المحدثين.
قال به العالم النباتي السويدي كارل لينوس (1707-1778)
Carl Linnaeus
الذي عني بتصنيف الأنواع والأجناس في دراسته للنباتات، وبنى على هذا التصنيف رأيه في أنواع الأحياء على التعميم.
وقد كان لمباحث هذا العالم أثر واسع في البيئة العلمية الإنجليزية، فأنشئ المجمع الليني في لندن بعد وفاته بعشر سنوات نسبة إليه.
وقال به بوفون العالم النباتي الفرنسي (1707-1788)
Buffon
الذي ألف كتابه المفصل عن التاريخ الطبيعي بمعاونة الأستاذ دوبينتو
Daubenton
وآخرين، واتخذ من تصنيف أنواع النبات رأيا يماثله في تصنيف أنواع الحيوان.
وكان من المعاصرين لهذين العالمين إراسموس دارون
Erasmus Darwin (1731-1802)، جد دارون الذي ينسب إليه مذهب النشوء والتطور، فكان رائدا لحفيده في القول بالتقارب بين الإنسان والحيوانات العليا، وعاش معه في عصره العالم الفقيه الأيقوسي، لورد منبودو (1714-1799)
Lord Monboddo ، صاحب كتاب «أصل اللغة وترقيها» وكتاب «ما وراء الطبيعة في العصور القديمة»، ومذهبه في تطور الإنسان ظاهر من بحثه عن الأسباب الطبيعية لتطور اللغة، وعن العلاقة بين الطبيعة وما وراء الطبيعة عند الأقدمين.
ويتبين من المقابلة بين تواريخ ميلاد هؤلاء العلماء، أن جو العلم الطبيعي في القارة الأوروبية من شمالها إلى جنوبها كان قد تهيأ لدراسة الحياة والأحياء على أساس الوحدة في قوانين الطبيعة، ولم يكن ذلك مقصورا على السويد وفرنسا وإنجلترا، بل صح من روايات مؤرخي العلوم عند الألمان والروس أن هذه الآراء وجدت من يقول بها على نحو من الأنحاء، وإن كانت روايات هؤلاء المؤرخين لا تخلو من مداخلة الفخر بالسبق العلمي بين الأمم الأوروبية.
ولكن مذهب النشوء لم يعرف بتفصيله قبل العالم الفرنسي لامارك (1744-1829)
Lamarck ، ثم العالمين الإنجليزيين: شارل دارون (1809-1882)، وزميله ألفريد رسل والاس (1823-1913)، وعلى مباحث هؤلاء العلماء الثلاثة يقوم أساس مذهب النشوء أو مذهب التطور بشقيه المقدمين في اعتبار العلماء إلى اليوم. •••
وكل من لامارك ودارون ووالاس يقول بتحول الأنواع، ويرد كثرتها إلى نوع واحد أو أنواع قليلة، ولكنهم لا يتفقون على أسباب التحول، ولا على الصفات والوظائف التي تنتقل بالوراثة متى تغيرت في تكوين الأفراد.
ففي رأي لامارك أن أعضاء الجسم الحي تتغير بالاستعمال، أو بالإهمال، أو بطارئ من طوارئ المرض والإصابة، وأن الصفات المكتسبة التي تتولد من ذلك تنتقل بالوراثة، ولا تزال تتباعد بين الأفراد حتى ينفصل كل منهما بنوعه المستقل الذي لا يقبل التناسل مع غيره، وقد ضرب المثل بالزرافة، وافترض أنها - لطول قوائمها - كانت تأكل طعامها من أطراف الشجر العليا، وتعودت أن تمط عنقها كلما تجردت الفروع السفلى من أوراقها حتى بلغ غاية امتداده، وثبت على هذا الطول في أعقابها المتوالية.
والنشوئيون الذين يرفضون القول بوراثة الصفات المكتسبة يستدلون على بطلان هذا الرأي ببعض الصفات المكتسبة التي شوهدت منذ أجيال كثيرة، ولم يشاهد لها أثر وراثي في الأجنة والمواليد، ومنها أن نساء بورما تعودن منذ أجيال أن يطلن أعناقهن بالأطواق العريضة؛ يضعن طوقا منها فوق طوق حتى تبلغ من الطول غاية الاحتمال، ولا تزال بناتهن يولدن بأعناق لا تزيد في طولها على أعناق البنين الذكور.
ومنها أن عادة الختان عند اليهود لم تعقب أثرا وراثيا بعد استمرارها منذ ثلاثين قرنا أو تزيد، ويشاهد مثل ذلك في ذرية الحيوان الداجن التي تعود المدجنون له أن يقطعوا أذنابه، أو يستأصلوا بعض أعضائه، فإنها تولد بأعضاء كأعضاء آبائها وأمهاتها بعد انقضاء عدة أجيال على تدجينها.
ويرى النشوئيون الذين يقولون بوراثة الصفات المكتسبة أن قصر الزمن الذي مر على هذه المشاهدات - بالقياس إلى الآماد الطوال التي مرت على تطور الأنواع الحيوانية - لا يكفي للجزم بامتناع الوراثة على إطلاقها، وأن إهمال الأعضاء بالقطع ليس من شأنه ضرورة أن يورث ولو طال عليه الأمد؛ لأن المقصود بالإهمال ما يحدث أثرا في قوام البنية الباقية، أو ينشأ عن حدوث هذا الأثر فيها.
ويلجأ النشوئيون - على رأي دارون ووالاس - إلى تعليل آخر لحدوث التحول في الأنواع، فيعللونه بالانتخاب الطبيعي والانتخاب الجنسي، مع القول بتنازع البقاء؛ لزيادة المواليد الحية على الموارد الكافية لتغذيتها ووقايتها.
فالزرافة - عندهم - لم تنقل صفة مكتسبة إلى ذريتها، ولكن أفراد الزراف ولدت قديما وفيها تفاوت في الصفات كما يتفاوت الأفراد في جميع الأنواع، وبقي أطولها عنقا لأنه استطاع أن يبلغ أعالي الشجر؛ حيث يقل الطعام ويقصر غيره من أفراد الزراف عن بلوغه. وهنا يعمل الانتخاب الطبيعي عمله، فتبقى ذرية الزراف الطوال العنق، وينقرض ما عداها، ويعمل الانتخاب الجنسي عمله مع الانتخاب الطبيعي؛ لأن الأفضل من ذكور الحيوان وإناثه يفضل على غيره عند الجنس الآخر، فيعقب كلا الجنسين المفضلين ذرية تشبهه في الامتياز على سائر الأفراد.
وليس مثل الزرافة في رأي دارون بأسعد حظا من هذا المثل في رأي لامارك؛ لأن المعترضين عليه يقولون: إن قلة الورق على فروع الشجر السفلى يبيد صغار الزراف، كما يبيد أنواع الحيوان التي تعيش مثله على العشب أو على الشجر القصار، وأن ذكور الزراف أطول أعناقا - في الغالب - من إناثه، فهي خليقة أن تفنى مع غيرها من الزراف القصار الأعناق.
إلا أن الأكثرين من النشوئيين يعتبرون هذا الخطأ سوء تمثيل من دارون، ولا يجعلونه سببا كافيا لبطلان القول بالانتخاب الطبيعي؛ فلو أن دارون نظر إلى مزية القوائم الطوال، ولم ينظر إلى مزية العنق الطويل لأمكن تعليل بقاء الزراف الممتاز بالقدرة على الجري بفعل الانتخاب الطبيعي والانتخاب الجنسي في وقت واحد؛ لأنه يفلت من مطارديه، ويسبق سائر الزراف إلى أماكن المرعى كلما اضطرته ندرة المرعى إلى الانتقال من مكان إلى مكان، وقد صح تمثيل دارون بأنواع شتى من الحيوان غير نوع الزراف فلم يصادفه فيها مثل هذا الاعتراض. •••
وبعد المقارنة بين الرأيين - رأي لامارك ورأي دارون ووالاس - يتضح أنهما ينتهيان إلى نتيجة متشابهة؛ وهي ضرورة القول في النهاية بوراثة الصفات المكتسبة على طول الزمن، فإن لم تنتقل بعد اكتسابها في حياة فرد واحد، فهي منتقلة بعد التجمع والتمكن من فرد إلى فرد يتم بينهما التوارث فجأة، أو على أثر التدرج البطيء، ولم يكن في ذهن دارون فرض معلوم غير طول الزمن يوم خالف النشوئيين من قبله في تعليله لتحول الأنواع.
وكل ما هنالك أن دارون جرى على عادته من اجتناب الأحكام الإيجابية كلما أمكن تعليل الظواهر المجهولة بالعلل السلبية؛ فهو يقول: إن الأنواع تبقى لأن أسباب الانقراض عجزت عن إبادتها، بدلا من القول بمؤثرات معينة تخلق الصفات، وتؤدي إلى انتقالها بالوراثة، وتكاد آراؤه في تنازع البقاء وفي الانتخاب الطبيعي والانتخاب الجنسي أن تنتهي إلى نتيجة واحدة؛ وهي أن الأحياء بقيت لأنها لم تنقرض، وأن أسباب الفناء عجزت عن إبادتها كما أبادت غيرها.
وهذه العادة الذهنية هي في وقت واحد مصدر القوة ومصدر الضعف في تفكير دارون، وفي هذا الضرب من التفكير على عمومه؛ فإنها دليل على الأمانة الفكرية التي تحجم عن تقرير حكم معين قبل ثبوته والإحاطة بحقيقته، وهي كذلك موضع النقص الظاهر؛ لأن العوامل السلبية لا تقوم عليها دلائل الخلق والإنشاء، وإن قامت عليها أحيانا دلائل الزوال الذي يفيد زوال فريق وسلامة فريق.
وقد كان خطأ النشوئيين في تقرير مسألة الوراثة نقصا لازما لمباحث العلم الطبيعي في القرن التاسع عشر، أيا كان رأي العالم الذي يقرر هذه المسألة؛ لأن أسرار الوراثة لم تعرف قبل تقدم علم الناسلات (أو الجينات)
Genetics ، وظهور فعل الناسلة
Gene
والصبغية
Chormosome
في نقل الخصائص والفوارق الفردية من الآباء والأمهات إلى الأبناء.
فكل صفة لا تكمن في الناسلة ولا تحتويها صبغية من صبغياتها؛ فهي صفة عارضة لا تنتقل إلى الذرية بالوراثة، ويقول الأستاذ نيفيل جورج - أحد ثقات هذا العلم: إن الانتخاب الطبيعي لأجل هذا لا يصلح لتعليل مذهب النشوء أو مذهب التطور؛ لأنه يعلل زوال غير الصالح ولا يعلل نشأة المزايا التي تحقق الصرح، وتكفل لصاحبها الدوام في ميدان تنازع البقاء، ثم تفتح الباب لعمل الانتخاب الطبيعي في المستقبل عند التفاوت في تلك المزايا الموروثة بين الأفراد، وإنما تنشأ هذه المزايا بعمل من أعمال الطفرة
Mutation
يكفي لإحداث التغيير المطلوب في الناسلة وفي صبغياتها التي تنقل تلك المزايا بالوراثة. وقد أمكن العلم بالخواص التي تنقلها كل صبغية من الصبغيات في بعض أنواع النبات والحيوان، وأمكن التأثير في الصبغية بفعل العقاقير أو الأشعة السينية، ويقال: إن الأشعة الكونية تفعل هذا الفعل إذا نفذت إلى بذور النبات والحيوان، وبها يعللون التحول المفاجئ كما يعللون الاختلاف الطارئ على النبات في الألوان والأحجام والأشكال.
وتجرى تجارب الأشعة الآن لإحداث التحول الموروث في أنواع من الذباب والفراش، وقد تؤدي التجربة فعلا إلى ظهور خاصة في الحشرة تغير ذريتها فتخالفها بعض المخالفة، ويثبت الاختلاف بعد ذلك على سنن الوراثة المعروفة بالمندلية، نسبة إلى «مندل» صاحب التجارب المشهورة في وراثة الحبوب.
ومن هذه التجارب تجربة تأثير الأشعة السينية على ذباب الفاكهة المعروف باسم الدرسفيلة
Drasophila ؛ فإن تعريض الذبابة منه للأشعة يغير ذريتها، فتأتي مخالفة لها في لون العين أو في طول الجناح، ويثبت هذا الاختلاف بعد ذلك في أجيالها المتعاقبة على السنة المندلية المقررة لتنظيم خطة الوراثة على نسق معروف من الأعقاب إلى الأعقاب. •••
ويتجدد الآن سؤال قديم ملازم لفكرة النشوء منذ انتشار مذاهبه قبل تقدم علم الناسلات: فما هو مدى سريان التطور على الجنس البشري؟ هل هناك حد فاصل بين البشرية والحيوانية؟ وإذا أمكن غدا تحسين أنواع الحيوان بمعالجة الناسلات، فهل يمكن استخدام هذه الوسائل في تحسين صفات الإنسان الفكرية والروحية؟
إن النشوئيين قد تساءلوا عن هذا الفاصل منذ قرروا آراءهم عن التطور على قواعد العلوم التجريبية، وأجابوا عنه إجاباتهم على حسب عقائدهم مرة، وعلى حسب أمزجتهم مرة أخرى.
فالعالم الفرنسي بوفون يقرر أن تقسيم الأنواع يتناول الإنسان من جانبه الحيواني، ولا يعرض لجوانبه المميزة له في عقائد المؤمنين، ودارون يقول: إنه يتكلم عن الأطوار التي تؤثر في جسد الإنسان، ولا شأن له بما عدا ذلك من الملكات الروحية التي يقررها له الدين.
وهذه الأجوبة من النشوئيين ليست بالأجوبة الحديثة في بابها على ذلك السؤال القديم، فإن ابن سينا مثلا كان يقرر مذهب الطب في الأمراض التي تنسب إلى فعل الجان والأرواح الخبيثة أو الطيبة فيقول: إنه لا ينفي هذا الفعل، ولكنه ينظر إلى آثاره الجسدية فيرى أنها تحدث الأعراض التي يعالجها بعلاجها الطبي الموصوف لها عند الأطباء.
وليس النشوئيون جميعا على منهج بوفون ودارون، أو منهج ابن سينا وأصحابه من علماء الزمن القديم، فإن بعض علماء النشوء المحدثين - وعلى رأسهم أرنست هكل - ينكرون كل نسبة للإنسان غير نسبته إلى أنواع الحيوان، ويجعلون لهذه النسبة شجرة تجمع بينه وبين القردة العليا، وتنزل في جذورها إلى القردة المذنبة التي تعيش في أمريكا الوسطى وأمريكا الجنوبية
Marnasets ، وقلما تحتمل الجو في الأقاليم الشمالية، ومن دونها الليمور
Lemur
قرد مدغشقر، وهو موضوع في شجرة النسب دون قردة «المرموز» الأمريكية.
ويرتب النشوئيون القردة العليا - صعدا - من الجيبون إلى الأورانج إلى الشمبانزي إلى الغوريلا، وقد يفرقون بينها في درجات الرقي بحسب اعتمادها على تسلق الأشجار، أو المشي على أديم الأرض والقدرة على الوقوف واعتدال القامة عند السير على قدمين؛ فأدناها ما كان اعتماده كله على التسلق ، ومعيشته كلها فوق الأشجار، وأعلاها ما استغنى عن تسلق الأشجار واحتاج إلى استخدام يديه وهو ماش على قدميه؛ فإن نمو الدماغ مرتبط بدرجة العمود الفقري وعظام العنق، ودرجة التصرف باليدين عن قصد وإرادة لتحقيق عمل من الأعمال.
ويزعم هؤلاء النشوئيون أن «التطور» الإنساني له علامات تبدأ من قردة الليمور وقردة المرموز المذنبة، وتتدرج صعدا إلى الإنسان حيث يزول الذنب، وينمو الدماغ، وتتحول اليد إلى أداة صالحة للتناول غير مقصورة على المشي أو التعلق بفروع الأشجار. ومجمل تلك العلامات أنها بوادر الجلوس والوقوف واختفاء الذنب ومخالب القدمين واليدين.
ويذهب أحد النشوئيين المحدثين إلى القول بأن نوع الإنسان سابق لأنواع القردة بمئات الألوف من السنين، وأن القردة العليا أناسي ممسوخة فقدت أوائل الصفات البشرية، وانحدرت في الصفات العقلية والجسدية إلى ما دون تلك المرتبة بكثير أو قليل.
وصاحب هذا الرأي هو الدكتور هرمان كلاتش
Klaatsch
الذي كان يدرس علم الإنسان بجامعة برسلو قبل الحرب العالمية الأولى، وعنده أن إنسان جاوة، الذي وجدت بقاياه المتحجرة وأطلق عليه العلماء اسم
ropus ، هو المرتبة الوسطى التي صعد منها خلفاؤها إلى ما فوقها، وهبط منها الخلفاء الآخرون إلى ما دونها.
ويزعم «كلاتش» أن الإنسان ينتمي إلى أصول متعددة، ولا ينجم كله من أصل واحد؛ فالمغوليون وقرد الأورانج من أصل واحد، وزنوج أفريقية والشمبانزي والغوريلا من أصل آخر، ولكنه زعم لا تؤيده المقابلة بين هذه الأحياء في الخصائص التشريحية. •••
ومن المفارقات أن هؤلاء النشوئيين النسابين لم يبلغوا بالقرد ذلك الشبه الذي تصورته طائفة من الأقدمين قبل انتشار القول بالتطور واشتباك الأنواع والأجناس؛ فإن تلك الطائفة من الأقدمين تصورت أن جميع القردة أناسي ممسوخون عقلت ألسنتهم، وبقيت لهم أفهامهم، وليس بينهم وبين الناس من فارق غير الفارق الذي يباعد بين الكائنات المشوهة والكائنات السوية من أصل واحد، ولكن شجرة النسب تحتاج إلى علم التشريح لالتقاط المشابه التي ترجح القول بوحدة الأصول الجسدية بين الإنسان وبين أقوم الخلائق من أنواع الحيوانات العليا.
يقول آرثر كيت - من أكبر النشوئيين المتأخرين - في كتابه شجرة نسب الإنسان:
إن الأستاذ وود جونس لفت النظر إلى بقاء علامات كثيرة في تركيب الإنسان قد اختفت من تراكيب القردة العليا وعامة القرود، وإن هذه القرود العليا وسائر القرود قد احتفظت بعلامات شتى زالت من تركيب الإنسان. ولست أرى أن هذه الشذوذات تستدعي تعديل النسب التي رسمتها هنا، ولكني أرى أن تفسيرها ينبغي أن يلتمس في زيادة العناية بفهم قوانين الوراثة؛ فإن الكائنات الحية أشبه بأشكال الفسيفساء المتداخلة، ينتقل بعض أنماطها بالوراثة ويختفي غيرها؛ فالغوريلا تولد في أكبادها الفصيصات التي تتولد في أكباد القرود، بينما تقترب كبد الأورانج أشد الاقتراب في تركيبها المتماسك من كبد الإنسان، ولكننا ينبغي أن نفترض أن هذين الحيوانين تحدرا منذ عهود بعيدة من سلف مشترك يشبه تركيب كبده كبد الحيوان.
ثم يستطرد إلى بيان الشبه بين الإنسان والقردة الأفريقية فيقول:
إن الإنسان له على جانبي تجويفه الأنفي سلسلة من الجيوب تسمى بأسماء العظام التي تجاورها، ولا يسعنا أن نعتقد أنها تتولد على حدة في نوعين من الحيوان، ويوجد هذا النمط الإنساني في كل من الشمبانزي والغوريلا، وإن كانت الجيوب في الغوريلا وحدها قد اتخذت لها نمطا آخر.
ومن الجائز أن نمطا آخر كان موجودا في أنف سلف الأورانج، ويصعب التحقق منه بعد انتكاس تركيب الأنف كله في هذا العضو الكبير من أعضاء الحيوانات القردية العليا. وقد عرف أن دم الغوريلا ودم الشمبانزي أقرب استجابة إلى الانفعال بدم الإنسان من جميع الفقاريات. وتبلغ العلامات المشتركة بين الإنسان وكل من الشمبانزي والغوريلا نسبة - إلى سائر العلامات التي أحصيتها - تقدر بثمانية وسبعة أعشار في المائة؛ ولهذا أتوقع أن بقية من بقايا المتحجرات تنكشف يوما في أفريقية تعتبر السلف المشترك بين الغوريلا والشمبانزي والإنسان.
هذه هي العلامات التشريحية التي انتهى إليها أصحاب شجرة النسب من النشوئيين المتأخرين، وما عداها من العلامات ووجوه الشبه لا يعدو أن يكون إعادة لتصوير المشابه العامة التي يلمحها النظر لأول وهلة بغير حاجة إلى تشريح الأعضاء. وقد أحصاها الأستاذ «شابمان بنشر»
في كتابه عن تعليل التطور، ثم عقب عليها قائلا: «إنه لا احتمال لتسلسل الإنسان من القردة كما نعرفها؛ لأن القردة منفردة بتركيب خاص يستحيل تشريحيا أن يتطور منه تركيب الإنسان؛ إذ كان الإنسان قد نما له خلال مليون سنة دماغ أكبر، وقامة أقوم، ويد - فوق هذا وذاك - أصلح للتناول والتصرف بالاستعمال.»
وهذا الفاصل الحاسم هو قصارى مدى الاقتراب بين النوع البشري وسائر أنواع الأحياء بمقياس التطور وعلم الوراثة، يعبر عنه النشوئي فيقول: إنه سبق مليون سنة، ليلحق به مدى الفارق الروحي في تعبير الدين.
التطور قبل مذهب التطور
إن اختلاط الأنساب بين أنواع الحيوان خاطر قديم توارثه الأقدمون من أزمنة مجهولة، وندرت أمة من أمم السلف البعيد لم تتواتر فيها الأخبار والأساطير عن التناسل بين أنواع الحيوان، أو بين الإنسان والحيوان، أو بين الإنس والجن، أو بين الإنس وأرباب الأساطير المشبهين بالإنسان. ومرد هذه الأخبار والأساطير - على الأكثر - إلى جهل الأوائل بوظائف الأعضاء، وجهلهم بالشروط الحيوية التي تلزم للحمل والولادة وإمكان التناسل بين الأزواج المستعدة للتناسل في النوع الإنساني، فضلا عن سائر الأنواع، فكل ما يلد من نوعه صالح عندهم للتوليد من الأنواع الأخرى من الأحياء.
وقد سبق القول بالتطور وتدرج الكائنات كما سبق القول بتحول الأنواع وتناسلها، ولكن لعلة غير تلك العلة مردها - على الأرجح - إلى المفاضلة والترتيب بين الكائنات على حسب حظها من الحياة، أو من مشابهة الأحياء، ثم نشأت علوم الكيمياء والطب والزراعة، فكان للعلم عمله في التفرقة بين المواد الكيمية المعدنية والنباتية والحيوانية، واشترك الأحياء وغير الأحياء في مباحث الكيمياء، ثم جاءت في مباحث المتأخرين مقابلة الكيمياء العضوية بالكيمياء غير العضوية.
ومما يشبه القول بتطور الكائنات وتدرجها قول الفارابي في شرحه لأقوال المعلم الأول من كتاب «آراء أهل المدينة الفاضلة»:
إن ترتيب هذه الموجودات هو أن تقدم أولا أخسها، ثم الأفضل فالأفضل، إلى أن تنتهي إلى أفضلها الذي لا أفضل منه، فأخسها المادة الأولى المشتركة، والأفضل منها الأسطقسات المعدنية، ثم النبات، ثم الحيوان غير الناطق، وليس بعد الحيوان الناطق أفضل منه.
ويذهب الفارابي على هذا الترتيب في التفرقة بين الإنسان والإنسان بمقدار حظه من القوة الناطقة، فيجيز أن يكون بعض أشباه الآدميين بالصورة الجسدية غير محاسبين، أو غير أهل للحياة الأخرى.
ويقول الكتبي
1
وهو يتكلم عن طبائع القرد: «إن هذا الحيوان عند المتكلمين في الطبائع مركب من إنسان وبهيمة، وهو من تدريج الطبيعة من البهيمة إلى الإنسان.»
ويقول القزويني صاحب «عجائب المخلوقات» بعد تقسيمه الأجسام إلى نام وغير نام، وهو ما يقابل اليوم تقسيمها إلى العضوي وغير العضوي: إن «أول مراتب هذه الكائنات تراب، وآخرها نفس ملكية طاهرة، فإن المعادن متصلة أولها بالتراب أو الماء، وآخرها بالنبات، والنبات متصل أوله بالمعادن وآخره بالحيوان، والحيوان متصل أوله بالنبات وآخره بالإنسان، والنفوس الإنسانية متصلة أولها بالحيوان وآخرها بالنفوس الملكية.»
وهذا الانتقال من المشابهة بالجسد إلى المشابهة بالنفس شبيه باحتراس النشوئيين المحدثين عند التفرقة بين الإنسان من جانبه الحيواني، والإنسان من جانبه الروحي، أو جانب القوى الأدبية الوجدانية.
ويقول إخوان الصفاء في رسالتهم العاشرة:
اعلم - يا أخي - أن أول مرتبة النباتية أو دونها مما يلي التراب هي خضراء الدمن، وآخرها وأشرفها مما يلي الحيوانية النخل؛ وذلك لأن خضراء الدمن ليست بشيء سوى غبار يتلبد على الأرض والصخور والأحجار، ثم يصيبها المطر فتصبح بالغداة خضراء كأنها نبت زرع وحشائش، فإذا أصابها حر الشمس نصف النهار تجف، ثم تصبح بالغد مثل ذلك من نداوة الليل وطيب النسيم، ولا تنبت الكمأة ولا خضراء الدمن إلا في أيام الربيع في البقاع المتجاورة لتقارب ما بينها.
وأما النخل فهو آخر مرتبة النبات مما يلي الحيوانية، وذلك أن النخل نبات حيواني؛ لأن بعض أحواله وأفعاله مباين لأحوال النباتات وإن كان جسما نباتيا، وفي النبات نوع آخر فعله أيضا فعل النفس الحيوانية، وإن كان جسما نباتيا، وهو الأكشوت، وذلك أن هذا النوع من النبات ليس له أصل ثابت في الأرض كما يكون لسائر النبات، ولا له ورق كأوراقها، بل هو يلتف إلى الأشجار والزروع والبقول والحشائش ويمتص من رطوبتها، ويتغذى كما يفعل الدود الذي يدب على ورق الأشجار وقضبان النبات.
وإن أدون الحيوان وأنقصه هو الذي ليس له إلا حاسة واحدة، وهو الحلزون، وهي دودة في جوف أنبوبة تنبت في تلك الصخور التي تكون في بعض سواحل البحار وشطوط الأنهار، وتلك الدودة تخرج نصف شخصها من جوف تلك الأنبوبة، وتنبسط يمنة ويسرة تطلب مادة تغذي بها جسمها، فإذا أحست رطوبة ولينا انبسطت إليه، وإن أحست بخشونة أو صلابة انقبضت وغاصت في جوف تلك الأنبوبة حذرا من مؤذ لجسمها، ومفسد لهيكلها، وليس لها سمع ولا بصر ولا شم إلا ذوق اللمس حسب.
وهكذا أكثر الديدان التي تكون في الطين في قعر البحر وعمق الأنهار؛ ليس لها سمع ولا بصر ولا ذوق ولا شم؛ لأن الحكمة الإلهية لم تعط الحيوان عضوا لا يحتاج إليه في وقت جر المنفعة أو دفع المضرة؛ لأنها لو أعطتها ما لا تحتاج إليه لكان وبالا عليها في حفظها وبقائها: فهذا النوع حيواني نباتي؛ لأنه ينبت جسمه كما ينبت بعض النبات، ومن أجل أنه يتحرك بجسمه حركة اختيارية فهو حيوان، ومن أجل أنه ليس له إلا حاسة واحدة فهو أنقص الحيوانات رتبة، وتلك الحاسة أيضا هي التي يشاركها النبات فيها، وذلك أن النبات له حس اللمس حسب.
ويقول ابن مسكويه - من علماء القرن الرابع والخامس للهجرة - في كتابه «تهذيب الأخلاق» بعنوان الأجسام الطبيعية: «إن الأجسام الطبيعية كلها تشترك في الحد الذي يعمها، ثم تتفاضل بقبول الآثار الشريفة والصور التي تحدث فيها، فإن الجماد منها إذا قبل صورة مقبولة عند الناس؛ صار بها أفضل من الطينة الأولى التي لا تقبل تلك الصورة، فإذا بلغ إلى أن يقبل صورة النبات صار بزيادة هذه الصورة أفضل من الجماد.
وتلك الزيادة هي الاغتذاء والنمو، والامتداد في الأقطار، واجتذاب ما يوافقه من الأرض والماء، وترك ما لا يوافقه، ونفض الفضلات التي تتولد فيه من جسمه بالصموغ، وهذه الأشياء التي ينفصل بها النبات من الجماد، وهي حال زائدة على الجسمية التي حددناها وكانت حاصلة في الجماد، وهذه الحالة الزائدة في النبات التي شرف بها على الجماد تتفاضل.
وذلك أن بعضه يفارق الجماد مفارقة يسيرة كالمرجان وأشباهه، ثم يتدرج فيها فيحصل له من هذه الزيادة شيء بعد شيء، فبعضه ينبت من غير زرع ولا بذر، ولا يحفظ نوعه بالثمر والبذر، ويكفيه في حدوثه امتزاج العناصر وهبوب الرياح وطلوع الشمس؛ فذلك هو في أفق الجمادات وقريب الحال منها، ثم تزداد هذه الفضيلة في النبات فيفضل بعضه على بعض بنظام وترتيب، حتى تظهر فيه قوة الإثمار وحفظ النوع بالبذر الذي يخلف به مثله، فتصير هذه الحالة زائدة فيه ومميزة له عن حال ما قبله.
ثم تقوى هذه الفضيلة فيه حتى يصير فضل الثالث على الثاني كفضل الثاني على الأول، ولا يزال يشرف ويفضل بعضه على بعض حتى يبلغ إلى أفقه، ويصير في أفق الحيوان، وهي كرام الشجر كالزيتون والرمان والكرم وأصناف الفواكه، إلا أنها بعد مختلطة القوى؛ أعني أن قوى ذكورها وإناثها غير متميزة، فهي تحمل وتلد المثل ولم تبلغ غاية أفقها الذي يتصل بأفق الحيوان، ثم تزداد وتمعن في هذا الأفق إلى أن تصير في أفق الحيوان؛ فلا تحتمل زيادة.
وذلك أنها إن قبلت زيادة يسيرة صارت حيوانا وخرجت عن أفق النبات، فحينئذ تتميز قواها، ويحصل فيها ذكورة وأنوثة، وتقبل من فصائل الحيوان أمورا تتميز بها عن سائر النبات والشجر؛ كالنخل الذي طالع أفق الحيوان بالخواص العشر المذكورة في مواضعها، ولم يبق بينه وبين الحيوان إلا مرتبة واحدة، وهي الاطلاع من الأرض والسعي إلى الغذاء. وقد روي في الخبر ما هو كالإشارة أو كالرمز إلى هذا المعنى، وهو قوله
صلى الله عليه وسلم : «أكرموا عماتكم النخل؛ فإنها خلقت من بقية طينة آدم.»
ويستطرد ابن مسكويه إلى ذكر الحيوان بما يشبه قول المحدثين عن أسلحة الحيوان في تنازع البقاء، فيقول: إن الحيوان «إن كان ضعيفا لم يعط سلاحا البتة، بل أعطي آلة الهرب كشدة العدو والقدرة على الحيل التي تنجيه من مخاوفه، وأنت ترى ذلك عيانا من الحيوان الذي أعطي القرون التي تجري له مجرى الرماح، والذي أعطي الأنياب والمخالب التي تجري له مجرى السكاكين والخناجر، والذي أعطي آلة الرمي التي تجري له مجرى النبل والنشاب، والذي أعطي الحوافز التي تجري له مجرى الدبوس والطبرزين. فأما ما لم يعط سلاحا لضعفه عن استعماله، ولقلة شجاعته ونقصان قوته الغضبية، ولأنه لو أعطيه لصار كلا عليه، فقد أعطي آلة الهرب والحيل بجودة العدو والخفة والختل والمراوغة؛ كالأرانب وأشباهها. فأما الإنسان فقد عوض من هذه الآلات كلها بأن هدي إلى استعمالها كلها.»
ثم يتدرج إلى أقرب الحيوان إلى الإنسان، وهو «الذي يحاكي الإنسان من تلقاء نفسه، ويتشبه به من غير تعليم كالقردة وما أشبهها، ويبلغ من ذكائها أن تستكفي في التأدب بأن ترى الإنسان يعمل عملا فتعمل مثله، من غير أن تحوج الإنسان إلى تعب بها ورياضة لها. وهذه غاية أفق الحيوان التي إن تجاوزها وقبل زيادة يسيرة خرج بها عن أفقه، وصار في أفق الإنسان الذي يقبل العقل والتمييز والنطق والآلات التي يستعملها، والصور التي تلائمها.
ولا يقف التدرج عند أفق الإنسان، بل يتفاضل الناس بين أمم لا تتميز عن القرود إلا بمرتبة يسيرة، وأمم تتزايد فيهم قوة التمييز والفهم إلى أن يصيروا إلى وسط الأقاليم، فيحدث فيهم الذكاء وسرعة الفهم والقبول للفضائل، وإلى هذا الموضع ينتهي فعل الطبيعة التي وكلها الله عز وجل بالمحسوسات، ثم يستعد بهذا القبول لاكتساب الفضائل واقتنائها بالإرادة والسعي والاجتهاد الذي ذكرناه فيما تقدم، حتى يصل إلى آخر أفقه؛ فإذا صار إلى أفقه اتصل بأول أفق الملائكة، وهذا أعلى مرتبة الإنسان.
وعندها تتأحد الموجودات ويتصل أولها بآخرها، وهو الذي يسمى دائرة الوجود؛ لأن الدائرة هي التي قيل في حدها: إنها خط واحد يبتدئ بالحركة من نقطة وينتهي إليها بعينها. ودائرة الوجود هي المتحدة التي جعلت الكثرة وحدة، وهي التي تدل دلالة صادقة برهانية على موجدها وحكمته وقدرته ووجوده، تبارك اسمه، وتعالى جده، وتقدس ذكره».
إلى أن يقول مخاطبا طالب المعرفة: «وحدث لك الإيمان الصحيح، وشهدت ما غاب عن غيرك من الدهماء، وبلغت أن تتدرج إلى العلوم الشريفة المكونة التي مبدؤها تعلم المنطق؛ فإنه الآلة في تقويم الفهم والعقل الغريزي، ثم الوصول به إلى معرفة الخلائق وطباعها، ثم التعلق بها والتوسع فيها، والتوصل منها إلى العلوم الإلهية، وحينئذ تستعد لقبول مواهب الله عز وجل وعطاياه؛ فيأتيك الفيض الإلهي، فتسكن عن قلق الطبيعة وحركاتها نحو الشهوات الحيوانية، وتلحظ المرتبة التي ترقيت منها أولا من مراتب الموجودات، وعلمت أن كل مرتبة منها محتاجة إلى ما قبلها في وجودها.
وعلمت أن الإنسان لا يتم له كماله إلا بعد أن يصل إلى ما قبله، وإذا صار إنسانا كاملا وبلغ غاية أفقه أشرق نور الأفق الأعلى عليه، وصار إما حكيما تاما تأتيه الإلهامات فيما يتصرف فيه من المحاولات الحكمية، والتأييدات العلوية في التصويرات العقلية، وإما نبيا مؤيدا يأتيه الوحي على ضروب المنازل التي تكون له عند الله تعالى ذكره، فيكون حينئذ واسطة بين الملأ الأعلى والملأ الأسفل؛ ولذلك تكثر حاجات الناس إلى المقومين والمنفعين.»
وفحوى كلام ابن مسكويه أن الترقي الطبيعي ينتهي إلى غاية وسع الطبيعة من ترقية الجسد، وإتمام حسه وأعضائه، ثم يبدأ الترقي بالعقل والخلق من أفق الحيوان إلى ما هو أعلى وأرفع وأقرب إلى الملأ الأعلى.
ولابن مسكويه بحث كهذا في كتابه «الفوز الأصغر» يبدأ فيه من البداءة، وهي ما سماه بالمركز فيقول: «إن أول أثر ظهر في عالمنا هذا من نحو المركز بعد امتزاج العناصر الأولى أثر حركة النفس في النبات، وذلك أنه تميز عن الجماد بالحركة والاغتذاء، وللنبات في قبول الأثر مراتب مختلفة لا تحصى، إلا أنها مقسمة إلى ثلاث مراتب: الأولى والوسطى والأخيرة؛ ليكون الكلام عليه أظهر.» ثم ينتهي كما انتهى بكلامه في تهذيب الأخلاق إلى آخر مرتبة الحيوان، وهي «مراتب القرود وأشباهها من الحيوان الذي قارب الإنسان في خلقته الإنسانية، وليس بينها إلا اليسير الذي إذا تجاوزه صار إنسانا». •••
وأشار ابن خلدون إلى هذا التدرج - أو التطور - فترقى به من المعدن إلى القرد إلى الإنسان، وعلل اختلاف الناس بتأثير الإقليم وأحوال المعيشة على الأبدان والأخلاق.
قال: «إن عالم التكوين ابتدأ من المعادن، ثم النبات، ثم الحيوان على هيئة بديعة من التدريج: آخر أفق المعادن متصل بأول أفق النبات مثل الحشائش وما لا بذور له، وآخر أفق النبات مثل النخل والكرم متصل بأول أفق الحيوان، مثل الحلزون والصدف، ولم يوجد لها إلا قوة اللمس فقط. ومعنى الاتصال في هذه المكونات أن آخر أفق منها مستعد بالاستعداد الغريب لأن يصير أول الأفق الذي بعده. واتسع عالم الحيوان وتعددت أنواعه، وانتهى في تدريجه التكويني إلى الإنسان صاحب الفكر والروية، ترتفع إليه من عالم القردة الذي اجتمع فيه الحس والإدراك، ولم ينته إليه الفكر والروية بالفعل. وكان ذلك أول أفق الإنسان من بعده، وذلك غاية شهودنا.»
وينفي ابن خلدون أوهام القائلين بنسبة الألوان والطبائع إلى الدعوات أو اللعنات فيقول: إن «بعض النسابين ممن لا علم لهم بطبائع الكائنات توهم أن السودان - وهم ولد حام بن نوح - اختصوا بلون السواد لدعوة كانت عليه من أبيه ظهر أثرها في لونه، وفيما جعل الله من الرق في عقبه، ودعاء نوح على ابنه حام قد وقع في التوراة، وليس فيه ذكر السواد، وإنما دعا عليه أن يكون ولده عبيدا لولد إخوته لا غير. وفي القول بنسبة السواد إلى حام علة من طبيعة الحر والبرد وأثرهما في الهواء، وفيما يتكون فيه من الحيوانات.»
ويقول في موضع آخر: «استولى الحر على أبدانهم وفي أصل تكوينهم، فكان في أرواحهم من الحرارة على نسبة أبدانهم، وكذلك يلحق بهم قليلا أهل البلاد البحرية لما كان هواؤها متضاعف الحرارة بما ينعكس عليه من أضواء بسيط البحر وأشعته.»
ويصحح بعض المتقدمين ما لعله سبق إلى الوهم من القول بتدرج الكائنات؛ إذ يخيل إلى الجاهلين بمعناه أنه يعني الكائنات في درجة من مراتبه المترقية، وإنما حقيقته كما قال الخازني: «إننا إذا قلنا: إن الإنسان بلغ حد الكمال وكان يوما عجلا، فصار حمارا، فغدا حصانا، فأضحى بعده قردا ، فليس معنى ذلك أنه كان يوما عجلا فصار حمارا، فغدا حصانا، فأضحى بعده قردا حتى صار في النهاية إنسانا.»
فليس عندهم من الضروري أن يكون كل كائن رفيع قد تنقل قبل ذلك بين أطوار الكائنات التي هي دونه، وإن كان جميع المتكلمين في أطوار الكائنات الحية لا يمنعون إمكان التسافد بين الحشرات والحيوانات المختلفة، كما جاء في كتب الحيوان جميعا، وأسهب فيه الجاحظ على الخصوص إسهابا سلم فيه من كثير من خرافات المتقدمين عليه واللاحقين به في هذا الباب.
وأكثرهم ترديدا لهذه الخرافات القزويني صاحب عجائب المخلوقات، فهو حافل بالأساطير عن اختلاط أنواع الأحياء، وعن الخلائق الأسطورية التي انقرضت ولم يبق منها غير آثارها وأخبارها، وعجائب المخلوقات التي تتوافر الأحاديث عن وجودها في الأطراف النائية التي لم يصل إليها أحد غير من ضل طريقه، أو جنحت به السفن من الملاحين والمغررين.
وهذه الأساطير - كما قلنا في غير هذا الكتاب -
2
تنفعنا الآن أكثر مما تنفعنا حقائق تلك الكتب؛ «لأنها هي البقية الباقية لنا من تلك الأوهام التي تسلطت على العقل البشري في أزمانه الخالية، وهي المفتاح الذي ليس لدينا مفتاح سواه لخزانة المخيلة وما أكنته من تصورات الإنسان ووجدانه، وما انطبع فيها من البدائه العميقة المتغلغلة»، التي عودتنا أن تنطق بالأحاجي والألغاز، وتبهم حتى على صاحبها، وهو الذي أوجدها وصورها.
وهذا الكتاب الذي نحن بصدده مكتظ بتفصيل أنواع هذه الحيوانات، وما يشاكل منها في البر والبحر؛ فمنها كلب الماء، وقنفذ الماء، وبقرة الماء، وفرس الماء، وزعموا أنها تلد من خيل الأرض، ومنها إنسان الماء، ويشبه الإنسان إلا أن له ذنبا. وقد جاء شخص بواحد منه - على قول القزويني - إلى بغداد، فعرضه على الناس، وذكر أنه في بحر الشام ببعض الأوقات يطلع من الماء إلى الحاضرة إنسان، وله لحية بيضاء يسمونه شيخ البحر، ويبقى أياما ثم ينزل، فإذا رآه الناس يستبشرون بالخصب.
وحكى أن بعض الملوك حمل إليه إنسان مائي، فأراد الملك أن يعرف حاله، فزوجه امرأة، فجاء منها ولد يفهم كلام الأبوين، فقيل للولد: ماذا يقول أبوك؟ قال: أذناب الحيوان كلها على أسافلها، فما بال هؤلاء أذنابهم على وجوههم. ونقل عن يعقوب بن إسحاق السراج أن رجلا ركب البحر فألقته الريح إلى جزيرة «فأتى قوم وجوههم كوجوه الكلاب، وسائر أبدانهم كأبدان الناس».
وهذه الأساطير وما شاكلها قد تدرس على أنها تعبيرات من عمل المخيلة في فهم الصورة البعيدة بزمانها أو مكانها، وقد تدرس على أنها ترجمان للوعي الباطن الذي استقر في أعماق بديهة الإنسان وغرائزه الوراثية، ولا بد أن تدرس في جميع الأحوال لأنها مما يصح أن يعتبر «مسودات» للإدراك الإنساني تظهر في كل عصر، ولا تزال في كل عصر معلقة بين الشك واليقين، وبين الوهم والصدق في انتظار التصحيح والتنقيح.
أثر مذهب النشوء في الغرب
قوبل إعلان مذهب النشوء في الغرب بثورة عاصفة من حملات الاستنكار والتكفير في البيئات الدينية، ويرى بعد انقضاء أكثر من قرن على إعلان هذا المذهب، أن حملات الدينيين عليه في البلاد الغربية لم تكن أحذق ولا أليق بالبحث الديني أو العلمي، من أشباه هذه الحملات التي قوبل بها في بلادنا الشرقية يوم انتقل إليها للمرة الأولى، كما سنبينه فيما يلي:
لقد حرم بعض معاهد العلم تدريس مذهب النشوء، فظل هذا التحريم باقي الأثر إلى ما بعد الحرب العالمية الأولى بسنوات، وحوكم الأستاذ سكوب في دايتون (شهر يوليو سنة 1925) لأنه خالف القانون الذي حرم تدريس المذهب لخروجه على العقيدة الدينية. وهذه بعض الأسئلة والأجوبة التي سجلت أثناء المحاكمة بين محامي الدفاع وخبير الاتهام: - هل تقرر أن كل ما ورد في التوراة ينبغي أن يقبل بتفسيره الحرفي؟ - أنا أقرر أن كل ما ورد في التوراة ينبغي أن يقبل كما ورد فيها، وبعض ما جاء في التوراة قد ورد في سياق التشبيه؛ كقوله: «إنكم ملح الأرض»، فلا أستلزم من ذلك أن الإنسان كان ملحا، أو أنه كان له دم من الملح، ولكنني أفهمه كما أفهم معنى شعب الله المختار. - هل لك أن تخبرني، يا مستر بريان، كم عمر الكرة الأرضية؟ - كلا يا سيدي، لست أدري. - ولا على وجه التقريب؟ - لست أحاول، ولعلي أقترب من تقدير العلماء، ولكنني أحب أن أدقق كثيرا قبل الجواب. - إنك لا تعبأ كثيرا بالعلماء. أتعبأ بهم حقا؟ - نعم يا سيدي. - أتعتقد أن الكرة الأرضية صنعت في ستة أيام؟ - ستة أيام، نعم، ولكنها ليست أيام الأربع والعشرين ساعة.
وقد احتدم الجدل أثناء الاستجواب حتى اندفع الفريقان إلى التشهير بالعقائد الشائعة والمذاهب العلمية التي كانت مباحة للناشرين، محرمة على المعلمين، وكان أثر الضجة التي رددتها الصحف والأندية الثقافية حول هذه المحاكمة أن قانون التحريم سقط بالإهمال، ثم بالإلغاء.
إلا أن الباحثين الدينيين عدلوا أخيرا عن التحريم بقوة القانون إلى مناقشة المذهب بالبراهين العلمية، فأخذ منهم فريق في تفسير المذهب بالمعنى الذي يوافق الروايات الدينية بمعانيها الرمزية، وأخذ الفريق الآخر في إنكاره بالأدلة العلمية التي استند إليها العلماء ولا يزالون يستندون إليها إلى هذه الأيام.
فصدر عند الاحتفال بانقضاء ستين سنة على إعلان المذهب كتاب من كتب البحث العلمي على الطريقة الدينية، ألفه الأستاذ ث.ب. بيشوب وسماه «النشوء منتقدا»،
1
ولم يتزحزح فيه عن نصوص الكتب، ولكنه أخرج من هذه النصوص ما يتناول الفترات التي تضطرب فيها روايات التاريخ؛ كالفترة بين الفيضان ووفود الخليل إبراهيم إلى كنعان، وأخرج منها الفترات التي لا تتعارض فيها النصوص والشواهد الجيولوجية، ثم بنى انتقاده للمذهب على مطالبة النشوئيين بالدليل؛ لأن العصور الجيولوجية لم تتكشف قط عن إنسان يخالف في تكوينه الثابت تكوين النوع الإنساني في صورته الحاضرة، ولم تبق من آثار الطوارئ الجيولوجية بقية من أنواع الأحياء الأولى، بل يرجح أن أقدم هذه العصور لا يعود بنا إلى مسافة أبعد من منتصف الطريق، كما رأى والاس شريك دارون؛ حيث يقول في كتابه عن عالم الحياة:
إنه لمن المحتمل جدا أن السجلات الجيولوجية الباقية لا تحملنا إلى أبعد من منتصف العمر الذي عمرته الحياة على الكرة الأرضية.
فليس في السجلات الجيولوجية دليل ولا قرينة تؤيد القول بتطور الإنسان من نوع آخر، وأهم من ذلك أنه لا يوجد أمامنا دليل يؤيد تحول الأنواع في عالم الحيوان أو عالم النبات، وإن تشابه الأجنة الذي يتخذه بعض النشوئيين دليلا على التشابه القديم بين أنواع الحيوانات دليل مكذوب؛ لأن صور الأجنة الصحيحة لا تبرز هذا الشبه، وما عدا ذلك من الصور المتشابهة فهو مزور باعتراف واضع تلك الصور العالم الألماني أرنست هكل؛ فإنه أعلن بعد انتقاد علماء الأجنة له أنه اضطر إلى تكملة الشبه في نحو ثمانية في المائة من صور الأجنة لنقص الرسم المنقول.
ولم يدع بيشوب دليلا علميا بغير تعقيب عليه يستند إلى أقوال العلماء المختصين، فقال: إن حصان الحفريات على أقدم صورة لها يثبت من نسبته إلى نوع الخيل غير الأسنان، وإن الطائر الذي قيل إنه الحلقة المفقودة بين الزواحف والطيور لم يتبعه قط في تسلسل الحفريات طائر ذو أسنان.
وأيا كان نظام التطور بالنسبة إلى الخالق، فالعالم النشوئي الأمين على علمه لا يتخذه سببا من أسباب الإلحاد، وكذلك كان والاس مؤمنا بالعقل المدبر كما قال في كتابه عن عالم الحياة؛ إذ يقرر جازما باعتقاده: «إن ما تتطلبه - إطلاقا - ولا مناص من الاستدلال عليه، هو ذلك العقل الذي هو أسمى وأعظم وأقوى من كل هذه العقول المتفرقة التي نراها حولنا، وإنه لعقل لا يقدر على تسيير هذه القوى العاملة في الأنواع الحية وعلى إرشادها وتدبيرها وحسب، بل إنه لهو بذاته ينبوع تلك القوى والعوامل، وينبوع لما هو الأساس الأول لكل ما في هذه العوالم المادية.» •••
ويؤخذ من متابعة الفترات التي يستعاد فيها النقاش حول أصل الإنسان أنها ترتبط بالمحن «الروحية» التي تثيرها مشكلات العالم الكبرى، وأكبرها في القرن العشرين مشكلة الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية، وقد تكون المناسبة لاستعادة النقاش تاريخية من قبيل الذكريات الموقوتة بالعشرات أو بالمئات من السنين، ولكنها إنما تستعاد في هذه المناسبات ببواعث الشكوك والمنازعات التي تصاحب الحروب العالمية والفتن الاجتماعية.
ولهذا كانت نهاية الحرب العالمية الثانية دورا من أهم أدوار البحث في مذهب النشوء بما دعت إليه من بحوث متشعبة في تنازع البقاء وإرادة القوة، وفي تفسير التاريخ بالعوامل الاقتصادية أو العوامل الفكرية والروحية، وفي هذه السنة - سنة 1945 - تدفقت الكتب التي تعرض لهذه المباحث بأقلام علماء الطبيعة وعلماء اللاهوت، ولكن مؤلفات اللاهوتيين في هذه الفترة لم تكن دون مؤلفات العلماء الطبيعيين في حجج العلم، وشواهد التجربة، وصدق النظر في أقوال الأنصار والخصوم.
ولعل أجمعها فيما اطلعنا عليه كتاب «الله والإنسان والكون»،
2
الذي توفر على تأليفه نخبة من الباحثين الدينيين يعرضون وجهات النظر «الكاثوليكية» في تحقيق كل فلسفة تبحث في الأصول، ومنها: أصل المادة، وأصل العقيدة، وأصل الإنسان، وأصل النظام الاجتماعي، وما يتشعب عن هذه الأصول من البحث في مشكلة الشر، وتاريخ الكنيسة، ورأس المال، والمادية الماركسية، وغيرها من مشكلات الإنسان التي تتوالى في كل زمان بأسلوب وعنوان. •••
وقد استفاد مؤلفو هذه المجموعة من جميع المعارك العلمية التي انتشرت بعد الحرب العالمية الأولى، ولم تكن متداولة بين الكتاب اللاهوتيين في الربع الأول من القرن العشرين، وأمعنوا في التفصيلات التشريحية التي كانت مجملة في الفوارق الواسعة بين تركيب القرد وتركيب الإنسان، ولا سيما الفارق المميز للإنسان الناطق، وهو قوام الفصل بين النوع الآدمي وعامة الأنواع العليا.
فهذا الفارق الواسع في الملكات العقلية يقابله فارق دقيق في تكوين الدماغ يبين استحالة النطق بغير هذا التركيب الإنساني الخاص بدماغ الإنسان دون سواه؛ فالرأس الإنساني يحتوي جميع المناطق التي وضعناها في رءوس القردة، ولكنها تتخصص بمناطق أخرى تسمى بالمناطق الثانوية، أبرزها تلك المنطقة الخاصة بمراكز الألفاظ الكلامية، وهي مستحيلة بغير الاتصال الوثيق بأجهزة الكلام من عضلات الوجه والفم والبلعوم مع جهاز التنفس، سواء من جانب حركات الحس ومراكز اللمس والسمع، بل البصر كذلك.
فهناك مركز للنطق في مقدمة مراكز الحركة في الوجه، ومراكز بصرية للكلام في المنطقة الجدارية، ومراكز سمعية في الفص الصدغي، وفقدان مراكز الحركة يستتبع العجز عن الحركات المتقابلة الضرورية للنطق بغير تعطيل عمل اللسان والشفتين، كذلك تستتبع آفات البصر عجزا عن قراءة الكلمة المكتوبة، كما تستتبع آفات السمع عجزا عن فهم الكلمة الملفوظة وإن تيسر سماعها، ويضاف إلى هذه المراكز مراكز أخرى خلفية يرى بعضهم أنها مقر لأدق الوظائف السيكولوجية. ولا يوجد غير الشمبانزي بين القردة المعاصرة حيوان له مناطق ثانوية ذات امتداد جد ضعيف. •••
وعلى هذه الوتيرة المطردة يؤدي هؤلاء العلماء اللاهوتيون أمانة «العلم الطبيعي» لإبراز مواضع الشبهة في أدلة مذهب النشوء وقرائنه التي ترتفع إلى قوة الدليل، فهم يوسعون الفارق غاية التوسع المحتمل في حدود المقررات العلمية، ولا يدعون فارقا خفيا منها؛ وضحوه وكبروه وبلغوا به غاية الشك، وباعدوا غاية البعد بينه وبين مرجحات اليقين، ولم يقصروا ذلك على الأدلة أو القرائن التي يستند إليها النشوئيون للقول بتحول النوع الإنساني من الأنواع الدنيا، بل شملوا به كل دليل وكل قرينة تدعم فروض التحول بين نوع ونوع من الحشرات والأسماك والزواحف والطيور والفقاريات، ومنها المتسلقات وغير المتسلقات. •••
وقوبل مذهب النشوء باعتراض شديد بين علماء الطبيعة الذين ناقشوه بالأدلة العلمية، وطلبوا من دعاته دليلا محسوسا على فعل الانتخاب الطبيعي في تحول الأنواع، ولا سيما نوع الإنسان؛ فالمعترضون عليه - طلبا للأدلة الطبيعية - لا يقلون عددا ولا اعتراضا عن المعترضين اللاهوتيين.
وقد أيده أناس من كبار علماء الطبيعة وتحمسوا لتأييده، فكان تحمسهم له باسم حرية الرأي أشد من تحمسهم له إيمانا بحقيقته، واعترافا بكفاية براهينه، فمن هؤلاء العلماء، بل من أشدهم حماسة له توماس هكسلي، صديق دارون وصهره ومدره
3
المذهب كله في حياته؛ فإنه لم يزعم قط أن أدلة الانتخاب الطبيعي المؤيد لتحول الأنواع كافية لتقرير هذه النتيجة، وإنما كان يقول: إن الانتخاب الطبيعي يفسر لنا جملة من الظواهر والمشاهدات تبقى بغير تفسير لو لم نتقبل مبادئ الانتخاب الطبيعي، كما عرضها دارون بعد تعديله لآراء لامارك.
ويرى العالم البيولوجي الكبير أن نظرية التطور على أساس الانتخاب الطبيعي إنما هي نظرية منطقية، وليست بالنظرية التي تعتمد على شواهد التجربة والأدلة الحسية، قال في رده على هربرت سبنسر: «إننا لن نستطيع أن نثبت بالمشاهدة عملية الانتخاب الطبيعي»، وإن قول هربرت سبنسر: «إنه إما أن تحدث وراثة للصفات المكتسبة، أو لا يحدث تطور على الإطلاق»، إنما هو دليل منطقي، وليس بالدليل التجريبي، وهو مع ذلك ليس بالدليل الملزم في قضايا المنطق؛ لأن تعليل التطور بغير وراثة الصفات المكتسبة ليس بالفرض المستحيل. •••
وبقيت هذه العقدة عصية الحل على القائلين بالتحول النوعي إلى اليوم، فلم يتقدم أحد من النشوئيين عند الاحتفال بذكرى كتاب «أصل الأنواع» (1958) بدفع حاسم لشكوك المترددين في قبول تحول الأنواع. وقد كتب دوبزانسكي
Dobzansky ، أشهر المختصين بالبيولوجية النوعية، فصلا عن الأنواع بعد دارون في مجموعة «قرن من دارون»،
4
فلم يحاول تهوين القضية، ولكنه زاد أسبابا جديدة لبيان الصعوبات التي تحول دون تلاقي الناسلات والصبغيات في أرحام أفراد الحيوان المتميزة، وزاد أسبابا أخرى لبيان الصعوبات التي تحول دون تلاقي الفردين من نوع واحد أخذ في التباعد والاختلاف، ومن ذلك نقص الألفة بين الذكور والإناث كلما ابتعدت أشكالها، ولو بقيت ناسلاتها وصبغياتها قابلة للتزاوج والانقسام إلى تمام تكوين الجنين. •••
وآخر ما نعلم من أطوار هذه المشكلة أن البحث عن الحلقة المفقودة ينتقل الآن من سلسلة الأنواع إلى سلسلة الناسلات
Genes
والصبغيات، وأن الأمل في الوصول إلى هذه الحلقة من استقصاء تاريخ الناسلات
أقرب في رأي البيولوجيين من استقصاء تاريخ الأنواع.
وقد ألف الأستاذ برنارد رينش، أستاذ علم الحيوان بجامعة ميونستر، كتابه عن «التطور فوق مستوى الأنواع»؛
5
ليشرح هذه الفكرة، ويبين أن عزل النوع إنما يتم بانعزال ناسلاته، وأن البحث في تاريخ تغير الناسلات هو مرجع البحث الأصيل؛ للوصول إلى الحلقة التي تفصل بين ما تقدمها وما تلاها، وتنشئ شروطا جديدة للنسل والوراثة، فتعتبر بذلك حدا فاصلا بين نوعين.
فليس من السهل أن ننتظر تحول الأنواع بعد تطورها، وابتعاد أواخرها من أوائلها الموغلة في القدم، ولكننا إذا اكتشفنا سر تطور الناسلات وانعزالها بخصائص التوريث دفعة واحدة أو على درجات متقاربة، فها هنا محل الحلقة المفقودة في سلسلة الأنواع.
مذهب التطور في الشرق العربي
من خصائص مذهب دارون - على ما يظهر - أن يشيع على نحو واحد قبل الوقوف على شروحه وبراهينه، وأن يثير ضروبا متقاربة من الاعتراض في مواطن العقيدة والثقافة العامة؛ فإنه لقي في الشرق العربي مثل ما لقيه من التحريف والاعتراض في البلاد الأوروبية، وتتابعت أدوار السماع به، ثم الإشاعة عنه، ثم الرد عليه بين المفكرين وقراء العلم الشرقيين، كما تتابعت قبل ذلك بين مفكري الغرب وقرائه، وتكرار هذا كله في الشرق العربي كأنه يحدث للمرة الأولى، ولم تنقشع شبهاته عن حقائقه إلا بعد الثورة المفاجئة التي يظهر - كما أسلفنا - أنها مقدمة لا بد منها، وأثر من آثار الصدمة الشعورية المفاجئة لا محيص عنه.
وقد تصدى للرد عليه في الشرق الإسلامي عامة، والشرق العربي خاصة، نخبة من المفكرين وقادة الإصلاح والمجتهدين من أتباع جميع الأديان الكتابية، وناقشوه - كما شاع لأول وهلة بين الغربيين من قبل - كأنه مذهب يستلزم إنكار الخلق، ويزعم أن القردة جدود البشر أجمعين، فكل إنسان حديث فهو نسل متأخر لقرد قديم.
وقلما يتصور القارئ العصري أن مذهبا كمذهب التطور يشيع في الشرق العربي قبل مائة سنة، ويتصدى للرد عليه عدد من الكتاب كذلك العدد الذي بقيت لنا بعض كتاباته، وانطوى أكثرها في زوايا المطبوعات المهجورة من المصنفات والنشرات الصحفية؛ لأن القارئ العصري يحسب أن مذهب التطور قد وصل إلى الأمم الشرقية وهي في «جاهلية»؛ لا تبلغها دعوة عالم أو مفكر من أبناء الأمم الأجنبية.
ولكن الواقع أن «جاهلية» القرن التاسع عشر لم تكن في شرقنا العربي حجابا دون المذاهب الفكرية التي يطلع عليها الأوروبي المثقف في حينها، ولم يكن مذهب كمذهب التطور لينعزل في حيز محدود بين جدران وطن واحد وهو يتحدث عن نسب الإنسان حيثما كان، في زمن لم يتحدث فيه الناس عن شيء كما تحدثوا عن مفاخر الأمم بالأصول الإنسانية، وبالأنساب التي يدعيها السادة لأنفسهم، وينكرونها على الرعايا المستعبدين. •••
وسنختار في هذا الفصل أمثلة من مناقشة المذهب كما فهمه في ذلك العصر أصحاب الاجتهاد ورواد الفكر من المسلمين والمسيحيين، ومنهم أهل السنة والشيعة، وأتباع الكنائس الشرقية والغربية في بلاد العالم العربي، وقد وصلت أصداء الردود التي كتبها المشهورون من أولئك المفكرين إلى أطراف البلاد الإسلامية في الهند والصين.
قال السيد جمال الدين الأفغاني - من أئمة المصلحين من أهل السنة - في كتاب «الرد على الدهريين»:
رأس القائلين بهذا القول دارون، وقد ألف كتابا في بيان أن الإنسان كان قردا، ثم عرض له التنقيح والتهذيب في صورته بالتدريج على تتالي القرون المتطاولة، وبتأثير الفواعل الطبيعية الخارجية؛ حتى ارتقى إلى برزخ أوران أوتان، ثم ارتقى من تلك الصورة إلى أول مراتب الإنسان، فكان صنف النيمنم وسائر الزنوج، ومن هناك عرج بعض أفراده إلى أفق أعلى وأرفع من أفق الزنجيين، فكان الإنسان القوقاسي. وعلى زعم دارون هذا، يمكن أن يصير البرغوث فيلا بمرور القرون وكر الدهور، وأن ينقلب الفيل برغوثا كذلك.
فإن سئل دارون عن الأشجار القائمة في غابات الهند، والنباتات المتولدة من أزمان بعيدة لا يحدها التاريخ إلا ظنا، وأصولها تضرب في بقعة واحدة، وفروعها تذهب في هواء واحد، وعروقها تسقى بماء واحد، فما السبب في اختلاف كل منها عن الآخر في بنيته، أو أشكال أوراقه، وطوله وقصره، وضخامة ورقته، وزهره وثمره، وطعمه ورائحته وعمره، فأي فاعل خارجي أثر فيها حتى خالف بينها مع وحدة المكان والماء والهواء؟ أظن لا سبيل إلى الجواب سوى العجز عنه.
وإن قيل له: هذه أسماك بحيرة أورال وبحر كسبين تشاركها في المأكل والمشرب، وتسابقها في ميدان واحد، ترى فيها اختلافا نوعيا وتباينا بعيدا في الألوان والأشكال والأعمال؛ فما السبب في هذا التباين والتفاوت؟ فلا أراه يلجأ في الجواب إلا إلى الحصر.
وهكذا لو عرضت عليه الحيوانات المختلفة البنى والصور والقوى والخواص، وهي تعيش في منطقة واحدة، ولا تسلم حياتها في سائر المناطق من الحشرات المتباينة في الخلقة، المتباعدة في التركيب، المتولدة في بقعة واحدة، ولا طاقة لها على قطع المسافات البعيدة؛ فماذا تكون حجته في علة اختلافها؟ بل إذا قيل له: أي هاد هدى تلك الجراثيم في نقصها وخداجها؟
وأي مرشد أرشدها إلى استتمام هذه الجوارح والأعضاء الظاهرة والباطنة ، ووضعها على مقتضى الحكمة، وإيداع كل منها قوة على حسبه، ونوطها بكل قوة في عضو أداء وظيفته، وإيفاد عمل حيوي مما عجز الحكماء عن درك سره، ووقف علماء الفسيولوجيا دون الوصول إلى تحديد منافعه؟ وكيف صارت الضرورة العمياء معلما لتلك الجراثيم، وهاديا خبيرا لطرق جميع الكمالات الصورية والمعنوية؟ فلا ريب أنه يقبع قبوع القنفذ، وينتكس بين أمواج الحيرة يدفعه ريب ويتلقاه شك إلى أبد الآبدين.
وكأني بهذا المسكين وما رماه في مجاهيل الأوهام ومجاهيل الخرافات إلا قرب المشابهة بين القرد والإنسان، وكان ما أخذ به من الشبهة الواهية ألهية يشغل بها نفسه عن آلام الحيرة وحسرات العماية.
وإنا نورد شيئا مما تمسك به، فمن ذلك أن الخيل في سيبيريا وبلاد الروسية أطول وأغزر شعرا من الخيل المولدة في البلاد العربية، وإنما علة ذلك الضرورة وعدمها. ونقول: إن السبب فيما ذكره هو عين السبب لكثرة النبات وقلته في بقعة واحدة لوقتين مختلفين حسب كثرة الأمطار وقلتها، ووفور المياه ونزورها أوجد علة النحافة ودقة العود في سكان البلاد الحارة، والضخامة والسمن في أهل البلاد الباردة؛ بما يعتري البدن من كثرة التحلل في الحرارة، وقلته في البرودة.
ومن واهياته ما كان يرويه دارون من أن جماعة كانوا يقطعون أذناب كلابهم، فلما واظبوا على عملهم هذا قرونا صارت الكلاب تولد بلا أذناب؛ كأنه يقول حيث لم تعد للذنب حاجة كفت الطبيعة عن هبته، وهل صمت أذن هذا المسكين عن سماع خبر العبرانيين والعرب وما يجرونه من الختان ألوفا من السنين؛ لا يولد مولود حتى يختن، وإلى الآن لم يولد واحد منهم مختونا إلا لإعجاز.
ولما ظهر لجماعة من متأخري الماديين فساد ما تمسك به أسلافهم نبذوا آراءهم، وأخذوا طريقا جديدة، فقالوا: ليس من الممكن أن تكون المادة العارية عن الشعور مصدرا لهذا النظام المتقن، والهيئة البديعة، والأشكال العجيبة، والصور الأنيقة، وغير ذلك مما خفي سره وظهر أثره، ولكن العلة في نظام الكون علويه وسفليه، والموجب لاختلاف الصور، والمقدر لأشكالها وأطوارها وما يلزم لبقائها، تتركب من ثلاثة أشياء: متيير، وفورس، وانتليجانس؛ أي مادة وقوة وإدراك.
وظنوا أن المادة بما لها من القوة، وما يلامسها من الإدراك تجلت وتنجلي بهذه الأشكال والهيئات، وعندما تظهر بصورة الأجساد الحية، نباتية كانت أو حيوانية، تراعي بما يلابسها من الشعور، وما يلزم لبقاء الشخص وحفظ النوع، فتنشئ لها من الأعضاء والآلات ما يفي بأداء الوظائف الشخصية والنوعية، مع الالتفات إلى الأزمنة والأمكنة والفصول السنوية.
هذا أنفس ما وجدوا من حلية لمذهبهم العاطل، بعدما دخلوا ألف جحر وخرجوا من ألف نفق، وما هو أقرب إلى العقل من سائر أوهامهم، ولا هو بالمنطبق على سائر أصولهم؛ فإنهم يرون كسائر المتأخرين أن الأجسام مركبة من الأجزاء الديمقراطيسية - نسبة إلى ديمقراطيس - ولا ينطبق رأيهم الجديد في هذا النظام الكوني على رأيهم في تركيب الأجسام، وذلك لأنه يلزم عن القول بشعور المادة أن يكون لكل جزء ديمقراطيسي شعور خاص، كما يلزم أن تكون له قوة خاصة ينفصل بها عن سائر الأجزاء؛ إذ لا يمكن قيام العرض الواحد وحدة شخصية بمحلين، فلا يقوم علم واحد بجزأين ولا بأجزاء.
وبعد ذلك، فإني سائلهم: كيف اطلع كل جزء من أجزاء المادة مع انفصالها على مقاصد سائر الأجزاء، وبأية آلة أفهم كل منها باقيها بما ينويه من مطلبه؟ وأي برلمان أو أي سنات - مجلس شيوخ - عقدت للتشاور في إبداع هذه المكونات العالية التركيب، البديعة التأليف؟ وأنى لهذه الأجزاء أن تعلم وهي في بيضة العصفور ضرورة ظهورها في هيئة طير يأكل الحبوب، فمن الواجب أن يكون له منقار وحوصلة لحاجته في حياته إليهما؟
وبعد كتابة «الرد على الدهريين» بنحو ثلاثين سنة، ظهر كتاب نقد «فلسفة دارون» لمؤلفه الشيخ «محمد رضا آل العلامة التقي الأصفهاني»، وهو باحث فاضل من علماء الشيعة بكربلاء المعلى، تحرى النظر في مجموعة وافية من مراجع مذهب النشوء العربية والإفرنجية التي وصلت إلى الشرق الإسلامي بعد كتابة «الرد على الدهريين»، ولم يقنع بما اطلع عليه من هذه المراجع، بل أرسل في طلب غيرها من المراجع المستحدثة، ولكنه ألف كتابه ولم ينتظر وصولها إليه لولا «الباعث الديني»، كما جاء في مقدمة الكتاب.
حيث يقول: إن دارون وسائر رؤساء هذه الفلسفة ألفوا كتبا غير موجودة عندنا، «وكان الحزم تأخير تصنيف هذا الكتاب إلى زمن وصولها لولا الباعث الديني، وظننا أنه يوجب علينا المسارعة، ولا يبعد أن يكون قد منعنا صغرى دليل قد فزع هؤلاء من إثباته، أو كبرى حجة مذكور في كتبهم برهانا، وأنا أقترح عليهم أن يخابرونا بما يجدونه منه ومن أمثاله لننظر فيه، ولهم علينا أن نستعمل الإنصاف لا المكابرة.»
ولم يقصد المؤلف بالباعث الديني أن يقصر ردوده على مناقشة الآراء التي تخالف الديانة الإسلامية دون سائر الديانات، ولكنه أراد أن ينقض أدلة الإلحاد التي تعارض الإيمان بالله وبالعقائد الإلهية على إجمالها، وقد قال في كلمته الخاصة بالمؤمنين: «ليعلم أن كتابي هذا موضوع للدفاع عن الدين المطلق في قبال اللادين المحض، لا للانتصار لدين على دين؛ ولهذا تراني أدفع ما استطعت عن أديان لا أنتحلها، ومذاهب لا أقول بها؛ لأن أحد هؤلاء لا يثلب دينا إلا وقصده ثلب الأديان عامة، ولا يزري على شريعة إلا ليسري إزراؤه إلى الشرائع قاطبة.»
وأنصف المؤلف مذهب النشوء فلم يحسبه من مذاهب الإلحاد والتعطيل؛ لأن القول بالنشوء لا يقتضي إنكار الخالق، وإنما يتسرب إليه الإلحاد من تفسيرات الماديين لمقدماته على الوجه الذي يوافق نتائجهم المقررة عندهم قبل ظهوره، فيقول المؤلف عن فلسفة النشوء والارتقاء: إنها «ليست مما ينافي الدين؛ إذ الذي يجب علينا اعتقاده هو أن جميع الموجودات بأراضيها وسماواتها، وما فيها من صنوف المخلوقات من نباتاتها وحيواناتها، والبشر على صنوفها واختلاف لغاتها، صنع إله واحد قادر حكيم قد وسع كل شيء علما، وأتقنه صنعا، خلق جميع الأصناف من جميع الأنواع عن قصد واختيار.
وهذا أمر متفق عليه في جميع الأديان، وأما كيفية الخلق، وأن هذه الأنواع كلها خلقت خلقا مستقلا، ووجدت من كتم العدم ابتداء، وأنها لم تتغير عما وجدت عليه في أوائل الخلق؛ فهذا أمر لم يرد فيه نص صريح من الكتاب، ولا متواتر من السنة، وسواء كانت آباء الجمل جمالا أو كانت ضفادع تنق في الماء، والجد الأعلى للفيل فيلا أو «سنونوا» يطير في الهواء؛ فإن أدلة الصنع عليهما في الحالين ظاهرة، وفيها على وجود الصانع الحكيم آيات باهرة؛ ففرصة الملاحدة بهذه الآراء وجعلها أساسا للإلحاد من أغرب الأشياء.»
ثم يقول المؤلف: إن هذه الآراء «ليس فيها إلا بيان ترتيب المخلوقات وكيفية الصنع فيها، ومتى كان أهل الدين ينكرون ذلك، ويدعون أن الله تعالى خلق جميع الأشياء في وقت واحد خلقا مستقلا عن الآخر؟ وهم يرون الله تعالى بلطيف حكمته، وبديع صنعته يخلق الثمر من الشجر، والشجر من النواة، ولا يجعل العنب حلوا إلا بعدما يجعله حامضا، ولا يجعله حامضا إلا بعدما يجعله مرا.»
ويستطرد المؤلف إلى تلخيص آراء النشوئيين الذين آمنوا بالخالق، ثم يرجع إلى أقوال الأقدمين من الهمج الذين انتسبوا إلى القردة كما انتسبوا إلى غيرها من الحيوان، ويرجع بعد ذلك إلى أقوال أئمة المسلمين الذين عرفوا الشبه بين الإنسان والقرد، ولم يذهبوا مذهب دارون في تعويله على وجوه الشبه، وإعراضه عن وجوه الخلاف، فيقول: «إن أئمة المسلمين وعلماءهم ذكروا ما هو أغرب وأقرب.»
ويستشهد بكتاب التوحيد الذي أملاه الإمام جعفر الصادق على المفضل بن عمر الجعفي، ومنه على رواية المؤلف: «تأمل خلق القرد وشبهه بالإنسان في كثير من أعضائه، أعني الرأس والوجه والمنكبين، وكذلك أحشاؤه أيضا شبيهة بأحشاء الإنسان، وخص مع ذلك بالذهن والفطنة التي بها يفهم من سائسه ما يومئ إليه، ويحكي كثيرا مما يرى الإنسان يفعله؛ حتى أنه ليقرب من خلق الإنسان وشمائله أن يكون عبرة للإنسان نفسه، فيعلم أنه من طينة البهائم وسنحها؛ إذ كان يقرب من خلقها هذا القرب، وأنه لولا فضيلة فضل بها في الذهن والعقل والنطق كان كبعض البهائم، على أن في جسم القرد فضولا أخرى تفرق بينه وبين الإنسان؛ كالخطم، والذنب المسدل، والشعر المجلل للجسم كله، وهذا لم يكن مانعا للقرد أن يلحق بالإنسان لو أعطي مثل ذهن الإنسان وعقله ونطقه.»
وينتقل المؤلف إلى كلام الدميري؛ إذ يقول عن القرد: إنه «أشبه الإنسان في غالب حالاته؛ فإنه يضحك ويطرب، ويغني ويحكي، ويتناول الشيء بيده، وله أصابع مفصلة إلى أنامل وأظافر، ويقبل التلقين والتعليم، ويأنس بالناس، ويمشي على رجليه حينا يسيرا، ولشعر عينيه الأسفل أهداب، وليس ذلك لشيء من الحيوان سواه؛ فهو كالإنسان، ويأخذ نفسه بالزواج والغيرة على الإناث - وهما خصلتان من مفاخر الإنسان - فإذا زاد به الشبق استمنى بفيه، وتحمل الأنثى أولادها كما تحمل المرأة ... وفيه من قبول التأديب والتعليم ما لا يخفى.»
ويذكر المؤلف أن إخوان الصفاء بلغوا بوصف هذه المشابهة ما لم يبلغه دارون؛ حيث قالوا: إن القرد «لقرب شكل جسمه من جسد الإنسان صارت نفسه تحاكي النفس الإنسانية»، ثم يعقب على هذه التشبيهات جميعا فيقول: إن الإنسان كما يشابه القرد في أشياء يشابه غيره من الحيوان في غيرها، «بل لعل في الحيوانات الدنيا من شبه الإنسان أقساما لا توجد في العليا، فلا يصح الاعتماد على مجرد المشابهة. وهذا الأستاذ الشهير «كوفييه» يقول: إن إدراك القرد ليس أرقى من إدراك الكلب إلا قليلا، وإذا سلمنا أن من لوازم المشابهة التحول، فكيف يتعين تحول الإنسان عن حيوان نشأ عنه القرد؟ فلعل الإنسان تحول قردا! وهذا ما نص عليه الذكر الحكيم».
وبعد مناقشة المؤلف قرينة الشبه الظاهر بين الإنسان والقرد، مضى يناقش القرائن الأخرى التي يستند إليها النشوئيون للقول بتحول الأنواع، وتحول النوع الإنساني من بينها عن أصله المشترك بينه وبين الفقاريات العليا، فنهج في مناقشته على هذا المنهج الذي يستمد الدليل من أصول الجدل المنطقي تارة، ومن تجارب للواقع تارة أخرى، وأفادته مطالعاته المتفرقة لمراجع المذهب فلم يخطئ مواضع الحجة الواقعية أحيانا، مع اعتماده الغالب على منهج النقائض الجدلية.
ومن قبيل ذلك أنه عمد إلى دليل من أقوى أدلة النشوئيين، وهو بقاء الأعضاء الأثرية - كالثندوة - في ذكور الإنسان، فتساءل: «لا أدري لماذا بقي أثر عار الخنوثة ظاهرا في الإنسان، ولم يبق فيما هو أدون منه في سلم الارتقاء كذوات الحافر؟» ولم ينس أن يستدرك على هذا الاعتراض بما أسنده إلى ما قال الشيخ الرئيس في الشفاء:
إن الفيل الذكر له ثدي كما للإنسان، وذكور ذوات الحافر لا ثدي لها إلا ما يشبه أمهاتها، وينزع إليها كما يعرض مرارا في الخيل.
وجملة رأي المؤلف أن ما يسمى بالأعضاء الأثرية يدخل في باب «الشذوذات» التي تعرض لتركيب بعض الأحياء وهي أجنة في بطون أمهاتها، أو تعرض لها خلال نموها، وعدد من ذلك ما يولد وله أربع أيد، أو ما يولد وله جوف واحد ورأسان وأربع أقدام، أو ما يولد وقلبه في غير موضعه، ثم قال متسائلا: «فهل يمكن تعليل هذه الشواذ المشنوعة بحيوانات كانت كذلك في العصور الجيولوجية، فانتقلت إلى هؤلاء التعساء بناموس «الأتافيسيم»؟ فإن لم يمكن ذلك؛ فلتكن الشواذ التي فيها بعض الشبه بالحيوانات من هذا القبيل.»
ومنهج المؤلف في نقد الانتخاب الجنسي - وهو سبب هام من أسباب التطور - كمنهجه فيما تقدم، فهو يبدأ بالانتخاب الجنسي في النبات ويسأل: كيف يقع الانتخاب الجنسي بين النباتات التي لا يتوقف تلقيحها على الحشرات والطيور؟ وكيف تميز الحشرات والطيور ما هو جميل وما هو أجمل؟ ثم يقول: «إن العجماوات قليلة الإدراك لما في المصنوعات الجميلة من الجمال، حتى أن بعضهم جعل ذلك أعظم فارق بين الإنسان وبينهما، وكان الأستاذ هكسلي ممن يذهب هذا المذهب.»
قال: «ثم هب أن هذه الحيوانات الملحقة عذرية الهوى والغرام، وهائمة بالجمال كعروة بن خزام، ولكنها لا تريد مغازلتها، بل تطلب رزقها المقسوم لها، وعند أي نبات وجدته لقحته حسنا كان أو قبيحا، فلا أدري بم يعلل هذا الحسن والانتظام في الفواكه والأثمار، وما فيها من الطعم المحبوب، والنكهة الطيبة ونحوهما مما لا يوجد إلا بعد التلقيح؟»
ثم أنحى المؤلف على أساس مذهب التحول؛ لأنه قائم على افتراض تعدد الأنواع بعد انفرادها أو قلتها، وليس هذا الافتراض باللازم ضرورة من قياس العقل، ولا من نتائج الواقع: «ومن الطريف في هذا الرأي أنه كما يمكن أن يعلل به القول باتحاد أصول الأنواع أو قلتها، كذلك يمكن القول بعكس ذلك والتعليل له أيضا، فيقال: إن أصول الأحياء كانت في بدء الخلق أفرادا متباينة بأقصى ما يكون من التباين وعدم التشابه، فلم يزل كل حي يخلف نسلا يشبهه بناموس الوراثة، ويباينه بناموس المباينة، لكن بما يقربه إلى فرد آخر.
فلم تزل تلك المباينات مع الأجداد تزيد المشابهات مع سائر الأفراد، وتنازع البقاء يلاشي الضعيف، والطبيعة تنتخب القوى حتى صارت التباينات التي قلنا: إنها مع غير المشابهات ثابتة، فتألفت منه الأنواع الموجودة، وله شواهد على مذهب هؤلاء، فالحية مثلا تعد الآن من جنس الدبابات، ولا تجتمع معها في الأصل، بل أصلها من ذوات الأرجل، وقل مثله في الحيوانات المنحطة التي يذكرها بخنر وغيره، فإنها الآن تؤلف جنس المنحطات وهي بعيدة في الأصل منها.»
قال: «وهذا الاحتمال وإن لم أجد أحدا قال به في أصول الأنواع، ولكنه أحد القولين المشهورين في أصل اللغات. وعند العلماء مذهبان شهيران؛ الأول: أن لغات البشر متشابهة، وهي كلها من أصل واحد، وهذا الأصل قد تفرع وتنوع فتولدت منه لغات البشر المختلفة، فما اللغات سوى لهجات من لغة واحدة، ولكنها بعدت عن الأصل كثيرا، وتغيرت بالزيادة والنقصان، والنحت والحذف؛ حتى بعدت بعضها عن بعض هذا البعد الشاسع، وتعذر رد بعضها إلى بعض لفقد الحلقات الكثيرة من بينها، والمذهب الثاني: أنه كانت للغات البشر أصول مختلفة بحسب عدد طوائفها، وأنه مع الزمان اقتربت هذه اللغات بعضها من بعض، فتمازجت وتشابهت بتمازج أهلها وتشابههم إلخ. وعند الكاتب أن المذهب الثاني أقرب إلى الصحة وأقدر على حل المشكلات من الأول.»
وتابع المؤلف بحثه في النشوء، فاستطرد منه إلى البحث في الارتقاء وسأل: «أي معنى لارتقاء ذوات الأربع عن الطيور، وارتقاء الإنسان عن ذوات الأربع مع اشتراك الكل في حصول التغير؟»
وانتهى المؤلف إلى أن المذهب كله ناقص الإسناد، لا توجد فيه حجة قاطعة غير قرائن الترجيح والتغليب، ولا غنى له عن المزيد من البحث والتنقيب، كما قال بعد أكثر من خمسمائة صفحة على هذا المنهج مستندا إلى قول فيرسو العالم الألماني: «إنه في بعض طوائف الناس صفات يشاركهم القرد فيها، كما في بروز الفك وفطس الأنف؛ مما يجعل العلاقة قريبة بين تلك الطوائف والقرود حتى يحتمل ارتقاؤها من القرود.
ولكن بين الاحتمال والقطع بونا شاسعا؛ لأن الصفات المشار إليها لا تقوم نوع القرد، بل المقوم له خواص أخرى، وكل قدة من جلده كافية لتمييز نوعه من غيره من الأنواع، ولا أظن أن واحدا من المشرحين يرتاب في ذلك، والفرق بين الإنسان والقرد واضح جدا؛ حتى أن كل قطعة من الواحد كافية ليستدل منها على النوع المقطوعة منه؛ فالأدلة على النشوء الفعلي قاصرة جدا لا يبنى عليها حكم، ولا بد من أن يزيدنا البحث والتنقيب للوقوف على أدلة أخرى قوية.» •••
ويتبين من مراجعة «المكتبة النشوئية» في الشرق العربي، أن الاهتمام بالمذهب كان على أشده بين أتباع الكنائس الكاثوليكية والكنائس الإنجيلية؛ لأنها هي الكنائس التي تصدى علماء اللاهوت منها لمناقشة مذهب دارون عند إعلانه في موطن ظهوره، وشاركهم في ذلك علماء الطبيعة المسيحيون ممن أنكروا المذهب، واستندوا في إنكاره إلى الأدلة العلمية، وطالبوا النشوئيين بمزيد من الأدلة القاطعة لإثبات نظرياتهم؛ لأنها نظريات تنقض بعض المقررات الدينية، ولا يكفي في مثل هذه الحالة أن تستند النظرية إلى الترجيح والتغليب، أو إلى الظن والتقدير.
وقد يعزى إلى هذا السبب كثرة الدراسات التي تعرضت لمذهب النشوء من الناحية الدينية، أو من الناحية العلمية، بأقلام فضلاء الكنائس الكاثوليكية والإنجيلية من كتاب اللغة العربية، وبخاصة في البلاد التي كان اللاهوتيون يشرفون على معاهد التعليم فيها، ويأخذون بزمام ثقافتها وآدابها.
ونحن نختار هنا من الدراسات النشوئية التي كتبت باللغة العربية، ولا نستقصيها لكثرتها وخروج معظمها عن موضوعه، ولم نجد بينها ما هو أولى من دراسات الأساتذة إبراهيم الحوراني، والأب جرجس فرج صفير الماروني، والأسقف خير الله أسطفان، والدكتور حليم عطية سوريال، ومنهم من كتب عن هذا المذهب قبل خمس وسبعين سنة، وأحدثهم كتابة عنه من تصدى لمناقشته بعد ظهور كتب الدكتور «شبلي شميل» في موضوعه، وهي مؤيدة للنشوئيين المنكرين للأديان.
فالأستاذ إبراهيم حوراني - وهو عالم لغوي مطلع على المباحث العلمية - ألف في الرد على مذهب دارون رسالة «مناهج الحكماء في نفي النشوء والارتقاء»، ثم أتبعها برسالة «الحق اليقين في الرد على بطل دارون»، وطبعها ببيروت (سنة 1886) ردا على مناقشة الدكتور «شبلي شميل» لرسالته الأولى، فصب حملته الكبرى على موطن الضعف في المذهب، وهو افتقاره إلى الدليل القاطع، وتعويله على الشواهد التي توحي بالرأي، ولا تستأصل الشكوك أو تسكت المعترض المطالب بدليل لا يضعفه الاحتمال.
وقد آثر الأستاذ حوراني أن يؤخر رأيه حتى يسوق بين يديه آراء علماء الطبيعة المخالفين لدارون في القول بتحول الإنسان عن غيره من الحيوان، قال: «إن العلماء لم يثبتوا مذهب دارون، وكذلك نفوه وطعنوا فيه مع علمهم أنه بحث فيه عشرين سنة، ومنهم العلامة «ونشل»، مع أنه من أشد الناس ميلا إلى القول بالارتقاء بفعل الله، ومنهم العلامة ولاس قال ما خلاصته: إن الارتقاء بالانتخاب الطبيعي لا يصدق على الإنسان، ولا بد من القول بخلقه رأسا.
ومنهم الأستاذ فرخو قال: إنه يتبين لنا من الواقع أن بين الإنسان والقرد فرقا بعيدا، فلا يمكننا أن نحكم بأن الإنسان سلالة قرد أو غيره من البهائم، ولا يحسن أن نتفوه بذلك، ومنهم «ميفرت» قال بعد أن نظر في حقائق كثير من الأحياء: إن مذهب دارون لا يمكن تأييده، وأنه رأي من آراء الصبيان، ومنهم العلامة فون بسكوف، قال بعد أن درس هو وفرخو تشريح المقابلة بين الإنسان والقرد: إن الفرق بين البشر والقرود أصلي وبعيد جدا.
ومنهم العلامة أغاسيز، قال في رسالة في أصل الإنسان تليت في ندوة العلم الفكتورية ما خلاصته: إن مذهب دارون خطأ علمي باطل في الواقع، وأسلوبه ليس من أساليب العلم بشيء، ولا طائل تحته، ومنهم العلامة هكسلي، وهو من اللاأدرية وصديق لدارون، قال: إنه بموجب ما لنا من البينات، لم يتبرهن قط أن نوعا من النبات أو الحيوان نشأ بالانتخاب الطبيعي أو بالانتخاب الصناعي، ومنهم العلامة تندل، وهو كهكسلي، قال: إنه لا ريب في أن الذين يعتقدون الارتقاء يجهلون أنه نتيجة مقدمات لم يسلم بها، ومن المحقق عندي أنه لا بد من تغيير مذهب دارون.»
ويقسم الأستاذ حوراني أنصار مذهب النشوء إلى ثلاث فرق: معطلة ولاأدرية وإلهية، «أما المعطلة فهي التي نفت الخالق سبحانه وقالت بقدم المادة، وأما اللاأدرية فهي التي لم تتعرض لنفي الخالق ولا لإثباته، وأما الإلهية فهي التي اعترفت بواجب الوجود تعالى، وقالت بأنه خالق المادة والحياة، وانقسمت هذه الفرقة إلى اثنتين، ظنت إحداهما الإنسان ابن القرد أو صنوه، ومنها دارون، وقالت الأخرى بأن الله خلق الإنسان من البدء إنسانا، ومنها العلامة ولاس، وعلماء هذه الفرقة أصحاب النشوء الإلهي التي قالت بإمكانه، وصرحت بعدم البرهان على وقوعه، وبأن عليه اعتراضات لم تدفع دفعا مقنعا.»
ثم أورد الأستاذ حوراني إحصاء بعض علماء الحفريات عن الأنواع التي وجدت في باطن الأرض، فقال: إن ثمانية وعشرين في المائة منها أنواع لم تتغير، وسبعة في المائة أنواع مهاجرة، وخمسة وستين في المائة لا سلف لها. وأما الأنواع التي نشأت بالتغير أو الأنواع الجديدة فلا وجود لها في شيء من بقايا الحفريات.
ويرد الأستاذ حوراني على استدلال النشوئيين بتشابه الأجنة بين الإنسان وبعض الحيوان، فيقول: إن علة هذا التشابه «بساطة التكوين وقصر النظر؛ بدليل أن التباين يعظم على توالي اقترابها من كمال التكوين، فلا ينشأ من بيوض الإنسان أو أجنته سوى أناس، ولا ينشأ من بذرة اللوزة إلا لوزة».
ويحيل النشوئيين إلى بحث التيرانولوجيا - أي المشوهات - لتفسير الأعضاء الأثرية التي تثبت بعد ولادة الجنين، ومن أمثلتها «الأعنش»، أي من له ست أصابع، وهو من أبسط الأمثلة، والأشوه المزدوج؛ كهيلين وجوديث، وهما الأختان الهنغاريتان المشهورتان، كانتا ملتصقتين بالمتنين والأفخاذ والأحقاء، ولدتا سنة 1701 وعاشتا اثنتين وعشرين سنة، وكانتا مختلفتي السجايا والأخلاق.
وقال عن الانتخاب الطبيعي: إنه لا يمكن أن يكون أس الارتقاء الداروني؛ لأن الطبيعة إنما تؤثر في الموجود، وليس لها أن توجد المعدوم، فيمكنها أن تعمي العيون، ولكنها لا تستطيع أن توجد البصر «ويقتضي مذهب دارون أن لا تجمع الأنواع الدنيا والعليا، بل تتعاقب وتسبق الأولى الثانية أبدا، ولكن ذلك الاجتماع ثبت في المنقرضات والأحياء».
وأضعف ما في ردود الأستاذ حوراني قوله عن قدم الإنسان؛ إذ يقتضي مذهب دارون أن يكون الإنسان قديما جدا: «ولكنه تبين لأشهر العلماء وأكابرهم من النشوئيين وغيرهم أنه أحدث الأحياء، وأنه كان منذ بضعة آلاف سنة، وأثبت العلامة دوسون أنه كان في ثاني العصر الجليدي، وهو المعروف بالأكثر أحدثية، وفصل ذلك في خطبة له في الإنسان قبل زمن التاريخ، وقال الدكتور هويدن: نظرت أربع فرق مستقلة من الجيولوجيين في زمن نشوء الإنسان، فاتفقت على أنه نشأ منذ ما بين ستة آلاف وسبعة آلاف سنة.» •••
وفي إبان احتدام المناقشة بين منكري المذهب ومؤيديه، أصدر الأب جرجس فرج صفير الماروني، مدرس الفلسفة بالمدرسة اللبنانية في قرية شهوان، (1890) كتابا نهج فيه منهج الحوار بين خصمين، سمى أحدهما بالإنسان القردي، وسمى الآخر بالإنسان الآدمي، وأدار الحجاج بينهما على هذا المثال، مع اختصار بعض التفصيلات:
الآدمي :
أين تجدون أشكال الانتقال من يد قرد إلى رجل إنسان؟ أفهل عثر على ذلك أحد علمائكم؟ فإن لم تعثروا على شيء من ذلك؛ فالإنسان القردي لا يكون له وجود.
القردي :
إن المباحث البالونتولوجية «الحفرية» - والحق يقال - لم تأت بما يعرب عن تسلسل بين الإنسان والقرد أو أحد أنواع الحيوانات، على أن أساتذتنا قد أجمعوا على أنه من المحتمل أن من الحيوانات التي على شكل حصان البحر ما يتحول إلى حيوان قوائمه على شكل قوائم الخنزير، وأن منها ما قد يتحول إلى الماعز، ومنها إلى الخرفان ... إلخ.
الآدمي :
فإن كان ذلك من طوالع المحتمل لا من أمارات اليقين، فأين العلم الحقيقي الذي تعولون عليه؟
القردي :
نعم، إننا لم نجد إلى الآن أثرا إلى الإنسان القردي، غير أن العلم لم ينه قضاءه.
الآدمي :
ولكن ماذا يكون هذا العلم الذي يقضي بخلاف الواقع؟ فإننا نرى الأنواع لا تتغير عن ذاتها وإن كثرت فيها الأنسال، فإذا قلت: لا فارق بين النوع والنسل أسكتتك العلائم الفزيولوجية، ونحن نحصرها في أمر وهو النتاج.
القردي :
ومن يمكنه أن يرسم تخوم النوع والعلماء لا يكادون يتفقون على شيء منه؟
الآدمي :
أويكون الجهل في أصل شيء أو في علته حجة في إنكار وجوده؟ أفنفقه ما للعلائم الجوية والأرضية من الأسباب والعلائق ونحن مع ذلك لا ننكر وجودها؟ إنا نعلم أن المولود من قران الفرس والحمار لا يكون إلا عاقرا، فنقول: لا بد من فرق نوعي في مولده، أفجهلنا في رسم حدوده يمكننا من إنكار وجوده؟
القردي :
إلا أني أعرف من أصحابكم من يقول بإمكانية مذهب التحول.
الآدمي :
لا نجهل أن البعض من أصحاب الإيمان يحبون أن يوفقوا بين التحول والإيمان، فيقولون: إن الله سبحانه قد جبل آدم من تراب قد عركه كثير من المولدين من الخازباز إلى آخر حيوان ذي أربعة قوائم، فأخذ الله هذا الحيوان الأخير من السلسلة المتحولة، وهو القرد، ونفخ فيه النفس البشرية، وعليه فيكون آدم نتاج عمل محول وخالق معا. وأبين لك في غير مفاوضة كيف يعمه هؤلاء في الضلال ... ومن العجيب كيف لا يفقهون أن هذا المذهب إنما تنفيه الفلسفة نفسها كما سبق بيانه.
القردي :
أوهل تنفيه الفلسفة لو افترضنا تدخل الله عند انتقال كل من الأنواع كما تدخل عند خلق الإنسان؟
الآدمي :
إذا افترضت تدخل الله سبحانه كان لا بد من تعويض نفس بنفس؛ أما هذا التعويض فيتم إما بوجود القرد الأول الذي تكون، أو في بداية الانتشار، وكلا الافتراضين لا يتحقق. أما الأول فلأنه يفترض قتل الحي ثم إقامته، أو ملاشاته ثم إقامة آخر بدله.
القردي :
قرأت في كتب بعض أصحاب مذهب التحول أن التمايز إنما ينتج من عمل صدفة يدور عليها الانتخاب الطبيعي، فما قولك فيه؟
الآدمي :
قد سبقهم إلى مثل هذا القول غيرهم من الملحدين الذين يؤيدون المادة، ونحن نوقفك على أدلة تذكر ما يعولون عليه من فعل الصدفة في تمايز الكائنات.
إن الصدفة لا تقع إلا في الأشياء التي يمكن لها أن تكون على خلاف ما هي؛ فقد يمكن للطاولة التي يصنعها النجار أن تكون مربعة أو مدورة، أما الأشياء التي هي من الضرورة، ودائما، فلا يمكن لها أن تحدث بطريق الاتفاق، ولكن من الأشياء ما لا يمكن له أن يكون على خلاف ما هو، مثل: الجواهر البسيطة، وذوات الأشياء وحقائقها، ومثل الأعمال التي تصدر عن فاعل لا يصادمه في فعله شيء كالجاذبية، مع قطع النظر عن كل مانع يصادمها في فعلها، وعليه فإن هذه الأشياء لا تقع عليها الصدفة؛ أتظن أن للصدفة أن تجعل الكلب حمارا، والحمار كلبا؟
ونحن نشاهد أن الحركات والأفعال إنما تلي تمايز الأشياء ولا تسبقها؛ أولا ترى أن السفينة لا تتحرك ولا تجري قبل أن يجعل كل من آلاتها في موضعه على هيئة من التمايز لا ينبغي أن يشوبه أدنى خلل؟ •••
ويفضي هذا الحوار إلى عجز «الإنسان القردي» عن الجواب، فيتبعه صاحب الكتاب بمناقشة مطولة لمذاهب الماديين يستند فيها إلى حجج الفلسفة اللاهوتية، ويقرر فيها أن العلوم الطبيعية وحدها لا تكفي لتحقيق النظر في أصل الوجود من حيث هو موجود، ولهذا سمى البحث عن أصل الوجود بما بعد الطبيعة؛ لأنه «ينبغي أن يقرأ هذا العلم بعد الوقوف على علم الطبيعيات، والمراد به علم يبحث عن الوجود من حيث هو موجود؛ أي عن ذات الأشياء بقطع النظر عن معنياتها وأحوالها الخاصة التي ينحاز بها الشيء عما سواه، أو علم يبحث به عن الأسباب الأخيرة للوجود والمعرفة، فإن كليهما لا ينفصلان؛ لأن مبادئ المعرفة والعلم العالية المطلقة إنما هي التي تمكننا من الوقوف على أسباب الوجود؛ ولذلك فإنه يكون علم العلوم». •••
ولا نعلم أن كتابا في هذا الموضوع بقلم باحث مسيحي من كتاب اللغة العربية ظهر قبل كتاب «صفوة علم اليقين في حقيقة مذهب دارون»، لمؤلفه الأسقف خير الله أسطفان، ناظر مدرسة عين ورقة، الذي ألفه بعد الكتاب السابق بأكثر من ثلاثين سنة؛ (1929)، أعيد في خلالها طبع مؤلفات الدكتور شبلي شميل في هذا المذهب، ونشط البحث بين الأوروبيين في نظريات النشوء عامة، على أثر البحوث المتضاربة في نظريات تنازع البقاء وإرادة القوة، وما إليها من «الفلسفات» التي أثارتها الحرب العالمية الأولى ومشاكل العلم والاجتماع فيما بين الحربين العالميتين.
وقد أشار الأسقف إلى الأطوار التي مرت بمذهب دارون منذ إعلانه إلى تلك السنة، فنقل كلاما عن العالم الألماني إدواردفون هارتمان قال فيه: إنه «في سنة 1860 كانت مقاومة الأفذاذ من العلماء الشيوخ لنظرية دارون شديدة، وفي سنة السبعين أخذت هذه النظرية تنتشر في كل صقع تقريبا، وفي سنة الثمانين كان نفوذ المذهب الداروني عاما ومطلقا حتى كاد يبلغ بسموه سمت الرأس، وفي سنة التسعين بدأت بعض الشكوك تعتلي، وبعض المقاومات تظهر، وعلامة التصدع والانهدام تبينت واتضحت، وفي العقد الأول من الجيل العشرين بدأت أيام المذهب أن تكون معدودة، وكان بين مضاديه وداحضي حججه من أعلام العلماء: إيمر، وغوستاف وولف، وردي فريز
Vrise ، وفون والشتين
Wallstein ، وفليشمان
Flischmann ، ورينك
Rienk ، وغيرهم كثيرون.»
وبعد هذا التمهيد عرض الأسقف للبحث من الناحية اللاهوتية فقال: «إن البحث العلمي عندما يأتي بنتائج واقعية أكيدة تجتمع ساعتئذ كلمة العالم المسيحي وغير المسيحي عليها، على غير تضاد ولا تناف. وهذا هو عين الصواب والرشد؛ لأن الحق لا يغاير الحق، ولا يتساهل لاهوتيو الكنيسة الكاثوليكية، كما أنهم لا يسلمون لأخصامهم القائلين بالمذهب الداروني المحض. وهذا بعض الواجب عليهم بالنظر إلى ما يناقض حقائق الوحي المقدس، غير أنهم متى رأوا من بعض الوجوه اتفاقا بين اللاهوت ونظرية النشوء كانوا من هذا القبيل ليني الجانب لطفاء هينين.
فمن هؤلاء العلماء الأهوناء المتئدين الأب واسمان الجرمني الشهير بعلم طبائع الحشرات، الميال إلى الاعتقاد بنظرية نشوء الأنواع المعتدلة، القائل بأن أنواعا كثيرة من النبات والحيوان نشأت من أنواع طبيعية أصيلة أبدعها رب الطبيعة الخلاق؛ كالأرانب الأليفة والبرية والحمار والفرس والكلب والثعلب إلخ؛ فإنك بهذا ترى أن مبدأ الخلق والإبداع لبث غير ممسوس البتة، فإذا حل تصور اشتقاق الأنواع الجديد بالتحدر والتسلسل محل التصور القديم لثبات الأنواع على عدم التغير؛ كانت حكمة الباري في الجديد أمجد منها بالقديم، من وجه أنه عز نواله وجل جلاله وضع في الطبيعة الآلية قوى تؤهلها لتحذير ونشر صور جديدة لموجودات حية، بدون افتقار إلى توسط أو تدخل قدرة الله المبتدعة للكون ونواحيه، والمعتنية بحفظها وإدارتها.
وحينما تتصادم نظرية ما مع التعليم المسيحي تصادما واضحا غير قابل للشك، يجب وقتئذ رفض هاتيك النظرية وطرحها مطلقا، وبناء على هذا؛ كل من قال بمبدأ نشوئي ينفي به الخلقة قطعا بدون رجعة يجب أن يضرب بقوله ومبدئه عرض الحائط، وكل نظرية تنكر خلقة العالم بستة أيام يراد بها ستة أدوار أو ست مدد يجب أن تطرح، وكل قول بأدوار طويلة مرت وانقضت بين تكوين الأرض وخلق الإنسان هو قول معقول؛ لهذا هو مقبول؛ لأنه ليس في الكتاب الكريم ما ينافيه أو ينقضه.
أما بالنظر إلى أصل الإنسان، فالكاثوليك مقيدون بنص سفر التكوين، ويمكنهم التوسع بتفسير كلمة الكتاب من جهة الجسد؛ فقد ارتأى بعضهم أن المقصود بقوله: جبله من تراب الأرض، أنه قضى ورسم الصورة وهيأ الهيئة، وليس كما يجبل الفاخوري الجرة والإبريق. وأما من جهة النفس، فالتعليم الكاثوليكي والفلسفة الصادقة الرصينة يلزماننا أن نقف عند الاعتقاد الراهن الثابت بأن أنفسنا روحية بحتة، وبذا تفترق وتمتاز جوهريا عن نفس الحيوان.»
وتلي هذه المقدمة براهين الأسقف التي بنى عليها رفض تحول الإنسان عن غيره من الحيوان، وهي تتلخص في المطالبة بالحلقة المفقودة، وهي «لم ير لها أثر أو عين بين الأحياء ولا بين الأموات، لا في الأحافير ولا في المتحجرات».
ثم سأل الأسقف: «إذا ثبت مذهب النشوء هل يناقض الدين؟» فكان جوابه: «إننا نجيب مع العلماء النزيهين المجردين من الأغراض والأهواء بالنفي، وإنه لا يضاد مقاصد الخالق وغاياته.» واستشهد ببحث للدكتور مكوشي يقول فيه: «إن النشوء بجميع مذاهبه لا ينفي مقاصد وغايات البارئ عز وجل، فالأستاذ هكسلي النشوئي الكبير والمادي المعروف بين الناس النبهاء سلم بكون النشوء لا يلزم منه نفي مقاصد الله، وإن ترتب أو توقف مخلوق على آخر أو عملهما معا لإتمام مقصد جيد، أو إكمال غاية حسنة؛ كالحياة للنبات، وطيب العيش للإنسان والحيوان، لهو دليل واضح عند كبار العلماء على مقاصد الله؛ فالذي يصنع آلة تعمل هي آلة مثلها، لهو أحذق وأقدر وأحكم من الذي يصنع آلة تقتصر على العمل المقصود منها ولا تتعداه.» •••
وفي سنة (1937)، ألف الدكتور حليم عطية سوريال، الطبيب الأول لسجن أسيوط، كتاب «تصدع مذهب دارون والإثبات العلمي لعقيدة الخلق»، نبه فيه إلى خطأ يسبق إلى بعض الأذهان، وهو اعتقادهم أن إنكار مذهب النشوء مقصور على رجال الدين؛ فإن من كبار العلماء الطبيعيين من يرفضه كالأستاذ فيالتون
Vialleton ، عميد كلية الطب بجامعة مونبليه وأستاذ علم الأجنة فيها، والأستاذ كاترفاج، مدير متحف التاريخ الطبيعي بباريس، وهو القائل: «إننا لا نعلم كيف تكونت الأنواع الحية، إننا نعلم فقط أنها غير قابلة للتحول، وإننا على يقين بأن دارون ولامارك لم يكتشفا الناموس الحقيقي لطريقة تكوينها.»
ثم سرد الدكتور سوريال أسماء بعض الأساطين من علماء الطبيعة المعارضين لمذهب التحول، وخلاصة رأيهم في الاختلاف بين الأنواع «أن جميع تلك العوامل لا يمكنها أن تغير نوعا من الأنواع الحية إلى نوع آخر، وكل التغيرات التي يمكنها أن تحدثها سطحية لا تمس التركيب الجوهري للحيوان أو النبات، وبعضها باثولوجية - مرضية - تقود إلى انقراض النوع، ولقد قال العالم الإيطالي روزا: إن الاختبار الاصطناعي الذي جربه بنو الإنسان في خلال الستين سنة الماضية دليل عظيم ضد نظرية دارون.»
ويقرر الدكتور أن الحلقة المفقودة ناقصة بين طبقات الأحياء، وليست بالناقصة بين الإنسان وما دونه فحسب؛ «فلا توجد حلقات بين الحيوانات الأولية ذات الخلية الوحيدة والحيوانات ذوات الخلايا المتعددة، ولا بين الحيوانات الرخوة ولا بين المفصلية، ولا بين الحيوانات اللافقرية والفقرية، ولا بين الأسماك والحيوانات البرمائية، ولا بين الأخيرة والزحافات والطيور، ولا بين الزحافات والحيوانات الثديية. وقد ذكرتها على ترتيب ظهورها في العصور الجيولوجية».
ثم قال بعد الاستشهاد بكثير من أمثال هذه الملاحظات العلمية: «إن هناك مسألة منطقية بسيطة، وهي معرفة كيف استطاع المخلوق، الذي يعتبره التحوليون الحلقة المفقودة بين القرد والإنسان، أن يعيش بين الحيوانات الضارية التي تحيط به؛ فإن أصحاب نظرية النشوء يقولون: إن هذا المخلوق كان أضعف عقلا من الإنسان الحالي؛ فكيف يمكن لمخلوق ضعيف الجسم، وضعيف العقل أن يعيش وحوله الأسد والفيل والدب والنمر وغيرها من الحيوانات المفترسة؟»
ويعتبر نقاد مذهب دارون أن مشكلة الحلقة المفقودة بين الأنواع - كما شرحها الدكتور سوريال - هي مشكلة المشاكل في تمحيص هذا المذهب إلى اليوم، وأنها لا تزال على قوتها وإقناعها بعد انقضاء مائة سنة على ظهور كتاب أصل الأنواع، واستئناف التعليق عليه بين خصوم المذهب وأنصاره، الذين استجمعوا غاية ما استطاعوا لحل هذه المشكلة عند الاحتفال بذكرى مرور القرن على ظهور ذلك الكتاب. •••
ونحن نكتفي بالردود المتقدمة لأنها تمثل مناحي التفكير عند رجال الدين في مناقشة مذهب النشوء، وهي: (1)
منحى الجزم بالرفض ببطلان المذهب في جملته وتفصيله؛ لأنه مناقض للدين غير مستند إلى أدلة قاطعة. (2)
منحى الرفض لنقص الأدلة مع تعليق النتيجة بانتظار الأدلة المقنعة، والإيمان بأنه - إذا ثبت - لا يقضي بتكذيب العقيدة الدينية والعقلية في الخالق. (3)
منحى القول بأن الأدلة العلمية التي يوردها العلماء لنفيه والتشكيك فيه أرجح من الأدلة العلمية التي يوردونها على تأييده. •••
أما أنصار مذهب النشوء في الشرق العربي فقد كان أشهرهم وأفصحهم بيانا الدكتور شبلي شميل، وقد كاد أن يسبق دارون وأصحابه إلى الأخذ بالنظريات النشوئية على علاتها، وقد سبق الماديين الغربيين إلى نفي كل صفة روحية أو غيبية في الإنسان؛ إذ قال في مقدمة ترجمته لشرح بخنر على مذهب دارون: «إن الإنسان على رأي هذا المذهب طبيعي؛ هو وكل ما فيه مكتسب من الطبيعة. وهذه الحقيقة لم يبق سبيل للريب فيها اليوم، ولو أصر على إنكارها من لا يزال مفعول التعاليم القديمة راسخا في ذهنه رسوخ النقش في الحجر.
فالإنسان يتصل اتصالا شديدا بعالم الحس والشهادة، وليس في تركيبه شيء من المواد والقوى يدل على اتصاله بعالم الروح والغيب؛ فإن جميع العناصر المؤلف منها موجودة في الطبيعة، وجميع القوى التي فيه تعمل على حكم قوى الطبيعة؛ فهو كالحيوان فزيولوجيا، وكالجماد كيماويا، والفرق بينه وبينها فقط بالكمية لا الكيفية، والصورة لا الماهية، والعرض لا الجوهر؛ فالإنسان يحس، والحيوان يحس، والإنسان يدرك، والحيوان يدرك، ونواميس التغذية واحدة فيهما، غير أن الإنسان يدرك أكثر من الحيوان؛ لأنه أكمل تركيبا من الحيوان.»
وكانت ردود الدكتور شبلي شميل على مناقشته تكرارا لردود دارون وبخنر وغيرهما من القائلين بتحول الأنواع، وفحواها: (1)
إن التباينات بين الأنواع لا تزيد على التباينات بين أفراد النوع الواحد إلا بالوراثة، وهذه أثر ثابت لا يحكم عليه بالفترة المعلومة من تاريخ الإنسان؛ لأنها ثبتت بعد انقضاء مئات الملايين من السنين. (2)
وإن أنصاف الأنواع من شأنها أن تعيش وتنقل ميراثها إلى زمن طويل؛ لأن التوريث مرتبط بتمام الجهاز المميز للنوع، وهو لا يتم في أنصاف الأنواع، ولكن قد يدل عليه التناسل بين بعض الحيوانات كالخيل والحمير، أو الكلاب والذئاب، وقد يدل عليه «اكتشاف الطير العجيب - الأركوبتركوس - الذي وصل بين طائفتين من الحيوان منفصل بعضهما عن بعض انفصالا تاما، وهما: الطيور والحشرات». (3)
إن العلماء يخطئون في وضع حدود الأنواع، وقد ذكر دارون «أن النباتي الإنجليزي وستن يذكر 182 نباتا إنجليزيا عدها غيره أنواعا مع أنها تباينات، وقد قال هوكر في هذا المعنى ما نصه: إن النباتيين يعدون الآن من 8000 إلى 15000 نوع من النبات؛ فالنوع إذن غير محدود.» (4)
إن التحولات لا ينبغي أن يبحث عنها في الأنواع الحاضرة؛ لأن كلا منها تطور عن أنواع سابقة له في سلسلة هي التي كان يمكن أن يجري بينها التحول في أوانه، ولكن الأنواع الحاضرة تباعدت عن أصولها؛ فابتعدت الأشباه المتحولة فيما بينها.
ولا ننسى - عند تقدير عوامل العناد بين الطرفين - أن الدكتور شبلي شميل إنما يواجه بهذه الخصومة اللدود سلطان رجال الدين، فانساق من هذه الخصومة إلى خصومة الأديان، ورأى - كما قال في مقدمة الترجمة - أن «الملل والديانات أصلها واحد، وقيامها في الدنيا إنما هو لعاملين: حب الرئاسة في الرؤساء، وارتياح المرءوس إلى حب البقاء، وكلاهما لما في الإنسان من محبة الذات ؛ فسطا دهاة الناس على ساذجي العقول منهم، فساد البعض وسيد على البعض الآخر، وتم بذلك غرض الفريقين.»
وخاطب رؤساء الدين قبل ختام المقدمة قائلا: «سوف يتولى ما بقي، ولربما كان حظكم من ذلك في الشرق أطول جدا لولا أن الغرب باسط فوقه يديه، ولا تعللوا النفس بما في التاريخ من سقوط بعض الأمم ألقت إليكم مقاليد أحكامها، وسلمتكم زمام أمورها، فإنه وإن حصل ذلك إلا أنكم لن تبلغوا أمانيكم؛ لتوفر معدات التقدم في العلوم والصنائع، وانتشار ذلك بواسطة الطباعة.» •••
وبعد، فهذه شذرات من التعليقات الدينية والعلمية التي قوبل بها مذهب التطور في الغرب وفي بلاد الشرق العربي، نحسب أننا أتينا فيها على كل رأي من آراء الباحثين الدينيين والعلميين في هذا المذهب، وأن الكتب التي اخترناها للاقتباس منها تمثل جوانب التفكير جميعا في هذا الموضوع.
وقد مضى أكثر من سبعين سنة على ظهور أقدم الكتب التي ذكرناها في هذه العجالة، ومضى نحو ثلاثين سنة على أحدثها، فإذا أردنا أن نعود إليها لنحكم عليها حكم الزمن الممحص للآراء، فالذي نراه اليوم أن الدينيين قد وقفوا الموقف المنتظر منهم في معارضة النشوئيين الماديين، فليس من المنتظر أن يقابل إنكار الدين بغير الإنكار من أهل الدين، وقد أصاب العلامة الشيخ محمد رضا حين قال: إنه يدفع الشبهات عن العقيدة الإلهية في كل ملة، ولا يقصر دفاعه على عقيدة الإسلام. •••
ولكن الكتاب الذين تناولوا هذا الموضوع من الوجهة الدينية قد أخطئوا - دينيا وعلميا - في إنكارهم باسم الدين أمورا لا تزال قيد البحث بين الإثبات والنفي، ويجوز أن تسفر بحوث الغد عن إثباتها بما يقطع الشك فيها، كما يجوز أن ينفيها بما يزيل مواضع الخلاف فيما بين عقائد الدين وحقائق العلوم، وقد كان لبعضهم عذره لقلة المعلومات الصحيحة التي وصلت إليهم عن مذهب دارون ومذهب التطور على العموم، وكان لبعضهم عذر مثل هذا العذر قد يسوغ اندفاعهم إلى درء الخطر عن العقائد الإلهية يوم تعجل ثراثرة التقليد، فهجموا على المذهب على غير علم به كعادتهم في الهجوم على كل جديد مستغرب، وانتحلوه للثرثرة بأحاديث الإلحاد والمروق، فكان تعجلهم هذا داعيا إلى مقابلتهم بتعجل مثله من الدينيين.
بيد أنه - ولا ريب - تعجل وخيم العاقبة، قد ظهرت عواقبه الوخيمة مرة بعد مرة منذ ابتدأ العلم الحديث في نشر كشوفه المتوالية، ووجب الاتعاظ بعواقب التصدي للمباحث العلمية وهي في معرض التحقيق بين الإثبات والنفي، أو التغليب والاستضعاف، وقد علم رجال الدين في الغرب ماذا كان من أثر تحريمهم للقول بدوران الأرض حول الشمس، وإيجابهم تعليم النشء أن الشمس تدور حول الأرض كأن وجود الخالق جل وعلا مرتبط بدوران هذه أو تلك، وكل في فلك يسبحون.
لقد كان في ذلك التعجل من رجال الدين عظة لهم تنهاهم أن يعيدوا مثل هذه الغلطة في التصدي للمذاهب العلمية التي لم ينقطع الشك في ثبوتها أو بطلانها، وقد ينقطع الشك غدا بما يثبت على منكريها أنهم كانوا مخطئين في فهم الدين والعلم على السواء، فإن زلزال المادية الذي اضطرب له الغرب اضطرابه العنيف لم يكن له حجة على العقائد الإلهية أقوى من هذه الحجة على الدين، كما تصوره المتعجلون من «المؤمنين» على غير يقين. •••
ويشبه هذا الخطأ المنكر خطأ آخر لم ينفرد به الدينيون، بل شاركهم فيه زمرة من العلماء لم يحسنوا التمييز بين قضايا العلم وقضايا الحقوق «المدنية» أو الجنائية في المحاكم ودواوين التشريع؛ فصاحب الدعوى في المحكمة أو الديوان مطالب بإثبات دعواه لأنها مصلحته الخاصة، وفيها - إذا لم تثبت - إضرار بمصالح الآخرين، ولكن الدعوى العلمية ليست كذلك، ولا يصح أن يناط أمر إثباتها بمن يدعيها وحده، وهي مصلحة الناس أجمعين، ومن ينكرها بغير حق يضر بالناس أجمعين.
وقد أفرط النقاد جدا في التشبث بمسألة الأنواع الوسطى، ولم يصطنعوا الأناة ليدركوا ما في هذه الحجة من الضعف والعنت، ويعلموا أن التشبث بها إلى هذا الحد إحراج للخصم من قبيل إحراج الخصوم المتنازعين على دعاوى المحاكم والدواوين.
فكيف يخطر على بال الناقد المخلص أن الأنواع الوسطى تبقى لها ذرية، مع العلم بأن الوراثة لا تتم قبل استكمال خصائص النوع؟ وكيف يفوتهم أن يلمحوا هذه الحقيقة، ويرتبوا عليها ما ينبغي أن يترتب عليها من التريث والانتظار، وهم يرون اليوم أمثلة بارزة من توقف النسل بين الخيل والحمير، أو بين الذئاب والكلاب؟
وإذا كان القائل بالنشوء يعجز عن إقامة الدليل على تناسل النوع المتوسط، فكيف يحال هذا العجز إليه ولا يحال إلى الواقع الذي لا حيلة له فيه؟ إن كثيرا من الأحياء الباقية إلى اليوم لم يبق منها أثر يدل على وجودها في عصور الحفائر المطمورة بين طبقات الأرض، فإذا جاز هذا في أمر الأنواع التي بقيت، ولا شك في بقائها إلى اليوم، فكيف نستكثره على أنصاف الأنواع التي لم تستكمل خصائص النسل والتوريث؟
فليس من الرأي السليم - دينا ولا علما - أن يرتيط رفض النشوء بعجز النشوئيين عن إبقاء أنواع وسطى من الحيوان غير قابلة بطبيعتها للبقاء والتوريث.
وقد يحدث غدا أن يوجد الدليل الممكن على النوع المتوسط، أو توجد الوسيلة الممكنة للتلقيح بين الأنواع المتقاربة، فتعود إلينا قصة دوران الأرض ودوران الشمس بخطر على الدين والعلم لا داعية له غير التعجل والعنت في الخصومة الفكرية، وإنه لعنت معيب يجوز في خصومات المال، ولكنه يحرم أشد الحرمان في خصومات الأفكار والآراء. •••
وفي كتاب تدور موضوعاته على حكم القرآن الكريم في شأن الإنسان يعنينا هنا أن نسأل: هل يصيب الذين يحرمون باسم الإسلام مذهب النشوئيين المؤمنين بالخالق؟
وليس يخالجنا كثير من الشك ولا قليل في خلو كتاب الإسلام مما يوجب القول بتحريم هذا المذهب؛ فقد يثبت غدا أن المذهب صحيح كله أو باطل كله، أو يثبت أن بعضه صحيح وبعضه باطل، ولكن كتاب الإسلام لا يصد عن سبيل العلم في أية وجهة من هذه الوجهات، كما سنبينه في موضعه من الفصل الأخير.
الدين ومذهب دارون
نعود فنقرر في هذا الفصل ما ختمنا به الفصل السابق، فنقول: إن مذهب التطور، أيا كان تفسير القائلين به لنشأة الأنواع، ليس فيه ما يصح أن يستند إليه الملحدون لإبطال الدين، أو إنكار الخالق، أو القول بخلو الكون من دلائل القصد والتدبير.
وقد نسب القول بنشأة الأنواع من أثر الانتخاب الطبيعي والانتخاب الجنسي إلى عالمين كبيرين من علماء القرن التاسع عشر؛ هما: شارلز دارون، وألفريد رسل ولاس، ولم يكن أحد منهما منكرا لوجود الله.
فأولهما - شارلز دارون - كان يقول: إنه يستريح إلى الإيمان بوجود الإله في هذا الكون الكبير، ولكنه يرى أن شعوره هذا لا يلزم أحدا أن يشعر به مثله، ولا يبلغ من شأنه أن يكون حجة علمية تقنع المنكرين.
كتب في سنة (1897) إلى الأستاذ فرديس، صاحب كتاب «صور من الشكوك»، يقول جوابا على سؤاله: «إنني في أشد أحوال التردد لم أكن قط ملحدا إذا كان معنى الملحد إنكار وجود الله، وأرى على العموم - وبخاصة مع تقدم السن - أنني أحرى أن أسمى (لاأدريا)، وأن هذا الاسم أقرب إلى الصواب في وصف تفكيري.»
وقال في خطاب كتبه إلى طالب هولندي (في الثالث من أبريل سنة 1873):
يبدو لي أن استحالة القول بأن هذا الكون العجاب العظيم، وما انطوى عليه من شعورنا الواعي إنما كان وليد المصادفة، هو أكبر سند للقول بوجود الله، ولكنه سند لا أستطيع أن أقرر قوة إقناعه، كما لا أستطيع أن أغضي عن المشكلة التي تنجم مما يتخلل هذا العالم من الآلام.
وكتب إليه طالب ألماني في سنة 1879 يسأل عن عقيدته الدينية، وعن العقيدة التي يدعو إليها الأخذ بمذهب التطور، فكلف أحد ذويه أن يجيبه ويجيب غيره ممن يوجهون إليه هذه الأسئلة قائلا:
إن مستر دارون يعتذر لكثرة الرسائل التي ترد إليه ولا يتيسر له الرد عليها جميعها، ويود أن يقول: إن مذهب التطور يوافق كل الموافقة إيمان المؤمن بالله، غير أننا يجب أن نذكر أن الناس يختلفون كثيرا في تعريفهم لما يعنونه بالإله.
ويفهم من خلاصة رأيه في سيرته التي كتبها بقلمه، أنه لا يفرق بين كتب العهد القديم وكتب الديانة الهندية من حيث نسبتها إلى الوحي الإلهي، وأنه لم يقم لديه الدليل على حدوث هذا الوحي في التاريخ، ولكنه إذا أراد أن ينظر إلى المسألة الإلهية من جانب الانتخاب الطبيعي؛ فإن أنواع الأحياء كانت خليقة أن تضرب عن تجديد وجودها، واستمرار نسلها لو كانت شرور الحياة أكبر من حسناتها. وهي الحجة التي يستند إليها الملحدون في إنكارهم للمقاصد الإلهية.
وكان دارون على تردده في مسائل الغيب يشعر بقداسة الدين، ويحرص على رعاية شعور المتدينين، ولا يرتضي من العلماء أن يقحموا مذاهبهم على ضمائر الناس فيما اطمأنوا إليه من عقائدهم الروحية، فلما أراد كارل ماركس أن يهدي إليه كتابه عن رأس المال؛ كتب إليه معتذرا وقال من رسالة محفوظة الآن بمعهد ماركس وإنجلز في موسكو: «إنني أشكر لك رسالتك الودية، وأفضل أن يكون هذا الجزء من الكتاب غير مهدى إلي مع شكري لهذه التحية؛ إذ كان إهداؤه إلي يتضمن على وجه من الوجوه إقراري لما في سائر الكتاب الذي لا علم لي به. وإنني - مع غيرتي على الدعوة إلى حرية الفكر في جميع المسائل - أرى، صوابا أو خطأ، أن المناقشات المباشرة التي تناقض المسيحية والإيمان بوجود الله قلما يكون لها أثر على جمهرة الناس، وأن خير وسيلة لتحقيق الحرية الفكرية أن تتقدم العقول تبعا لتقدم العلوم؛ ولهذا أراني أتجنب الكتابة في أمور الدين، وأقصر كتابتي على المباحث العلمية.»
وعاش دارون بقية حياته على هذا الرأي، مؤمنا بأن مذهبه لا يقتضي من العقل أن ينفي وجود الله، ولا أن يمس عقائد المؤمنين بوجوده، وأن الإيمان بأية ديانة من الديانات لا يتوقف على الفصل في قضية التطور إلى الرفض أو إلى القبول.
أما «ألفريد رسل ولاس» شريك دارون في القول بتعدد الأنواع من أثر الانتخاب الطبيعي وعوامل البنية الطبيعية، فقد كان مؤمنا قوي الإيمان بوجود الإله، وكانت مراقبته لعوامل الطبيعة سببا لتصديقه بالمعجزات وخوارق العادات؛ لأنه كان يستخلص من فعل هذه العوامل في الطبيعة أنها لا تجري على هذا المجرى لزاما، بحكم العقل أو بحكم التفكير المنطقي، وأنها كان يجوز أن تجري على مجراها هذا، أو على مجرى آخر يساويه ويماثله في حكم العقل والأقيسة المنطقية، وإنما هي الإرادة الإلهية التي أوجبت هذا النظام نتيجة لتلك العوامل، فليست المعجزة التي يريدها الله أغرب من نظام العوامل المطردة في ظواهر الكون، ومرجعها جميعا إلى الإرادة الإلهية على اطراد أو على استثناء. •••
ومن عقيدة صاحبي المذهب في مسائل الغيب، نفهم أن العلماء والمفكرين في الغرب ينقسمون هذا الانقسام، وأن القول بأن عالما من العلماء أو فيلسوفا من الفلاسفة يقبل مذهب التطور، على تعدد معانيه، لا يدلنا على رأي محدود يراه في الدين المسيحي، أو في الدين عامة؛ لأنه يجوز أن يكون من المؤمنين، كما يجوز أن يكون من المنكرين أو المترددين، حسب المنهج الذي ينهجه في تفكيره وأساليب استدلاله.
ومن المفكرين والعلماء من كان يجعل التطور أساسا لعقيدته الروحية أو الفكرية، وأشهر هؤلاء بين فلاسفة القرن العشرين «برجسون» الفرنسي، و«هويتهد» الإنجليزي، وهو عدا اشتغاله العميق بالبحوث الرياضية والفلسفية رجل من رجال الدين، وعالم من علماء اللاهوت.
ويكثر بين العلماء الطبيعيين من يعتبرون التطور دليلا على النظام، ويعتبرون النظام دليلا على وجود الخالق، ومنهم أعضاء في مجمع العلوم الملكي؛ كالأستاذ «جلادستون» الذي يقول: «كثير منا نحن المسيحيين من رجال العلم من يدركون أن هناك وحدة في النظام، ووحدة في الغاية، تبدوان من خلال النظر إلى خلائق الله، ونحن ندين بأن مذهب دارون عن بقاء الأنسب لا يبطل فكرة التدبير الإلهي، أو فكرة النظام المقصود، بل يؤكد هذه الفكرة، ويمهد لنا سبيل النظر إلى الوسائل التي اختارتها العناية الإلهية لتدبير مقاصدها منذ القدم، فنرى أنها نتيجة قانون منتظم، وليست مجرد سلسلة من المفاجآت المتفرقة.» •••
أما المنكرون من علماء الطبيعة، فحجتهم في الإنكار أن العقيدة الدينية تقوم على الخوارق والمعجزات، وأنه لا سبيل إلى التوفيق بين عقيدة تقوم على خرق قوانين الطبيعة، وبين علم يقوم على تفسير الكائنات بما تقتضيه هذه القوانين.
وأشهر القائلين بهذا الرأي بين علماء الطبيعة «إرنست هيكل» الألماني، و«توماس هكسلي» الإنجليزي، وهو أقرب إلى الاعتدال في الإنكار من زميله.
فهيكل يقول: «إن العقيدة الدينية تعني دائما تصديق معجزة خارقة، وهي بهذه المثابة قائمة على مناقضة ينقطع الرجاء في التوفيق بينها وبين عقيدة العقل الطبيعية، وهي - على خلاف سنن العقل - تذهب إلى فرض العوامل فوق الطبيعية، ويحق من أجل ذلك لمن يشاء أن يسميها خرافية، أو غير طبيعية، وإن ذلك الوحي المدعى الذي تأسست عليه عقائد المسيحية ليس مما يتفق مع أثبت النتائج التي وصل إليها العلم الحديث.»
وهكسلي يقول: «إننا - أمام الأمور التي لا شك في بعدها عن الاحتمال - لا نقول إننا محقون في طلب البرهان المقنع لتصديق وقوع المعجزة الخارقة، بل نقول: إن الواجب الأدبي يتقاضانا أن نجد هذا البرهان قبل أن نأخذ تلك المعجزة الخارقة مأخذ الجد والاعتبار، ولكننا إذا كنا - بدلا من الوصول إلى ذلك البرهان المقنع - لا نرى أمامنا إلا حكايات نجهل كيف نشأت ومتى نشأت بين أناس يستطيعون أن يصدقوا كل التصديق أن الشياطين تتلبس بأجسام الخنازير؛ فإنني أصرح بأن شعوري إنما هو شعور الدهشة من أن أرى الإنسان العاقل ينظر إلى شهادة هؤلاء نظرة جدية.» •••
وعلى مثل هذا المحور يدور الخلاف بين الفريقين اللذين يتفقان في قبول مذهب التطور، ولكنهما لا يتفقان في الحكم على دلالته من الوجهة الدينية، ولكن هذا الاختلاف لا يرجع إلى المذهب في ذاته، وإنما يرجع إلى طريقة النظر إليه وطريقة التفكير التي تعودها ذهن العالم أو الفيلسوف، فربما خرج الذهنان بنتيجتين متناقضتين من فكرة واحدة يراها أحدهما برهانا على وجود الله، ويراها الآخر مغنية عن البحث في إثبات وجود الله.
وقد سأل نابليون بونابرت أكبر علماء الفلك في زمانه - لا بلاس - عن مكان العناية الإلهية في حركات الأفلاك، فكان جوابه أنه لا يرى لها مكانا فيما يعلمه من تلك الحركات، كأنه يقول: إن قوانين الحركة وحدها تفسر دورة الفلك تفسيرا يغني عن النظر إلى علة أخرى وراءها، وهو أسلوب من التفكير يناقض أساليب الذهن الذي يراقب دورة الفلك، ويعلم أن العقل لا يستلزم حصولها على هذا الوجه دون غيره، وأنه لا بد إذن من البحث عن الإرادة التي اختارت لها هذا الوجه من الحركة فانتظمت عليه.
ولعل الفارق بين هذين النمطين من التفكير يتعلق بالنظرة إلى النظام والمعجزة، فمن كان من القائلين بالتطور، مؤمنا بالعناية الإلهية؛ فطريقته في التفكير أن يستدل بانتظام الخلق على وجود الخالق، وأن يرى بعد ذلك أن المعجزة لا تستغرب مع الإيمان بالقدرة الإلهية والحكمة التي تستدعيها، إذا كان هناك ما يستدعي صنع المعجزات في رأيه.
ومن كان من القائلين بالتطور، معطلا للعقيدة الدينية؛ فطريقته في التفكير أن التوفيق متعذر بين تفسير الكائنات بالقوانين الطبيعية، وبين خرق هذه القوانين لإثبات عقائد الدين.
لكن الرأي الأخير الغالب على علماء اللاهوت المسيحيين أن معارضة الرؤساء من رجال الدين لمذهب التطور، عند إعلانه قبل مائة سنة، لم يكن من سداد الرأي في شيء، وأن هذه المعارضة ينبغي أن تحسب على أصحابها، ولا تحسب على الديانة المسيحية التي لا تأبى التفسير على وجه موافق لمذهب التطور على أقواله المتعددة، ويعبر عن هذا الرأي في كتاب مؤلف لهذا الغرض عالم من أكبر علماء الرياضة وعلماء اللاهوت المعاصرين، وهو الأستاذ كولسون، عضو مجمع العلوم الملكي وصاحب كتاب «العلم والعقيدة المسيحية»، ومدار الرأي فيه كله على هذه الفكرة، سواء فيما يرجع إلى مذهب التطور أو إلى غيره من مذاهب العلم الحديث.
سلسلة الخلق العظمى
سلسلة الخلق العظمى مذهب يوازي مذهب التطور، ويتمشى معه في معظم الطريق، ولكنه لا يبتدئ معه من البداية، ولا ينتهي إلى الغاية.
وصفوة القول بسلسلة الخلق العظمى أن الوجود درجات متفاوتة في ترتيب الضعة والشرف، تبتدئ من المادة الأولى التي لا صورة لها، وترتفع إلى مرتبة الوجود الإلهي الذي تمحض له العلم والخير، فهو علم لا يعرض له الجهل، ولا يحتجب عنه سر، وخير لا يشوبه الشر ولا يقع له في إرادة.
وهذه السلسلة العظمى كاملة في انتظامها لكل حلقة من حلقات الوجود، وكل قابلية من قابليات الصفات والأعراض، فلا تفرغ السلسلة العظمى من إحدى هذه الحلقات، ولا يعقل أن توجد في الإمكان قابلية لشيء قط ولا توجد في الواقع مع حلقة من حلقات الوجود السفلي أو العلوي. •••
والرائد الأكبر لهذا المذهب بين الأقدمين أفلاطون الملقب بالحكيم الإلهي، فهو الذي وضح هذا المذهب توضيحا فلسفيا، وبناه على حجة عقلية، وهي أن الإله - وهو خير محض - يأبى له كرمه أن يضن على شيء، كائنا ما كان، بنعمة الوجود، فمهما يبلغ من حقارة شأنه فهو مستحق لحصته من الوجود في مرتبته من الخلق، ومستحق لأن يصعد من هذه المرتبة إلى ما فوقها بنعمة من الله، وبما ركب في طبائع الأشياء من شوق إلى الكمال.
والراجح أن هذا المذهب وصل من الهند إلى حكماء اليونان من طريق العبادات السرية التي عرفت باسم النحل «الأورفية»، وأسبق ناقليه من كبار الفلاسفة اثنان؛ هما: فيثاغوراس وإمبدوقليس، وكلاهما يقول بتناسخ الأرواح، ويتنطس في معيشته على نظام الرياضة الصوفية والرياضة البدنية، وبين أتباعهما من كان يجمع بين التقشف ومراس الرياضة البدنية، ويفوز في مبارياتها العامة.
وقد كان فيثاغوراس يجتنب أكل اللحوم، ويقسم الأغذية إلى: صالحة للروح، وغير صالحة لها لأنها بهيمية، وكأنه كان يحرم أكل اللحوم لأنها مأكل السباع، ويحرم أكل الفول وما إليه لأنه مأكل البهائم، ويحسب أن الأرواح تنتقل بين الأجساد لترتفع أو تهبط في درجات الخلق ومراتب البهيمية والروحانية، وله من الأقوال المقتضبة ما يشبه مذهب الهند في الدورات الأبدية التي يحسبونها بعدد مقدور من ألوف السنين، مع قسمة السنين إلى شمسية وكونية. •••
وجاء بعده إمبدوقليس، فقسم درجات المادة، واعتبر العناصر الأربعة أشرفها وأعلاها، وسماها بالجذور قبل أن تعرف باسم العناصر وتسمى بعنصر النار، وعنصر الهواء، وعنصر الماء، وعنصر التراب.
والعالم - عند أصحاب القول بالسلسلة العظمى - عالمان: كبير وصغير، فالعالم الكبير
Macrocosm
هو الكون كله بما اشتمل عليه من كائنات علوية وسفلية، ومن مراتب روحية وبهيمية ومادية، والعالم الصغير
Microcosm
هو الإنسان؛ لأنه يحتوي في تكوينه كل عنصر وكل مادة وكل درجة، ويتقبل الارتفاع إلى صفات العلم والخير، أو صفات العقل والتدبير التي تمت للإله على أكملها وأرفعها، كما يتقبل الهبوط إلى مرتبة البهيمية وما دونها، وفي الإنسان شيء من خصائص الأجسام المادية، وشيء من خصائص الأجسام النباتية، وشيء من خصائص الأجسام الحيوانية، وشيء من خصائص الروح الذي يكون للملائكة بغير جسد، وشيء من المعرفة التي يقترب بها من الصفات الإلهية.
وقد انتقل مذهب السلسلة العظمى من الهند واليونان إلى العرب، وانتقل من العرب إلى متصوفة الأوروبيين، وكان من تلاميذ الحكمة العربية رجل تسنم عرش البابوية في آخر سنة قبل نهاية القرن العاشر (999م)، وهو سلفستر الثاني، وظهرت آثارها في أقوال القديس توما الإكويني وألبرت الكبير، «ويرى الأستاذ آسين بلاسيوس الإسباني أن نزعات دانتي الصوفية، وأوصافه لعالم الغيب مستمدة من محيي الدين بن عربي بغير تصرف كثير، ومن المعلوم أن أول الفلاسفة الصوفيين من الغربيين - جوهان أكهارت الألماني - نشأ في القرن التالي لعصر ابن عربي، ودرس في جامعة باريس، وهي الجامعة التي كانت تعتمد على الثقافة الأندلسية في الحكمة والعلوم».
1
ولعل أكهارت هو أسبق المقتبسين من المتصوفة الغربيين لقول ابن عربي: إن الله هو الوجود الحق، وإن كل ما عداه من موجود فوجوده عارية. وهو قول في جملته يعيد إلى الذهن قول أفلاطون: إن الله هو مقياس كل حقيقة، ردا على بروتاجوراس
الذي كان يقول: إن الإنسان هو مقياس الوجود، وإن الله أنعم على الإنسان بالحياة «الزمنية»؛ لأن الزمن محاكاة للوجود الأبدي الذي اختص به الإله دون سواه، وليس بين القولين تناقض في النهاية؛ لأن أفلاطون يعود فيجعل العقل - صفة الله العليا - درجة يبلغها الإنسان، ولا يدركها من دونه من المخلوقات، ولكنه قد يعلو بالعقل فوق مرتبة المادة التي تمتزج بالعقل في تكوين الإنسان. •••
وقد كان لفلسفة أرسطو نصيب غير قليل من الأثر في توجيه عقول الأوروبيين منذ القرون الوسطى إلى مذاهبهم أو أقوالهم، في سلسلة الوجود العظمى؛ لأنه رتب الموجودات على حسب نصيبها من الحس، وقارب بين النبات والحيوان فجعلهما مشتركين في «النفس» النامية، وكاد أن يجعلها رتبة من رتب العقل يتوسط فيها النبات بين الجماد والحيوان، ولم يكن في تصنيفه للكائنات فاصل حاسم بين الحيوان وما دونه؛ لأن «التولد الذاتي» كان في تقديره من الممكنات، وانقضت بعده القرون الوسطى وأوائل العصر الحديث قبل أن تظهر للعلماء استحالة تولد الحيوان من غير الحيوان.
وتقبل اللاهوتيون الأوروبيون فكرة السلسلة العظمى كما وصلت إليهم من مفكري العرب ومتصوفتهم، فلم يجدوا فيها تناقضا ينكرونه بين القول بخلاص الإنسان بالإيمان، وقول سقراط وأفلاطون: إن العقل هو الصفة الإلهية التي يتحلى بها الإنسان، ويعلو بها من أفق الخلائق الدنيا إلى أفق النعمة الإلهية، وإن الإنسان بمعرفته للأشياء يحتويها ويملكها، ويؤتمن على تدبيرها محاكاة لقدرة الله على تدبير الخير لمخلوقاته؛ فإن التناقض بين خلاص الإنسان بالإيمان، وخلاصه من أوهاق المادة بالعقل والمعرفة، يبطل ويزول متى اعتقد المفكر أن العقل الرشيد سبيل إلى الإيمان بالله، والتعويل على البركة الإلهية في تطلعه إلى النجاة والخلاص.
ولم يصطدم الرأيان من بعض الجوانب إلا بعد ظهور فلسفة إبيلارد (1079-1142م)، الذي فسر السلسلة العظمى بأنها لازمة ضرورية تستوعب كل الممكنات، فيستحيل أن يوجد شيء غير ما هو موجود؛ لأن الخالق في علمه وقدرته يعلم جميع الممكنات، ولا يعجز عن تحقيق ممكن منها يتعلق بعلمه وإرادته، فأنكر عليه معاصره برنارد دي كليرفو (1091-1153)، داعية الحرب الصليبية الثانية، ذلك التفسير وقال: إنه يناقض ما ينبغي أن نؤمن به من غضب الله على الخطيئة والرذيلة، ومن إنعامه بالخلاص على الخطاة.
وكان القديس توما الإكويني (1226-1274) يميل إلى تأييد برنارد في اعتراضه على تفسير إبيلارد، ويكاد يعيد ردود الغزالي على ابن رشد في مثل هذه المناقشة، فيقول: إن خلق الله لهذه الموجودات على سنتها التي أودعها فيها لا ينفي قدرته على خلق غيرها زائدا عليها، ولا ينفي قدرته على خلقها مرة أخرى في صورة غير هذه الصورة، فليس انتظام سلسلة الخلق مانعا أن تنتظم لها حلقات غير هذه الحلقات، وسلسلة غير هذه السلسلة مع استيعاب الله لجميع الممكنات؛ لأن التبديل في الممكنات غير مستحيل.
وجاء بيكوديلا ميرندولا (1463-1494)
Mirandola
فقال بما كان يقوله المتصوفة المسلمون من قبول الإنسان لأرفع المراتب وأدناها، وأن كل مخلوق قد يلتزم مكانا من سلسلة الخلق لا يعدوه إلى ما فوقه، إلا الإنسان؛ فإنه لا يتقيد بمكان من السلسلة العظمى غير المكان الذي يرتضيه لنفسه، علوا إلى مرتبة الملائكة المقربين، أو سفلا إلى مرتبة البهائم والحشرات.
وعاد البحث في مكان الإنسان بعد كشف كوبرنيكوس لدوران الأرض حول الشمس، وتجدد المناقشة عن مركز الخليقة وعن مكان الإنسان على هذا المركز المختار؛ فقد يجوز أن يكون للعالم الأرضي نظراء له من العوالم السماوية، وأن يكون لتلك العوالم سكانها من الخلائق العقلاء، ولكن هذه المناقشة لم تزعزع أساس الفكرة التي تسلسل الموجودات من أدناها إلى أعلاها في العالم المعروف، وفي كل عالم يمكن أن يعرف قياسا عليه، وظلت فكرة السلسلة العظمى غالبة على الباحثين في مركز الإنسان من الخليقة، وقال بها فلاسفة الشعراء كما قال بها فلاسفة الحكمة والدين إلى زمن قريب، وعلى أساس هذه الفكرة نظم الشاعر الإنجليزي إسكندربوب (1688-1744) قصيدته الكبيرة التي سماها: مقالة عن الإنسان، وقال فيها يخاطب الإنسان:
اعرف إذن نفسك، ولا تدع الإحاطة بعلم الله
إن دراسة الإنسان المثلى هي الإنسان
قائما على برزخه هذا من الحالة الوسطى
مخلوقا عاقلا في ظلمة، عظيما في خشونة
أعلم من أن يكون «شكوكيا» لا يدري
وأضعف من أن يكون «رواقيا» يصبر
معلقا بين العمل والراحة
معلقا بين الإلهية والبهيمية
معلقا يتردد بين إيثار عقله أو بدنه
يولد ولكن ليموت، ويعلم ولكن ليخطئ
يحيط به الجهل نقص علمه أو زاد
ويختلط أمره في فوضى من الفكر والشهوة
وهو هو الذي يسيء إلى نفسه أو يتجنب الإساءة
مخلوقا نصفه ليرتفع ونصفه لينحدر
سيدا لجميع الأشياء وفريسة لها جميعا
وهو الحكم الوحيد فيما هو حق وباطل، ولكنه يضطرب في خطأ دائم
ولا يزال فخر الخليقة، وسخريتها، ولغزها الغامض، في آن
وهذا هو مكان الإنسان الأوسط، بين حلقات هذه السلسلة العظمى «التي إذا انكسرت إحداها وقع الخلل في سائرها».
وجاء بعده شاعر آخر هو جيمس تومسون صاحب قصيدة الفصول (1700-1748)، فنظم الوجود من طرفي هذه السلسلة العظمى «بين الكمال الذي لا حد له، وبين حافة الهاوية السفلى والعدم المرهوب». •••
وتوقف البحث في سلسلة الخلق العظمى بعض التوقف بين أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر، ولكنه لم ينقطع، ولا نعتقد أن الانقطاع عن البحث يعرض لمسألة الإنسان ومركزه من الكون في زمن من الأزمان، وإنما انقطع البحث فترة يسيرة، ليتجدد بكل ما يستطاع من قوة مع البحث في مذهب التطور، وفي علوم الأحياء عامة، وعلم الإنسان خاصة، على هذا النطاق الواسع الذي يشمل اليوم علم الحياة أو «البيولوجي»، وعلم الحيوان «الزولوجي»، وعلم الأجناس البشرية «الأنثولوجي»، وعلم الإنسان «الأنثروبولوجي»، عدا مباحث شتى تتصل بالمعلومات العامة عن الإنسان ومركزه بين الكائنات في آراء علماء الطبيعة، وآراء الفلاسفة والمفكرين. •••
ونعود إلى السلسلة العظمى عند العرب الذين نقلوا أهم مصادرهم إلى الأوروبيين، فنقول: إنهم عرفوها - كما تقدم - من مصادر شتى، ولم يجعلوها دستورا عاما يحيط بالموجودات، ويقرر للإنسان مكانه على مذاهب القائلين بتلك السلسلة؛ لأن مكان الإنسان كما ورد في آيات القرآن الكريم أغناهم عن القول بمكان له ينسبه إلى سلسلة الخلق، ويلحقه بها لزاما على طريقة الأقدمين في إلحاقه بغير الخلائق الآدمية.
وإنما عرفت لحكماء العرب أقوال تشير إلى ترتيب السلسلة في مواضع متفرقة من بحوث العلم أو الدين.
ومنها ترتيب آفاق الموجودات كما تقدم في فصل «التطور قبل مذهب التطور» من هذا الكتاب.
ومنها الكلام على «النفس والروح والعقل» والتفرقة بين مراتبها، ابتداء من النفس التي كان أرسطو يجعلها قوة مشتركة في الخلائق النامية، إلى الروح التي تعلو على النفس في هذا الاعتبار، ويمتاز بها الإنسان عما دونه، إلى العقل، وهو الصفة الإلهية التي يتحلى بها الإنسان، ويقترب بها من أفق الخالق أو المحرك الذي تقترب منه الموجودات بمقدار حركتها إليه، وأشرفها حركة الإنسان إلى المعرفة، وشوقه إلى الكمال. •••
وعرف القول بالعالم الأكبر والعالم الأصغر بين المتصوفة، كما جاء في أبيات تنسب إلى الإمام علي بن أبي طالب، ولم تتحقق نسبتها إليه، ومنها عن الإنسان:
دواؤك فيك وما تشعر
وداؤك منك وما تفكر
وتزعم أنك جرم صغير
وفيك انطوى العالم الأكبر
ووافق القول بنجاة الإنسان بعقله ما ورد في آيات القرآن الكريم من الأمر بالتفكير والتدبر، فقال به كثيرون من حكماء الإسلام، ثم فرق المتصوفة والمتنسكون بين ضربين من المعرفة؛ أحدهما يستقيم بصاحبه على سنن الهداية، والآخر يلتوي به دون قصد السبيل، وكذلك قال ابن مسكويه بعد كلامه المتقدم في فصل آخر:
إن هذا الشوق ربما ساق الإنسان على منهج قويم وقصد صحيح، حتى ينتهي إلى غاية كماله، وهي سعادته التامة، وقلما يتفق ذلك. وربما اعوج به عن السمت والسنن، وذلك لأسباب كثيرة يطول ذكرها، ولا حاجة بك إلى علمها الآن وأنت في تهذيب خلقك. فكما أن الطبيعة المدبرة للأجسام ربما شوقت إلى ما ليس بتمام للجسم الطبيعي؛ لعلل تحدث به، وآفات تطرأ عليه، بمنزلة من يشتاق إلى أكل الطين وما جرى مجراه، مما لا يكمل طبيعة الجسد، بل يهدمه ويفسده.
كذلك أيضا النفس الناطقة ربما اشتاقت إلى النظر والتمييز الذي لا يكملها ولا يشوقها نحو سعادتها، بل يحركها إلى الأشياء التي تعوقها وتقصر بها عن كمالها، فحينئذ يحتاج إلى علاج نفساني روحاني كما احتاج في الحالة الأولى إلى طب طبيعي جسماني، ولذلك تكثر حاجات الناس إلى المقومين والمنفعين، وإلى المؤدبين والمسددين؛ فإن وجود تلك الطباع الفائقة التي تنساق بذاتها من غير توقف إلى السعادة عسرة الوجود، لا توجد إلا في الأزمنة الطوال والمدد البعيدة.
وهذا الأدب الحق الذي يؤدينا إلى غايتنا يجب أن نلحظ فيه المبدأ الذي يجري مجرى الغاية، حتى إذا لحظت الغاية تدرج منها إلى الأمور الطبيعية على طريق التحليل، ثم يبتدئ من أسفل على طريق التركيب. وينبغي أن يعلم أن كل إنسان معد نحو فضيلة ما، فهو إليها أقرب، وبالوصول إليها أحرى، ولذلك تصير سعادة الواحد من الناس غير سعادة الآخر، إلا من اتفق له نفس صافية وطبيعة فائقة، فينتمي إلى غايات الأمور ، وإلى غاية غاياتها، وأعني السعادة القصوى التي لا سعادة بعدها.
ويرى المتصوفة أن المعرفة معرفتان كما يرى الحكماء من أمثال ابن مسكويه، ولكنهم يقسمونها إلى معرفة لدنية ومعرفة كسبية، ويقصدون بالمعرفة اللدنية ما يدركه الإنسان بالإلهام والاستشراق، ويهتدي إليه برياضة النفس وقمع الجسد، وهي معرفة غير معرفة التعليم والدراسة، على حد قول سعيد بن أبي الخير فيما روى من كلامه عن ابن سينا: «إن ما يرى على ضوء المصباح وصل إليه هذا الأعمى بعكازه.»
ويتممه قول ابن سينا عن الحدس الصادق أنه حالة يقابل بها عقل الإنسان مصدر العقول جميعا، فيدرك بالإلهام والتوفيق ما ليس يدرك ابتداء بالدرس والبرهان. •••
وفي غير هذا الفصل بيان لمذهب حجة الإسلام الإمام الغزالي في حكمة الموجودات، وحكمة خلق الإنسان بين خلائق السماوات والأرضين، وهو أمثل ما يقال عن سلسلة الخلق العظمى بتفسير أهل السنة، على هدى القرآن الكريم.
الإنسان في علم الحيوان وفي علوم الأجناس البشرية
الإنسان من الفقاريات
Vertedrates ، ومن الأوائل
بين الفقاريات. وهذه الأوائل تسمى أحيانا بالبشريات
Anthropoids ، وتشمل الإنسان والقردة العليا، وهي الغوريلا، والأورانج، والشمبانزي، والجيبون.
ويختص الإنسان من بين البشريات باسم يميزه وهو اسم الإنس
Hominidae ، كما تختص القردة على عمومها باسم النسانيس
Simidae ، فيفرقهما هذان الاسمان، حيث يجمعهما اسم البشريات.
ويرى بعض علماء الأحياء أن اسم الإنس يطلق على الكائن الذي وجدت بقية من جمجمته في حفائر جاوة، وأطلق عليه الدكتور دبوا
Dubois
الذي وجد تلك البقية
؛ لدلالة بقاياه على اعتدال قامته، وامتيازه باتساع الدماغ على البشريات، ولكن الرأي الغالب اليوم أن النوع الإنساني بمزاياه التي بقيت له اليوم مخالف في الخصائص الإنسية لصاحب تلك الجمجمة، وأن هناك اختلافا غير قليل بين أناسي الحفائر من قبيله، وبين الإنسان الذي يطلق عليه اليوم اسم الحيوان الناطق أو العارف أو المميز
Homo Sapiens ، من الكلمتين اللاتينيتين: «هومو» بمعنى بشر، و«سابيين» بمعنى ذي فهم، أو ذي إدراك، أو ذي كياسة. •••
وننقل هنا خصائص النوع الإنساني في علم الحيوان كما أثبتها أقدم الكتب العلمية التي بحثت مذهب التطور باللغة العربية، وعنيت بإيراد أوجه الاعتراض عليه، وأوجه الاختلاف بين الإنسان وغيره من البشريات من الوجهة التشريحية، كما قررها علم الحيوان قبل نهاية القرن التاسع عشر، ونعني به كتاب «تنوير الأذهان في علم حياة الحيوان والإنسان»، لمؤلفه الدكتور بشارة زلزل. وقد صدر الإذن بطبعه من نظارة المعارف بالآستانة بتاريخ 13 رجب سنة 1297، وتم طبعه بعد ذلك بمطبعة مجلة الجامعة في الإسكندرية.
قال المؤلف في الصفحة (167) من المجلد الأول:
فإذا نظر إلى الإنسان على سبيل المقابلة بتلك القرود التي هي لا شك أقرب الحيوانات إليه، يرى أن الإنسان ماش منتصب القامة على قدميه؛ لأن سلسلة ظهره مقوسة في العنق وفي الظهر وفي الصلب، وليس للقردة شيء من ذلك. وعلة ذلك - على ما قال بعض المدققين - زيادة نمو الدماغ؛ لأنه يؤدي إلى كبر القحف، فتتغير الجلسة؛ بدليل عدم استوائها في الأطفال. وبناء عليه تكون موازنة الرأس للبدن سببا لاستواء الجمجمة على العمود الفقري.
وقالوا: إن الأقواس الثلاثة المذكورة تكون في المتمدنين أوضح مما هي في المتوحشين. وعلى الجملة فإن موازنة الرأس مع البدن في أكثر الحيوانات اللبونة تناط بالأربطة العنقية، وهي قوية جدا فيها، وفي القردة بالعضلات المتينة التي تندغم في القذال والسناسن (النتوءات الشوكية)، وهي فيها أطول وأغلظ مما في الإنسان بضعفين، ويتوقف عليها وعلى الرأس حفظ الرأس على الوضع الأفقي فلا يضغط على الصدر لذلك.
وليس الأمر كذلك في الإنسان؛ لأن ثقل جمجمته يتكافأ مع ثقل البروز الوجهي، فيستوي الرأس على الهامة بدون أن يكون للعضلات والأربطة العنقية إلا المحافظة على الموازنة المذكورة، ومقاومة ميل الرأس إلى الأمام؛ ولذلك كانت هذه الأربطة في الإنسان ضعيفة، قال الأستاذ بروقا
وتابعه كثيرون: إن السبب في انتصاب قامة الإنسان واستوائه ماشيا على قدميه إنما هو نمو الدماغ؛ لأن هذه المشية تجعل اليدين مطلقتي الحركة، والنظر متجها إلى الأفق.
وطفل الإنسان يشبه الدبابات؛ لأنه عديم الأقواس الفقرية، فلا يظهر القوس العنقي إلا متى ابتدأ الطفل يضبط رأسه في الجلسة التي يعود عليها، وذلك في الشهر الثالث من عمره. وفي السنة الثانية غالبا يتكون القوس الظهري من جراء فعل العضلات الظهرية والصلبية للقطر السفلي للعمود الفقري، وذلك إذ يبتدئ الطفل يدرج.
وبالجملة فإن الخاصة التي يصدر عنها حسن تقويم الإنسان، ويتوقف عليها امتيازه على سائر الحيوان، وتتفاوت بحسبها مراتب الأمم في المدنية إنما هي نمو الدماغ، وزيادة حجم الجمجمة. وقد أجمع الباحثون على أن معدل وزن الدماغ في الأوروبيين يكون متوسطه في الرجال 1360 غراما، وفي النساء 1200 غرام، وأعلاه 1675 غراما، وأدناه 1025 غراما، وما نقص عن ذلك يدل على البلاهة لعلة أو آفة.
والقرود الشبيهة بالإنسان أكبر الحيوانات دماغا، ومعدل وزنه المتوسط فيها 360 غراما، وغاية ما بلغه في الأورانج 420 غراما. وقد عد ذلك من الشواذ. وعلى قدر نمو الدماغ تزداد سعة القحف ويقل البروز الوجهي، والفرق بين الإنسان والحيوانات من هذا القبيل أوضح من أن يبين، فإذا نظرت إلى جمجمة إنسان من الأعلى لا ترى البروز الوجهي، بخلاف ما إذا نظرت إلى جمجمة القردة وغيرها من الحيوانات.
وإذا نظرت إلى جمجمة القرد من جانب ترى الوجه شاخصا إلى الأمام يؤلف خطا مستطيلا، وذلك من الخصائص البهيمية. ويستدل على معرفة درجة هذا البروز بالزاوية الوجهية، وفضلا عن ذلك فإن الجزء الوجهي للعظم الوجني قليل النتوء في الإنسان بخلاف ما هو عليه في القرود، إذا نظرت إلى الجمجمة من الوراء لا ترى الثقب المؤخر في جمجمة الإنسان، وتراه كله أو قسما منه في جمجمة القرود.
وهذه الأعراف الدالة على الشراسة والصفات البهيمية في القرود غير موجودة في الإنسان، وهي لازمة فيها عن نمو العضلات المضغية التي يترتب عليها تحريك الفكين الضخمين، وعن نمو عضلات القذال التي يتوقف عليها إسناد الرأس على العنق. ومعلوم أن قحف الحيوان الصغير لا يتسع لاندغام هذه العضلات فيه، فحيث وجدت اضطرت النسيج العظمي في إبان نموه أن يهيئ لها مندغما، فنشأ عرفا. والدليل على ذلك أن هذه الأعراف لا توجد في القرود الصغيرة.
ومثل ذلك يقال عن النتوءات الشوكية البارزة في عنق الغول، ولما كانت هذه الأعراف والنتوءات أصغر في الأورانج مما هي في سائر القرود لم يتوازن رأسه على بدنه، فيرى الخطم الثقيل مدلى على صدره، ولذلك خص بالأكياس الحنجرية تلطيفا لضغط خطمه على مجرى الهواء. أما الجيبون فخطمه صغير، وأعرافه قليلة النتوء، والأكياس الحنجرية غير موجودة فيه، فهو أقرب القرود إلى الإنسان، ولكن طول ذراعيه يبعده كثيرا عن الإنسان؛ لأنه يتوكأ عليهما في مشيه كما يتوكأ الإنسان على هراوته.
ومن الخصائص الفارقة بين الإنسان والقرود إبهام الرجل؛ فهو في القرود أشبه بإبهام اليد؛ لأنه يقاوم كلا من الأصابع ويلامسها، وهو ليس كذلك في الإنسان؛ لأنه يناسب فيه حالة المشي وانتصاب القامة، كما أنه يناسب في القرد حالة التسلق والإمساك.
ومن هذه الخصائص تباين شكل الأسنان وحجمها؛ فأسنان الإنسان بالنسبة إلى جسده أصغر مما هي في القرود، وإذا تأملت في الصورة راعتك من منظر الغول أنيابه. أما النواجذ والطواحن في هذه الحيوانات فكبيرة جدا، بالنسبة إلى طول القسم الوجهي من الجمجمة، وما عدا ذلك فإن وضع الأسنان في نسخ الإنسان على نسق منتظم خلافا لما يرى في القرود؛ حيث يتخلل نابي الفك العلوي وثناياه خلاء تتداخل فيه أسنان الفك، والخصائص المميزة لإنسان تزداد وضوحا بتقدم المدنية والعمران؛ لأن اختلاف طرق المعاش يؤدي إلى تنويعها، فتبتعد عن الحالة الطبيعية كما ترى في أقواس العمود الفقري، فإنها في المتمدنين أكثر وضوحا مما هي في المتوحشين.
وترجع علوم الإنسان إلى علم الحيوان لدراسة تواريخ البشر الاجتماعية، كما ترجع إليه أحيانا في دراسة تقدمهم الثقافي منذ وجد الإنسان بخصائصه المعروفة للحيوان الناطق
Homo Sapiens ، وقبل وجود هذا الإنسان في العصور السحيقة التي استخدمت فيها الآلات على شيء من الخشونة البدائية. ويشيع - من أجل هذا - أن هذه العلوم قد تأثرت بمذهب التطور كما بسطه لامارك، وكما بسطه دارون من بعده، ولكن الأصح أن المعلومات المتشعبة التي تجمعت من درس الحفائر وطبقات الأرض، ورحلات الجغرافيين واللغويين بين أرجاء العالم القديم والعالم الحديث قد كان لها أثرها البين في مذهب التطور وفي سائر العلوم الإنسانية المتعددة، ومنها: علم السلالات، وعلم الإنسان، وعلم الاجتماع، وعلم النفس، وعلوم المقارنة بين اللغات.
ومحصل هذه المعلومات المتشعبة بين العلوم الإنسانية أن البشر وجدوا وانتشروا على جهات متقاربة من العالم القديم منذ العصر «الميوسيني»
Miocene
قبل نحو مليوني سنة، وأنهم كانوا يومئذ على حالة متوسطة بين الحيوان الناطق وطبقة بشرية دون هذه الطبقة، ثم تميزت خصائص الإنسان بعد ابتداء العصر الجليدي منذ نحو مليون سنة، ولكن الإنسان الذي استخدم الآلات، وصاغها من العظام والحجارة لا يعرف له تاريخ جلي قبل مدة تتراوح في تقدير العلماء بين مائتي ألف ومائة ألف سنة.
وكانت بداية انتشار الجماعات الإنسانية بين القارات الثلاث منذ العصر الحجري الأول، ثم تلاه العصر الحجري الحديث الذي تميز فيه الإنسان بأكبر مزاياه، وهي الحياة الاجتماعية، والقدرة على استخدام الآلات والنار، وتسخير سائر المخلوقات، وتدجين الأوابد على مراحل متتابعة؛ أولاها مرحلة تدجين الكلب للاستعانة به في الصيد، وتأتي بعدها مرحلة تدجين الماشية والحمار والحصان؛ للاستعانة بها في الزراعة وفي الانتقال من مكان إلى مكان حيث يوجد الكلأ والماء.
وفي هذه المراحل ملك الإنسان زمام الخليقة، وبلغ المنزلة التي استحق بها أن يسمي نفسه سيد المخلوقات، وتمهد له سبيل السيطرة على الحيوان والنبات وظواهر الطبيعة حينما احتاج إليها، ويعتقد بعض علماء السلالات البشرية أن الإنسان تقدم شأوه الأول في صراعه للحيوان وظواهر الطبيعة، ثم تقدم شأوه الثاني - والأهم - في صراعه بينه وبين أبناء نوعه، واتسع الفارق بين ملكاته في شأوه الأول وملكاته في شأوه الثاني بمقدار اتساع الفارق بين الحيلة التي تلزم للتغلب على الحيوان، والحيلة التي تلزم للتغلب على أمثاله من الآدميين، ثم تلزم لابتداع وسائل أخرى للتغلب كلما تساوى الناس في وسائلهم المشتركة.
وقد كان الناس قبل شيوع الآلات وتدجين الحيوانات سلالة واحدة، لا تختلف في الملامح والألوان، ولا يظهر بين بقاياهم الأثرية ما يدل على فارق عنصري كالفوارق التي تختلف بها اليوم سلالات البشر من سكان العالمين القديم والحديث. •••
ولكن ابتداء التغالب بين البشر فرق مواقع السكن ، وفتح الطريق لاختلاف السلالات على حسب الإقليم والمناخ والقدرة العقلية على الاحتفاظ بالمسكن، أو على الهجرة منه إلى غيره، ويعزى إلى هذا التفرق ظهور السلالات الأربع المشهورة، وهي التي تسمى عند علماء السلالات بأسماء مختلفة، أوضحها أسماء ألوان البشرة؛ وهي: البيضاء، والسمراء، والصفراء، والسوداء. وقد أحصى بعض العلماء أربعة وثلاثين لونا تتراوح من الشقرة إلى السواد الفاحم، ولكنها كلها تئول إلى تلك السلالات الأربع عند التمييز بينها بأشكالها وملامحها الجسدية.
وأبرز الفوارق بين السلالات - غير لون البشرة - شكل الشعر والأنف والفك وطول القامة، وقد تعرف القرابة بين السلالات التي انفصلت بين القارات بما بينهما من التقارب في شكل الشعر دون غيره، فيرجحون أن سكان أمريكا الأصلاء وسكان آسيا الشرقية من أصل واحد؛ لما بينهم من التشابه في استقامة الشعر وخشونته، ولونه الضارب إلى السواد، وقد أمكن اليوم تعليل أبرز الفوارق بين سلالات البشر بأسباب المناخ والأقاليم، فنسب الأنف الأفطس والجلد الأسود إلى فعل الحرارة، كما نسب الأنف الأقنى الطويل والجلد الأبيض إلى برد الإقليم، واحتياج سكانه إلى وقاية الرئة، واستغنائهم عن الصبغة الجلدية حيث يلطف وقع الأشعة على البشرة. وبمثل هذا السبب يعللون اختلاف الشعر بين النعومة والتموج، وبين الخشونة والتجعد، وبين الشعر الحريري والشعر الصوفي في الشكل والملمس، ولا يصعب تعليل خاصة عنصرية واحدة بعلة أو مجموعة من العلل ترجع إلى المناخ وأحوال المعيشة.
إلا أن الفوارق الفكرية أصعب من هذه الفوارق الجسدية تعليلا بأسباب المناخ وأحوال المعيشة، وأبرزها فوارق اللغة؛ لأنها قابلة للضبط والتقسيم، أو هي أدنى إلى التقسيم بالضوابط والعلامات من فوارق التفكير والبواعث النفسية، وقد تكون علامات اللغة مما يستعان به على جلاء الفوارق الفكرية، وفوارق الشعور والاعتقاد.
واللغات - في تصنيف بعض علمائها - قد تنقسم على حسب الأجناس والسلالات التي تتكلمها، ولكنه تقسيم يقع فيه الاختلاط؛ لاشتراك الأمم في لغة واحدة أو عائلة لغوية واحدة، مع انتمائها إلى أصول متباعدة في أجناسها وعناصرها. وخير من هذا التقسيم أن تقسم اللغات على حسب تكوينها وتكوين الكلمات وقواعد النحو في مفرداتها وتركيبها، وهو تقسيم يضبط الفوارق بينها ضبطا كافيا للموازنة بينها، والمقابلة بين عوامل التقدم وعوامل الجمود والتأخر في تراكيبها وتعبيراتها.
وتنقسم اللغات من حيث التكوين إلى لغات النحت، ولغات التجميع، ولغات الاشتقاق؛ فلغات النحت هي التي تتكون فيها الأسماء والأفعال والصفات بإدخال المقاطع الصغيرة عليها أو إلحاقها بها، وتسمى هذه اللغات بالغروية في اصطلاح الأوروبيين:
Agglutinative .
ولغات التجميع هي اللغات التي يقع فيها النحت، ويعمل فيها التنغيم عمله في اختلاف المدلول مع الزيادات التي تدخل على الكلمات أو تضاف إليها، ومن فروع هذه اللغات ما تتكون أسماؤه وأفعاله في جملة تتألف من عدة مقاطع مرتبة أو غير مرتبة، على نسق واحد في جميع الكلمات، ويغلب على اللغات التي تتكون هذا التكوين أن تسمى بالمجمعة
، مع وصفها بالغروية إلى جانب التجميع.
ولغات الاشتقاق هي اللغات التي يعم فيها الفعل الثلاثي في كل مادة، وتجري قواعد الصرف فيها على المخالفة بين الأوزان بحسب معانيها، ويكثر فيها اختلاف الحركة في أواخر الكلمات على حسب موقعها من الجملة. •••
ويشيع النحت في اللغات الهندية الجرمانية، كما يشيع التجميع في اللغات المغولية ولغات القبائل الأمريكية الأصيلة. أما الاشتقاق فهو من خصائص اللغات السامية. وتكاد اللغة العربية أن تنفرد من بينها بعموم الاشتقاق واطراده، مع مراعاة الحركة على أواخر الكلمات حسب مواقعها من الجمل المفيدة.
وربما اتفق اللغويون على قواعد عامة عملت في تطور هذه اللغات جميعا، ولا تختص بها لغة منها دون سائرها، ومن هذه القواعد العامة: أن الكلمات الانفعالية التقليدية أسبق من الكلمات الإرادية الفكرية، ويريدون بالكلمات الانفعالية ما يصدر عن الإنسان عفوا من الأصوات والصيحات التي تعبر عن الفرح أو الفزع أو الدهشة، وما تكون الكلمة فيه أحيانا من قبيل المحاكاة الصوتية
Onomatopaeic ؛ كاسم البلبل، والككو، وألفاظ الدق والقطع والوسوسة وما جرى مجراها.
ويريدون بالكلمات الإرادية الفكرية كل ما يقصده المتكلم ويجري فيه على القياس والاستعارة وإطلاق القاعدة الواحدة على المتشابهات لفظا، أو لفظا ومعنى.
وأكمل اللغات على سنة التطور والتقدم في الثقافة تلك اللغات التي انتظمت قواعدها الصوتية
، و قواعدها الصرفية
Morphologie ، و قواعد التراكيب والعبارات
Syntax ، ويضاف إلى الظواهر الصوتية والصرفية والعبارية في قياس تطور اللغات ظاهرة التمييز والتخصيص في الصفات إجمالا، وفي المفردات على التعميم؛ كالتمييز بين المذكر والمؤنث والجماد، وبين المفرد والمثنى والجمع، وبين جمع القلة وجمع الكثرة، وبين الصفات العارضة والصفات اللازمة. وهي جميعها من المزايا التي لا يحق لكاتب اللغة العربية أن يمر بها عرضا إذا جاز ذلك لمن يكتفي بسرد العلامات اللغوية ويغفل دلالتها، عند تطبيقها على لغته وقواعدها.
ففي صدد الكلام على التطور الإنساني، وعلى تطور الإنسان الناطق بصفة خاصة، يحق للباحث أن يشير إلى دلالة الدراسات اللغوية على مكان اللغة العربية من التطور وتحقيق الخاصة الإنسانية الكبرى، وهي خاصة النطق والتعبير.
فقيام اللغة على القواعد الفكرية دليل لا شك فيه على سبق اللغة وتقدمها على لغات الارتجال الجزاف في وضع الكلمات، سواء بالمحاكاة الصوتية أو بالتكرار على غير قياس، وشيوع القاعدة في فعل كل مادة، وفي تصريف الأسماء والصفات منها دليل على سبق التفكير في التعبير، وتعميمه على الأحداث والمعاني غير موقوف على أصوات الانفعال والمحاكاة، ويتبع ذلك شيوع الاستعارة، وإمكان الجمع بين الوضع الحقيقي والوضع المجازي في كلام المتكلم لتوسيع المعاني، وبناء الكلمات على المضاهاة بين المدلولات.
وفي قدم الإنسان الناطق
Homo Sapiens
أقوال متفرقة يأخذ كل فريق من علماء الأجناس البشرية بقول منها، ويبتعد بعض الابتعاد عن قول مخالفيه.
ورأى بيري واليوت سميث أن الثقافات البدائية في العالم المعمور تنتمي إلى أصل واحد، وهو أصل الثقافة بوادي النيل، ومنه انحدرت إلى القبائل القريبة، ثم إلى القبائل البعيدة، فتخلفت معها، وانتكست بانتكاسها، أو تقدمت بتقدمها، على حسب نصيبها من التقدم.
ورأي الأكثرين أن نطاق الثقافة الأولى أوسع من ذلك في أصوله، وأنه يشمل الحوض الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، ووادي النهرين، وأقاليم الشمال من الهند والصين.
والرأي الذي يأخذ بالمفهوم المنطقي، ولا يتكلف الاستقصاء والمقارنة بين الآثار يحكم بضرورة تقدم الإنسان الناطق حيثما وجد في بقعة من بقاع الأرض، ولو لم ترتبط هذه البقاع برابطة جغرافية أو عنصرية تدل عليها الآثار والمخلفات، ولا مانع عند أصحاب هذا الرأي من استقلال ثقافة المكسيك وثقافة اليابان، وإن جاز الاتصال بينهما قديما قبل عصور التاريخ. •••
والآن، وقد مضت هذه الأشواط الطوال على الإنسان الناطق، وعلى ثقافاته المتوالية، يعتقد علماء الدراسات البشرية أن هذا «النوع» يقوم على مفترق الطرق بين وجهات الأمس جميعا، وبين قبلة في الغد المجهول قد تستقيم به على نهج غير مسبوق، وتشرع له دستورا من العلاقات بين أقوامه وآحاده لم يعرف لها مثال في حضاراته الغابرة أو حضاراته المعاصرة.
إن الأشواط الغابرة قد انقضت - كما تقدم - على مرحلتين شاسعتين استغرقتا مئات الألوف من السنين: مرحلة الصراع مع الطبيعة، ومرحلة الصراع بين الإنسان والإنسان للغلبة على سيادة العالم المعمور.
ولا تزال المرحلتان ماضيتين في عملهما السياسي والاجتماعي، وفي عملهما الفكري والأخلاقي؛ فإن تسخير الذرة إنما هو امتداد لاستخدام النار بدأ قبل التاريخ ولم ينته إلى غايته حتى أواسط القرن العشرين، وإن الصواريخ الموجهة بين القارات إنما هي امتداد السلاح الحجري قبل ألوف القرون، ويتساءل المستطلعون للغد - من علماء الدراسات البشرية وغيرهم - هل من جديد؟
فإن يكن شك في الجديد المجهول، فالأحوال المكشوفة للنظر تنبئنا أن القديم غير القديم، وأن التغيير الذي طرأ على القديم إنما هو هذا التقارب الدائم بين أجزاء العالم، وهذا التشابك المتغلغل إلى الأعماق في مصالح الأمم والجماعات، وهذه الوحدة العالمية التي لا تنفصل فيها جماعة من الناس بخطر يصيبها، ولا يصيب معها القريب والبعيد من الجماعات، شعوبا كانت أو طوائف وطبقات.
بقي الصراع بين الأمم، وتغير منه أنه كان بالأمس صراعا بين أمتين لتغليب إحداهما على العالم المعمور حول الأمتين؛ فأصبح اليوم صراعا بين شطرين من أمم العالم كله لتغليب نحلة اجتماعية أو «أيديولوجية» على العالم كله بسلاح القوة أو سلاح الدعاية. ومصير هذا الصراع هو الغد المجهول الذي يطالع الإنسانية بإحدى حالتين: وحدة عالمية تجري فيها دساتير الحكم والتفكير والأخلاق على سنة «التضامن» والتسامح ، ولو بين المتخالفين في تفصيلات هذه الدساتير، أو حرب جائحة تئول بالثقافة والآداب النفسية والعقلية إلى الشتات والانتكاس، وتعود بالأمم إلى أوائل شوط جديد يعيدها كرة أخرى إلى جاهليتها المتروكة منذ دهور.
وعلى العلم اليوم أن يرصد ذلك البعث، أو تلك القيامة، بما يفتح له من وسائل النظر إلى الواقع المعلوم والغيب المجهول.
الإنسان في علوم النفس والأخلاق
أوسع المذاهب الأخلاقية تحتويه فكرة الحيوان الاجتماعي التي عبر عنها أرسطو بقوله: «إن الإنسان مدني بالطبع.» وجعلته نموذجا وحيدا في الكون حين وصفته بأنه «حيوان ناطق»، ثم وصفته بأنه حيوان اجتماعي تلازم فيه صفة النطق صفة الاجتماع.
فليس بين الأحياء على وجه الأرض حيوان يوصف بالنطق وبالفطرة الاجتماعية غير الإنسان.
واسم «الإنسان» وحده باللغة العربية يغني عن مذهب؛ لأنه اسم يعتبر هذا الكائن الوحيد أساسا للألفة الاجتماعية حين تنسب لغيره. وقد لعب الشعراء بما في الكلمة من الجناس اللفظي فقال أبو تمام:
لا تنسين تلك العهود فإنما
سميت إنسانا لأنك ناسي
وقال غيره:
وما سمي الإنسان إلا لنسيه
ولا القلب إلا أنه يتقلب
ولكن المقابلة بين الكلمات قديما وحديثا تبين لنا عن أصل هذا المعنى؛ فالمكان الأنيس هو الذي يسكنه الناس، والحيوان الأنيس هو الذي يألف الإنسان في مسكنه، وغير ذلك من الأمكنة أو الخلائق فهو المكان الموحش، وسكانه هم الوحوش.
ويسري هذا المعنى إلى اللهجات البدوية الحديثة، فيطلق أهل البادية في الصحراء الغربية اسم «العشرية» على الشاطئ المأهول، ويطلقون اسم الخلاء على ما وراء ذلك من رمال الصحراء التي لا تزرع ولا ترعى، ولا يسكنها الإنسان ولا الحيوان في عشرة طويلة.
إن الحضارة الأوروبية - منذ عهد الفلسفة الإغريقية - لم تهتد إلى مذهب محيط «بالإنسان الأخلاقي» أوسع من هذا المذهب، ولا أقرب منه إلى لباب المذاهب الأخرى التي ظهرت بعده في هذه الحضارة.
أما الحضارة العربية فصفة الإنسان في لغتها وتفكيرها ألصق به من أن تكون مذهبا تقابله مذاهب أخرى في معناه أو غير معناه. إن صفة الإنسان في هذه الحضارة العربية هي اسمه الذي لا ينفك عنه، وما من عجب أن «تنبت» هذه الصفة من البادية حيث يتضح الفاصل بين خصائص الإنس وخصائص الوحشة غاية الاتضاح.
وتكاد كل حضارة كبيرة أن تمتاز بطابعها في تعريف الإنسان الأخلاقي، أو الإنسان صاحب الضمير الذي يناط به الحساب، ويوصف بالحميد أو بالذميم من الأعمال والعادات.
فالإنسان في الحضارة الإنسانية هو ظاهر وباطن كالوجود الذي خلق فيه، وظاهره تحكمه قوانين السلوك العملي، ويقاس بالمقاييس الاجتماعية وبكل ما ترتبط به مصالح المجموع
، وتسمى هذه القوانين بآداب الميامزا
Miamsa ، ويظن أنها وفدت إلى الهند مع الشعوب الفاتحة التي جاءتها «بأدب العمل والحركة»، فتميزت فلسفتها بهذا الطابع بين فلسفات الانزواء والهرب من الحياة.
وباطن الإنسان يستقبل باطن الوجود، ويسمون فلسفته بالسانيسا
Sannyasa ، أي فلسفة التجرد من المادة، وطلب الخلاص من لعنة الولادة والموت بإنكار الجسد، وقمع الشهوات الدنيوية، والعزوف عن صغائر الحاجات وكبائرها على السواء. ويوشك أن يكون كل مذهب «فصامي» على هذا النحو مستمدا في النهاية من أصوله الهندية، وإن كانت نهاية المذهب إلى «اليوجا» التي تجعل الجسد والطبيعة كلها تبعا للرياضة الروحية.
وحضارة الصين تميز الإنسان بالمعرفة، وتوافق الحضارة الأوروبية التي جعلته «حيوانا ناطقا» اجتماعيا، كما توافق تعريفه العلمي الذي يعني أنه مخلوق مميز، ومخلوق صاحب ذوق وإحساس
Homo Sapiens
على حد اسمه المأخوذ من اللاتينية.
ولكن المعرفة في مذاهب الصين وهي «الزن»
Zen
ليست علوما منفصلة المقدمات والنتائج، مشروحة القضايا والبراهين، وإنما هي حالة كحالة الرشد الذي يبلغه الشيخ المحنك بالنسبة لغرارة الطفولة، قوامها القدرة على مقابلة الحوادث والأشياء مقابلة التصرف الرشيد، لأسباب قد تعرف عند الشرح والتفصيل، وتعرف لها براهينها وأسانيدها بالمعاني والكلمات، ولكنها حاضرة قبل ذلك حضورا ساكنا رصينا في الذهن بغير معان أو كلمات، وشعارها عند الحكماء «إن من يعرف لا يتكلم، ومن يتكلم لا يعرف».
وهذا «الإنسان في مذاهب الحضارات الكبرى مقبول بتعريفاته وصفاته في جميع الديانات والعقائد الروحية، ففي وسع العالم الديني أن يقول بصفة جامعة من هذه الصفات دون أن يعرض لمناقشتها ، أو يناقض اعتقادها الديني بتفسيرها على معنى من مختلف معانيها، وفي وسع العالم المادي أن يفسر صفات الإنسان على حسب هذه التعريفات، دون أن يلتمس لها مرجعا وراء المادة والطبيعة محالا إلى عالم الغيب، أو ملموسا مدركا في عالم الشهادة.
ففي وسع كل قائل بمذهب من هذه المذاهب أن يعلل أخلاق الإنسان جميعا بتنازع البقاء مع أبناء نوعه، أو مع الطبيعة وعناصرها.
وفي وسعه أن يعلل الأخلاق الإنسانية جميعا بغريزة حفظ النوع على سعتها، أو بالغريزة الجنسية في نطاقها المحدود بعلاقات الجنسين.
وفي وسعه أن يعلل تلك الأخلاق بطلب القوة والسيادة، أو بطلب الأمن والدعة، أو باستيحاء الطبيعة وتصوير الإنسان كل ما يحسه في خلده بصور الأحلام ومخلوقات الخيال.
وإنما يبرز خلاف الرأي بين الدينيين والماديين حين يبحثون في الملكات الفكرية التي تناط بها الأخلاق في كل تعريف من هذه التعريفات: هل تناط بحياة روحية من مصدر وراء الطبيعة والمادة، أو هي منوطة فيه بوظائف الحياة الجسدية التي لا فرق بينه وبين الحيوان فيها غير فرق الدرجة و«الكيفية»؟
مثال رأي الماديين يقول به ريدلي
Ridley
صاحب كتاب الإنسان في حكم العلم
Man, The Verdict of Science ، ويستند فيه إلى آراء جماعة من علماء الكيمياء الحية وعلماء البيولوجي وعلماء الاجتماع، ويوجزه في بضعة أسطر فيقول: «إن الإنسان - وإن كان قد أبان عن قوى عقلية نفسية تعلو كثيرا على قوة يبين عنها كائن حي سواه - لا يزال نوعا حيوانيا له قرابته بالخلائق السفلى، ولم ير الإغريق الأقدمون داعيا إلى فصل الإنسان عن جمهرة الكائنات الحية التي كانوا يشاهدونها حولهم، وقد أدخله أرسطو في نطاق برنامجه الحيوي مع سائر الحيوان والنبات.»
وجاء لينوس (1707-1778) بعد قرون عدة فنشر كتابه عن نظام الطبيعة سنة (1735)، وعد فيه نوع الإنسان بين أنواع الحيوان، وقد عده في طبعة الكتاب الأولى بين ذوات الأربع من القردة والدب الرسيف ... وبوفون الفرنسي معاصر لينوس وضع الإنسان في المملكة الحيوانية، واجترأ على أن يحتمل نسبته مع القرد إلى أصل واحد، وكان هذا أكثر مما يطاق في عرف السلطة الدينية الفرنسية، فخيروه بين النبذ وبين تعديل رأيه. وهو تخيير لم يتعرض له لينوس في البلاد السويدية.
وقد وضع الإنسان وضعه المحكم في تعريف «الزولوجيين»، فجعلوه بين أعلى الأحياء، وهي ذوات الفقاريات، وجعلوه بين هذه في ذروتها، وهي الحيوانات اللبون، وأعلاها بعد ذلك طبقة الأوائل التي تشمل القردة والنسانيس. وهم يقسمون الأوائل أقساما؛ أعلاها القسم البشري
Homo ، وهو القسم الذي كان ينتمي إليه بعض الأحياء ممن بقيت آثارهم في حفائر الطبقات الأرضية، ولكن الإنسان الحديث وحده هو الذي يصدق عليه اسم البشر الناطق، أو الحيوان العارف. •••
فالماديون من البيولوجيين والزولوجيين والترولوجيين يرون أن الارتفاع بالإنسان إلى ذروته المتفردة في تقسيمات الحيوان كاف لفهم الفارق الكبير بينه وبين الأوائل
، وبين هذه الأوائل وما دونها من أقسام الفقاريات وما دون الفقاريات، ولا حاجة - مع هذا الفارق في الدرجة - إلى فارق آخر من عالم وراء المادة والطبيعة، وهو فارق الروح.
وقد اشتهر في أواسط القرن العشرين علماء بيولوجيون من رجال الدين المسيحيين يسلمون كل درجة من درجات هذا التقسيم، ولكنهم يقولون: إن الفارق لا يفهم إلا على وجه واحد، وهو أن الفوارق جميعا بين درجات الأحياء إنما ينتهي إلى التدرج بينها في الاستعداد للعقل والوجدان، وإن أرفع درجة يرتقي إليها الحيوان الأعجم لا تمنع أن تكون إعدادا للبنية الحيوانية أن تتلقى ما فوق ذلك من ملكات العقل والوجدان.
وأشهر القائلين بهذا الرأي الأب بيير تيلهارد دي شاردين
البيولوجي المتخصص لدراسة علم الحياة والحفريات، وأحد الذين أسهموا في كشف إنسان بكين، وألقوا الدروس العلمية في المعاهد الكبرى، ومنها معهد اليسوعيين العالمي بالقاهرة، وكتابه «ظاهرة الإنسان»
The
أحد الكتب العلمية الفلسفية التي عدت في أواسط القرن العشرين بعض معالم الطريق في اتجاه الفكر الحديث.
وقد سلم فيه تقسيمات علم الحياة وعلم الأحياء حرفا حرفا، ثم عقب عليها سائلا: «إذا كانت قصة الحياة لا تعدو أن تكون حركة إلى الوعي وراء نقاب من تركيب الأجهزة العضوية، فالنتيجة اللازمة حتما عند بلوغ التركيب غايته المقاربة للإنسان: أن يتمثل هذا الاقتراب في ابتداء ظاهرة الأهبة السيكولوجية، وبزوغ ظاهرة الذكاء، ومن ثم يلقى الضوء على «المفارقة الآدمية» نفسها؛ لأننا قد نشعر بالحيرة إذا لاحظنا قلة الفارق التشريحي بين الكائن البشري وبين من دونه من البشريات، على الرغم من سموه العقلي في بعض مظاهره؛ فإنه فارق يقل حتى نكاد نتخطاه على الأقل من جانب أصوله، ولكن أليس هذا بعينه ما ينبغي أن ينتظر؟»
ويجلو هذا الرأي بالأمثلة المحسوسة عالم آخر متدين، هو الأستاذ روسل هاريسون الذي يقول في كتابه عن مصير الإنسان: «إننا لا نعرف الموسيقى إذا عرفنا كل دقيقة وجليلة من الأخشاب والمعادن والأوتار التي تدخل في تركيب العود والقيثار والبيان. وبعض علماء الحياة يراقبون تعذية الحيوان، ويلاحظون أن العواطف تتأثر ببعض الأغذية فتنتقص أو تزيد. لاحظوا أن الفأرة التي يقل المنجنيز في غذائها تهمل صغارها ولا تعطف عليهم. وإنه لحسن منهم أن يلاحظوا هذا ويصلوا منه إلى زيادة حصة الحيوان من ذلك الغذاء، ولكنهم إذا جاوزوا ذلك فقالوا: إن عاطفة الأمومة هي مقدار معلوم من المنجنيز فهم مخطئون، وخطؤهم في هذا الرأي كخطأ القائل: إن نغمات الموسيقى أخشاب وأوتار.»
ويتبدل منحى الاستدلال المنطقي والعلمي، إذن، بهذا التفسير لمذهب النشوء القائل بارتقاء الحيوان، والتشابه بين كل درجة من درجاته وما دونها وما فوقها في الاستعداد لأهبة العقل والوجدان، فلا بد أن يحدث ذلك للوصول إلى الجهاز الحيواني الصالح للنهوض بمطالب الروح والوجدان. وينقلب الأمر على الماديين فيصبح المادي وهو المسئول أن يقول للمعترضين عليه من رجال الدين: لماذا يكون معيار التقدم زيادة الوعي على درجات تناسب الترقي في تركيب البنية العضوية؟ وكيف يتأتى هذا الانتظام في الأداة وفي النتيجة إن لم يكن هنالك طريق مرسوم لغاية مقدورة؟
ومن العلماء غير الدينيين من أقنعته هذه الحجة بعض الإقناع، ووافقت مذهبه في اقتباس «الديانة» من العلم، أو «الديانة بلا وحي» كما يسمونها في اصطلاحهم المتفق عليه
Religion Without Revelation ، فقال علم من أعلامهم، وهو السير جوليان هكسلي، في تقديمه لكتاب ظاهرة الإنسان: «إننا معشر بني آدم نحتوي في أنفسنا كل ما في الأرض من الإمكانات الهائلة، وفي مقدورنا أن نزيد ما يتحقق منها على شريطة الازدياد من العلم والمحبة.»
وتكاد هذه الأسطر أن تكون نسخة معنوية من كلمات الختام التي انتهى إليها السير جوليان هكسلي في كتابه «قناني جديدة لخمرة جديدة»؛ إذ يقول:
إن صورة الإنسانية المتطورة أعانتني على أن أرى - من وجهة المبدأ على الأقل - أن الدين والعلم قد يتفقان، وقد هدتني إلى مخارج من العطف والفكر يحق لنا أن نطلق عليها اسم الدين، ولكنها كانت لولا ذلك خليقة أن تكبت وتترك نسيا منسيا؛ فهي بهذه المثابة تعلمنا كيف يسهم العلم في تقدم الدين. وقد قرر جدي في مقالة عن اللاأدرية كلاما في هذا الصدد كأنه غني بذاته عن البرهان، فقال: إن كل إنسان ينبغي أن يعطي سببا للإيمان الذي يؤمن به، وإن عقيدتي لهي الإيمان بالإمكانات الإنسانية، وأرجو أن أكون قد وفقت إلى شرح أسبابها.
على أننا نجترئ بأحدث الأقوال التي انتهى إليها غلاة الماديين بيانا لمزية العقل في الحيوان الناطق، فلا نحسب أنهم قد استطاعوا أن يدعوا له مزية أقل من مزية الروح في ارتباطها بالحياة، أو بالمؤثرات الحيوية على وظائف البنية الإنسانية على الخصوص، وربما كان تعويلهم على دلالة الجهاز العصبي في الحيوان عامة، وفي الإنسان خاصة، أشد من تعويل العلماء المتدينين على دلالة الارتقاء إلى الملكات الروحية بمقدار الارتقاء في التراكيب الجسدية.
فالأستاذ بافلوف المشهور بتجاربه الجسدية النفسية يقول: «كلما أحكم كيان الجهاز العصبي في بنية الحيوان كان أقرب إلى التركز، وكان أقدر على المزيد من التأثر بوظائفه العليا على التوزيع والتنظيم في أعمال البنية كلها.»
وقد أثبت زملاء بافلوف وتلاميذه أن بقاء الحياة بعد توقف نبض القلب مرهون بسلامة المخ، الذي يحتفظ بسلامته بعد توقف النبض بنحو ست دقائق، وأن الوعي الإنساني له أثره حتى في تأثير السموم القاتلة، جاء في كتاب «مسالك العلم» الذي طبع في موسكو سنة 1956:
من العقاقير السامة القوية التسميم مادة البوتاسيوم سيانيد، وهي سريعة الفعل تقتل على الأثر بمقاديرها الكبيرة، وتسمم جميع الخلايا؛ لأن الخلايا تحت تأثيرها لا تتشرب الأكسجين ولا تتنفس، وإذا حقنت به عروق قطة ماتت على الأثر كأنها أصيبت بصاعقة. وقد حقنت به اثنتا عشرة قطة فماتت ست منها خلال بضع ثوان، ولكن الست الباقية لم تتأثر كأنما حقنت بماء، وهي الست التي خدرت بالأثير المعقم أثناء الحقن.
1
إلا أن سلطان الوعي على الإنسان قد بلغ درجته العليا، ويقول بافلوف فيما رواه عنه الكتاب نفسه: «عندما بلغ تطور العالم الحيواني منزلة الإنسان نشأت إضافة هامة جدا في جهاز النظم العصبية العليا؛ ففي الحيوان تتمثل وقائع العالم - على الأعم الأغلب - بما تحدثه من المنبهات التي تصل إلى المخ، فتبعث التنبيه إلى حواس النظر والسمع وسائر الحواس الحيوانية. وهذه أيضا هي المنبهات التي تصل إلينا عن طريق المؤثرات والأحاسيس والخواطر من العالم الطبيعي، أو العالم الاجتماعي الذي يحيط بنا، ما عدا المؤثرات التي ينفرد بها الإنسان، وتؤدي له وظيفة التنبه لذلك التنبيه.»
ولا يدعى «للحيوان الناطق» ولا للحيوان ذي الروح مزية أكبر من هذه المزية، فهي تكاد أن تقرر للروح سلطانا على الجسد كسلطان «اليوجا» المعروف عند نساك الهند، وتكاد أن تجعل الأخلاق جميعا مسائل عقلية تملك التأثير الأكبر - إن لم نقل التأثير المطلق - في كيان الإنسان، وفيما هو أهل له من أهبة العقل والوجدان.
مستقبل الإنسان في علوم الأحياء
إن العلم الطبيعي حذر في تقرير مذاهبه وأحكامه، وأكثر ما يستبيحه لنفسه إذا وصل إلى شيء لم يثبت لديه كل الثبوت، ولم ير من أمانة العلم كتمانه وإخفاءه، أن يعلنه على أنه ظن مرجح، وأن موضع الشك فيه قابل للدفع والتوضيح بدليل منتظر يذكر أسباب انتظاره. وكذلك فعل دارون عند إعلانه لنظريته في تحول الأنواع.
وإذا وازنا بين حذر العلم في الحكم على الماضي وحذره في الحكم على المستقبل المحدود، فهو في الحكم على المستقبل أحذر وأقرب إلى التردد، بل إلى التوقف عن مجرد الظن إلا مشفوعا بالاعتذار. ويرى هذا الاختلاف بين حذره من أحكام الماضي وحذره من أحكام المستقبل فيما قرره عن فعل التطور أمس وفعل التطور غدا؛ فإن علماء النشوء استباحوا لأنفسهم أن يرجحوا وقوع تحول الأنواع وتقدم الإنسان جسدا وعقلا منذ ألوف السنين، ولكننا لا نعلم أن واحدا منهم أباح لنفسه أن يتنبأ بتطور واحد سيحصل غدا لا محالة، أو بتحول واحد مرجح لا يقابله ترجيح مثله إلى النقيض.
وعذرهم في هذا التهيب مفهوم، وهو أدل شيء على أن دلائل التطور الماضي لم تزد عند القائلين بها على أن تكون بعض الظنون الراجحة، ولم تبلغ عند عالم جدير بصفة العلم أن تكون علم يقين.
عذرهم أن العالم يرسم الطريق كلما تكلم على الماضي ليس إلا، ولكنه ينشئ الطريق ويتمشى فيه كلما أنشأ جزءا منه حين يسير إلى المستقبل، ولا يتساوى من يفتح طريقا ومن لا يزيد عمله على رسم طريق.
إن كان بين علماء العصر من يحق له أن يعلن رأيا جازما عن مستقبل التكوين الإنساني كما يتمثله علم الحياة، فذلك هو «البيولوجي» الكبير الأستاذ «مداوار»
Madawar ، صاحب جائزة نوبل للعلم الطبيعي «سنة 1960»، وصاحب البحوث العالية في تهيئة جسم الإنسان لقبول الأجسام الغريبة التي تنفر منها خلاياه، على الرغم من تقسيم الآدميين إلى فصائل وعائلات في تكوين الدم وأنسجة الخلايا، فإنه قد تبين له من تجارب يضيق بها الحصر أن الفرد الإنساني وحدة لا تتكرر في مكونات بدنه، وأن كل حكم على بنيته من طريق التقسيم إلى فصائل وعائلات، فهو تقسيم قابل للخطأ عند إجراء التجارب الطبية لنقل الأنسجة والأعضاء من بنية إلى بنية.
وقد سئل هذا العالم الكبير أن يلقي محاضرات ريث
Reith
عن (سنة 1959) فقال: إنه لم يكن ليبلغ به الادعاء أن يلقي هذه المحاضرات بعنوان مستقبل الإنسان، لولا أنه عنوان مقترح عليه، ولكنه على هذا لم ينفرد بالرأي في مسألة من مسائل البحث المقترح، ولم يعلن رأيا واحدا قبل أن يراجع في موضوعه زملاءه الثقات في مسائل ذلك الموضوع على التخصيص، وقد ذكرهم بأسمائهم في تمهيده للمحاضرات. وبعد أن ذكر فكرة «البيولوجيين» الذين يحسبون أن تعدد النماذج الفردية قد يحول دون التوليد لإخراج النسل على نمط مقدور، مضى يقول: «إن الأمر يدعو إلى التساؤل: هل يتأتى لإنسان أن يمضي متطورا غدا كما تطور بالأمس، أو أن هناك أسبابا تدعو إلى الظن بأن هذا التطور قد بلغ أقصى مداه؟»
وطفق الأستاذ يقلب وجوه النظر ويعادل بينها حتى بلغ نهاية محاضراته وهو لم يجزم قط بمصير محدود، سوى أنه رجح بعض الفروض، ولم ينس أن يذكر أنها فروض تحيط بها الشكوك والاحتمالات.
قال مثلا: إن الإحصائيات في بريطانيا العظمى دلت على تكاثر نسبة المواليد الذكور بعد الحروب، وإن بعضهم فسر ذلك بأن الطبيعة تعمل لتعويض النقص على عادتها في كثير من المشاهدات، فهو تفسير ليس بالغريب، ولكنه قد يبطل اليقين به أن هذه الزيادة أيضا قد شوهدت في أمم لم تفقد أبناءها في الحرب، ولم تكن من الأمم المقاتلة.
وقابل الأستاذ بين طرائق الإحصاء، ومنها طريقة المقارنة بين سنة وسنة، وهي غير وافية بالمقارنة الدقيقة، وبين طريقة اختيار طائفة من الرجال والنساء وتسجيل ما يحدث لهم على مدى الفترات الطوال، كل عشرين أو ثلاثين سنة، وقال: إنها طريقة لم تكن ميسرة الوسائل قبل السنين الأخيرة، ولكنها تيسرت الآن لانتظام الإحصاء في شتى مظاهر الحياة، ومنها تسجيل نسبة الجنسين، وتسجيل معدل العقود الزوجية، وسن الذكر وسن الأنثى عند الزواج، وتسجيل هذه السن عند ولادة كل مولود أو مولودة. وهذه الطريقة تفيد ما لا تفيده الطريقة الأولى عند تعليل تعويض المواليد للوفيات؛ لأنها تبين الوقت الذي تحدث فيه أوائل المواليد، وتبين للقائمين بالإحصاء هل يزيد العدد لزيادة الخصوبة العائلية، أو لزيادة الوقت المحدود للإحصاء.
ولم يتقبل العالم البيولوجي بالارتياح عبارة المتشائمين الذين يفهمون من كلمة الانحدار أو هبوط الاستعداد الحيوي أن النوع الإنساني سينحدر حتى ينقرض، وقال: إن العبارة «متحف من النقائض»؛ فإننا إذا استطعنا بالعناية أن نحتفظ إلى اليوم بأناس كانوا - لولا ذلك - قد أصبحوا أمواتا قبل عشر سنوات، فنحن كيفما كانت الحال نعيش اليوم ولا نعيش قبل عشر سنوات، كذلك يمكن أن تعصف نازلة من النوازل بالعقاقير التي تداوي بعض الأمراض، فلا يكون مآل ذلك إلا أن الذين سيموتون غدا قد يموتون اليوم بدلا من ذلك.
ومن دواعي تصعيب النبوءة عن المستقبل أن التغييرات المحتملة بين أفراد البشر أكثر جدا من التغيرات التي تقع فعلا، وأن اختلاف اثنين من البشر في الواقع قد يعني قبل ذلك افتراض عشرات من الأفراد مختلفين كذلك الاختلاف، أو أبعد وأخفى. ومن أقدم الأسباب المعلومة عند الجينيين
Geneticists
لاحتمالات التغيرات المتعددة ما يسمى بقابلية المقايضة بين الصبغيات، وهي عملية يمكن أن تتم إذا كانت كلتا الصبغتين مماثلة للأخرى تماثلا يميل بها إلى الامتزاج، ثم إعادة الامتزاج على أشكال طارئة مبتدعة.
وربما جاء اليوم الذي يستطيع فيه الكيميون والطبيعيون الحيويون أن يحدثوا هذا الامتزاج، وخليق بهذا أن يذكرنا أهمية التحول الفجائي
Mutation
وما يترتب على إمكان إحداثه من تغيير النسل بالانتخاب الصناعي.
والمشاهد من أطوار جراثيم «البكتريا» أن لها خاصية عجيبة، وهي خاصية الاحتياط لمعالجة الأضرار التي قد تطرأ في المستقبل، وربما وجدت في الناس خاصة كهذه يدل عليها نجاة فريق منهم من الأوبئة والعلل المنتشرة، وكمون ضرب من المناعة يزود خلاياهم الناسلة بمثل ذلك الاحتياط لمقاومة آفات المستقبل. وقد يدهش السامع - بعد كل ما عرف عن الوراثة - أن يعلم أنه لم توجد بعد فكرة وافية عن الأمور التي تفعل والأمور التي تجتنب لتحسين نتائج الحيوان بالانتخاب الصناعي.
ويؤخذ من استطراد العالم البيولوجي في أمثال هذه العوامل الجينية أن العلم بها يفتح آفاقا من فروض التغييرات المحتملة يقصر عنها وسع النبوءة والتوقع، وأن الاستعانة بالمعارف المستحدثة تمكن الإنسان من معرفة وسائل التحسين في الذرية، ووسائل اتقاء الانحطاط فيها، ولكن هذه الوسائل لم تضبط - بعد - على يقين من نتائجها.
ولكن ترقية النسل لا تعتمد كلها على ضبط هذه الوسائل الجينية؛ لأن هناك وسائل التفكير أو وسائل الخصائص التي قد تنتقل بالوراثة من الدماغ.
قال الأستاذ مداوار في محاضرته الأخيرة:
إنني في هذه المحاضرة الأخيرة سأبحث في الكائنات البشرية عن وسيلة جديدة - غير الوسيلة الجينية - للوراثة والتطور مبنية على خصائص وحركات مصدرها الدماغ.
وإن وجود هذه الوسيلة أمر تعرفونه جيد المعرفة، فلم يكن البيولوجيون هم أول من أفضى إلى الإسراع إلى التصديق بأن الكائنات البشرية ذات أدمغة، وأن الأدمغة تحدث فروقا شتى، وأن الإنسان قادر على أن يؤثر في الأعقاب الآتية بوسيلة غير الوسيلة الجينية. وإن كثيرا مما قرأت في أقوال البيولوجيين ليلوح عليه أنه لا يفيدنا بشيء يزيد على ما ذكرت لكم، وإني لأحس أن البيولوجي مطالب بأن يسهم بنصيب يساعد على فهم الأصول البعيدة التي تتفرع عليها الأخلاق وضروب السلوك، وهو ما أحاوله الآن. ولا بد أن تأتي هذه المحاولة مستندة إلى التفكير الصلب لا إلى التفكير «الناعم»، وأعني بذلك تفكيرا يعرف له حيز واقع، وتدرك له تفصيلات بينة، مقابلا للتفكير الذي يجد متنفسه في الكلمات المونقة، والعبارات المفخمة الشعرية.
وأراني أقارب الوضوح البين إذا عبرت عن ذلك بمثال محسوس، وأسألكم أن تعيدوا إلى الذكر ذلك الفارق الهام بين الصندوق العازف والجهاز الحاكي «الجرامفون».
فالصندوق العازف جهاز يحتوي قالبا أو أكثر من قالب من قوالب الجرامفون، يعيد للسمع كل ما أودعه عند لمس زر معلوم، وأسمي لمس ذلك الزر بالباعث أو المحرض، وهو باعث مقصور على القالب الذي يؤدي إلى سماعه، فهو مؤثر واحد يأتي بأمر واحد بينهما هذه العلاقة المتبادلة. وإنني أبعث الصندوق بلمس الزر - أي زر - إلى إحداث نغمة موسيقية، ولكنني إذا اخترت زرا معينا، فالباعث هنا يدعوه إلى إحداث نغمة دون سائر النغمات الموسيقية، والتوجيهات الموسيقية في هذه الحالة جزء من الصندوق، وليست جزءا من البيئة المحيطة به، وكل ذلك راجع إلى تركيب الصندوق، فليس ضغطي على الزر توجيها للصندوق في أداء نغماته الموسيقية.
والآن تقابلون بين هذا وبين عمل الجرامفون أو أية أداة أخرى تؤدي لنا النغمات الموسيقية: إن لدي قوالب موسيقية أقوم بتحريك بعض المفاتيح، وأضع القالب على الجرامفون، والقالب منقول إليه من البيئة المحيطة؛ فذلك باعث كباعث الصندوق العازف إلى أداء الأنغام الموسيقية، ولكنه يضيف إلى الباعث هناك شيئا أكثر من ذلك، وهو الخطوط المرسومة التي تمر بها الإبرة فتبعث منها الأنغام المؤداة، وليس لدى الجرامفون مصدر للتوجيهات الموسيقية، وإنما هو القالب الذي جاء إلى الجرامفون من البيئة الخارجية، فكانت علاقتي به - إذن - علاقة تعليمية، لأنني - بمعنى من المعاني - قد علمته كيف يؤدي النغم المسموع.
ونحن في الحالتين صنعنا الصندوق، وصنعنا الجرامفون، وأعددنا كلا منهما للعمل الذي يؤديه، ولكن هذه الحقيقة لا تقدم ولا تؤخر في مغزى الاختلاف بين عمل هذه الأداة وعمل تلك؛ فلنذكر هذا الاختلاف فيما يلي من المقارنات.
منذ عشر سنوات، اتجه البيولوجيون إلى العلم بأن الأجهزة الحية العليا أشبه بالصندوق العازف منها بالجرامفون، وأن كل ما كنا نحسبه من قبل حركات تعليمية هو في الواقع حركات تنبيهية ليس إلا، أي أن تحريك الكائن الحي يحدث شيئا هو نتيجة تركيبه وليس - كما كان مظنونا - نتيجة شيء من الخارج، فليست الآثار المستقرة في الجهاز الحي خطوطا مرسومة على قالب يديره ذلك الجهاز، ولكنها آثار جينية مودعة في الصبغيات وحوامض الخلايا.
واسمحوا لي أن أبين بعض الأمثلة لهذه الحقيقة: فأقدم الأمثلة وأشيعها مثل التغيير الذي يعتري جمهورا من الناس عرض له التطور، فكيف نصنف البواعث التي تفعل فعل التطور في الأجهزة الحية؟ إن النظرية اللاماركية التي تقول بوراثة الصفات المكتسبة، هي على أعمها تنظر إلى البواعث التعليمية، وتعني أن البيئة على نحو من الأنحاء قادرة على إعطاء تأثيرات تعليمية للأجهزة الحية، وأن هذه التأثيرات إذا سرت في البيئة سريانا حسنا أمكن أن تنتقل بالوراثة إلى أعقابها.
فالحداد الذي طالما ضرب به المثل لتعزيز هذه الملاحظة، يستفيد قوة في ذراعيه من طرق الحديد، فتؤثر هذه القوة في الخلايا التي تنشئ بذوره المنوية، وتنتقل من ثم إلى أبنائه، فيولد هؤلاء الأبناء وفيهم استعداد لتربية الأذرع القوية، ولست أفيض في مناقشة التجارب التي تكررت لامتحان العوامل اللاماركية، وحسبي أن أجملها فأقول: إنها جميعا أسفرت عن نتائج غير لاماركية، ودلت على مؤثرات تنبيهية وليست تعليمية.
ومثل آخر من الأمثلة الشائعة هو مثل البكتريا إذا أعطيت طعاما غير طعامها المألوف، أو تعرضت لعقار مضر بقوامها، فإنها في هذه الحالة قد توفق بين قوامها وبين الطعام الجديد، أو تزيل ضرر العقار وتلغي مفعوله. وقد سميت هذه العملية زمنا باسم تدريب البكتريا، على اعتبار أنها عملية قادت البكتريا إلى تعلم طريقة جديدة لتوليد الخمائر من طعامها، ولكنها تسمية لم تلبث طويلا حتى تبين خطؤها، وتبين أن هذه العملية وسيلة تنبيهية وليست بالوسيلة التعليمية؛ فليس في وسع البكتريا أن تنشئ خميرة غير التي هي مفطورة على إنشائها، وكل ما حدث عند تغيير الطعام أنه نبه الاستعداد الذي لم يكن له منبه قبل ذلك، وهو استعداد كامن في التركيب، وليس بالتعليم المستفاد من فعل الطعام أو العقار.
ويصدق هذا على تطور الحيوان، فقد كثر الجدل زمنا بين أنصار القول بالتنبيه وأنصار القول بالتعليم؛ إذ كان الأولون يرون أن كل تطور فإنما هو نشر لما كان مطويا هناك، وكان المتطرفون منهم - وطالما تعرضوا للسخرية - يرون أن بذرة النسل إنما هي إنسان صغير. أما الآخرون فعندهم أن العوارض التي تعمل في تكوين الجنين إنما هي بواعث تعرض له مما حوله. ولعل الحقيقة وسط بين هذين الطرفين، فالعوامل الجينية تتم لأنها كامنة هناك، ولكن استيفاءها رهين بالعوامل الخارجية عنها.
وإلى نحو سنتين كنا نشعر أن ضربا من النمو يتم في أجهزة الحيوانات العليا بفعل البيئة، على اعتبارها موجها أو معلما، على النحو الذي نشاهده عند تلقيح الأنسجة بمادة خارجية يؤدي إلى إنشاء البنية لمادة بروتينية خاصة، أغلب ما يكون عملها أن تحول دون تلك المادة والإضرار بالبنية؛ مما يكون له أثره في الوقاية من عدوى الأمراض.
ومع البوادر التي توحي بأن هذه العملية تعليمية أخذ كثيرون من البيولوجيين يشكون في ذلك، ويعتقدون أنها لا تعدو أن تكون تنبيهية في جوهرها. ونعود إلى الصندوق العازف مرة أخرى.
وبعد، فأي ظفر يتاح لنا لو أمكن البنية أن تتلقى التعليم من البيئة، وأن نجعل هذه البيئة قادرة على أن تعلمها ولم يكن قصارى قدرتها أن تنبه ما فيها؟ ربما قال لنا زائر قدم إلى هذا الكون من كون غريب عنه قبل بضعة ملايين من السنين: نعم، إنه لظفر عظيم، وإنني لألمح سره، وأفهم أن هذا السر يحل مسألة التوفيق والموافقة بين الحي والبيئة، ويجعل الكائنات الحية مهيأة للنمو والتطور على صورة أوفى وأسرع من صورة التطور بفعل الانتخاب الطبيعي، لولا أنها صعبة جدا، وأنها ليست مما يستطاع.
إلا أنكم تعلمون أنها استطيعت، وأن هنالك جهازا قابلا لأن يتلقى التعليمات من الخارج، وهو جهاز الدماغ.
وإننا لنعلم القليل من أسرار هذه المسألة، وهو ما نفهم منه مقدار تعقدها واشتباك وظائفها؛ فإن تطور الدماغ قد كان آية رائعة في هذا الوجود، وهو - ولا ريب - أعظم الآيات بعد آية الحياة نفسها.
على أنني أظن أن الدماغ إنما نشأ في مبدأ أمره كذريعة للتنبيه، وأن السلوك الغريزي إنما هو ذلك السلوك الذي تستجيب به البنية لتنبيه المؤثرات الخارجية، فإذا لقحت دجاجة بهرمونات الذكر أخذت هذه الدجاجة في سلوك - كسلوك الديك - لم يكن أصله بعيدا من تكوينها.
ولكن وظائف الدماغ العليا تستجيب للمؤثرات التعليمية، فنحن نتعلم، ولا يقف الأمر عند هذا الحد، بل يسري من جيل إلى جيل كما تسري الخطابات المتسلسلة التي تبدأ بكتابة خطاب إلى أحد الناس، وتسأله أن يبعث به إلى غيره ويوصي ذلك الغير بأن يبعث به كذلك إلى آخر وآخر، إلى غاية الشوط الميسور؛ فيتعلم الأب ويعلم ابنه كيف يعلم حفيده وابن حفيده، وهكذا على مدى الأجيال.
ومن المهم جدا أن نميز بين أربعة أدوار في تطور الدماغ؛ أولها: الجهاز العصبي، وقد نشأ لتنبيه البنية، ثم دور الدماغ، وفيه تتلقى الكائنات الحية التعليم من الخارج، ثم دور الوراثة من طريق غير الطرق الجينية يأتي من قدرة الدماغ الدقيق التركيب على شيء أكثر من تلقي التعليم، وهو تسليمه إلى آخرين. وإنه لعامل خاص بالنوع الإنساني، لعله قام بعمله الهام منذ خمسمائة ألف سنة. أما الدور الرابع فهو شديد الشبه بالدور المتقدم، ولكنه لا يماثله تمام المماثلة، ونعني به دور التطور الذي يشمل الجماعة كلها، وقد تضاعف عمله منذ مائتي سنة.
ونسأل بعد هذا: ما الذي نستفيده مما تقدم؟ فنقول: إن الاغترار بالمشابهات خطر؛ لأنه يغض من أثر الاختلافات، فالمشابهة بين تطور الفرد وتطور الجماعة لا يجعلهما عملية واحدة في مجرى الحوادث ولا في عواقبها؛ فصناعة الحداد تورث ولا شك، ولكن وراثتها من طريق الناسلات والصبغيات - أو ما نسميه بالطرق الجينية - غير مستطاعة.
وفائدة التمييز بين التطور الفردي وتطور الجماعة أن نبعد عن أذهاننا فكرة القوانين الطبيعية التي تعمل في الحالتين على سنة التغييرات الجينية، أو الفكرة التي تقول لنا: إن الجماعة لا بد أن تولد وأن تموت كما يتعاقب الموت والولادة على الكائنات الحية، أو الفكرة التي توحي إلينا ترك الجهد في تحسين الجماعة اعتمادا على أن الطبيعة أخبر وأدرى.
ونحن إذن نستطيع أن نهذب الطبيعة، ولكن استطاعتنا هذه مرهونة بمقدار ما نملك من وسائل الغوص على أسرارها وخفاياها، ومثابرتنا على زيادة محصولنا من العلم بما يجري فيها. ولست أقول: إن الإنسان مدفوع بغريزة تحفزه إلى الكشف والاستطلاع، وإنه مسخر أبدا في طلب الحقيقة، فإن الحيوان أيضا مزود بما يمكن أن يسمى على الإجمال حبا للتطلع أو التجسس، ولكن هذه الغريزة وإن بلغت غايتها من الإحكام والقوة لا تقيدنا، ولا ينبغي أن نكون مدفوعين دفعا إلى الاستطلاع.
وإن أولئك الذين يبسطون لنا قوانينهم عن مقاصد الطبيعة يقاربون حدود الخطر والوبال، وما علينا إلا أن نذكر عاقبة الدعوى التي زعم أصحابها أن الإنسان مزود أبدا بنزعة النضال والقتال ونحن نقابل بيننا وبين أنواع الحيوانات الأخرى؛ فنرى على التحقيق أن الفارق بيننا وبينها في هذه الخصلة هو: أن الأجراس التي تدق لنا دقات التنبيه إنما هي كأجراس الماشية بجبال الألب معلقة بأعناقها، فلا لوم على أحد سوانا إذا لم نسمع منها ما يرضينا.
هذه خلاصة مقتبسة من كلام العالم البيولوجي اقتباسا تحرينا فيه تصوير معناه، ولم نلتزم حروف نصوصه، ومجمل هذا المعنى أن مستقبل الإنسان الطبيعي مستكن في كيانه، وأنه يملك وسائل التهذيب الاجتماعي، ولكنه لا يقدر على إحداث أثر لم تكن مولداته مطوية في استعداده، وأن الأجراس التي تدق له دقات الخطر على حياته النوعية أو الفردية هي نفسها جزء من تلك الحياة، وكذلك العلاج الذي يحتال به على الخطر، بعد الانتباه إليه، إنما هو من عقار أرضه ووصفات طبه.
دواؤك منك وما تشعر
وداؤك منك وما تفكر
وقبل الأستاذ مداوار بخمس عشرة سنة، عند نهاية الحرب العظمى تقدم للإجابة على هذا السؤال عن مستقبل الإنسان عالم بيولوجي من المؤمنين بالنشوء والتطور، يضارع مداوار في منزلته العلمية وشهرته العالمية، فكتب عن القدر الإنساني
Human Destiny
سلسلة من البحوث الحديثة على منهج غير منهج زميله المتأخر؛ لأنه يفترض الغاية المرسومة للتطور، ويرد مقاصده جميعا إلى عناية إلهية تتلخص حكمتها الهادية في أنها «تريد»، ولكنها تعلم الخلائق أن تريد لنفسها، وأن تترقى بالإرادة على حسب جهودها مع الهداية التي تلهمها، ولكنها لا تلهمها إلا لكي تعينها بالإلهام على أن تعمل عملها وتسلك سبيلها.
ومؤلف كتاب «القدر الإنساني» هو العالم البيولوجي الجليل، ليكونت دي نوي
De Nouy ، الذي يقول: إن استمرار النشوء والقول بالمصادفة مفارقة لا تعقل. وهو يشبه مجاري النشوء في الكون بجداول البحيرة التي تنصب من فوق الجبل إلى مستقرها في الأودية، فتمر بالصخور والرمال وتلتقي أو تفترق، وتحمل معها ألوانا من الرواسب والطوافي تخالف بينها آخر الأمر، حتى كأنها ينابيع لم تصدر من أصل واحد، ولم تجر على سنة واحدة، والواقع أنها ليست كذلك، وأنها في أصلها من بحيرة واحدة، وفي حركتها خاضعة لقوة واحدة هي قوة الجاذبية.
وعند «دي نوي» أن نظرية لامارك عن التوفيق بين البنية والبيئة، ونظرية دارون عن الانتخاب الطبيعي، ونظرية التحول الفجائي في رأي نودين-دي فري
Nudin-De Vries - كلها صالحة للمساهمة في تفسير عوامل النشوء والتطور.
قال: «ونعيد مرة أخرى أن التطور لن يكون مفهوما إلا إذا سلمنا أنه خاضع لغاية ، وأنها غاية بعيدة مقدورة.»
ثم ختم بحوثه قائلا:
إن بعضهم قد يرى أننا على مسافة بعيدة من اليوم الذي يصبح فيه الإنسان وقد تطور التطور الذي يجعله أهلا لأن يشعر بضميره، وألا يكون كل حقه في المعاملة أن يعامل كما يعامل الطفل القاصر، وربما صح هذا، ولكنه - إذا صح - كان خليقا أن يصبح سببا للاتجاه بجهوده إلى تلك الغاية.
وإن الإنسان المتطور قد بلغ حالة من نمو الضمير تيسر له أن يوسع أفق النظر، وأن يلمح الدور العظيم الذي يضطلع به في إنجاز غايات التطور، فليس الإنسان كذلك الحيوان الأعمى الذي يعمل في أعماق البحر ولا يدري أنه يبني بعمله جزيرة مرجانية سوف تعمر بالكائنات التي هي أصلح منه وأعلى؛ لأن الإنسان يعمل وهو يعلم أنه رائد للسلالة المقبلة التي ستكون على وجه من الوجوه وليدة سعيه وجهده.
وعلى كل إنسان أن يذكر أن القانون قد كان، وسيبقى كما كان، وأن يناضل، وأن النضال لم يهدأ لأنه تحول من الميدان المادي إلى ميدان الروح، وعليه ألا ينسى أن كرامته، باعتباره كائنا آدميا، ينبغي أن تصدر من جهاده في تحرير نفسه، وأن ينقاد في ذلك الجهاد لأعمق البواعث من قرارة وجدانه، ولا ينسى أبدا أن الشرارة الإلهية كامنة في تلك القرارة، في قرارته دون غيره، وأنه هو حر قادر على أن يهملها وأن يقتلها، قدرته على أن يقترب من الله، وأن يعرب عن غيرته على العمل مع الله، والعمل في سبيل الله.
ولقد آل تطور الإنسان عند غير البيولوجيين إلى تطور الإنسان الصانع، وقيام الصناعة الكبرى مقام الصناعات الصغيرة التي بدأت منذ مئات القرون، فجعلت الإنسان سيد الخليقة حين جعلته قادرا على العمل بيديه، واختراع الآلة المصنوعة لإنجاز عمله. وستفعل الصناعة الكبرى بأيدي المجاميع البشرية فعل الأداة الحجرية قبل مئات القرون بيد الإنسان الأول، إذ لم تكن له قدرة على الحيوان الأعجم غير تلك الأداة.
ولا نخال أن أحدا عبر عن هذا الرأي تعبيرا أدنى إلى الفهم من تعبير الأستاذ رسل هاريسون في كتابه «ماذا يكون الإنسان؟» فإنه ترك لغة «بابل» الحديثة: لغة البلبلة العلمية بين الفروض الصريحة والفروض المبهمة، والمقابلات من هنا والمعارضات من هناك، ووضع أمل التطور حيث ينبغي أن يوضع، إن كان له موضع على الإطلاق، وذلك هو موضعه في «الشخصية الإنسانية».
فلا مستقبل للإنسان إن لم يكن مستقبلا لشخصيته الكاملة، ولا تطور لهذه الشخصية إن لم تكن شخصية «ذات جوانب»، ولم تكن جوانبها براء من النقص والخلل.
إن الشخصية الإنسانية عاطفة وعقل وضمير، وليست مجرد أعضاء ووظائف وخلايا وأعصاب. ومعنى تطور الإنسان في الذهن أن تتم له هذه الشخصية بعدما نبتت له بذورها مع أطواره الماضية، وليس في الواقع ما يمنع «الشخصية الإنسانية» أن تتحقق كما تحققت في الذهن فكرة قابلة للتمام.
عود على بدء
بعد هذا الشوط في عرض المذاهب والآراء عن الإنسان، نسأل على ثقة من الجواب: هل صحيح أن القرآن يلقي بالإنسان غريبا منقطعا في القرن العشرين؟
والجواب الذي لا تردد فيه: أن القرآن - على النقيض من ذلك - يضع الإنسان في موضعه الذي يتطلبه، فلا تسعده عقيدة أخرى أصح له وأصلح من عقيدة القرآن؛ لأن عصر العلاقات العالمية لا يتطلب «مواطنا» أصح وأصلح من الإنسان الذي يؤمن بالأسرة الإنسانية، ويستنكر أباطيل العصبية ومفاخر العنصرية؛ ليعترف بفضل واحد متفق عليه في كل أرض، وبين كل عشيرة آدمية؛ وهو فضل الإحسان في العمل واجتناب الإساءة، وليس لهذا العصر حق على بنيه أصح وأصلح من حق الشعور «بالمسئولية»، والنهوض بأمانة التكليف، والاحتكام إلى العقل في كل ما يسعه العقل، ثم اطمئنان الضمير إلى الخير فيما خفي عليه من شئون الغيب المجهول، ولا بد في كل عصر حديث أو قديم من غيب مجهول.
إن القرآن يعطي القرن العشرين إنسانه الذي ليس من إنسان أصلح منه وأصح لزمانه، فإذا آمن هذا الإنسان بالله وبالنبوة؛ فليس أصح ولا أصلح لعصر الوحدة الإنسانية من الإيمان برب واحد للعالمين، وبنبوة تختم النبوات بعد الإيمان بهذا الإله الواحد؛ لتسلمه إلى عقله وضميره، وتسأله عن إصلاح نفسه وإصلاح دنياه بما يدعوه إليه قوام الروح والجسد، وطيب الحياة في الدنيا والآخرة.
وإذا كان هذا هو إنسان القرآن بحرفه ومعناه، فلا حاجة بالناقد المنصف إلى حظ كبير من الترفع لينظر من عل إلى أولئك المتعاملين المتوقرين، أولئك الذين يزعمون أنهم قابلوا بين العقائد فخرجوا منها بمقطع الرأي، وقال لهم مقطع الرأي هذا: إن القرآن نسخة مكررة - بل مشوهة - من هذه الديانة أو تلك الديانة، وإنه لم يحدث بعدها جديدا في عالم الروح وعالم العقيدة، وهو الذي هدى العالم في أمر الإله، وفي أمر النبوة، وفي أمر الإنسان إلى هذا الفتح المبين، وما من بقية في لباب العقيدة بعد هذا الجديد الدائم في أمر الحقيقة الإلهية، وأمر الرسالة والهداية، وأمر الكائن الحي المميز بين مخلوقات الله أجمعين، وهو هذا الإنسان الذي تخاطبه الأديان. •••
وقد رأينا مدى الموافقة بين عقائد الحكماء وآيات القرآن في كثير مما عرضناه أو أشرنا إليه فيما تقدم. وقد نرى - أهم من ذلك - أن آيات القرآن تفسح للعقل الإنساني كل طريق من طرق البحث والتأمل، فلا تصده عن طريق قط يترقب منه معرفة نافعة توافق المعارف الشائعة أو تناقضها، فما من طريق يسلكه الباحث الصادق هو طريق مغلق أمامه بحكم من أحكام القرآن، إلا أن يكون الطريق الذي لا يفتحه يوما دينا يدعو إلى الله، وهو طريق الإلحاد.
ففيما تقدم من شروح حكماء الإسلام ما هو أعجب من فروض النشوئيين، بعد القرن التاسع عشر، عن الأحياء ودرجاتها من البهيمية إلى القرد إلى الإنسان. وللنشوئيين المحدثين آراء قد يستمدون تأييدها - لو شاءوا - من آيات قرآنية فسرها بعضنا تفسيرا يتقبله القائلون بتنازع البقاء، وبقاء الأصلح، وتتابع الأطوار:
ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض (البقرة: 251).
فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض (الرعد: 17).
وقد خلقكم أطوارا (نوح: 14).
فهل من الواجب على المؤمن بالقرآن أن يلتمس فيه تأييدا لأصحاب «النظريات» والفروض في كل عصر يظهرون فيه؟ نقول: «كلا ولا ريب »؛ لأنها قد تثبت كلها أو بعضها، وقد يطرأ عليها النقض أو التعديل بين جيل وجيل، ولكن القرآن يعمل عمل الدين الصالح إذا سمح للعقل أن يلتمس الحقيقة مع كل فرض من الفروض، وترك له أن ينتهي بها إلى نهاية شوطه مسئولا عن نتيجة عمله، وعما يفيد أو لا يفيد من جهوده ومحاولاته، فليس من عمل الدين أن يتعقب هذه الفروض والنظريات في معرض الجدل؛ لتأييد تفسير، أو خذلان تأويل، وحسبه أنه يملي للعقل في عمله، ولا يصده عن سبيله، فهذا هو الوفاق المطلوب بين العقيدة والبحث، وبين الإيمان والتفكير.
فإذا أخطأ من يقحم القرآن في تأييد النظرية العلمية قبل ثبوتها، فمثله في الخطأ من يقحم القرآن في تحريمها وهي بين الظن والرجحان، وبين الأخذ والرد، في انتظار البرهان الحاسم من بينات العقل أو مشاهدات العيان.
وقد أخطأ هذا الخطأ جهلاء الدين والعلم الذين حرموا القول بدوران الأرض، وهو أثبت من وجودهم على ظهرها، وأخطأ مثلهم من حرموا القول بجراثيم الوباء وهي - فيما تبين بعد ذلك - إحدى حقائق العيان.
ومذهب التطور - خاصة فيما يتعلق بتحول الأنواع - لم يثبت بالدليل القاطع؛ لأن أنصاره لم يذكروا حتى الآن حيوانا واحدا تحول من نوع إلى نوع بفعل الانتخاب الطبيعي، أو بفعل تنازع البقاء وبقاء الأصلح، ولكن بطلان القول بهذا الانتخاب لم يثبت كذلك بالدليل القاطع على وجه من الوجوه، وليس في القرآن ما يوجب علينا أن نقول ببطلان الانتخاب الطبيعي؛ لأن خلق الإنسان من الطين لا ينفي التحول إلى غير الطين، ولا يوجب علينا القول بكيفية الخلق من الطين على صورة من صور التركيب، وإنما نعلم من القرآن أن الله بدأ خلق الإنسان من طين.
ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين (السجدة: 8).
وفي آية أخرى:
من سلالة من طين
فلا اختلاف بين هذا وبين التحول الذي يثبت - إذا ثبت - على وجه من الوجوه.
ومذهب النشوء - مع سائر العلوم الحديثة - يقول لنا عن المستقبل البعيد أضعاف ما قاله لنا عن الماضي البعيد: هل يتطور الإنسان في المستقبل مع قوانين الوراثة العلمية أو لا يتطور؟ وهل يعرف العلماء مسلكه في طريق التطور أو لا يعلمون؟
من رجع إلى القرآن ليعلم حكمه في التطور المقبل وجده على العهد به يملي للعقل، ولا يصده عن طريق يرجى منه النفاذ إلى علم مجهول. وفيما تقدم كلام نقلناه عن أهل العلوم «المختصة» بتطور الأحياء وقوانين التوريث، نلتفت إليه فنعلم أن قوانين «الناسلات والصبغيات» في الأرحام لم تنبئهم بخبر يهدي إلى مصير معلوم، وأثبت ما عندهم من نبأ أن الغد كله مرهون بميراث العقل والمشيئة والإيمان.
فالذي يعرفه علماء الأجنة وقوانين الوراثة غير قليل بالنظر إلى ما كان معروفا من ذلك قبل مائة سنة، ولكنهم - كثر أو قل - لا ينفعهم في تنظيم عمل الوراثة بالانتخاب أو اللقاح في ظلمات الأرحام، وإنما ينفعهم أن يحسنوا هداية «الإنسانية» إلى خير ما تستطيعه العقول المميزة إذا صدقت النية على حب الخير، وأجمعت العزم على استخلاص الذرية المختارة بالتعليم والإرشاد، وجعلت مسألة التقدم و«بقاء الأصلح» مسألة فهم واعتقاد أدنى إلى البلاغ من لقاح الأصلاب والأرحام.
ونخال أن القرن العشرين لم يكن في غنى عن هذه الهداية من علماء النشوء، ولكنها الهداية التي تعلمها من القرآن من تعلم (أن صلاح الإنسان فكر وأمانة وإيمان)، و(أن الأرض يرثها عبادي الصالحون).
ونعيدها كلمات موجزة في ختام هذه الصفحات عن الإنسان في عقيدة القرآن، وفي عقائد الأقدمين والمحدثين: إن القرن العشرين لم يضع الإنسان في موضع أكرم له، وأصدق في وصفه، من موضعه عند أهل القرآن بين خلائق الأرض والسماء، وبين أمثلة من أبناء آدم وحواء: موضعه بين خلائق الأرض والسماء أنه المخلوق المميز الذي يهتدي بالعقل فيما علم، وبالإيمان فيما خفي عليه.
وموضعه بين آدم وحواء أنهم إخوة من عشيرة واحدة، أكرمها من كرم بما يعمل من حسن، ويجتنب من سوء، وأفضلها من له فضل بما كسبه وما اتقاه، لا يدان بعلم غيره، ولا ينجو من وزره بغير عمله:
تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون «صدق الله العظيم» (البقرة: 141).
ناپیژندل شوی مخ